بين ضفتين: لورينزو سيلفا... كرب البلشفي
تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT
على الرغم من مرور ما يقارب الثلاثة عقود على تحول كلمة «البلشفي» (نسبة إلى البلشفية، المذهب الذي تبنّاه أنصار الجماعية الماركسية في روسيا 1917) إلى مجرد كلمة مُعجمية بحتة، بمعنى أنها أصبحت تشكل جزءا من تاريخ محدد، ولم تعد قيد التداول الراهن، إلا أنها عادت مؤخرا، لتشكل جزءا من عنوان أدبي، ولنقل لتشكل «شخصية روائية».
في أي حال، ثمة سؤال يُطرح بداهة: هل يشكل البلشفي حقا بطل الكتاب؟
ربما كان أول بلشفي يعمل موظفا في أحد المصارف. أما بالنسبة إلى اليأس الذي يسكنه، فنجد أنه يُقرّبه أكثر فأكثر من شخصيات الكاتب الأمريكي إيستون إيلليس أكثر ممّا يقربه من شخصيات الروائي الفرنسي إميل زولا على سبيل المثال، لأننا نقع على هذا البؤس السيكولوجي أكثر ممّا نقع على أي يأس آخر. لذلك يُشكل الحزن البلشفي، بالنسبة إلى الراوي، نوعا من «مرض» محدد. وهذا العذاب، يحيلنا إلى إغواء الجمال المخزي، إلى البراءة. فمنذ فترة طويلة، كانت هذه المحاولة كامنة عند الراوي، إلا أنها عبر هذه الفرصة السانحة، التي جاءت عن طريق الصُدفة، تمظهرت بمختلف أوجهها.
مع بداية أحد الأسابيع «السوداوية»، في مدينة مدريد، عند الساعة الثامنة صباحا، يقع هذا «البطل المضاد» في زحمة سير خانقة، وفي لحظة من عدم الانتباه، يصطدم غفلة، وبشكل خفيف، بالجزء الخلفي من سيارة مكشوفة كانت تقودها إحدى السيدات. جاءت المعاينة الصاخبة، لتدخله في بحر من الاضطراب، فالسائقة «الهيستيرية» أهانته وشتمته، ليغادر بعدها المكان وهو يشعر بالذل، لدرجة أنه يقرر الانتقام. ليلعب القدر لاحقا دوره في معرفة عنوان هذه المرأة، كما رقم هاتفها، لتتخذ حياته من بعد ذلك منعطفا غير متوقع.
جعلته رغبته في الانتقام يقوم بدور التحري ليكتشف أن لها أختا شابة، اسمها روزانا، تبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وهي لا تزال على مقاعد الدراسة الثانوية. كانت شابة جميلة، بل أكثر من رائعة وتثير مئات الرغبات، كما تثير فيه «حشدا من العواطف المتناقضة». فيقع في حبها وغرامها بجنون. هل نحن أمام شخصية جديدة من لوليتا؟ من الواضح أنه لا يسعنا إلا أن نفكر في الكاتب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف وفي روايته «لوليتا». إذ إن قصة هذه الفتاة «الملهمة» تتأرجح حتى النهاية ما بين الكوميديا والمأساة، السخرية والغنائية، الخفة والثقل، السعادة والألم وتقترن بنظرة، بدون تنازلات، على العالم من حولنا.
عند هذه النقطة يتركنا الراوي في حيرة، إذ لا نعرف ما الموقف الذي سيتخذه: هل سيشكل هذا اللقاء، المناسبة التي طالما تمناها وحلم بها كي يحقق انتقامه الذي وعد نفسه به مرارا؟ هل ستكون هذه اللحظة هي المفتاح، حيث ستجد فيه، هذه المرارة المتراكمة عبر السنين الطويلة، أخيرا، الوسيلة للإفلات من معاقلها كي تروي غليلها؟ (مرارة العمل والعلاقات الإنسانية تجاه النساء)، أم ستكون على العكس من ذلك كله، أي ستشكل لحظة خلاص؟
كلّ أهمية الرواية تكمن في هذه الموضوعة المتفردة التي تتشكل منها رواية «حزن البلشفي»، كما في هذا العلاج، الساذج قليلا، لهذا «المرض» الذي يقترحه علينا سيلفا. بيد أن هذا الأخير يمتاز بخاصية خيار التشويق كما بِحَبكِ سطوح الحكاية ببعضها البعض، ما يجعله يربط الأحداث المتداخلة والمتشابكة بشكل حيوي، مضحيا في الوقت عينه، بهذه المحاولة التي تشبه «التصوير الشعاعي» المتدرج لروح بطله مقابل صيغة الجملة التي تلعب الدور الأكبر في التغلغل داخل هذا السر، والكشف عنه.
من هذه النقطة، يقترب الكاتب الإسباني من زميله الروائي الأمريكي كما من الكاتبة جويس كارول واتس، أيّ يندرج ضمن فئة هؤلاء الكتّاب الذين أطلق عليهم اسم «رسامي الدناءة». فلكي يقدم «بطلا محتقرا»، لجأ إلى تشكيل حافز للرواية كي تحفر لها مكانتها؛ لذا يميل سيلفا إلى كتابة هذه «الدناءة» بدقة متناهية، أو لنقل بــ«مينيمالية» تجعلنا حقا، نفهم شيئا حول هذا «المرض» الذي يطرحه الكاتب.
السؤال الآخر الذي نجده أمامنا: من أين جاءت صفة البلشفي لِتَسِمَ هذا المصرفي؟
على الرغم من أنه ليس من هواة الــ«لوليتا»، إلا أنه يحتفظ بصورة لبنات القيصر نيقولاوس الثاني في منزله. كان يشعر بانجذاب خاص إلى الدوقة الكبرى أولغا، وغالبًا ما يتساءل عمّا شعر به البلشفي الذي كُلّف بقتلها. من هنا، يأتي عنوان الرواية من افتتان بطل الرواية ببنات آخر قياصرة روسيا. كان يقارن حزنه الذي تسببه له هذه الفتاة، روزانا، بحزن ذاك «الموجيك» وهو أمام الدوقة الكبرى التي كانت تستعد للزواج والتي أطلق عليها النار في يكاترينبورغ عام 1918. إلا أن الراوي، وفي مواجهة ذكاء روزانا الشديد، وجاذبيتها القوية، بدا ضعيفًا وقد أثبت أنه أسوأ مائة مرة من أي حادث سيارة.
هكذا من العنوان، يعطينا الكاتب النغمة، نغمة السرد المكرر الذي تلعب فيه الشخصية الذكورية بسهولة على المراجع التاريخية والأدبية والموسيقية. تتحول الفتاة الملهمة إلى مأساة، والصفحات الأخيرة المؤثرة تعطي معنى لمقاربة الرجل المنهك الساخر: لقد خسر كل شيء، ولم يندم على شيء.
يمكن أن تكون رواية «حزن البلشفي» رواية كوميدية بدون الطابع الدرامي الذي تكتسبه عندما تصبح مخططات الراوي أكثر تعقيدا. لكن ربما تكمن قوة المؤلف في صورة روزانا، وهي حورية لا مثيل لها من شأنها أن تزعج القراء الأكثر لا مبالاة. فبكل انفصال وروح دعابة وحنان يروي لنا بطل الرواية قصة هذا الحب المجنون الذي سينتهي به الأمر إلى الانفجار مثل القنبلة. لأن هذا الكتاب هو قصة كابوس أيضا: فروزانا، الفتاة الصغيرة، ستموت بغباء في كمين نصبه مدمنون وحشاشون ليلقى اللوم على بطل الرواية في كل شيء.
كأننا أمام كتابين في «حزن البلشفي»؛ القسم الأول منه، مضحك وساخر على الرغم من أنه مبتذل إلى حدّ ما، أما القسم الثاني، فينتهي نهاية درامية.
ثمة روايات نفتحها صُدفة، ولا نستطيع أن نغلقها قبل أن نقرأها بالكامل، «حزن البلشفي» هي إحداها. لكن علينا أن نؤكد: من يبحث عن كتاب مسلّ، تبدو شخصيته الرئيسة، بطلا «مكشوف البصيرة» ومليئا بالتشويق، من دون شك سيجد متعة في القراءة. أما الباحث عن «أدب» فعلي، عميق، فمن الأفضل له أن يدعها تمرّ من أمامه. إذ لا بدّ أن يصيبه «كرب القراءة».
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلا أن
إقرأ أيضاً:
ما الذي يحمي الدول من السقوط؟
د. محمد بن عوض المشيخي **
الحكم الرشيد في إدارة الناس من أصعب التحديات التي تواجه الزعماء والقادة والحكومات الديمقراطية منها والديكتاتورية على مستوى هذا الكوكب؛ فالإرادة العامة للشعوب أصبحت أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى من التاريخ الإنساني عبر مختلف المراحل.
وتكمُن أهمية قياس الرأي العام في الذخيرة المعرفية التي تزود صناع القرار في أي حكومة بالمعلومات الصحيحة والحقائق الدامغة عن ما يدور في ذهن المواطن الواعي الذي يدرك ما يُحاك من حوله من قرارات بعضها صائبة وأخرى ضبابية لا تخدم إلا عددا قليلا من علية القوم من المتنفذين الذين نراهم في كثير من الدول يفصلون القوانين والأنظمة على قياسهم ومصالحهم الشخصية على حساب المجتمع الذي يطمع إلى العدالة في توزيع الثروة والمناصب على جميع أبنائه بدون تمييز، وذلك من منطلق الكفاءة والتميز وفي العطاء وخدمة الناس وليس التكبر عليهم وتجاهلهم والبعد عن همومهم والتحديات اليومية التي تواجه عامة الناس في مجتمعاتنا العربية أصبحت لا تطاق، ولا يغفل عنها إلّا هالك ولو بعد حين؛ بل وفي دول العالم الثالث قاطبة.
ولا شك أن نتيجة الدراسات العلمية الرصينة للمراكز المتخصصة التي تملك الإمكانيات المالية والبشرية والمهارات البحثية، في بيئة صحية بعيدًا عن مقص الرقيب في طرح الأسئلة المُعبِّرة عن معاناة الناس ويسودها حرية التعبير بعيدًا عن الرقابة الضيقة للحرس القديم في دول الإقليم، سوف تؤتي ثمارها على المدى القريب والبعيد في توجيه بوصلة الوطن نحو بر الأمان، معتمدةً في ذلك على الاستنتاجات المستقبلية لتلك البحوث، مُتجنبةً بذلك الأخطاء، مع العمل بجهد مُضاعف على تصحيح المسار في صنع القرارات الرشيدة التي تنقذ الأوطان من الدخول في حروب وفتن وصراعات لا تنتهي بسبب الظلم والتجاوزات من البعض.
الحكومات التي تُهمِّش الرأي العام ودراسته المُتعمِّقة وتعجز عن فك مفاتيح وطلاسم ما يفكر فيه المجتمع المدني وخاصة الشباب وتصم آذانها عن مطالب الناس؛ فهي لا شك تعيش في أبراج عاجية بعيدة عن الواقع، وسقوطها في الهاوية أمرٌ حتمي وهو مسألة وقت مهما تعددت الأجهزة الأمنية التي تحرس مثل تلك الأنظمة. ولعلنا نتذكَّر ما يُعرف بـ"ثورات الربيع العربي" التي أسقط فيها الشارع العربي 6 أنظمة، بدايةً من تونس التي فجَّرت فيها حادثة محمد البوعزيزي ثورة الياسمين، وحتى الثورة السودانية التي أسقطت حكم البشير. وكانت الثورة السورية التي استمرت 14 سنة حتى تمكنت أخيرًا من إسقاط نظام بشار الأسد.
ومن المُفارقات العجيبة أن يزعم بشار الأسد فوزه بولاية رئاسية رابعة وبنسبة تجاوزت 95% وذلك في عام 2021؛ بينما يرفض الحوار مع المعارضة السورية قُبيل سقوط دمشق بأسابيع قليلة، وهذا يشير إلى جهله أو تجاهله لواقع الحال من حوله، خاصة في كيفية تفكير الشعب السوري، وما هي طموحات هذا الشعب وخياراته المستقبلية؟ ونتيجة لذلك الإهمال تخلّى عنه الجميع، بداية ممن زعموا أنهم مساندون لنظام حزب البعث، ليس فقط من أعضاء الحزب؛ بل وحتى الجيش السوري والأجهزة الأمنية، والذين فضَّلوا جميعًا الهروب أو الاستسلام؛ بدلًا من الدفاع عن نظام غارق في الوهم والنرجسية.
يبدو لي أنَّ هناك حكومات في المنطقة العربية لا تهتم لا من بعيد ولا من قريب بالدراسات والبحوث المُتعلِّقة باستقراء المستقبل، وعلى الجانب الآخر تقوم مراكز الدراسات العالمية وخاصة في الدول الغربية بإجراء بحوث مُتعمِّقة ليس فقط في دولها؛ بل في دولنا العربية أيضًا، لمعرفة اتجاهات الشعوب. الخبراء في أمريكا وأوروبا استخلصوا من دراستهم المستقبلية سقوط شاه إيران في أواخر سبعينيات القرن الماضي؛ وذلك قبل هروبه من طهران بأكثر من 7 سنوات؛ إذ تحرَّكت على عجل الحكومات الفرنسية والألمانية والأمريكية نحو عقد صفقاتٍ نفطية مع الثورة الإسلامية التي كان وصولها إلى حكم إيران أمرًا حتمياً، ولهذا سبب تخلَّت الولايات المتحدة عن الحليف والصديق المُخلِص، الذي كانت تُطلق عليه شرطي الخليج في أحلك الظروف، وهذا يعني أن مصالح الدول فوق المبادئ والوعود التي كان يعتمد عليها الشاه في دوام حكمه وسيطرته على شعبه.
صحيحٌ أن جميع "ثورات الربيع العربي" التي أسقطت الحكومات، لم تحقق الأهداف الشعبية، وذلك بسبب تحولها إلى صراعات طائفية ومذهبية والبحث عن المناصب والثروات بين رفاق الأمس، ومن هنا يتأكد لنا أن ظهور صراعات جديدة قادم لا محالة، مثل ما حصل بالضبط في الثورات الأوروبية خاصة الثورة البريطانية والثورة الفرنسية، على أمل تحقق أماني الشعوب مستقبلًا.
إنَّ الدافع وراء كتابة هذا المقال، الرسالة الآتية التي أرسلها لي مجموعة من طلبة جامعة السلطان قابوس في مجال الدراسات الإعلامية، والتي تقول: "نعمل أنا وزملائي على مشروع يتعلق بدور الإعلام في تشكيل الرأي العام السياسي، وقد وجدنا أنَّ هذا الموضوع له أهمية كبيرة في تعزيز الشفافية وتحقيق التنمية. ونطمح في مساعدتك من خلال تسجيل فيديو قصير تتحدث فيه عن أهمية قياس الرأي العام في الوطن العربي، وكيف يُمكن أن يُساهم ذلك في خدمة المصلحة العامة... ستكون مساهمتك ذات قيمة كبيرة لنا، ونقدر وقتك وجهود".
كانت الخلاصة التي سطَّرتُها لطلبة العلم في تلك الجامعة العريقة التي تُعد بيت خبرة لهذا البلد، عن واقع الرأي العام في الدول النامية، والتي تتمثل في 3 نقاط رئيسية على النحو الآتي: أولًا: هناك مشكلة حقيقية في تكوين الرأي العام، وذلك بسبب شُح المعلومات التي يحصل عليها المواطن من وسائل الإعلام التي لا تُجيد إلّا المدح والتمجيد للمسؤول، وكذلك غياب الحوار الحقيقي بين أفراد المجتمع، رغم أن هذا الحوار يعد جوهر الرأي العام، ومن هنا يجد الإنسان نفسه غير قادر على تكوين رأي حقيقي. ثانيًا: قلة المراكز التي تقيس الرأي العام واستبدالها في بعض الدول بدوائر صغيرة تقوم بإجراء استطلاعات تفتقد إلى المصداقية والمعايير العلمية في اختيار العيِّنات، وتتجنب تلك الدوائر طرح الأسئلة الجادة والاكتفاء بالجوانب السطحية. ثالثًا: تجاهل صُنَّاع القرار في البلاد العربية وعدم قناعتهم بأهمية الدراسات المتعلقة بالرأي العام حتى إن وُجِدَت، والسبب في ذلك أن المسؤول لا يرغب في نشر أرقام وحقائق تُخالفه في الرأي، وهؤلاء يعتقدون أن المجتمع لم يصل بعد إلى مستوى النضج، وبالتالي يجب أن يكونوا بعيدين عن صنع القرار!
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري