الشراكة الملعونة.. كتاب يكشف خلفيات نزاع دولي حول البنك الفرنسي التونسي
تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT
الكتاب: الشراكة الملعونة
المؤلّف: الحسين بن عمر
الناشر: دار يس للنشر
الطبعة الأولى: 2021
عدد الصّفحات: 276
أصدر المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار CIRDI الجمعة 22 ديسمبر- كانون الأوّل 2023، حكما ختاميا في النزاع الدّولي القائم بين الدّولة التونسيّة وشركة المجموعة العربيّة للاستثمار ABCI ( كانت على ملكيّة الأمير السعودي بندر بن خالد ابن عبد العزيز بمعيّة المحامي التونسي عبد المجيد بودن) منذ سنة 1982 حول ملكيّة أسهم وانتزاعها في البنك الفرنسي التونسي (بنك تونسي لكنه حافظ على هذه التسمية رغم تونسته سنة 1964).
طول النزاع وتعقيداته وتشابك شخوصه جعل من الأهميّة بمكان التقصّي في جملة الخلفيات السياسية والمالية وحتى السياسية التي حوّلت مشروع شراكة بين الدّولة التونسيّة المالكة للبنك الفرنسي التونسي والمجموعة العربيّة للاستثمار ABCIإلى نزاع قضائي طويل انتقل من المحاكم التونسية إلى مركز تسوية نزاعات الاستثمار سنة 2004، ولينتهي بإعلان الدّولة التونسيّة إفلاس البنك الفرنسي التونسي والانطلاق في مسار تصفيته بتاريخ الثلاثاء 1 مارس/آذار 2022، رغم عراقته وحساسية ملفه القضائي والمالي.
في هذا الإطار، تعرض "عربي21"، وبصفة حصريّة، تقديما جامعا لكتاب "الشراكة الملعونة" لمؤلفه الكاتب والصحفي التونسي الحسين بن عمر المتخصّص في الصحافة الاستقصائيّة والذي جاء إثراء مهمّا للمكتبة الاستقصائية العربية الشحيحة في هذا المجال، على حدّ تأكيد د. حميدة البور، مديرة معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس والتي قامت بالتقديم للكتاب. وقد ساعدت بهيجة بالمبروك، الصحفيّة والمدربة التونسية في مجال الاستقصاء، في التقصّي في بعض محاور الكتاب والتدقيق فيها Fact Checking، عبر التعاون مع منظمة الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد OCCRP(Organized Crime and Corruption Reporting). وهو ما يجعل من الكتاب قيمة صحفية وتأريخيّة مهمّة استطاعت تفكيك خبايا النزاع الدّولي الطويل الذي تورّطت فيه الدّولة التونسيّة.
ملف القرن بامتياز
تجذبك تعقيدات ملف النزاع الدّولي القائم بين الدولة التونسية والمجموعة العربية الدولية للأعمال ABCI، أسسها الأمير السعودي بندر بن خالد ابن عبد العزيز بمعيّة المحامي التونسي عبد المجيد بودن، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، نحو مربعات تقاطع المالي والإداري مع السياسة وأُتونِها، فلا تجد فِكاكا من عُمق الغوص خلف مرايا تقارير إعلام "التولك شو" (talk show) ومجلّدات الأحكام القضائية المحليّة والدّولية التي لم يتوقف قطارها منذ أن أصدرت غرفة التحكيم الدّولية بباريس أوّل قرار تحكيمي في النّزاع في 23 جويلية 1987 وصولا إلى آخر قرار صادر عن المركز الدّولي لتسوية نزاعات الاستثمار CIRDI بتاريخ 17 جويلية 2017.
وأنت تُقلّب دفاتر النزاع القائم بين الدّولة التونسيّة، بوصفها مساهما غير مباشر في البنك الفرنسي التونسي الذي تمّ تأميمه من مالكه راوول دانينوس، في 9 مارس 1964، عن طريق الشركة التونسية للبنك، وبين المستثمر الأجنبي الذي ساهم في الترفيع في رأس مال البنك الفرنسي التونسي بنسبة 50 بالمائة فترة إدارة منصور معلّى، وزير المالية والتخطيط في حكومة محمّد مزالي، لن تحتاج إلى مزيد الحبك الدرامي لبناء قصّتك الاستقصائية.
فقد وفّر تشابك المصالح بين مختلف شخصيّات القصّة وتقلّب أدوارها الوظيفيّة طوال فترات النزاع، على الباحث المتقصّي عناء التشبيك والتخيّل الدراميين.
ففيما كانت مقرّات الشركة تجول بين جزر الملاذات الضريبية الآمنة منذ تأسيسها، بدءا بجزر الكايمان، إقليم ما وراء البحار البريطانية في غرب البحر الكاريبي، سنة 1982، مرورا بجزر الأنتيل الهولندية سنة 2003 ووصولا إلى إقليم جبل طارق الواقع في جنوب شبه جزيرة إيبيريا، قذفت رياح كانون الأول / ديسمبر العاتية بمن كانوا محامين في ملف النزاع أو حتى مجرّد شهود قبل الثورة إلى دفّة المسؤولية واتخاذ القرار في أعلى هرم السلطة، فانبرت مسارات الصلح تتقاذفها لعبة المصالح الذاتية والقطاعيّة. وممّا زاد في دراميّة القصّة وتعقيداتها تحوّل رفقاء الأمس لعبد المجيد بودن في معاداة نظام بن علي في المهجر، خصوما جُددا على بساط الدّولة واستحقاقاتها.
بغاية كشف خبايا ملف النزاع التحكيمي الذي باشره المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار منذ نيسان / أبريل 2004، وكي نطوّح ببحثنا بعيدا عن لهفة تكديس حزم الوثائق المسرّبة، لم يقف قرار قاضي التحقيق بالمكتب 22 بالمحكمة الابتدائية بتونس مانعا من مناقشة ملف النزاع المذكور إعلاميا، حين بدأت إثارته تلفزيّا سنة 2015 من خلال برنامج "بالمرصاد" على فضائية الزيتونة. وكان لا بد من انتظار صدور قرار ختم بحث في الملف القضائي سنة 2019 كي تتم كتابة القصة الاستقصائية حفظا لتفاصيل اجتهد الباحث الحسين بن عمر في إثباتها.
وكان لافتا بعد سنوات البحث هذه أنّ يخلص التحقيق إلى أن منظومة الفساد زمن بن علي لم تكن سوى الوجه المكشوف لنفوذ "دولة" الإدارة وجبروتها، المفضي إلى استدامة النّزاع.
فبعد طلب صندوق النقد الدولي FMI إجراء تدقيق معمّق على حسابات البنوك العمومية الثلاثة في آب / أغسطس 2012، تمهيدا لعملية رسملتها، نجحت لوبيّات الإدارة في استثناء البنك الفرنسي التونسي من منظار هذه العملية الرقابية، بالرغم من أن الشركة التونسية للبنك تملك غالبية أسهمه. ويكفي التذكير في هذا المقام بعجز الوزراء المتعاقبين قبل الثورة وبعدها عن إنجاز مهمّة رقابيّة داخل البنك بواسطة الهيئة العامّة للرقابة المالية CGF إلاّ بتاريخ مارس 2016!
فرضيّات التقصّي
حاول الكاتب خلال هذا البحث الصحفي التقصّي في فرضيتين اثنتين: الفرضيّة الأولى هي كشف دور اللّوبيات المالية وأذرعها الإداريّة في تعطيل مسارات الصّلح التي أتيحت للدّولة وخصمها المجموعة العربيّة الدّولية للأعمال.
أمّا الفرضيّة الثانية فهي فهم طبيعة المستثمر الأجنبي فيما يتعلّق بمساهميه وبفترة إدارته للبنك الفرنسي التونسي بين فيفري 1987 ويناير 1989.
يكتسي الحفر في الأدوار التي لعبتها شخصيّة نافذة بالبنك المركزي التونسي دورا محوريّا في إيضاح مدار تورّط اللوبيات المالية والسياسية النافذة التي غنمت قروضَا طائلة من البنك الفرنسي التونسي دون ضمانات دنيا، في تعطيل مسارات الصلح في النزاع الدّائر بين الدولة التونسيّة والمجموعة العربية الدولية للأعمال ABCI.
على أهميّة الشهادات التاريخية التي اجتهد البحث الاستقصائي في توثيقها، على وجه الخصوص تلك التي تخصّ إطارات البنك الفرنسي التونسي والبنك المركزي التي عايشت بدايات النزاع وتطوّراته أواسط ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ البحث ارتكز في مجمله على مادّة وثائقيّة ثريّة مثلت عماد الفرضيتين المعروضتين على بساط التقصّي.يذكر أنّ معظم القروض التي منحت دون ضمانات لا تزال في طور النزاع القضائي، بينما تحوّل جزء كبير منها إلى ديون متفحّمة، منذ تسعينيات القرن الماضي، على وجه الخصوص بين سنتي 2004 و2008. كما أنّ تعثر مسارات الصلح بدأ مع بداية الألفية الثانية، فترة حكم زين العابدين بن علي وتواصل إلى حدّ تولّي حكومتي ما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 ("الترويكا") مقاليد الحكم، حين قرّر مجلس الوزراء برمته تعليق التفاوض مع الشركة الخصيمة، وذلك في خريف 2013.
وفيما يتعلّق بالفرضية الثانية التي يجتهد البحث في كشفها، هو تبيان عدم شفافية استثمار المجموعة العربيّة الدولية للأعمال ABCI في البنك الفرنسي التونسي، منذ تقدّم صاحبها بطلب الشراكة إلى السلطات التونسيّة في ديسمبر 1981.
محاور الكتاب
يضمّ البحث أبوابا تسعة بوسع كلّ منها تشكيل تحقيق منفرد بذاته. وتنفتح الأبواب بداية بغوص في خلفيّات الشراكة وسياقاتها الاقتصادية والسياسيّة بداية ثمانينيات القرن الماضي والتي تزامنت مع صعود محمد مزالي إلى دفّة الحكم، محمّلا بفكرة الانفتاح على الشرق وعازما على الغرف من استثماراته العامّة والخاصّة. تزامن هوس مزالي اللامتناهي بالشرق مع عجز البنك الفرنسي التونسي عن الاكتتاب في كتلة الأسهم التي طرحتها جلسته العامة المنعقدة بتاريخ 18 حزيران / يونيو 1981، سوف يسرّعان تورّط الدّولة في شراكة يقول عنها نور الدّين دمّق، مدير التفقّدية العامة بالبنك المركزي أواسط الثمانينيات، بأنّها كانت "شراكة شفهيّة قادت إلى ما لا يحمد عقباه"، ويوصّفها قيصر الصيّاح، المحامي والخبير القانوني، بأنّها كانت "الخديعة الكبرى".
بعد أن فرض بورقيبة ما أسماه بـ"ضرورة احترام الدّولة لتعهّداتها"، لعبت أطماع اللوبيّات الماليّة والسياسيّة الصّاعدة دورها في إتاحة الفرصة لعبد المجيد بودن، ممثل المجموعة العربيّة الدّوليّة للأعمال، كي يستأثر بإدارة البنك سنتين كاملتين ويفرض استصدار قرار تحكيمي فرنسي لا تزال تبعاته ماثلة إلى حدّ اليوم. لذلك يدقّق الباب الثاني من هذا البحث في ملابسات تولي بودن لرئاسة مجلس إدارة البنك الفرنسي التونسي والآثار التي نجمت عن تغييب الشركة التونسية للبنك عن تسيير دواليب بنك تملك نصف كتلة أسهمه.
يكشف البابان الثالث والرّابع من البحث أدوار اللوبيّات الماليّة التي غرفت من قبل من محفظة البنك الفرنسي التونسي وكانت تظنّ أنّها ستظلّ عصيّة عن المتابعة الإداريّة والمساءلة القضائيّة، في الذّهاب بالشراكة إلى حيث مربّع القطيعة. وكان لابدّ للقضاء أن يضع حدّا لإيقاف هذا التوجه المبالغ فيه في إيثار مصالح المجموعة الاستثمارية على مصالح البنك الفرنسي التونسي. إلاّ أنّ جموح اللوبيّات الصّاعدة التي استغلّت صعود زين العابدين بن علي إلى السّلطة، أبى إلاّ أن يفتكّ سلطة القضاء من قصر العدالة ويفرّ بها إلى قصر قرطاج، محوّلا بذلك ممثل المجموعة العربية الدّولية للأعمال من مخالف للتراتيب الصرفيّة إلى ضحيّة نموذجيّة لمعالجات أمنية بدائية يستدرّ عطف هيئات التحكيم الدّولي.
وعوض نزول السلطة السياسيّة من علياء كبريائها ومعالجة ملف التقاضي بما يخدم مصالح البنك ومساهميه، أطلقت العنان للوبيات الماليّة تغرف من أموال البنك بلا رقيب ولا حسيب. وحاولت جاهدة التفريط في البنك لناهبي أمواله لولا أن نجحت المجموعة العربية الدولية للأعمال في استصدار قرار تحكيمي يلزم الدّولة بإطلاع الراغبين في خصخصته على فحوى النزاع الدولي.
يبحث البابان الخامس والسادس قدرة اللوبيات المالية وأذرعها الإداريّة على فرملة كل محاولات الصلح التي أتاحتها الثورة لكلا الشريكين كي يتجاوزا جراحات الماضي ويبنيا ثقة جديدة تعود بالنفع على البنك المفلس وتفتح للمستثمر أبواب الاستثمار من جديد بعد أن عطّلتها مناخات الدكتاتوريّة من قبل.
ويأتي البحث في باقي الأبواب على خلفيّات توقف الشراكة قبل الثورة وبعدها، وقد أقرّ المركز الدّولي لتسوية نزاعات الاستثمار بعدم شفافية المسار وتحدث عن تقاعس المفاوض التونسي عن إثارتها قبل إعلان قرار مسؤولية المركز المذكور في فضّ النّزاع بتاريخ 18 أكتوبر 2011.
على أهميّة الشهادات التاريخية التي اجتهد البحث الاستقصائي في توثيقها، على وجه الخصوص تلك التي تخصّ إطارات البنك الفرنسي التونسي والبنك المركزي التي عايشت بدايات النزاع وتطوّراته أواسط ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ البحث ارتكز في مجمله على مادّة وثائقيّة ثريّة مثلت عماد الفرضيتين المعروضتين على بساط التقصّي.
ويأمل الكاتب أن يكون هذا العمل فاتحة انخراط جاد لعموم المشتغلين على قصص الاستقصاء في مجهود تأليفي جديد يتجاوز مستوى التحقيقات القصيرة، على أهمّيتها، عسانا ننجح في ضخّ روح بحثيّة وتأليفية جديدة تكون خير انطلاقة لجيل جديد من الكتابة الاستقصائية في تونس والوطن العربي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب التونسي تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة الدولیة للأعمال المجموعة العربی ة ات المالی ة للأعمال فی البنک ة للبنک بین الد الد ولی ة التی بن علی
إقرأ أيضاً:
هل سيوقف ترامب الحرب على غزة ولبنان؟
يعطي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب صورة عن نفسه أنه الحازم صاحب الإنجازات، ويرى مؤديوه أنه قادر على أن يجمع مصالح أميركا في كفة واحدة رغم تناقض الحلفاء والخصوم، ولعل هذه الصورة آمن بها بعض شرائح الجالية العربية الإسلامية في الولايات المتحدة إلى الحد الذي دفع أحد مشايخ المساجد الأميركية إلى الخروج علنا ومدح ترامب والدعوة إلى تأييده.
وفي حمى الدعايات الانتخابية فقد أوصلت حملة ترامب صورة إلى الناخبين والمراقبين أن مرشحهم قادر على إنهاء جميع حروب العالم بما فيها صراع عمره عشرات السنين كالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى لكأنه يحمل العصا السحرية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحف أوروبية: هكذا يغير فوز ترامب قواعد اللعبة لحلفاء أميركاlist 2 of 2مواقع التواصل تعج بردود الفعل على فوز ترامب التاريخي في الانتخاباتend of listلكن الواقع ليس ببساطة الدعاية الانتخابية، فما الحقيقة خلف الدعاية المبسطة هذه؟ وما الذي سيفعله ترامب بمجرد أن يعود إلى البيت الأبيض مجددا ويجلس في المكتب البيضاوي؟ وكيف سوف يسدد فواتير الانتخابات إلى حلفائه في أيباك وإسرائيل؟
حقائق الماضي القريبينبغي أولا في سياق التفكير بالمستقبل القريب أن نتذكر جملة حقائق ومواقف تعود إلى الماضي القريب خلال الأشهر الماضية، ثم استجلاء التاريخ قبل سنوات.
خطاب سابق لترامب أمام لجنة إيباك الأميركية الداعمة لإسرائيل (وكالة الأنباء الأوروبية)فقد تعهد المرشح الجمهوري ترامب أمام الناخبين العرب والمسلمين الأميركيين قبل أيام بإنهاء الحرب. وكرر ترامب على مدى العام الماضي مقولة إنه لو كان في الحكم لما وقعت هذه هجمات 7 أكتوبر.
ويدعو ترامب منذ عدة أشهر إلى إنهاء سريع للحرب الإسرائيلية على غزة، وقال مؤخرا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "عليك أن تنهيها وتفعل ذلك بسرعة"، وأضاف "احصل على انتصارك وتجاوزه، الحرب يجب أن تتوقف، يجب أن يتوقف القتل".
ويعتبر ترامب نهاية الحرب قرارا إسرائيليا على الرغم من مطالبته بوقف الحرب. وسخر ترامب من دعوات منافسته الديمقراطية كامالا هاريس لوقف إطلاق النار باعتبارها قيدا على إسرائيل وأفاد بأنه "منذ البداية، عملت هاريس على تقييد يد إسرائيل بمطالبتها بوقف فوري لإطلاق النار، وهذا لن يمنح حماس سوى الوقت لإعادة تجميع صفوفها وشن هجوم جديد، على غرار هجوم 7 أكتوبر".
وخلال فعالية لإحياء الذكرى في فلوريدا، تعهد ترامب بأنه "سيدعم حق إسرائيل في كسب حربها على الإرهاب" مضيفا أنه "عليها أن تنتصر بسرعة، بغض النظر عما يحدث منتقدا نهج الرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته هاريس تجاه الحرب بين إسرائيل وحماس باعتباره ضعيفا ومترددا.
لم يتطرق ترامب إلى نقطة المساعدات لكنه تطرق إلى أن وضع نهاية الحرب ينبغي أن يكون في إطار انتصار إسرائيل، على الرغم من أنه لم يفصل ما قد يترتب على النصر.
وقف ترامب منذ بداية حملته إلى جانب إسرائيل في عمليتها العسكرية داخل قطاع غزة حيث قال في أول مناظرة إعلامية بينه وبين الرئيس بايدن قبل انسحاب الأخير من السباق إن "إسرائيل هي من تريد أن تستمر بالحرب، ويجب السماح لهم بإنهاء عملهم".
وعارض ترامب سعي بايدن إلى وقف إطلاق النار. وكرّر ترامب أكثر من مرة أنه لو كان موجوداً في السلطة، لما قامت حركة حماس بهجومها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
في أول مناظرة إعلامية بينه وبين بايدن قال ترامب إن "إسرائيل هي من تريد أن تستمر بالحرب، ويجب السماح لهم بإنهاء عملهم" (غيتي) سياسة ترامب السابقة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو أحد أقدم وأعقد الصراعات في الشرق الأوسط، ويشمل جوانب سياسية، دينية، اقتصادية، وجغرافية. وقد بدأت جذور هذا الصراع في أوائل القرن العشرين مع ظهور الحركة الصهيونية التي دعت إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وتبلورت مع تأسيس إسرائيل عام 1948، وما تبعها من حروب وصراعات على الأرض والحقوق السياسية.
وكي نفهم ما سيفعله ترامب في ولايته الرئاسية الجديدة بشأن هذا الصراع، فينبغي أن نتذكر ماذا فعل سابقا في فترته الرئاسية الأولى لأن ذلك مدخل مهم لبناء صورة مستقبلية عن فكره وخطواته المتوقعة.
ففي فترة ولايته الأولى، تبنى ترامب سياسة دعم قوي لإسرائيل واتخذ عدة قرارات غير مسبوقة:
بالفعل، صرح ترامب بذلك. لكن السياسات السابقة التي أظهر فيها ترامب انحيازا إلى إسرائيل قد تقود إلى التشاؤم من قادم الأيام، حيث أن سياسات كتلك تقود إلى تعميق الأزمة وإضعاف فرص التوصل إلى حلول سلمية، كما أنها قد تؤدي إلى تصاعد التوترات في الشرق الأوسط. فمن خلال تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل، يمكن أن تتراجع فرص المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين، كما أن أي تصعيد في لبنان قد يؤدي إلى نزاعات إقليمية أوسع بمشاركة قوى إقليمية ودولية، مما يجعل استقرار المنطقة على المحك.
كما أنه من المرجح أن العودة الثانية لترامب إلى البيت الأبيض سيعني إمكانية اتباع سياسات تتسم بالميل نحو تعزيز نفوذ إسرائيل، وتقليص الدعم للفلسطينيين، مما قد يساهم في تأجيج الصراع ويزيد من تعقيد الحلول السلمية.
لكن الوقائع الجديدة تقول إن ترامب رجل تعهد بإنهاء الحروب. وبالفعل صرح ترامب أكثر من مرة أنه سينهي الحرب، ليس حرب غزة ولبنان، بل جميع الحروب أيضا. فكيف يتسق الأمر مع وعد السلام باتخاذ سياسة منحازة مع بعض أطراف الحروب؟
إن تصريحات ترامب بشأن إنهاء الحرب تتماشى مع أسلوبه المميز في التعامل مع الصراعات الدولية، حيث غالبًا ما يعتمد على إستراتيجية تفاوضية توحي برغبة في التوصل إلى "صفقة" أو تسوية كبرى. إذا أخذنا تصريحاته حول إنهاء الحرب في الاعتبار، فهناك عدة سيناريوهات قد تفسر كيف يمكن لترامب التوفيق بين دعمه القوي لإسرائيل ورغبته المعلنة في إنهاء النزاع.
نقل ترامب السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس أثناء ولايته الأولى (رويترز) كيف يمكن أن ينهج ترامب سياسة "إنهاء الحرب"؟يمكن أن يسعى ترامب إلى اتباع جملة من السياسات لإنهاء الحرب في منطقة الشرق الأوسط عموما إذا أخذنا أن إيران طرف في النزاع الدائر بين إسرائيل ومحور المقاومة عموما. وتاليا جملة سيناريوهات متوقعة قد يتخذها الرئيس الأميركي المنتخب:
التدخل الدبلوماسي بشروط إسرائيلية: قد يسعى ترامب إلى إنهاء الحرب عبر مفاوضات أو وساطة، ولكن بشروط تميل لصالح إسرائيل، مثل نزع سلاح حركة حماس أو الحصول على ضمانات بعدم تدخل حزب الله في النزاع. من شأن ذلك أن يمنح إسرائيل اليد العليا، بينما يمكن لترامب الادعاء بأنه "أوقف الحرب" عبر صفقة تمنع التصعيد. صفقة "ضغط سريع" لإنهاء النزاع مؤقتًا: يُعرف ترامب بميوله لإنجاز الصفقات بشكل سريع ودرامي. قد يعمل على وقف إطلاق النار عبر فرض شروط قاسية على الأطراف الفلسطينية واللبنانية، مقابل وعود بتحسين الوضع الاقتصادي أو تخفيف الحصار، ولكن من دون حل جذري للصراع. أي أنها ستكون تسوية قصيرة الأجل وليست حلاً دائمًا. زيادة الضغط على إيران: إذا كانت تصريحاته حول إنهاء الحرب تشمل التدخل مع إيران، فقد يسعى ترامب إلى التفاوض معها بشكل غير مباشر لوقف دعمها لحزب الله والفصائل الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يقلل من خطر التصعيد. قد يستخدم هذا كوسيلة لتهدئة الأوضاع ووقف التصعيد العسكري بين إسرائيل والفصائل المدعومة من إيران، مع تأكيده على أنه "أوقف الحرب". تجميد الوضع على الأرض: قد يتبنى ترامب نهج "التجميد"، بحيث يتم التوصل إلى هدنة أو وقف إطلاق النار دون تغيير كبير في الوضع القائم. بهذا، قد يدعي أنه أوقف النزاع، لكن دون تقديم حل حقيقي للصراع أو تحسين جوهري في حياة الفلسطينيين أو تقليص سياسات إسرائيل تجاه غزة ولبنان. مؤتمر سلام دولي تحت رعاية أمريكية: قد يدعو ترامب إلى مؤتمر سلام دولي يحاول من خلاله التوسط بين الأطراف، مع إشراك حلفاء إقليميين جدد لإسرائيل من الدول العربية التي طبعت العلاقات مع إسرائيل. بهذه الطريقة، يمكنه الادعاء بأنه يسعى إلى إنهاء الحرب عبر مبادرة شاملة، وإن كانت مرجحة أن تتوافق مع الأجندة الإسرائيلية.يعتبر ترامب نهاية الحرب قرارا إسرائيليا على الرغم من مطالبته بوقف الحرب (مواقع التواصل) تفسيرات تناقضات ترامب
إن تصريحات ترامب عن إنهاء الحرب قد تكون بمثابة رسائل سياسية، خاصة أنه يستخدم هذا الأسلوب لتقديم نفسه كصانع سلام قادر على إنهاء الصراعات. ومع ذلك، في ضوء تاريخه في دعم إسرائيل وسياساته السابقة، فإن استراتيجيته قد لا تعني إنهاء النزاع بشكل جذري أو تقديم تنازلات للفلسطينيين، بل ربما العمل على هدنة قصيرة الأمد أو تجميد للأوضاع يخدم إسرائيل، مع الادعاء بأنه "وضع حدًا للحرب".
وقد يعيد ترامب سياسة تقليص أو وقف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية ووكالة الأونروا، مما يزيد من عزلة الفلسطينيين اقتصاديًا ويضعف قدرتهم على الصمود في وجه التوترات المتزايدة. كما وقد يستغل ترامب الحرب لتعزيز علاقات إسرائيل مع دول عربية أخرى، تحت شعار "التعاون الأمني" ضد تهديدات حماس وحزب الله وإيران. وقد يؤدي ذلك إلى توسعة اتفاقيات التطبيع بما يعزل الفلسطينيين سياسيًا.
والمحتمل أن يدعم ترامب أي مبادرات إسرائيلية لتعزيز سيطرتها على القدس الشرقية وأجزاء من الضفة الغربية، وقد يشجع على تغيير الوضع القانوني والدولي لتلك المناطق بشكل يخدم إسرائيل، ما سيعقد الأمور ويزيد الاحتقان الشعبي. وقد يعمل ترامب على منع أو عرقلة أي ضغوط أو تحقيقات دولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي قد تُتهم بها إسرائيل خلال حربها على غزة أو لبنان، كما حدث في موقفه السابق من المحكمة الجنائية الدولية.
ختاماً، رغم تعهدات ترامب بإنهاء الحروب العالمية، إلا أن سياساته السابقة وتوجهاته المنحازة لإسرائيل تعطي إشارات معقدة بشأن مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فبينما قد يسعى لتقديم نفسه كصانع سلام، فإن الظروف على الأرض والسياسات الأميركية المستمرة في دعم إسرائيل قد تعرقل أي حل جذري ودائم. وبما أن أسلوب ترامب يعتمد غالباً على صفقات سريعة تخدم مصلحة إسرائيل، فمن المرجح أن يترك أي "إنهاء للحرب" -إن حدث- في إطار هدنة مؤقتة أو تجميد للوضع الحالي دون معالجة القضايا الأساسية.