ليس محكوما على البشر أن تحلّ الآلات مكانهم مهما بلغ ذكاؤها
تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT
ترجمة ـ حافظ إدوخراز -
هل سيتم استبدالنا بالآلات مع الاتّساع المتزايد لرقعة استعمال شات جي بي تي (ChatGPT) وأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي الأخرى؟ لقد كانت الإعلانات الأولى عن تسريح أعداد كبيرة من العمال، والتي تم تبريرها «رسميّا» بانخفاض تكلفة البرمجيات الخوارزمية، مثيرة للقلق بحق. فهل يجعلنا التقدم التكنولوجي بعد مائة عام نعيش ما يشبه تجربة الهجرة الجماعية من الأرياف، بحيث يحصل لموظّفي اليوم ما حصل لفلاّحي الأمس؟
إن جزءا من الإجابة يبدو مع الأسف متواريا في السؤال.
غير أنه من الممكن أن يكون هذا التحوّل مصحوبا بتقدّمٍ اجتماعي قوي للغاية، وتراجعٍ على مستوى الفقر وعدم المساواة، وينعكس إيجابيا على مستوى تعزيز الحريات الفردية والأنشطة الترفيهية. من الذي يرغب حقا اليوم في أن ترجع بِنياتنا الاقتصادية والاجتماعية إلى ما كانت عليه أيام الجمهورية الثالثة؟ إن حوالي ستين بالمائة من الوظائف اليوم لم تكن موجودة في عام 1945، ويرتبط 85% من النمو المسجل على مستوى التوظيف بالتقدم التكنولوجي.
ليس محكوما علينا أن تحلّ الآلات مكاننا، مهما كانت «ذكية». لقد أظهرت دراسة قامت بها جامعة بنسلفانيا وشركة أوبن إيه أي (OpenAI) أنه على الرغم من أن 80% من الوظائف يمكن أن تتأثر بسبب انتشار استعمال الذكاء الاصطناعي التوليدي أو نماذج اللغة الكبيرة أو برامج توليد الصور، إلا أنه في الواقع، فقط 10% من المهّام التي يتم تنفيذها في إطار هذه الوظائف هي المعنية بهذا التأثير.
لن تحتاج معظم المهن سوى إلى تكيّف بسيط، ومن المحتمل أن يكون هذا التكيّف إيجابيا للغاية. فوفقا لتجربة أجرتها كلية هارفارد للأعمال على مستشارين من مجموعة بوسطن الاستشارية (Boston Consulting Group)، يمكن للموظفين، بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي، إنجاز مهام أكثر بنسبة 12%، وأسرع بنسبة 25 %، مع تحسّنٍ على مستوى الجودة بنسبة 40%. ولا تقتصر هذه النتائج على العاملين «المعرفيّين» كما يطلق عليهم.
أظهرت دراسة حديثة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتي شاركت فيها مدرسة إيسيك لإدارة الأعمال (ESSEC Business School) نيابة عن الجانب الفرنسي، أن جميع القطاعات هي متأثرة بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك قطاع الصناعة التحويلية. يستفيد العاملون على خطوط التجميع على سبيل المثال، بشكل كبير في أعمال الصيانة التي يقومون بها، من جودة التنبؤات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي بخصوص الأعطال التي من المتوقع أن تحدث.
من المحتمل أن تنقاد شركة ذات رؤية قصيرة المدى أو «قصيرة النظر» إلى استنتاجٍ متسّرع مفاده أنه من الممكن تحقيق نتائج أفضل بعدد أقل من الناس بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبالتالي الإقدام على تسريح جزء من العمال لديها.
سوف تقودها هذه المقاربة «الكميّة» للعمل إلى خداع نفسها على العديد من المستويات. فليس فقط أنها لن تستفيد من التحسين «النوعي» المرتبط بالذكاء الاصطناعي التوليدي، الشيء الذي لن يتأخر منافسوها (أو اللاعبون الجدد) عن استغلاله من أجل الاستيلاء على حصص من السوق على حسابها، ولكن علاوة على ذلك، فإن الشركة قصيرة النظر لا تدرك الجبل الجليدي الذي تتّجه صوبه، فالذكاء الاصطناعي التوليدي ليس موثوقا بما يكفي بحيث يمكن الاعتماد عليه، لأن توصياته تظل عشوائية.
يعرف مستخدمو شات جي بي تي بالفعل أن البرنامج لا يقدّم أبدا الإجابة ذاتها على نفس السؤال. ولذلك فإن الإشراف من قِبل خبير بشري ضروري لتجنب «هلوسات» الذكاء الاصطناعي التوليدي. وهو مصطلح نستخدمه للدلالة على الاختراعات الصّرفة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي. ومن الأمثلة التي يُستدّل بها غالبا في هذا السياق، ذلك المحامي الذي طلب من الذكاء الاصطناعي كتابة مذكرة المرافعة في قضية ما، ليدرك، ولكن بعد فوات الأوان، أن هذه الخوارزمية قد قامت «بكل بلاهة» باختراع السوابق القضائية التي بنت عليها المرافعة.
على الرغم من التقدم الذي سوف يحصل مستقبلا في مجال الذكاء الاصطناعي، سيظل الإشراف البشري ضروريا لفترة طويلة جدا، هذا إن لم يكن إلى الأبد. تتعلّق النتائج الإيجابية التي رصدتها الدراسة التي أنجزتها كلية هارفارد للأعمال في الواقع بحالة كان فيها الموظفون قادرين على الوصول إلى الخبراء الذين يعرفون حدود الذكاء الاصطناعي التوليدي. وبدون هذه المساعدة البشرية، كانت جودة المهام المنجزة سوف تكون أقل بنسبة 20%.
إن الشركة قصيرة النظر التي تعتقد أنها تستطيع الاستغناء عن موظفيها ستجد نفسها بالتالي غير قادرة على فهم عمل الذكاء الاصطناعي التوليدي والتحكم فيه. ودعونا لا ننسى أبدا أنه مع رحيل الفرق التي عملت على مشاريع أبولو، فقدت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا القدرة على إرسال البشر إلى القمر، وتطلّب الأمر حوالي عشرين عاما من أجل أن تعيد الوكالة بناء المعرفة اللازمة! ويشكّل القطاع النووي الفرنسي مثالا آخر لفقدان القدرات التقنية بسبب تقليص ميزانيات الاستثمار في البشر.
إن الذكاء الاصطناعي إذن ينبغي أن يتعلّق بتكملة العمل البشري، وليس باستبداله والحلول مكانه. يجب أن نعتمد على الصفات الفريدة للبشر من أجل تعزيز مساراتنا التكوينية والدفع نحو التقدم الاجتماعي بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي. تشير دراسة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن مهاراتنا السلوكية وحدسنا وقدرتنا على التفسير هي التي تجعلنا فريدين ولا يمكن الاستغناء عنا واستبدالنا. ولذلك فلا ينبغي أن نكتفي بتعزيز المعارف التقنية لدى الموظفين، بل يجب علينا أيضا تأهيلهم للإشراف على الذكاء الاصطناعي داخل كل مهنة.
إذن كيف سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على العمل؟ استمرار التهجين والاعتماد المزدوج على الآلة والإنسان الذي عرفناه منذ بدايات العصر الصناعي، وحتى منذ بدايات البشرية. لقد أظهرت الدراسات التي ذكرناها في الواقع أن بعض الوظائف ستتأثر بشدة، ومما لا شك فيه أن 20٪ من الوظائف ستشهد إمكانية قيام الذكاء الاصطناعي بنصف مهامّها.
ولذلك ستشهد الشركات ظهور ما أسماه مؤلفو هذه الدراسات بـ «القناطير» (centaures)، أي شركات تُقسّم مهامّها إلى أجزاء متساوية ومتمايزة من العمل البشري والخوارزمي، والشركات «الآلية»، التي تُدمج جزءا من الذكاء الاصطناعي التوليدي في جميع أنشطتها المهنية. بحيث لا نستطيع فصل إسهام الإنسان عن إسهام الآلة.
دعونا نتذكّر انفجار الفقاعة المالية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد كان سببا في اختفاء الجيل الأول من الشركات التي كانت ترمز إلى الإنترنت. واليوم أيضا، يجب على الشركات الاستثمار بحكمة في الذكاء الاصطناعي لضمان استمراريتها. ولتحذر تلك التي لا تمنح الأولوية لتحسين وتطوير رأسمالها البشري، الذي من شأنه أن يولّد حلقة حميدة من الاستخدامات المتزايدة للذكاء الاصطناعي التوليدي.
ليست الوظائف هي التي يمكن أن يشغل فيها الذكاء الاصطناعي التوليدي مكان الإنسان، وإنما سيحلّ مكانه في مهام محددة يمكن أن يسهم في تحسينها. يجب علينا جميعا، مواطنين وسلطات عامة على حدّ سواء، أن نظل يقظين حتى لا تتبنّى الشركات سلوكا «قصير النظر» بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي سعيا إلى استبدال البشر، الأمر الذي من شأنه أن يعاقب المجتمع بأكمله، ومن أجل الحفاظ على رؤية إيجابية على المدى الطويل لتحسين جودة الوظائف والسماح للجميع بتنمية ذاته في العمل.
غيوم شوفيون أستاذ الاقتصاد بمدرسة إيسيك لإدارة لأعمال (فرنسا)
جوليان مالورون أستاذ نظم المعلومات بمدرسة إيسيك لإدارة لأعمال (فرنسا)
الترجمة خاصة لـ عمان عن صحيفة لوموند
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التولیدی على مستوى من أجل
إقرأ أيضاً:
"دبي للسلع المتعددة" يتعاون مع "آي بي إم" لتعزيز قطاع الذكاء الاصطناعي
أعلن مركز دبي للسلع المتعددة، انضمام شركة "آي بي إم للاستشارات" شريكاً لمركز الذكاء الاصطناعي.
وبموجب الشراكة، ستتعاون شركة "آي بي إم للاستشارات" مع مركز دبي للسلع المتعددة في بحث العديد من مجالات التعاون، بهدف دعم نمو قطاع الذكاء الاصطناعي في إمارة دبي.
ويشمل التعاون تعزيز المحتوى الفكري، وتقديم التوجيهات الإرشادية وتنظيم الندوات التعليمية، وغيرها من المؤتمرات المتخصصة، وفعاليات الابتكار التنافسي "الهاكاثون"، والعديد من المبادرات الأخرى.
ويتيح مركز الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع مجموعة من الشركاء، للشركات الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتطوير البرمجيات والتطبيقات المخصصة المعززة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب برامج المسرعات وفرص دخول الأسواق.
ونجح المركز، منذ إطلاقه خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، في جذب واستقطاب نحو 60 شركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، ما يجعله أحد أبرز الوجهات للشركات المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، والتي تتطلع إلى توسيع نطاق أعمالها دولياً انطلاقاً من إمارة دبي.
وقال أحمد حمزة، المدير التنفيذي للمنطقة الحرة التابعة لمركز دبي للسلع المتعددة، إن الجهود المبذولة في تطوير التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي تعد أحد الأهداف الأساسية لمركز الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن تحقيق مكاسب شاملة وقيمة ملموسة عبر تعزيز الاعتماد على حلول الذكاء الاصطناعي.
وأضاف:"تُشير التقديرات أن الذكاء الاصطناعي سيسهم في تحقيق نمو اقتصادي يصل إلى 15 تريليون دولار بحلول عام 2030، ونحن لدينا قناعة راسخة بأن يكون الذكاء الاصطناعي رافداً رئيسياً لدعم النمو الاقتصادي العالمي، ومن هنا تبرز أهمية شراكاتنا الجديدة مع "آي بي إم للاستشارات"، والتي ستضيف قيمة كبيرة إلى المركز".
وبدوره، قال بيل فاريل، الشريك الإداري لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا لدى شركة "آي بي إم للاستشارات": "لا يمكننا إغفال الفرص الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في دبي، وتُعد المنظومات الرئيسية والحيوية، مثل مركز الذكاء الاصطناعي في مركز دبي للسلع المتعددة، محاور ارتكاز أساسية لدفع عجلة الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يسمح لنا بالتعاون في مجموعة واسعة من الحلول التقنية الناشئة".