لجريدة عمان:
2025-01-30@13:36:49 GMT

بين ضفتين: لورينزو سيلفا... كرب البلشفي

تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT

على الرغم من مرور ما يقارب الثلاثة عقود على تحول كلمة «البلشفي» (نسبة إلى البلشفية، المذهب الذي تبنّاه أنصار الجماعية الماركسية في روسيا 1917) إلى مجرد كلمة مُعجمية بحتة، بمعنى أنها أصبحت تشكل جزءا من تاريخ محدد، ولم تعد قيد التداول الراهن، إلا أنها عادت مؤخرا، لتشكل جزءا من عنوان أدبي، ولنقل لتشكل «شخصية روائية».

هذا ما قام به الكاتب الإسباني لورينزو سيلفا في كتابه «حزن البلشفي» (وفق الترجمة الفرنسية، (منشورات «جان كلود لاتيس»)، بينما العنوان الأصلي الإسباني هو «La flaqueza del bolchevique» أي «ضعف البلشفي».

في أي حال، ثمة سؤال يُطرح بداهة: هل يشكل البلشفي حقا بطل الكتاب؟

ربما كان أول بلشفي يعمل موظفا في أحد المصارف. أما بالنسبة إلى اليأس الذي يسكنه، فنجد أنه يُقرّبه أكثر فأكثر من شخصيات الكاتب الأمريكي إيستون إيلليس أكثر ممّا يقربه من شخصيات الروائي الفرنسي إميل زولا على سبيل المثال، لأننا نقع على هذا البؤس السيكولوجي أكثر ممّا نقع على أي يأس آخر. لذلك يُشكل الحزن البلشفي، بالنسبة إلى الراوي، نوعا من «مرض» محدد. وهذا العذاب، يحيلنا إلى إغواء الجمال المخزي، إلى البراءة. فمنذ فترة طويلة، كانت هذه المحاولة كامنة عند الراوي، إلا أنها عبر هذه الفرصة السانحة، التي جاءت عن طريق الصُدفة، تمظهرت بمختلف أوجهها.

مع بداية أحد الأسابيع «السوداوية»، في مدينة مدريد، عند الساعة الثامنة صباحا، يقع هذا «البطل المضاد» في زحمة سير خانقة، وفي لحظة من عدم الانتباه، يصطدم غفلة، وبشكل خفيف، بالجزء الخلفي من سيارة مكشوفة كانت تقودها إحدى السيدات. جاءت المعاينة الصاخبة، لتدخله في بحر من الاضطراب، فالسائقة «الهيستيرية» أهانته وشتمته، ليغادر بعدها المكان وهو يشعر بالذل، لدرجة أنه يقرر الانتقام. ليلعب القدر لاحقا دوره في معرفة عنوان هذه المرأة، كما رقم هاتفها، لتتخذ حياته من بعد ذلك منعطفا غير متوقع.

جعلته رغبته في الانتقام يقوم بدور التحري ليكتشف أن لها أختا شابة، اسمها روزانا، تبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وهي لا تزال على مقاعد الدراسة الثانوية. كانت شابة جميلة، بل أكثر من رائعة وتثير مئات الرغبات، كما تثير فيه «حشدا من العواطف المتناقضة». فيقع في حبها وغرامها بجنون. هل نحن أمام شخصية جديدة من لوليتا؟ من الواضح أنه لا يسعنا إلا أن نفكر في الكاتب الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف وفي روايته «لوليتا». إذ إن قصة هذه الفتاة «الملهمة» تتأرجح حتى النهاية ما بين الكوميديا ​​والمأساة، السخرية والغنائية، الخفة والثقل، السعادة والألم وتقترن بنظرة، بدون تنازلات، على العالم من حولنا.

عند هذه النقطة يتركنا الراوي في حيرة، إذ لا نعرف ما الموقف الذي سيتخذه: هل سيشكل هذا اللقاء، المناسبة التي طالما تمناها وحلم بها كي يحقق انتقامه الذي وعد نفسه به مرارا؟ هل ستكون هذه اللحظة هي المفتاح، حيث ستجد فيه، هذه المرارة المتراكمة عبر السنين الطويلة، أخيرا، الوسيلة للإفلات من معاقلها كي تروي غليلها؟ (مرارة العمل والعلاقات الإنسانية تجاه النساء)، أم ستكون على العكس من ذلك كله، أي ستشكل لحظة خلاص؟

كلّ أهمية الرواية تكمن في هذه الموضوعة المتفردة التي تتشكل منها رواية «حزن البلشفي»، كما في هذا العلاج، الساذج قليلا، لهذا «المرض» الذي يقترحه علينا سيلفا. بيد أن هذا الأخير يمتاز بخاصية خيار التشويق كما بِحَبكِ سطوح الحكاية ببعضها البعض، ما يجعله يربط الأحداث المتداخلة والمتشابكة بشكل حيوي، مضحيا في الوقت عينه، بهذه المحاولة التي تشبه «التصوير الشعاعي» المتدرج لروح بطله مقابل صيغة الجملة التي تلعب الدور الأكبر في التغلغل داخل هذا السر، والكشف عنه.

من هذه النقطة، يقترب الكاتب الإسباني من زميله الروائي الأمريكي كما من الكاتبة جويس كارول واتس، أيّ يندرج ضمن فئة هؤلاء الكتّاب الذين أطلق عليهم اسم «رسامي الدناءة». فلكي يقدم «بطلا محتقرا»، لجأ إلى تشكيل حافز للرواية كي تحفر لها مكانتها؛ لذا يميل سيلفا إلى كتابة هذه «الدناءة» بدقة متناهية، أو لنقل بــ«مينيمالية» تجعلنا حقا، نفهم شيئا حول هذا «المرض» الذي يطرحه الكاتب.

السؤال الآخر الذي نجده أمامنا: من أين جاءت صفة البلشفي لِتَسِمَ هذا المصرفي؟

على الرغم من أنه ليس من هواة الــ«لوليتا»، إلا أنه يحتفظ بصورة لبنات القيصر نيقولاوس الثاني في منزله. كان يشعر بانجذاب خاص إلى الدوقة الكبرى أولغا، وغالبًا ما يتساءل عمّا شعر به البلشفي الذي كُلّف بقتلها. من هنا، يأتي عنوان الرواية من افتتان بطل الرواية ببنات آخر قياصرة روسيا. كان يقارن حزنه الذي تسببه له هذه الفتاة، روزانا، بحزن ذاك «الموجيك» وهو أمام الدوقة الكبرى التي كانت تستعد للزواج والتي أطلق عليها النار في يكاترينبورغ عام 1918. إلا أن الراوي، وفي مواجهة ذكاء روزانا الشديد، وجاذبيتها القوية، بدا ضعيفًا وقد أثبت أنه أسوأ مائة مرة من أي حادث سيارة.

هكذا من العنوان، يعطينا الكاتب النغمة، نغمة السرد المكرر الذي تلعب فيه الشخصية الذكورية بسهولة على المراجع التاريخية والأدبية والموسيقية. تتحول الفتاة الملهمة إلى مأساة، والصفحات الأخيرة المؤثرة تعطي معنى لمقاربة الرجل المنهك الساخر: لقد خسر كل شيء، ولم يندم على شيء.

يمكن أن تكون رواية «حزن البلشفي» رواية كوميدية بدون الطابع الدرامي الذي تكتسبه عندما تصبح مخططات الراوي أكثر تعقيدا. لكن ربما تكمن قوة المؤلف في صورة روزانا، وهي حورية لا مثيل لها من شأنها أن تزعج القراء الأكثر لا مبالاة. فبكل انفصال وروح دعابة وحنان يروي لنا بطل الرواية قصة هذا الحب المجنون الذي سينتهي به الأمر إلى الانفجار مثل القنبلة. لأن هذا الكتاب هو قصة كابوس أيضا: فروزانا، الفتاة الصغيرة، ستموت بغباء في كمين نصبه مدمنون وحشاشون ليلقى اللوم على بطل الرواية في كل شيء.

كأننا أمام كتابين في «حزن البلشفي»؛ القسم الأول منه، مضحك وساخر على الرغم من أنه مبتذل إلى حدّ ما، أما القسم الثاني، فينتهي نهاية درامية.

ثمة روايات نفتحها صُدفة، ولا نستطيع أن نغلقها قبل أن نقرأها بالكامل، «حزن البلشفي» هي إحداها. لكن علينا أن نؤكد: من يبحث عن كتاب مسلّ، تبدو شخصيته الرئيسة، بطلا «مكشوف البصيرة» ومليئا بالتشويق، من دون شك سيجد متعة في القراءة. أما الباحث عن «أدب» فعلي، عميق، فمن الأفضل له أن يدعها تمرّ من أمامه. إذ لا بدّ أن يصيبه «كرب القراءة».

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا أن

إقرأ أيضاً:

ذكرى ميلاد الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف

تمر اليوم ذكرى ميلاد أديب قدير تأثر بأسلوبه ونتاجه الأدبي العديد من الكتاب المعاصرين، وهو الكاتب الروسي المشهور أنطون تشيخوف المولود في 29 يناير(كانون الثاني) 1860، والذي ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، ونالت تقديراً عالياً من النقاد والأدباء.

كان والد تشيخوف مدير بقالة واعتبر أبا تعسفيا في طريقة معاملته مع أبنائه، وعمل أيضا مديرا للجوقة الأرثوذكسية، أما والدة تشيخوف، فكانت إنسانة رقيقة ولطيفة وكثيرا ما كانت تقص الحكايات الترفيهية للأطفال عن رحلاتها مع والدها التاجر إلى كافة أنحاء روسيا.
وكان تشيخوف يشارك في التمثيل بمسرح الهواة، وبالمسرح المحلي، فقد عشق المسرح منذ طفولته، وتمكن من حضور أول عرض مسرحي في حياته (أوبرا هيلين الجميلة) لباخ عندما كان في عمر 13 سنة، وكثيرا ما كان يحضر المسرحيات، من مقعد في الخلف لان سعرها أقل، كما شارك في دير الأرثوذكسية اليونانية بالغناء بجوقات والده.
وفي عام 1876، تعرض والده للإفلاس ثم رحلت الأسرة إلى موسكو وعاشت فقيرة، وكانت والدته حزينة ومحطمة عاطفيًّا وجسديًّا، فاضطر للعمل بعدة وظائف مثل معلم خصوصي، وصياد، ورسام للرسومات التخطيطية للجرائد.
في عام 1879، تم قبوله في كلية الطب في جامعة موسكو، وكان يتحمل مسؤولية أفراد عائلته، ونفقاتهم الدراسية، فكان يكتب يوميا، كي يوفر لهم المال، وكتب مقالات قصيرة من حياة الشارع الروسي، وفي عام 1882 كتب شظايا، وعرف ككاتب ساخر يصور المجتمع الروسي بحس كوميدي، وينقل تفاصيل صغيرة من يومياته.
في عام 1884، أنهى دراسته بكلية الطب، مهنته الأساسية، وكان يتعاطف مع الفقراء ويعالجهم دون مقابل، ثم صار معروفا ككاتب في الوسط الأدبي، يجذب الانتباه على المستوى الأدبي والشعبي، وفي عام 1887، فازت مجموعته القصصية، "الشفق" بجائزة بوشكين لأفضل إنتاج أدبي مُتميز بقيمة فنية عالية، وفي ذلك العام تعرض تشيخوف للمرض، ثم سافر إلى أوكرانيا التي ألهمته كتابة رواية السهوب بعيني طفل صغير أرسل للعيش بعيدًا عن المنزل، وأظهرت الرواية قدرا كبيرا من خياله الناضج، وتسببت في نشر كتاباته في مجلة أدبية بدلًا من الصحيفة.
في عام 1890، قام تشيخوف برحلة شاقة بالقطار وعن طريق عربة تجرها الخيول، وبباخرة إلى الشرق الأقصى قادمًا من روسيا لشمال اليابان، حيث ظل هناك 3 أشهر وأجرى مقابلات مع الآلاف من المحكوم عليهم، وتُعتبر رسائل تشيخوف التي كتبها خلال رحلته الممُتعة من أفضل ما كُتب في حياته.
وفي مارس 1897 تعرض إلى نزيف حاد في الرئتين بينما كان في زيارة لموسكو، وتبين أنه مُصاب بمرض السل في رئتيه، أدى إلى تغير نمط حياته فيما بعد.
وتوفي والده عام 1898، وأكمل تشيخوف كتابة اثنتين من مسرحياته الفنية، الأخوات الثلاثة وبستان الكرز، في 25 مايو (أيار) 1901 ثم تزوج من أولغا كنيبر، وانتقل معها للمعيشة في مدينة الحمامات الألمانية، وهناك كتب رسائل مرحة إلى شقيقته ماشا واصفًا المواد الغذائية والبيئة المحيطة به، مؤكدًا لوالدته أن حالته الصحية في تحسن مُستمر.
وفي عام 1908، توفي تشيخوف ودفن قرب والده في مقبرة بموسكو، تاركا 4 روايات كلاسيكية، ومئات من القصص القصيرة، ومسرحيات أثرت كثيراً على دراما القرن العشرين، وقد نالت كتاباته تقديراً عالياً من النقاد والأدباء.

مقالات مشابهة

  • رحيل الكاتب محمد جبريل عن عمر يناهز 87 عامًا
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. شتاء تحت الإقامة الجبرية
  • عبد الرحيم علي ينعى الكاتب محمد جبريل
  • الموت يُغيب الكاتب والروائي محمد جبريل
  • وفاة الكاتب والروائي الكبير محمد جبريل عن عمر 87 عاما
  • ذكرى ميلاد الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف
  • حسام موافي يرد على مقال هاجمه: الكاتب شخص ميعرفش أي حاجة .. فيديو
  • القادسية يقترب من ضم رافا سيلفا
  • الكاتب التركي Ali Aycil بمعرض الكتاب: أشعر أنني في بلدي الثاني
  • لويز غليك في آخر حوار أدبي: الكاتب طالب للمعرفة