الروائي الأردني جلال برجس يكتب: “الرسام الإنجليزي”، رواية تنظر إلى ما بعد الحرب عبر الفن وتجلياته
تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT
أثير – الروائي الأردني جلال برجس
لم يكن للفن الروائي أن يولد، ويحتل مكانته لولا التحولات المجتمعية والفكرية التي شهدها الإنسان، وبالتالي باتت الرواية أكثر قدرة على استيعاب تلك التحولات من جهة، والتنظير لها من جهة أخرى. والحروب وما تؤدي إليه، واحدة من أكثر أدوات التحولات ليس على الصعيد الشكلي للمجتمع، بل أيضًا على صعيد التاريخ الجواني للإنسان، بوصفه منتجًا ومتلقيًا للتاريخ في الآن نفسه؛ إذ تترك الحروب في الذاكرة البشرية آثارًا لا يمكن محوها بسهولة، بل إنها ستؤسس انطلاقًا من الاختلال في ميزان العدالة البشرية إلى وعي مشروخ إما أن يؤدي إلى الموت المعنوي، أو يؤدي إلى النهوض إلى مستوى آخر يتجاوز الذاكرة بمعزل عن مفهوم النسيان الذي لا يتفق مع معاينة التجربة.
في هذه الرواية ترصد رزان المغربي خفية الطبقات السرية في وعي الإنسان ليتضح كيف يمكن أن يكون مُستعمِرًا، ومستعمَرًا، وذلك عبر حكاية (جون فريدريك بريل) وهو رسام إنجليزي التحق مصادفة بفيلق كتيبة تابعة لسلاح الإشارة الملكي البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان (جون) في إحدى الحانات التي أخذ عدد من الجنود يبحثون فيها عن متطوعين للقتال آنذاك؛ فأقنعه أحد المقامرين بالانضمام للجيش. كانت فرنسا هي الجبهة الأولى التي انضم جون إلى المعارك فيها خاصة معركة (دنكيرك) إحدى المعارك البارزة التي نشبت بين قوات الحلفاء وألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وقد اندلعت على الجبهة الغربية أثناء معركة فرنسا، وشهدت دفاع قوات الحملة البريطانية وبقايا القوات الفرنسية عن ميناء (دنكيرك) آخر الموانئ المتبقية في أيدي الجيش الفرنسي، وذلك خلال عملية إجلائها عن المدينة التي امتدَّت أسبوعًا من 26 مايو إلى 4 يونيو عام 1940 والتي انتهت بنقل ثلث مليون جندي.
لقد عاش جون تلك المرحلة وفي دواخله وعيان، وعي الرسام المتأصل فيه منذ الطفولة، ووعي الجندي الطارئ على مفردات القتال؛ أي أننا مقابل شخصية يجابه فيها الفن كل عناصر الموت. بعد (دنكرك) يتنقل جون بين المحطات ليصل طبرق الليبية مرورًا بالقاهرة. حيث إحدى القرى الليبية التي رسم على جدار إحدى بيوتها القديمة المطلة من علو شاهق على البحر المتوسط جدارية سميت (مباهج الحياة). تشير تلك الجدارية عبر مشاهدها المتقاطعة، إلى مشهد واسع يبدو رغم انفصالاته إلى مشهد كلي مبني على صور لفظائع الحروب، والجماجم البشرية، والأغنيات، وروح الأدب، والنساء الجميلات، والنبيذ، والحنين للوطن. لقد خضعت تلك الجدارية لعدة تأويلات ذهب بعضها إلى علاقة الحرب وبالسلام وانعكاسات هذا الهاجس في نفس الرسام. وهناك من ربطها بملذات الفن وشطحاته الكثيرة.
لقد عبر (جون) من خلال اشتغاله على هذه الجدارية -التي تتواجد الآن في ليبيا- عن شغفه بالفن، وبالحياة، ورؤيته الخاصة للحرب. ومن الجانب الآخر ظهرت ملامح بنيته النفسية؛ إذ بدت الجدارية كما لو أنها مرآة تعكس ما حل بذاكرته، ووعيه من أثر تلك التحولات التي تتوفر على متناقضات وتوافقات في الآن نفسه. من خلال الاشتغالات الروائية التي عملت عبرها رزان المغربي على إعادة إنتاج الواقع تبرز علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وكل ما يتمخض عن هذه العلاقة من محاولات للخروج على دوافع الإنسان في السطو على أمكنة الإنسان بما فيه من تاريخ، وبنى ثقافية، واجتماعية.
الاستثنائي فيما فعله (جون فريدريك بريل) في الرواية أن كثيرون تعلقوا بتلك الجدارية، وأن هناك من أدعى مشاهدته لحظات رسمها، وأن جون قتل بعد شهور من إنجازها. من هنا تأخذ الرواية منحى يفكك ما وراء رغبة الإنسان وخاصة العربي في سرد الحكايات، وبالتالي كيف يمكن أن يصنع كل واحد حكايته المضافة للحكاية الأصلية، الأمر الذي يمكن الذهاب من خلاله عميقًا إلى أصول الرواية عربيًا وأبعادها في طبقات المجتمع العربي.
تسير الرواية بسلاسة، وبلغة ذات إيقاع خفي، نحو الرسام الإنجليزي وكل ما يحيطه من حب، وصداقات، وأزمات، ومن علاقات تتشكل مع السكان المحليين. هناك تعدد للأصوات التي تتكفل بسرد الرواية، لكن الراوي العليم لا يغيب عنها متكفلًا بدوره. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن رزان المغربي أعادت إنتاج الحدث بحيث ابتكرت أحداثًا ليس لها جذر في أرض الواقع، لتفتح مسارات تعلن من خلالها عن رؤيتها الخاصة نحو أزمة الإنسان في تلك المرحلة، مثل الوثائق، وأيضًا السعي للكشف عما وراء المرأة ذات الطباع الغريبة، ذلك الخط السردي الذي يذهب بالقارئ نحو نهاية مفتوحة على عدة تأويلات.
في رواية الرسام الإنجليزي سعي إلى إعادة بناء الحياة عبر الفن، وتحديدًا عبر جدارية ما تزال ماثلة للآن على جدار رُسمت عليه في ليبيا في زمن الحرب العالمية الثانية. وفيها ذهاب للتاريخ، وللطبقات الاجتماعية الليبية، بعد المرحلة الاستعمارية، من زاوية غير نمطية لم تستند إلى السودواية، والتمترس وراء حواجز الإحباط، في معاينة الأزمة؛ بل تعمقت في مستوياتها عبر تصعيد الدراما الروائية من جانب إنساني لصالح شعرية الحدث؛ إذ ترصد أثر الفساد في المجتمع الليبي منذ الاحتلال الإيطالي.
اختارت رزان المغربي أن تسرد روايتها عبر أكثر من صوت، تبدو في للوهلة الأولى منفصلة لكن المضي في القراءة يكشف مدى ارتباطها بجوهر الرواية؛ مثل الليبية (سلمى) المختصة بترميم الجداريات، والتي تقيم في إيطاليا وتراها في بعض الأحيان منفى. فتاة تميل للصمت، ولتدوين الكثير مما يحدث لها ومما تفكر فيه، وتحن إلى ليبيا كثيرًا ليبيا التي تعيش في ذاكرتها بعيدًا عن كل الاقتتالات والحروب وما تمخض عنها؛ خاصة تلك المرحلة التي عاشت الحب فيها مع خالد. كما تقوم الرواية أيضًا على صوت حكيم الذي تحول من دراسة الهندسة إلى دراسة الفن، والذي أقنع سلمى بأن تشرف على رسالة ماجستير عن جدارية البراديا في ليبيا، لكنه يختفي، تاركًا لها مخطوطة تروي حكاية اكتشافه لجدارية البردايا التي رممها الإيطاليان (فرانكو) و(ليديا) واللذان التقيا بحكيم أثناء ترميمها. تستعرض باقي الفصول عدة حكايات مرتبطة ببؤرة الحدث مثل شخصية المنصوري وحسن الأعرج ومقاربة مرحلة ما بعد الاستعمار الإيطالي لليبيا، والفساد الذي تشكل نتاج تلك التحولات.
الرسام الإنجليزي رواية أعلت فيها رزان المغربي من شعرية الحدث مقابل لغة هادئة كانت قادرة على أن تأخذ القارئ إلى المقولة الرئيسية في الرواية التي تم الاشتغال عليها من خلال وعي درامي عناصر تشويقه عالية، وعبر قدرة سردية كشفت الأثر الذي تخلفه الحرب على الجاني، والضحية، والمكان، وبالتالي تؤسس إلى تاريخ إنساني تتصارع فيه القيم في فضاء التحولات. إن أهم ما يمكن للقارىء أن يناله معرفيًا من خلال هذه الرواية، هو الدور اللانهائي للفن في مجابهة كل ما يبتكره الإنسان من أدوات للموت، بل كشفت عن ذلك الفصام الذي يعيشه الإنسان بين البراءة والوحشية بكل مستوياتها.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
الرجل الذي اشترى كل شيء.. ابن سلمان وانتهاكات الصندوق السيادي السعودي
نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرا مطولا عن صندوق الاستثمارات العامة السعودية، وكيف استخدمه ولي العهد محمد بن سلمان لتعزيز سطوته على الدولة، بالإضافة للانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان التي رافقت إنشاءه.
وقالت المنظمة، إنه في غضون سنوات قليلة، تحول "صندوق الاستثمارات السعودي من صندوق ثروة سيادي غامض ومدار بشكل محافظ إلى أحد أكبر الصناديق وأكثرها شراسة في العالم، حيث تقدر قيمته بأكثر من 925 مليار دولار.
وأضافت أن هذا الارتفاع الصاروخي الذي حققه الصندوق يعود إلى ولي العهد، ورئيس الوزراء، ورئيس الصندوق، والحاكم الفعلي والمستبد محمد بن سلمان، حيث عزز من خلال الصندوق تفرده بالقرار؛ إذ تكاد تنعدم القيود على تصرفه بثروة البلاد، التي من المفترض أن يستفيد منها الشعب السعودي بأكمله.
وأوضحت رايتس ووتش، أن ابن سلمان أشرف على أسوأ فترة لحقوق الإنسان في تاريخ البلاد، بعد أن شن قمعا واسعا وعنيفا على المجتمع المدني، والمعارضين والمحافظين الدينيين، ومنافسي النظام، ورجال الأعمال البارزين. ما منحه سلطة مطلقة على أجهزة الدولة ساعدته على إعادة هيكلة الصندوق.
وأشارت إلى أن الصندوق السيادي السعودي استفاد مباشرة من انتهاكات حقوقية مرتبطة برئيسه محمد بن سلمان، بما يشمل حملة مكافحة فساد عام 2017 تضمنت اعتقالات تعسفية، وانتهاكات بحق المحتجزين، وابتزاز ممتلكات النخبة السعودية.
وتحدثت المنظمة عن تسهيل الصندوق من خلال الشركات التي يملكها انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، حيث استقل المتورطون بالعملية طائرتين تعودان لشركة "سكاي برايم للخدمات الجوية" التي يمتلكها الصندوق السيادي السعودي.
كما ارتبطت انتهاكات حقوق الإنسان ببعض المشاريع التي يديرها الصندوق، وعلى رأسها مشروع مدينة "نيوم"، حيث طردت السلطات السعودية عشرات الأسر من قبيلة الحويطات التي تسكن قرب المشروع.
وأردفت بأن محمد بن سلمان، مدعوما بمجموعة صغيرة من النخبة السعودية غير الخاضعة للمحاسبة، يسيطر على الدعامات الأساسية لاقتصاد البلاد، موظفا المال العام لخدمة مصالحه على حساب الصالح العام بشكل تعسفي.
ولفتت المنظمة إلى أن استثمارات الصندوق تستخدم لغسيل الانتهاكات الحكومية السعودية، إذ يعمد الصندوق لجعل استثماراته في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيره قوة داعمة للسعودية تهدف لحشد دعم أجنبي غير ناقد لأجندة محمد بن سلمان، وإسكات المنتقدين لسياساته وسجل حقوق الإنسان في المملكة.
كما توفر استثمارات الصندوق في البلدان حوافز للسكون عن وصرف الاهتمام عن انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، ونشر روايات مزيفة عن الإصلاح، ودعم ابن سلمان، رغم مسؤوليته المباشرة عن تلك الانتهاكات.
وذكر التقرير أن الصندوق يلعب لعبة مزدوجة، فقد أظهرت وثائق محاكمات، أن الصندوق زعم أن استثماراته في الخارج تتعلق بالأمن القومي السعودي، لكن حيث ما كان ذلك ملائما سياسيا، يزعم حينها أن استثماراته تستند إلى المنطق الاقتصادي فقط.
بعد عرضه الوساطة في الحرب الأوكرانية.. ابن سلمان يهاتف بوتين لبحث مستجدات الأزمة
وتحدثت هيومن رايتس ووتش، أن ابن سلمان يحاول تلميع صورته، وجذب المستثمرين الأجانب، عبر حفلات تستضيف كبار النجوم في العالم.
كما أشارت المنظمة إلى "الغسيل الرياضي" الذي يعمل على تلميع صورة الحكومة السعودية، عبر استضافة أحداث كبرى، في حين يتم صرف النظر عن الانتهاكات الحقوقية الكبيرة في السعودية.
وبحسب المنظمة، فإنه على الرغم من مزاعم الرياض دعم الاستثمار في الطاقة النظيفة، فإن الصندوق يعتمد بشكل كلي على الوقود الأحفوري.