الإبادة الصامتة.. ماذا يفعل الاحتلال الإسرائيلي بالضفة الغربية؟
تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT
في يوم الجمعة الموافق 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، تطايرت أبخرة قنابل الغاز المسيلة للدموع أمام باحات المسجد الأقصى للمرة الحادية عشرة خلال أحد عشر أسبوعا. كان المُطلِق بالطبع هو قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكان مَن أُطلِقَت في وجوههم القنابل هم الفلسطينيين من أهل القدس والضفة، وكانت الجريمة التي استحقوا لأجلها هذا القمع هي رغبتهم في أن يُصلّوا الجمعة للمرة الحادية عشرة، رغم تعرضهم للقمع نفسه في الأسابيع العشرة السابقة، وكأن قوات الاحتلال تعاقبهم على الأمرين: رغبتهم في الصلاة، وعدم خوفهم من التجارب السابقة.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وقوات الاحتلال تفرض حصارا خانقا على الصلاة في المسجد الأقصى الذي تضاءل عدد المصلين به -في صلوات الجمعة- من 50 ألف مصلٍّ تقريبا إلى نحو 5000 فقط، محصورين في المُسنين من المقدسيين فحسب (الرجال فوق 65 عاما، والنساء فوق 50 عاما)[1]. ولم يكن هذا القمع الذي يواجهه المصلون إلا غيضا من فيض الانتهاكات الإسرائيلية المتلاحقة في الضفة، وسط انشغال العالم بالإبادة الصهيونية في غزة.
يمارس الاحتلال ومستوطنوه إبادة أخرى لكنها لا تُصدِر الصوت نفسه، ولا يعرف عنها العالم القدر ذاته الذي بات يعرفه عن غزة، وهي تشمل جميع الأنماط الإبادية الممكنة: اقتحامات للمنازل وانتهاك حرماتها بلا أي مسوغ قضائي، واعتقالات إدارية بلا أي ذريعة قانونية، وسلب للأراضي، واعتداء على الممتلكات، وتهجير قسري، وقتل عشوائي للمئات دون تمييز بين بالغين وأطفال، تماما كما هو الأمر في غزة. فما قصة هذه الإبادة الصامتة؟ وما الذي يحدث في الضفة كل هذا الوقت؟
في بحثه حول الإبادة الإسرائيلية بالضفة، يرى الباحث المتخصص في الشؤون الإسرائيلية "أحمد عز الدين أسعد"[2] أن طبيعة الإبادة في الضفة قد تكون مختلفة عن نظيرتها التي تحدث في غزة حاليا؛ فهي وإن كانت أخف وطأة، فإنها أطول أمدا وأكثر استدامة، ويصفها بالإبادة الصامتة، أو الإبادة بالقطعة، التي تعني استهداف الأرض أو سلب أجزاء منها بشكل متفاوت ومتدرج، خاصة الأراضي الواقعة في المنطقة ج، بالإضافة إلى الإغارة على تيارات سياسية ومؤسسات محددة بشكل منفصل ومتعاقب. فهي إبادة صامتة لأنها لا تُحدِث الصخب نفسه الذي تُحدِثه الإبادة الواسعة في العدوان على غزة، وإبادة بالقطعة لأنها متدرجة ومتراكمة على مدار السنوات، ما يصنع "عملية الإبادة الأكبر التي تهدف إلى اجتثاث الفلسطينيين بكل الوسائل والطرق الهادفة إلى محو الفلسطيني واقتلاعه وتهجيره وقتله وسفك دمه، ماديا وسياسيا وأخلاقيا"[2].
من خلال التضييق، والقتل، والاستيطان، والمصادرة، والترحيل، والتحرش، والاعتداءات المتكررة، يمارس الاحتلال على فلسطينيي الضفة والقدس ما سمَّته الباحثة "نادرة شلهوب – كيفوركيان" بـ"الإهالة الصهيونية"[3]، أي الدفن بالحياة للفلسطينيين، وهو ما عبَّرت عنه العديد من شهادات المقدسيين والمقدسيات، أشملها ما جاء على لسان الشابة "عنان" بمخيم شعفاط في القدس، حيث قالت:
"شو يعني احتلال؟ الاحتلال كلمة ما بتكفي حتى توصف يلي عم بصير فينا.. الاحتلال ما بيتلخص بحاجز عسكري، بهوية مسحوبة، بجندي حاضر يقتل، أو بحاجز بسكِّر عليك حياتك هيك بلا سبب.. الاحتلال إهالة.. بخبط بالروح، منصبح ومنمسي بوجوههم، بعنفهم، ببنادقهم، وقنابل غاز، ومياه عادمة، وحياة بتخنق، واستفزاز، وشهادات غير معترف فيها، ولغة مقرفة وإهانة يومية للفلسطينيين، وموت الحبايب، وفقدان وفقدان وفقدان.. إهالة!".
تلك الكلمات المليئة بالخوف والأسى هي ما يمكنه التعبير عن واقع الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال الذي "يهيل الحياة" على أصحابها فيجعلها قبرا يضج بالصمت، لكنه صمت الخوف لا صمت الموت، ولئن كشفت كثافة انتهاكات السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها شيئا من معاناة فلسطينيي الضفة، فإن هذه المعاناة تمتلك جذورا أبعد من الأشهر الثلاثة الماضية.
تفريغ الأرضفي الثالث عشر من سبتمبر/أيلول عام 1993، وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية الاتفاقية الأولى بينها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي عُرِفَت لاحقا باتفاقية أوسلو، وبموجبها قُسِّمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية وأمنية أ، ب، ج. وبينما خضعت المنطقة (أ) للسيطرة الأمنية والإدارية للسلطة الفلسطينية، المتمثلة بمنظمة التحرير، وقعت المنطقة (ب) تحت سيطرة مشتركة بين السلطة (إدارية) والاحتلال (أمنية)، فيما بقيت المنطقة (ج) خاضعة بالكامل للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية، على أن تُسلَّم تدريجيا لإدارة السلطة الفلسطينية.
وجدير بالذكر أن هذا التقسيم لم يكن متساويا ولا متناسبا بأي شكل، فالمنطقة (أ) الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، والمنطقة (ب) الواقعة تحت إدارة تنسيقية مشتركة، لم تُمثِّلا إلا 39% فقط من مساحة الضفة، وأقلهما مساحة هي المنطقة (أ) بواقع 18%، فيما استحوذ الاحتلال بالمنطقة (ج) على 61% من مساحة الضفة، وهي المساحة التي تشمل -بجانب المستوطنات- العديد من المناطق الإستراتيجية ومصادر المياه، وهذا كله لم يمنع الاحتلال من اختراق المنطقة (أ) لممارسة "المهمات الأمنية" والاعتقالات كلما شاء[4].
في الثالث عشر من سبتمبر/أيلول عام 1993، وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية الاتفاقية الأولى بينها وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي عُرِفَت لاحقا باتفاقية أوسلو، وبموجبها قُسِّمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية وأمنية أ، ب، ج. وبينما خضعت المنطقة (أ) للسيطرة الأمنية والإدارية للسلطة الفلسطينية، المتمثلة بمنظمة التحرير، وقعت المنطقة (ب) تحت سيطرة مشتركة بين السلطة (إدارية) والاحتلال (أمنية)، فيما بقيت المنطقة (ج) خاضعة بالكامل للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية، على أن تُسلَّم تدريجيا لإدارة السلطة الفلسطينية.
وجدير بالذكر أن هذا التقسيم لم يكن متساويا ولا متناسبا بأي شكل، فالمنطقة (أ) الخاضعة لإدارة السلطة الفلسطينية، والمنطقة (ب) الواقعة تحت إدارة تنسيقية مشتركة، لم تُمثِّلا إلا 39% فقط من مساحة الضفة، وأقلهما مساحة هي المنطقة (أ) بواقع 18%، فيما استحوذ الاحتلال بالمنطقة (ج) على 61% من مساحة الضفة، وهي المساحة التي تشمل -بجانب المستوطنات- العديد من المناطق الإستراتيجية ومصادر المياه، وهذا كله لم يمنع الاحتلال من اختراق المنطقة (أ) لممارسة "المهمات الأمنية" والاعتقالات كلما شاء[4].
الآن، بعد 30 عاما من توقيع الاتفاقية، لم تكسب السلطة الفلسطينية شبرا إضافيا من المنطقة (ج)، بل زادت حِدَّة الاستيطان "غير القانوني" بها، مع تزايد الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأرض واختطافها من الفلسطينيين بصورة تعكس الرؤية اليمينية المتطرفة الراغبة في ضم الضفة كلها وأراضي فلسطين التاريخية كافة إلى كيانها المحتل[4]. ولعل أبلغ الأدلة على هذا التوجه هو صورة الخارطة التي رفعها "نتنياهو" بالأمم المتحدة وتُظهِر كامل الأراضي الفلسطينية ضمن حدود إسرائيل المزعومة.
وبالعودة إلى تاريخ الاستيطان بالضفة نجد أنه بدأ عقب نكسة 1967، حيث عُدِّلت المنظومة القانونية الصهيونية وجرى تطعيمها توليفة من الأوامر العسكرية غير القانونية لشرعنة الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية. فقد صدر الأمر العسكري رقم 378 الخاص بسلب الأراضي بحجة أنها مناطق عسكرية مغلقة، والأمر العسكري رقم 363 الذي يسمح بسلب الأراضي لتحويلها إلى محميات طبيعية، والأمر العسكري رقم 321 الذي يُجيز للاحتلال استملاك الأراضي بحجة المصلحة العامة، والأمر العسكري رقم 271 الذي يسرق الأرض لتكون مناطق تدريب عسكرية، والأمر رقم 59 الخاص بأملاك الدولة، والأمر رقم 58 المتعلق بأملاك الغائبين، وغيرها الكثير[5].
وبموجب هذه الأوامر، وعلى مدار 56 عاما فقط، أصبحت الضفة مزدحمة بـ176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية مع بداية عام 2023، لتتحول الأرض التي نجت من الغزو اليهودي عام 1948 إلى أرض محتلة بأكثر من 726 ألف مستوطن يغتصبون 42% من أرضها، وتصبح المنطقة (ج)، التي وعدت أوسلو الفلسطينيين بها، خاضعة للصهاينة بنحو 68% من مساحتها، وبذلك يسيطر المستوطنون على 87% من موارد الضفة الطبيعية، و90% من غاباتها، ونحو 50% من طرقها[5].
ووفقا لما ذكره الأكاديمي المعماري الإسرائيلي "إيال وايزمان" في كتابه "أرض جوفاء"، فإن هندسة الاستيطان تلك عمدت إلى تفتيت الضفة عبر خمس مراحل استيطانية إلى جزر يابسة متباعدة (نظام فصل عنصري)، وهو ما عزل المدن الفلسطينية عن بعضها بعضا، وفتَّت أسواقها ومجتمعها وأعاق كل سبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية بها. وهذا كله في انتهاك صارخ وصريح لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على الدول المحتلة نقل سكانها للأماكن الخاضعة للاحتلال، وفي ظل تأكيدات دائمة من لجان التحقيق الدولية عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومخالفة الاستيطان للقانون الدولي[6].
وعلى إثر هذا كله تأتي قرارات الهدم والترحيل القسري لفلسطينيي الضفة، التي ترى حكومة الاحتلال أنها أرض محل نزاع؛ كونها لا تعترف بسيادة الأردن عليها في الفترة ما بين 1948-1967[4]، ولهذا فإنها تمنح نفسها الشرعية الكاملة في سلبها كما سلبت سائر أراضي فلسطين التاريخية عام 1948. وقد حملت حكومة نتنياهو على عاتقها مهمة ضم الضفة إلى أراضيها التي اغتصبتها عام 1948[7]، وأطلقت لأجل ذلك أكبر حملة استيطان عرفتها الضفة منذ عام 2012[6].
لقد أخذت قوات الأمن الإسرائيلية تتراخى كثيرا مع المستوطنين في هجماتهم على أراضي الفلسطينيين وساحات المسجد الأقصى خلال العام الحالي، بل إنها باتت تحرس هجماتهم الهمجية. وسمحت الشرطة الإسرائيلية لأكثر من 41 ألف مستوطن باقتحام المسجد الأقصى في الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، فضلا عن مباركتها مسيرة الأعلام (رقصة الأعلام) التي أُقيمت احتفالا باحتلال الشق الشرقي من القدس وهتاف المتظاهرين خلالها بالموت للعرب. وهذا كله إلى جانب تقنين استباحة الحرم الإبراهيمي من قِبَل المستوطنين بإقامة الحفلات الصاخبة في أروقته، ومنع الأذان فيه، ورفع الأعلام الصهيونية فوق أسطح الحرم وجدرانه[6]. أما عن مرحلة ما بعد الطوفان، فقد ساهمت هجمات المستوطنين وانتهاكاتهم أثناء الأسبوع الأول فقط في نزوح 14 تجمعا سكنيا، يقطنهم 98 عائلة تضم 552 شخصا[1].
حياة بلا حياة"عند إجراء تفتيش في بيت تابع لفلسطيني ليست هناك حاجة إلى أمر من المحكمة، بل يجب وجود رغبة في ذلك.. فإذا كنت فلسطينيا فعندها يمكنني دخول بيتك متى أرغب، وأن أُجري تفتيشا عمّا أريد، وأن أقلب لك البيت لو رغبت"[9].
(شهادة ملازم صهيوني لمنظمة "كسر الصمت")
في كتابه "حالة الاستثناء"، صكَّ المفكر الإيطالي "جيورجو أغامبين" مصطلح الإنسان المستباح، أو الإنسان الحرام، ليُعبِّر به عن الإنسان المنتهكة حقوقه في ظل عالم تحكمه القوانين الحديثة، لكنه خاضع بالكلية للاستبداد والانتهاك. وفي النظر لحال "الإنسان" الفلسطيني بالضفة فإننا نجد أننا أمام أكثر البشر استباحة في العصر الحديث. فمنذ بدء الحرب على غزة وحتى الجمعة الموافق 22 ديسمبر/كانون الأول، أدت هجمات الجيش الإسرائيلي اليومية واعتداءات المستوطنين على مدن الضفة ومخيماتها إلى ارتقاء أكثر من 300 شهيد، فيما ألقت قوات الاحتلال القبض على أكثر من 4600 فلسطيني بالضفة وحدها، وهو رقم يقارب عدد الأسرى الفلسطينيين بسجون الاحتلال قبل الطوفان[8].
تنوعت أنماط الاعتقال حتى اشتملت على ممارسات مُهينة ومتعسفة ولا تنتمي إلى أي قانون، ففضلا عن الاعتقالات الإدارية غير القانونية للفلسطينيين من منازلهم، أو عبر الحواجز العسكرية، هناك مَن اضطروا لتسليم أنفسهم تحت الضغط والتهديد بالتنكيل بالأهل[8]، ومثال على ذلك إقدام الاحتلال على اعتقال السيدة "منى شهير ولد علي" ووالدها، للضغط على زوجها القيادي في حركة الجهاد الإسلامي الأسير المحرر "بلال ذياب" لتسليم نفسه، فضلا عن تهديد الحاجة "عبلة عيسى أقرع" (73 عاما) باعتقالها في حال لم يسلِّم ولدها "عبد اللطيف" نفسه[1].
وتُمثِّل الاقتحامات الإسرائيلية للبيوت أحد أكبر الانتهاكات التي يلاقيها سكان الضفة والقدس، التي رصدها تقرير مشترك[9] لعدد من المنظمات الحقوقية بينها منظمة عبرية عام 2020. فمن 189 شهادة لفلسطينيين انتُهِكت حرمات منازلهم، و45 شهادة لجنود ضباط إسرائيليين شاركوا في تلك الانتهاكات؛ خلص التقرير إلى عدد من الملامح المميزة للمعاناة الفلسطينية، حيث وجد أن الاقتحامات العسكرية تمارس أربعة أنماط من انتهاكات الحياة اليومية للفلسطينيين: اعتقال أحد أفراد العائلة أو أكثر، ومسح وتوثيق المبنى القائم للبيت وهوية سكانه، والسيطرة على المنازل لأغراض عملياتية كإجراءات الرصد والمراقبة وتأسيس مواقع لإطلاق النار، وأخيرا استخدام البيوت مخابئ.
إلى جانب هذا كله، لا تحدث هذه الاقتحامات عادة إلا في أوقات متأخرة من الليل، ودون أي مسوغ قضائي، وقد وُثِّق نحو 88% من هذه الاقتحامات في الفترة بين منتصف الليل والفجر، وقد رُصِد أن هذه الاقتحامات قد تحدث عبر عشرات الجنود للبيت الواحد، وقد تستمر لمدة ساعة وعشرين دقيقة في المرة الواحدة. إنه انتهاك تام غير محدود بقانون، ولا توقيت، ولا آلية، ولا يتضمن أي شكل من أشكال الاحترام للمقتحمة بيوتهم.
لقد أكدت الشهادات أن الجنود يجبرون أهل البيت نساء ورجالا على التجمع في غرفة واحدة، وأنهم يقومون بالمسح البصري والمعلوماتي للجميع، بما ينتهك حرمة النساء ويتعدى على عزة الرجال، لا لشيء إلا لفرض السيطرة، حتى إن بعض هذه المعلومات -وفق شهادة بعض العسكريين- تُلقى ولا ينظر إليها، الأمر الذي تُعبِّر عنه بالكامل شهادة المواطن "لطفي أحمد" لمنظمة "بيش دين" العبرية، التي يقول فيها: "لقد دمَّروا بالكامل الشعور الذي ينتاب كل شخص بأن البيت هو أكثر الأماكن هدوءا وأمانا. ما فعلوه هو نوع من أنواع الإرهاب"[9].
إن هذا الانتهاك المطلق يحظى بحماية مطلقة؛ إذ "لا تشترط التشريعات العسكرية الحصول على أوامر قضائية لاختراق الحيز الخاص للأفراد"[9]، لنجد أن الأمر كله، بحسب التقرير المذكور، خاضع لمعتقدات عدائية لدى عناصر الاحتلال ضد الفلسطينيين، تُترجم في كثير من الأحيان لتهديد الأسرة واستخدام العنف والإهانات ضدهم، حتى لو لم يسفر الاقتحام عن اعتقال، بل وحتى لو لم يكن قائما من أجل اشتباه حقيقي. بالإضافة إلى ذلك، قد يحدث الاقتحام لأغراض لا تتعلق بأصحاب المنزل من الأصل، وإنما لغرض عملياتي ترى قوات الاحتلال أنه مهم، حتى لو كان الغرض تأمين عرض موسيقي للمستوطنين، فهذا سبب كافٍ لامتهان أهل المنزل وسلبه منهم لفترة تحددها القوات، يبالغون خلالها في العبث به وإذلال أهله.
كل هذا يحدث بشكل اعتيادي وطبيعي، على فترات متعاقبة تمحو صخب الإبادة قدر الإمكان، لكن تراكم تلك الممارسات أفضى إلى حياة مستلبة، منتهكة، مُهال عليها التراب، تقاسي فيها فئة من الناس شتى أنواع الطغيان والاضطهاد والظلم؛ من سلب للأراضي، وتهجير من المنازل، وسلبها أو هدمها، وانتهاك مقدسات، واستباحة حُرمات، واحتلال عسكري للحياة اليومية لأكثر من 56 عاما، دون أن يكون هناك طوفان أقصى أو موجات استنفار وعداء استثنائية، ودون أن تكون الرغبة الإسرائيلية في الانتقام بتلك الضخامة وهذه الحِدَّة، فكيف الحال اليوم في ظل الطوفان؟ فهل كُتِبَ على أهل الضفة والقدس الإبادة الصامتة: تارة عند إبادتهم بالقطعة، وتارة عند إبادتهم في ظل إفناء وحشي تتخلله كل أنواع الجرائم ضد قطاع غزة؟ أم أن هذه الإبادة ستجد أذنا تسمعها ويدا تضع لها الحدود؟
_______________________________________
المصادر
طوفان الأقصى: حال الضفة الغربية والقدس في ظل العدوان على فلسطين، مركز الحضارة للدراسات والبحوث. أحمد عز الدين أسعد، الإبادة المتقطعة-المتواصلة في الضفة الغربية والقدس، مؤسسة الدراسات الفلسطينية. نادرة شلهوب، وكيفوركيان، القدس والإهالة الصهيونية.. تتبع الاستلاب اللامتناهي، مؤسسة الدراسات الفلسطينية. محمود جرابعة، وضع الضفة الغربية في السياسة الإسرائيلية وتداعياته على حل الدولتين، مركز الجزيرة للدراسات. المستوطنات في الضفة الغربية.. تجمعات إسرائيلية تقضم أراضي الفلسطينيين – موسوعة الجزيرة. عام من الانتهاكات الإسرائيلية التي أطلقت "طوفان الأقصى" | بالصور | الجزيرة نت محمود جرابعة ضم الضفة الغربية: نموذج إسرائيلي جديد "للحل" في فلسطين. عمر العثماني، الأجندة اليومية للنشرة العربية ـ الجمعة 22 ديسمبر 2023. الحياة المنتهكة: الاقتحامات العسكريّة لبيوت الفلسطينيّين في الضفّة.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: لإدارة السلطة الفلسطینیة الاحتلال الإسرائیلی قوات الاحتلال المسجد الأقصى الضفة الغربیة ة الاستیطان فی الضفة أکثر من هذا کله لم یکن
إقرأ أيضاً:
تحويل الضفة الغربية إلى غزة.. أزمة متفاقمة في الأراضي الفلسطينية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق نيويورك تايمز: الوضع فى الضفة الغربية سابقة خطيرة للمستقبل ويُقوّض أسس آمال الفلسطينيين والإسرائيليين فى السلام الاحتلال يشرد العائلاتٍ وينشر القتل والدمار ويخلف أطفالًا مُحطّمى المستقبل وشعورًا مُتصاعدًا باليأس
الكاتب نيكولاس كريستوف
يُسلّط الكاتب نيكولاس كريستوف من طولكرم الضوء على واقع العمليات العسكرية الإسرائيلية فى قلب الضفة الغربية، حيث اكتسب مخيم طولكرم للاجئين لقب "غزة الصغيرة" وتعكس هذه المنطقة التى مزقتها المعارك دمار غزة، بمبانيها المهدمة وطرقها الممزقة ونزوحها الواسع.
ويصف كريستوف كيف أن استخدام إسرائيل المتزايد للتكتيكات العسكرية - كالغارات الجوية والدبابات والتدمير الشامل - بدأ يُحوّل الضفة الغربية إلى "غزة"، مُشرّدًا نحو ٤٠ ألف فلسطينى منذ يناير/كانون الثاني. ووفقًا لمنظمات حقوق الإنسان مثل بتسيلم، فقد أدت هذه الاستراتيجية إلى ما يُطلق عليه الكثيرون "غزة" الضفة الغربية، مُخلّفةً عائلاتٍ مُشرّدة، وأطفالًا مُحطّمى المستقبل، وشعورًا مُتصاعدًا باليأس. والعنصر الأكثر مأساوية فى هذا التصعيد هو عدد الضحايا المدنيين. ومن بين هؤلاء الضحايا سندس شلبي، وهى امرأة حامل تبلغ من العمر ٢٣ عامًا، قُتلت على يد القوات الإسرائيلية أثناء حملها بطفلها الأول. يُعدّ موتها واحدًا من بين العديد من الوفيات التى تُبرز تكلفة التكتيكات العسكرية الإسرائيلية فى المنطقة. فرغم أن هذه الإجراءات ربما تكون قد خفّفت مؤقتًا من النشاط العسكري، إلا أن التكلفة فى الأرواح والنسيج الاجتماعى لا تُحصى.
كما أصبح أطفالٌ مثل محمد عبد الجليل، البالغ من العمر ١٢ عامًا، رموزًا مأساوية لهذا الصراع المستمر حيث هدمت القوات الإسرائيلية منزل محمد، وأُغلقت مدرسته بسبب استمرار احتلاله المخيم. وتحدث محمد بجرأةٍ مُقلقة عن رغبته فى أن يكبر ليصبح مقاتلًا فى صفوف حماس، موضحًا أنه يتمنى "الاستشهاد". يُعد رده مؤشرًا مؤلمًا على البراءة المفقودة والأحلام المحطمة التى تُخلفها الحرب.
من جانبه لخّص فيصل سلامة، المسئول المحلى فى السلطة الفلسطينية، حلقة العنف المأساوية قائلًا: "لماذا لا يُحب هؤلاء الأطفال الحياة؟ لأنهم طُردوا من منازلهم ومدارسهم وفقدوا كل حياة طبيعية". بالنسبة لهؤلاء الأطفال، قد يبدو الاستشهاد هو الخلاص الوحيد من حياةٍ مليئةٍ بالمعاناة.
مسار تدميري
مع إحكام الجيش الإسرائيلى قبضته على مخيمات اللاجئين، يُبرر أفعاله بزعم الحاجة إلى القضاء على الإرهاب. وصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الهجمات العسكرية بأنها ضرورية لتطهير المنطقة من "الإرهابيين". ومع ذلك، وكما يشير كريستوف، فإن التكلفة البشرية لهذه الاستراتيجية باهظة. فالمدنيون الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال، يقعون فى مرمى النيران. فتوحد سهى معين، وهى أم فى منتصف العمر، فقدت منزلها على يد القوات الإسرائيلية، وهى الآن تنام مع أطفالها فى مقبرة. بالنسبة للكثيرين، هذا هو واقعهم اليومى - يُجبرون على ترك منازلهم دون مأوى.
أشار وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، إلى أن الجيش سيبقى فى هذه المخيمات للاجئين طوال العام، مانعًا السكان من العودة فى محاولة لقمع ما يعتبره إرهابًا متزايدًا. لكن هذه الاستراتيجية، وفقًا لكريستوف، قد تُعمّق دائرة العنف، وتزيد من الاستياء والغضب بين السكان الفلسطينيين.
دور حماس والسلطة الفلسطينية
يزداد الوضع فى الضفة الغربية تعقيدًا بسبب دور السلطة الفلسطينية، التى شنّت حملتها الخاصة على المسلحين فى هذه المخيمات. ومع ذلك، ينظر كثير من الفلسطينيين إلى السلطة الفلسطينية على أنها عاجزة وفاسدة، مما يزيد الوضع تقلبًا. ورغم جهود السلطة الفلسطينية للظهور كشريك موثوق لإسرائيل والولايات المتحدة، فإن تزايد فقدان شعبية السلطة بين الفلسطينيين لا يزيد الوضع إلا تأجيجًا. وقد أدى ذلك إلى تحول فى المشاعر: إذ تشير استطلاعات الرأى إلى أن حماس، وهى جماعة مسلحة، تحظى الآن بشعبية أكبر فى الضفة الغربية، لا سيما وأنها ترمز إلى مقاومة إسرائيل.
وبدلًا من القضاء على حماس، قد تُغذى العمليات العسكرية الإسرائيلية، عن غير قصد، الظروف التى تُغذى نموها. ويؤكد كريستوف أن الهجوم العسكرى على الضفة الغربية قد يُعزز عزيمة جماعات مثل حماس، التى تزدهر على مقاومة العدوان الإسرائيلي.
الضم
هناك سؤالٌ مُلحّ حول ما إذا كانت إسرائيل ستمضى قدمًا فى ضم الضفة الغربية، وهى خطوةٌ يدعمها بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. فنجد ان رئيس الوزراء السابق إيهود باراك حذر من أن الضم الكامل ستكون له عواقب وخيمة على هوية إسرائيل كدولة يهودية. فإذا تم دمج الفلسطينيين بالكامل دون منحهم حقوق التصويت أو ملكية الأراضي، فلن يعود بإمكان إسرائيل ادعاء أنها دولة ديمقراطية. وحذّر باراك من أن هذا من شأنه إما أن يُحوّل إسرائيل إلى دولة غير يهودية أو أن يُقوّض أسسها الديمقراطية.
وتشير استطلاعات الرأى إلى أن العديد من الفلسطينيين فى الضفة الغربية يشعرون وكأنهم يعيشون بالفعل فى ظل شكل من أشكال الضم الفعلي. قد يكونون أقل قلقًا بشأن التسمية الرسمية للضم وأكثر تركيزًا على بقائهم اليومى فى بيئةٍ معاديةٍ بشكل متزايد.
المنظورات الدولية ودور الولايات المتحدة
يُسلّط كريستوف الضوء على البعد الدولى للقضية، مُشيرًا إلى دور الولايات المتحدة فى تمكين الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. فى ظل إدارة ترامب، أضعفت الولايات المتحدة موقفها من المستوطنات وغيرها من الإجراءات التى تُفاقم التوترات بين إسرائيل وفلسطين. وبينما كانت الإدارات الأمريكية السابقة بمثابة كبح لليمين الإسرائيلي، كانت الحكومة الأمريكية الحالية أقل ميلًا للتدخل، مما زاد من جرأة الإجراءات الإسرائيلية فى الضفة الغربية.
وقد أدى هذا الدعم إلى استمرار حلقة القمع فى الضفة الغربية، مع بروز أمل ضئيل فى تحقيق السلام. وكما يحذر كريستوف، فإن هذا الوضع قد يكون مدمرًا لإسرائيل كما هو الحال للفلسطينيين، مما يهدد المبادئ التى قامت عليها دولة إسرائيل.
سابقة خطيرة للمستقبل
وعلى الرغم من أن العنف فى الضفة الغربية يحظى باهتمام دولى أقل من الصراع فى غزة، إلا أنه يُمثل أزمة متنامية قد تكون لها آثار دائمة على المنطقة. ويجادل كريستوف بأن استراتيجية إسرائيل الحالية المتمثلة فى الهجمات العسكرية والتهجير لن تحقق سلامًا دائمًا، بل ستواصل تأجيج العنف وعدم الاستقرار. يُهدد التدمير المستمر لمنازل الفلسطينيين ومجتمعاتهم فى الضفة الغربية بتقويض آفاق حل الدولتين، وقد يؤدى إلى مزيد من التطرف بين الشباب الفلسطيني.
وكما يُشير كريستوف، يُمثل الوضع فى الضفة الغربية سابقةً خطيرةً للمستقبل، قد تُقوّض أسس آمال الفلسطينيين والإسرائيليين فى السلام.