الوطن:
2025-11-13@09:04:15 GMT

د. يوسف عامر يكتب: من مقومات الإسلام

تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT

د. يوسف عامر يكتب: من مقومات الإسلام

الأحكام: جاءت الأحكام والتشريعات فى ديننا الحنيف مراعية لطبيعة الإنسان، هادية له، مصححة لمساره فى الحياة، سواء فى ذلك أحكام العبادات وأحكام المعاملات.

والتزام الإنسان بهذه الأحكام فى عباداته ومعاملاته عبادة مقصودة فى ذاتها، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، وليس معنى العبادة هنا قاصراً على أداء الفروض المعروفة، وإنما العبادة هى أن يكون الإنسان بكيانه كلِّه عبداً لله تعالى، فهو عبد مخلص لله سبحانه بأداء عباداته كما أمر، وهو عبد مخلص لله سبحانه بالتزام أوامره فى المعاملات كما شرع.

فتحقيق العبودية لله تعالى أمر مقصود فى ذاته، ولا يستقيم أمر الإنسان فى الحياة إلّا بوجوده؛ إذ العبادة ترجمة عملية للإيمان الذى هو فطرة فطر الله سبحانه وتعالى خلقه عليها، فيجب أن تُحفظ الأحكام ضابطة لحياة البشر وحركتهم فى الكون.

وقد جاء الإسلام -باعتباره رسالة الله تعالى للعالمين- مهيَّأ لاستمرار أحكامه بكونه غير مقيَّد بأشخاص معينين، أو زمان محدد، أو مكان دون غيره، أو أحوال خاصة، أو أعراف وعوائد لا يتخطاها، وإنما هو مجاوز لكل هذه الحدود، وصالح لكل مكان وفى كل زمان، مُراعٍ لأعراف الناس وعوائدهم المستقيمة؛ لأنّ الناس لم يعتادوا أمراً ويصيّروه عرفاً بينهم إلّا لحاجتهم إليه، ولتحقيق مصالح يرجونها.

ولولا أن الإسلام مجاوز لكل هذه القيود والحدود لما كان محقِّقاً لمصالح العباد فى المعاش والمعاد، نعم هذا المعنى متحقق فى كل شريعة «فإنّ الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لإقامة مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسدهما» كما يقول سلطان العلماء عز الدين بن عبدالسلام (ت 660)، ولكن هذا فى غير شريعة الإسلام كان محدوداً بقوم أو بزمن، أمّا فى الإسلام فهو نفع غير محدود كما سبق البيان، ولهذا كانت «الشريعة كلها نصائح، إما بدرء مفاسد أو بجلب مصالح»، كما يقول العزّ بن عبدالسلام أيضاً، فرعاية مصلحة الإنسان من ثوابت الشرع الشريف، حتى قال بعض السادة العلماء: «حيثما كانت المصلحة فثمّ شرع الله».

ومن هنا لا يصح أن يتصدّر للإفتاء إلا من كان مدركاً لمقاصد الشرع الشريف، وعالماً بأعراف المجتمع الذى يتولى الإفتاء فيه وعوائده، الحسن منها والقبيح، وما ينبغى أن يُراعَى عند الإفتاء لتحقيق مصالح العباد، وما ينبغى أن يقوَّم ويُعدَّل لأنّه لا يتفق مع دين الله ولا الفطرة التى فَطر الناس عليها، ومن يجترئ على مقام الإفتاء دون إدراك لأعراف الناس وعوائدهم، واختلاف أمكنتهم ومستجدات زمانهم وخصوصية واقعهم فقد ضل وأضل، فمعارف المفتى لا تقتصر على العلوم الشرعية، بل لا بد من إدراك جيد لأحوال المجتمع، ومن متابعة حثيثة دقيقة لمستجدّات الواقع.

وليس هذا قاصراً على المفتى وحده، بل ينبغى أن يكون الدعاة والوعاظ كذلك، لأنهم هم الذين يباشرون دعوة الناس، ويقومون بتوجيه خطاب الله تعالى لهم، وينقلون أحكام الدين إليهم، فينبغى أن يتشبّعوا بهذه الثقافة، ثم يؤصّلونها فى المجتمع... فالشريعة إنّما جاءت لنفع العباد فى المعاش والمعاد.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: التشريعات الإسلام الله تعالى لله تعالى

إقرأ أيضاً:

الإنسان والخصوصية الذاتية

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

تمُر في حياتنا مواقف إنسانية كثيرة تحدث في النفس تساؤلًا وتأملًا، وربما تدفعنا أحيانًا إلى إصدار أحكام سريعة على الآخرين، قبل أن نمهل أنفسنا لحظة تريث نحاول فيها فهم خلفيات الموقف وملابساته.

ولو أننا فعلنا ذلك، لوجدنا في كثير من الأحيان أن وراء ما استنكرناه سببًا وجيهًا، وأن ما بدا لنا خطأ قد يكون نتاج ظرف قاس أو معاناة خفية لا نراها؛ فالتسرع في الحكم على الناس دون فهم ظروفهم هو غياب للإنصاف، وإغفال لجانب دقيق في الطبيعة الإنسانية، هو الخصوصية الذاتية.

ولعل قصة بسيطة تجسد هذا المعنى خير تجسيد؛ إذ يُحكى أن رجلًا كان يستقل القطار في رحلة طويلة، وجلس إلى جواره شاب في الثلاثين من عمره يتصرف بطريقة غريبة؛ كان يحدق من النافذة بانفعال، ويضحك حين يرى الأشجار، ويصرخ من الفرح حين تمر القرى، فيثير دهشة الركاب، بل وسخريتهم المكتومة. لم يتمالك أحد الجالسين نفسه وقال لوالد الشاب الذي كان بجانبه: "لماذا لا تأخذه إلى طبيب؟ يبدو أن ابنك ليس طبيعيًا!"

ابتسم الأب بهدوء وقال: "لقد خرج ابني اليوم من المستشفى بعد أن استعاد بصره للمرة الأولى منذ ولادته، وهذه أول مرة يرى فيها العالم بعينيه".

ساد القطار صمت طويل، تحول فيه الاستغراب إلى خجل، والسخرية إلى تأمل عميق.

هذه القصة ليست عن القطار فحسب؛ بل عنَّا جميعًا؛ فكم من شخص نحكم عليه بظاهر سلوكه، غير مدركين لعالمه الداخلي، ولا لخصوصيته التي لا يعرفها أحد سواه.

إنَّ الذات الإنسانية كُتلة من المشاعر والتجارب المتراكمة، تتفاعل داخلها الأحاسيس والعوامل الاجتماعية لتنتج سلوكا يعكس حالتها الداخلية؛ فقلة هم أولئك الذين يستطيعون التعامل مع المواقف بعقلانية واتزان، فبعض الناس يتمتع بالحكمة وسعة الصدر والقدرة على التريث في فهم المواقف قبل الحكم عليها، بينما نجد آخرين ينهارون أو يثورون لأبسط الأسباب، لأنهم يتأثرون بالعاطفة أكثر من العقل. وهذه التباينات بين الناس هي ما يجعل فهم خصوصية كل إنسان ضرورة قبل الحكم عليه.

والخصوصية الذاتية، أو ما يسمى بالخصوصية الشخصية، هي تلك المساحة الخاصة التي يحتفظ بها الإنسان لنفسه، يضع فيها أسراره ومشاعره وذكرياته وتجاربه الخاصة، فلا يفصح عنها إلا لمن يختار. إنها الحق في أن يكون للإنسان جانب لا يشارك فيه أحدا، وأن يملك القرار فيمن يقترب من حدوده أو يبقى خارجها. وفي بعض الأحيان، يخفي الإنسان حتى عن نفسه بعض ما في داخله من أسرار أو ذكريات مؤلمة، يطويها نسيانا أو تجاهلا كي يواصل العيش بسلام.

كم من موقف مُحرج مَرَّ بِنا، ظل عالقًا في الذاكرة، نحاول إخفاءه عن الناس خشية أن يُعاد إلى الأذهان. وكم من علاقة إنسانية انقطعت لأن أحد الأطراف لم يدرك أن للطرف الآخر حدودًا يجب احترامها، ومساحة لا يحق تجاوزها مهما بلغ القرب. فلو تفهم الناس أن لكل إنسان دائرة من الخصوصية لا يجوز اقتحامها، لاستقرت العلاقات الإنسانية على أسس من الود والتقدير، ولتجنبنا كثيرا من سوء الفهم والخصام.

كما إن الخصوصية الشخصية ليست جدارا يفصل الإنسان عن غيره؛ بل هي دائرة أمان تمنحه الشعور بالطمأنينة وهو يمارس حريته في الاختيار. فكم من شخص يعيش ألمًا داخليًا أو حزنًا صامتًا، لكنه يُفضِّل كتمانه وعدم الإفصاح عنه، لأن ما يشعر به جزء من عالمه الخاص الذي لا يُراد للآخرين الاطلاع عليه. وصاحب هذا العالم هو وحده من يملك الحق في فتح أبوابه أو إغلاقها، وفي تحديد من يقترب منها ومن يظل خارجها.

وقد حذر القرآن الكريم من الاعتداء على خصوصية الآخرين، فجعل التجسس من المحرمات، فقال تعالى "ولا تجسسوا" (الحجرات: 12). كما أكّد على ضرورة الاستئذان قبل دخول البيوت، فقال سبحانه: "لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا" (النور: 27). كما إن القرآن نهى عن التنابز بالألقاب وصون الكرامة، لأن المساس بها انتهاك لخصوصية الإنسان وهدر لاعتباره بين الناس.

وعلى المجتمع أن يدرك أن احترام خصوصية الأفراد ركيزة من ركائز السلم الاجتماعي، وأن الأنظمة والقوانين ينبغي أن تضمن لكل إنسان حقه في صون ذاته، وحماية عالمه الخاص من التطفل أو التجاوز. ومع ذلك، فإن الخصوصية لا تعني الانعزال أو التمرد على القيم، بل هي مساحة من الحرية الواعية التي تمارس في إطار من المسؤولية والاحترام المتبادل.

في جوهرها، الخصوصية الذاتية ليست مطلبًا شخصيًا فحسب؛ بل إنها مصلحة عامة للمجتمع كله؛ إذ لا يمكن أن يبدع الإنسان أو ينتج ما دام يشعر أنه مراقب أو منتهك الحرية. والحرية التي تحمي خصوصية الفرد هي التي تطلق قدراته وتنمي إبداعه، لأنها تمنحه الإحساس بالثقة والأمان. ومتى ما شعر الإنسان أن القانون والعرف يحميان حقه في أن يكون كما هو، دون خوف أو تدخل أو فضول غير مشروع، أبدع في كل مجال من مجالات حياته.

إنَّ احترام خصوصية الإنسان احترام لإنسانيته. فمن لا يحترم المساحة الخاصة للآخرين، لن يحسن التعامل معهم بصدق أو رقي. والوعي بهذه الخصوصية هو ما يجعل العلاقات أكثر صفاءً، والمجتمعات أكثر نضجًا، والأفراد أكثر اتزانًا في مشاعرهم وسلوكهم. فالخصوصية ليست جفاء؛ بل توازن؛ وليست حذرًا، وإنما احترام.. إنها في النهاية جوهر الكرامة الإنسانية التي لا تُقاس بما يُقال عن الإنسان، ولكن بما يختار أن يحتفظ به لنفسه.

مقالات مشابهة

  • سقوطُ الإنسان.. من شرارةِ الحسد إلى نارِ الانتقام
  • المفتي يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء غداً
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (غابة الكتابات)
  • «السديس»: الجودة في الإسلام ليست شعارا شكليا بل منهج حياة ودين عمل
  • نهى الله تعالى عنها.. ما هى المعاجزة؟
  • «عجب الناس أوي».. عمرو يوسف يشيد بـ فيلم «السلم والثعبان 2»
  • مفتي عام المملكة يحث المسلمين على أداء صلاة الاستسقاء يوم الخميس المقبل
  • الرحمة في الإسلام
  • حكم التدخل في حياة المشاهير.. أمين الإفتاء: من حسن الإسلام ترك المرء ما لا يعنيه
  • الإنسان والخصوصية الذاتية