ترجمة: أحمد شافعي -
سيكون اكتشافي خوان رولفو ولا شك ـ شأن اكتشافي لكافكا ـ فصلا أساسيا في سيرتي. كنت قد وصلت إلى المكسيك في اليوم الذي جذب فيه إرنست همنجواي الزناد، وهو الثاني من يونيو سنة 1961، فلم يقتصر حالي على أنني لم أقرأ كتب خوان رولفو من قبل، بل إنني لم أكن قد سمعت به.
وكان ذلك أمرا شديد الغرابة.
كنت أعيش في شقة من عمارة بلا مصعد في شارع كاليه رينان بحي أنزوريس بالعاصمة مكسيكو مع مرسيدس [زوجتي] ورودريجو [ابني] الذي كان عمره آنذاك أقل من سنتين. كانت على أرضية غرفة النوم الرئيسية حشية مزدوجة، وفي الغرفة الأخرى مهد، وثمة مائدة مطبخ تقوم أيضا مقام طاولة كتابة في غرفة المعيشة، مع كرسيين صغيرين يستعملان لأي غرض تدعو إليه الحاجة. كنا قد قررنا أن نقيم في هذه المدينة التي كانت آنذاك لم تزل تحتفظ بطابع إنساني، بهوائها الشفاف وزهورها جنونية الألوان في الشوارع، وإن بدا أن سلطات الهجرة لم تجد ميلا إلى أن تشاركنا سعادتنا. فكنا نقضي نصف حياتنا في طوابير لا تتزحزح، واقفين في بعض الأحيان تحت المطر في أفنية النادمين بوزارة الداخلية.
كنت في ساعات فراغي، أكتب ملحوظات حول الأدب الكولومبي لأقرأها على الهواء في راديو يونيفرسيداد الخاضع آنذاك لإشراف ماكس أوب. وقد بلغت أمانة تلك الملحوظات مبلغا جعل السفير الكولمبي يتصل بالإذاعة يوما لتقديم شكوى رسمية. ففي رأيه أن ملحوظاتي لم تكن عن الأدب الكولمبي، وإنما هي على الأدب الكولومبي. واستدعاني ماكس أوب إلى مكتبه فكان ذلك، في ما بدا لي، نهاية مصدر دخلي الوحيد الذي استطعت تدبيره خلال تلك الأشهر الستة. والحق أن نقيض ذلك التام هو ما كان.
قال لي ماكس: إن «الوقت لم يسمح لي بالاستماع إلى البرنامج، لكن لو أن الأمر كما يقول سفيركم، فلا بد أنه جيد جدا».
كان عمري اثنين وثلاثين عاما، وقد مرقتُ بالصحافة في كولومبيا، وقضيت في باريس ثلاث سنوات عصيبات ومفيدات للغاية، انتهين للتو، ثم أتبعتها بثمانية أشهر في نيويورك، وكنت أريد أن أكتب سيناريوهات في المكسيك. وكان وسَطُ الكتاب في المكسيك آنذاك شبيها بمثيله في كولمبيا، فكنت أشعر أني في وطني تماما.
قبل ست سنوات، كنت قد نشرت روايتي الأولى «عاصفة ورق الشجر»، وكانت لديَّ ثلاثة كتب غير منشورة هي «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» الذي نشر في تلك الفترة تقريبا في كولومبيا و«في ساعة نحس» الذي صدر عن دار نشر إديتوريال إيرا بعد فترة قصيرة بتوصية من فيسنتي روجو، ومجموعة قصصية عنوانها «جنازة الأم الكبيرة». ولم يكن لديَّ من هذه المجموعة الأخيرة إلا مسودات غير مكتملة، منذ أن أعار ألفارو موتيس الأصول لحبيبتنا إيلينا بونياتوفسكا قبل وصولي إلى المكسيك، فضاعت منها. وتمكنتُ لاحقا من إعادة كتابة تلك القصص، فنشرها سرجيو جاليندو في جامعة فيراكروز بتوصية من ألفارو موتيس.
وإذن فقد كنت كاتبا بالفعل له خمس كتب تحت الأرض. وبالنسبة لي لم تكن تلك مشكلة، لأنني في ذلك الوقت وفي ما عداه لم أكن أكتب طلبا لشهرة، بل ليزداد أصدقائي حبا لي، وكنت أرى أنني حققت ذلك. مشكلتي الكبرى بوصفي روائيا هي أنني بعد تلك الكتب شعرت أنني سقت نفسي إلى طريق مسدود، وكنت أبحث في كل مكان عن مهرب. كنت أعرف جيدا الكتاب الجيدين والكتاب السيئين على السواء ممن بوسعهم أن يدلوني على مخرج، ومع ذلك شعرت أنني أدور حول نفسي مرارا وتكرارا في دوائر متداخلة، ومع ذلك لم أر أنني استنفدت نفسي.
على العكس، كنت لم أزل أشعر أن بداخلي روايات كثيرة، لكنني لم أكن أجد سبلا شعرية مقنعة لكتابتها. فكان ذلك حالي حينما صعد ألفارو موتيس بخطى واسعة الطوابق السبع إلى شقتي ومعه حزمة من الكتب، فاستل من هذا الجبل أصغر ما فيه وأقصره، وقال وهو يكاد يموت ضحكا:
«اقرأ هذا الزفت وتعلم».
كان ذلك الكتاب هو (بيدرو بارامو).
في تلك الليلة لم أنم إلا وقد قرأته مرتين. لم يكن قد حدث منذ الليلة التي قرأت فيها «التحول» لكافكا في السكن الطلابي المتواضع ببوجوتا قبل قرابة عشر سنين أن شعرت بذلك الفيض يغمرني. في اليوم التالي قرأت «السهل يحترق» وبقيت دهشتي على حالها. وبعد ذلك بكثير، في غرفة الانتظار بعيادة طبيب، صادفت جريدة طبية تحتوي إحدى روائع رولفو المنثورة وهي «تركة ماتيلدا أركانجيل». وفي ما بقي من ذلك العام لم أقوَ على قراءة أي كاتب آخر، فقد بدا الجميع أدنى.
ولم أكن قد تخلصت من انبهاري حينما علم كارلوس فيلو من شخص ما أن بوسعي أن أتلو من الذاكرة مقاطع كاملة من (بيدرو بارامو). كانت الحقيقة أكبر من ذلك: لقد كان بوسعي أن أتلو من الذاكرة الكتاب كله، من البداية إلى النهاية، وبالعكس، دون الوقوع ولو في خطأ مغفور، وكان بوسعي أن أحدِّد في أي صفحة من نسختي يقع أيُّ مشهد، ولم يكن في أيِّ شخصية جانب من تكوينها لا أعرفه معرفة عميقة.
عهد إليَّ كارلوس فيلو بتحويل قصة أخرى من قصص رولفو للسينما، وهي القصة الوحيدة التي لم أكن قرأتها بعد، أي «الديك الذهبي». كانت في ست عشرة صفحة، مجعدة للغاية، ومطبوعة بثلاث آلات كاتبة مختلفة على ورق مناديل. وحتى لو لم يخبروني من كاتب القصة، لكنت عرفته على الفور. لم تكن لغتها في مثل تعقيد بقية أعمال خوان رولفو، ولم يكن ظاهرا فيها من أدواته الأدبية المعهودة غير القليل للغاية، ولكن ملاكه الحارس كان يرفرف حول كل جانب من جوانب الكتابة. ولاحقا طلب مني كارلوس فيلو وكارلوس فوينتس أن أقرأ وأنتقد السيناريو الذي كتباه لتناولهما السينمائي ـ الأول ـ لبيدرو بارامو.
أذكر هاتين المهمتين اللتين جاءت نتيجتهما أبعد ما تكون عن الجودة ـ لأنهما أرغمتاني على مزيد من الغوص في رواية كنت دونما شك أعرفَ بها حتى من مؤلفهما (الذي، بالمناسبة، لم أقابله إلا بعد سنين عدة). كان كارلوس فيلو قد قام بعمل لافت: إذ اقتطع الشذرات الزمنية في بدرو بارامو، وأعاد تجميع الحبكة وفق ترتيب زمني صارم. وبوصف ذلك مصدرا مباشرا يمكن العمل منه فقد بدا مشروعا، برغم أن النص الناجم جاء هائل الاختلاف عن الأصل: فهو مسطّح ومفكك. لكنه كان تمرينا مفيدا لي على فهم سر النجارة عند خوان رولفو، وكان شديد الكشف عن حكمته النادرة.
بدت لي في معالجة بدرو بارامو السينمائية مشكلتان كبيرتان. الأولى هي مسألة الأسماء. فبرغم الذاتية البادية، كان كل اسم يماثل على نحو ما الشخصية التي تحمله، وهذا يتضح في الرواية أكثر كثيرا مما هو في الحياة الحقيقية. ولقد قال خوان رولفو ـ أو يقال إنه قال ـ إنه أخذ أسماء الشخصيات من شواهد مقابر في جبَّانة في جليسكو. والأمر الوحيد الذي يمكننا أن نتيقن منه هو أنه ما من أسماء ملائمة للأعلام بقدر الأسماء التي تحملها الشخصيات في كتبه. بدا مستحيلا في نظري ـ ولم يزل يبدو مستحيلا في الحقيقة ـ أن يوجد ممثل قادر على ملاءمة اسم الشخصية التي سوف يلعبها ملاءمة تامة.
المشكلة الأخرى ـ غير المنفصلة عن الأولى ـ هي العمر. على مدار أعماله، حرص خوان رولفو ألا يلتفت أقل الالتفات إلى العمر في إبداعاته. وقد بذل الناقد نارسيكو كوستا روس أخيرا محاولة فاتنة لتحديد الأعمار في بدرو بارامو. ودائما ما رأيت، من خلال إلهام شعري محض، أن بيدرو بارامو عندما يأخذ سوزانا خوان في نهاية المطاف إلى فضائه الشاسع، ميديا لونا، فإنها تكون بالفعل في الثانية والستين من العمر. وأن بيدرو بارامو لا بد أن يكون أصغر منها بخمس سنوات.
الحق أن المأساة برمتها تبدو أعظم كثيرا، وأشد رعبا وجمالا، لو أن العاطفة المتسارعة التي تحركها قديمة بحيث لا تمنح أي ارتياح حقيقي. وهذه المأثرة العظيمة والشعرية لا يمكن التفكير فيها للسينما. ففي تلك القاعات المعتمة، لا يؤثر غرام المسنين في أحد.
تكمن صعوبة النظر إلى الأمور بهذه الطريقة المحببة المقصودة في أن الإحساس الشعري لا يتوافق دائما مع البداهة. والشهر الذي تجري فيه مشاهد معينة جوهري في أي تحليل لعمل خوان رولفو، وذلك ما أستبعد أنه كان هو نفسه واعيا به. في الأعمال الشعرية ـ وبيدرو بارامو عمل شعري من أرفع طراز ـ غالبا ما يستحضر الكتاب أشهر العام لأسباب تتجاوز صرامة الترتيب الزمني. وأهم من ذلك أنه في كثير من الحالات قد يغير كاتب اسم شهر أو يوم أو حتى سنة اجتنابا لخلل في القافية، أو إخلال بالتناغم، دونما إدراك لما قد تسببه هذه التغييرات لناقد من وصول إلى نتائج حول العمل المعني لا يمكن التغلب عليها.
وليس هذا حال الأيام والشهور فقط، وإنما هو أيضا حال الزهور. ثمة كتاب يستعملونها لا يبتغون منها غير تعقيد أسمائها، دونما التفات إلى مواءمتها للمكان أو الموسم. ولذلك لا يندر أن نجد كتبا تنمو فيها زهور إبرة الراعي على الشاطئ وأزهار التيوليب في الثلج. وفي بيدرو بارامو فيستحيل أن نطمئن تمام الطمأنينة إلى الموضع الذي يمتد فيه الخط الفاصل بين الأحياء والموتى، فلا نوال للدقة بأي حال. فما بوسع أحد أن يعرف بالطبع كم سنة قد يدوم الموت.
أردت من كتابتي لهذا كله أن أقول: إن اكتشافي العميق لعمل خوان رولفو هو الذي كشف لي في نهاية المطاف عن الطريقة التي يمكن أن أستمر بها في الكتابة، ومن أجل ذلك السبب كان من المستحيل عليّ أن أكتب عنه دون أن يبدو أني أكتب عن نفسي. أريد أن أقول أيضا إنني قرأت كل شيء مرة أخرى قبل أن أكتب هذه الذكريات الوجيزة، فإذا بي مرة أخرى ضحية عديمة الحيلة أمام الدهشة نفسها التي استولت علي إذ قرأته للمرة الأولى. ما هي حقا إلا أكثر قليلا من ثلاثمائة صفحة، لكن فيها من العظمة، والعظمة الدائمة في ظني، مثل ما في أعمال سوفوكليس.
نشرت هذه المقالة على سبيل التقديم لترجمة حديثة لبيدرو بارامو إلى اللغة الإنجليزية صدرت عن جروف وأطلنطيك، والمقالة مترجمة إلى الإنجليزية بقلم (ن ج شيرن)
https://lithub.com/gabriel-garcia-marquez-on-the-magic-of-juan-rulfo/
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کان ذلک فی تلک لم یکن لم أکن
إقرأ أيضاً:
محمد التابعي.. أمير الصحافة المصرية الذي أسقطت مقالاته الظلم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تمر اليوم ذكرى رحيل أمير الصحافة المصرية محمد التابعى، والذى يُعد احد أبرز الشخصيات المؤثرة فى مجال الصحافة والسياسية المصرية، حيث رحل فى مثل هذا اليوم 24 ديسمبر عام 1976.
ولد محمد التابعى محمد وهبة في الـ18 من مايو عام 1896 في السنبلاوين بمحافظة الدقهلية، والتحق بالمدرسة الأميرية الابتدائية في المنصورة، وحصل على شهادة الابتدائية عام 1912، ثم انتقل إلى المدرسة السعيدية الثانوية في القاهرة، ومنها إلى مدرسة محرم بك الداخلية في الإسكندرية، وحصل على التوجيهية عام 1917، التحق بكلية الحقوق بالجامعة الأهلية.
بدأ "التابعى" رحلته مع قراءة الكتب والمسرحيات المترجمة، مبكرًا، ثم انقطع عن الدراسة، وعمِل موظفًا في وزارة التموين في السويس، ثم في مصلحة السجون، وساعده تمكنه من اللغة الإنجليزية أن يعمل مترجمًا في سكرتارية مجلس النواب، ثم عاد لدراسة الحقوق وتخرج عام 1923.
رحلته فى بلاط صاحبة الجلالة
عمل أمير الصحافة المصرية، ناقدا فنيا في جريدة الإجيبشيان جازيت، فى بداية رحلته الصحفية، وكان يُوَقِّع مقالاته باسم مستعار، وكانت تلك الخطوة الشرارة لبوابة الشهرة، فكتب مقالاً عن مسرحية "غادة الكاميليا"، الذي نشره في الأهرام، ثم أصبح يكتب في جرائد ومجلات عديدة بينها "الأهرام، والإجبيشيان جازيت، وأبو الهول، والنظام، والسياسة".
وتولى "التابعى" في عام 1928، شؤون مجلة روزاليوسف، وذلك بعدما سافرت فاطمة اليوسف إلى أمريكا، والذى أضاف لها طابعا سياسيًا، بعدما كانت مجلة فنية وأدبية، فزادت نسبة توزيعها وزاع سيطه إلى أن البائعون يروجون للمجلة باسمه، وظل يكتب مقالات سياسية نقدية قوية، تسببت العديد منها فى إقالة وزراء، وظل رئيس تحريرها لمدة 6 سنوات.
مؤلفاته
لم يكتفى أمير الصحافة المصرية بكتابة المقالات فقط، بل عكف على تأليف كتب تأخذ طابع السيرة الذاتية، منها "من أسرار الساسة والسياسة، بعض مَن عرفت، أسمهان تروي قصتها، ألوان من القصص، عندما نحب، لماذا قُتل؟، جريمة الموسم، رسائل وأسرار، حكايات من الشرق والغرب، 3 قصص في كتاب واحد، ختام القصة، ليلة نام فيها الشيطان، قصة القصة والمؤلف، أحببت قاتلة، صالة النجوم".
هؤلاء كتبوا عنه
لم يترك الكتاب المعروفين رحلة "التابعى" الاستثنائية تمضى دون توثيق، فكتب عن حياته وسيرته الذاتيه بعض الكُتاب أبرزها: "سيرته الذاتية في جزأين بقلم الكاتب الصحفي الراحل صبري أبو المجد، ومن أوراق أمير الصحافة بقلم الكاتب الصحفي محمود صلاح، كما ألّف عنه حنفي المحلاوي كتاب غراميات عاشق بلاط صاحبة الجلالة، ويحكي عن أشهر غراميات التابعي في مصر وفي أوروبا".
رحيل أمير الصحافة المصرية
رحل "التابعى" بعدما تعرض الأزمات صحية ومادية، فى السبعين من عمره، فى 24 من ديسمبر 1976، بالدقهلية مسقط رأسه.