عربي21:
2025-02-02@00:47:20 GMT

الطوفان والدولة المستحيلة

تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT

* لم يحصل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في الفراغ.. قيلت هذه العبارة أكثر من مرة في ربط الهجوم القسامي الكبير بتاريخ النضال الفلسطيني ومعاناة الحصار الطويلة. ومن نافل القول أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لم يحصل في الفراغ، فما من حدث يحصل في العدم أو يولَد من صفر زمني بلا سياق، لكنّ عبور القسّام المدوّي فوق جدار إسرائيل يمكن قراءته بسياقات عديدة، لا تقتصر على تاريخ القضية ويوميات الاحتلال، بل تتجاوزها لشيء من خارجها تماما.

وما نقصده بهذا "الشيء" هو أمر من عالم الأفكار كان يعتمل بوضوح في الساحة العربية منذ سنوات، ويتعلق تحديداً بسؤال "الدولة".

* قبل عقدٍ من الطوفان صدر كتاب المفكر وائل حلاق "الدولة المستحيلة"، ورغم الصدى الذي أحدثه الكتاب فور صدوره، إلا أنه اكتسب زخما مضافا خلال العامين الماضيين بعد ظهورٍ مصوَّرٍ لمؤلفه وحديثه المباشر في مادة الكتاب وجوهر الأطروحة. لا يتعلق الكتاب بقضية فلسطين من قريب أو بعيد، فموضوعه هو استحالة الجمع بين النسيج الأخلاقي للإسلام وبنية الدولة الحديثة، لكن المشهد العربي الذي تبلور بعد أكثر من شهرين من بداية الحرب يجعل التفكير بالدولة المستحيلة أمراً مفيدا.

وما يلي ليس استنطاقا للكتاب ولا تطبيقا له على المشهد الحالي، وإنما تفكير في جواره وعلى مقربة منه في سياقٍ مستجدّ وفي قلب حدث هائل لا يشبه سواه.

* أربع جهات تنخرط اليوم في عمل عسكري -متفاوت المستوى- بإطار المواجهة مع إسرائيل؛ أولها طبعا هي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ويتلوها حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن وتنظيمات إسلامية في العراق. القاسم المشترك بين هذه الأضلاع الأربعة هو أنها في جوهرها حركات مسلحة لم تكتسب صفة الدولة الحديثة؛ الدولة الحديثة التي تستلزم شروطا كثيرة منها السيادة والاعتراف الدولي. وباستثناء حركة أنصار الله في اليمن، فإن بقية الأضلاع لا تحاول أن تدعي لنفسها أصلا صفة الدولة الرسمية. ليس مهماً إن كانت الدول العربية القائمة اليوم دولا حديثة "بحقّ" أم لا، ما هو مهمٌّ أن هذه الدول هو ما يَنتُج عربيا عند محاولة بناء دولة حديثة. بوسعك أن تسمّي النتيجة ما شئت، لكن الواقع يبقى على حاله.

* لماذا يبدو العمل الفاعل في الصراع مع إسرائيل مقتصرا اليوم على كيانات خارج تعريف الدولة ومظلة "الشرعية"؟ ما أن يُفكر المرء بإجابة ممكنة حتى يطفو سؤال رديف هو النظير المتمم للسؤال الأول: لماذا يستحيل الفعل على الدولة العربية؟ لماذا يبدو الشلل جواب هذه الدولة في أي مواجهة مع إسرائيل؟ ولأي حد بات هذا الشلل شرطا وجوديا للدولة العربية بالنظر لبنيتها واقتصادها وعلاقاتها الدولية؟

لا نحتاج حذراً من تعميم متعسف نمارسه في أسئلة كهذه، فالتعميم في مكانه وله سَنَد إحصائيٌّ عزّ نظيره، فالأمر لا يخص دولة أو اثنتين أو حتى عشرا، بل كامل منظومة الدول المعنية ودون استثناءٍ واحد. أمام هذا الفشل المدوّي للكيانات العربية الرسمية، يمارس أكثر مثقفينا بكائيات تقليدية على ضفاف "الدولة المتخيلة"؛ الدولة المتخيلة التي يرونها في أذهانهم معبرةً عن الإرادة الشعبية وحُلم الديمقراطية والقادرة على الفعل المؤثر في لحظات فارقة كهذه اللحظة. لكن خارطة الخلاص عند هؤلاء هي ذاتها دوما: الإصرار السرمدي على بناء الدول الحديثة، وتحميل المسؤولية لفشلنا ببناء هذه الدولة. هذه البكائيات (ومعها خارطة الخلاص السرمدية) هي شاهد فقر وترهل -قبل أي شيء آخر- لفضاء الثقافة العربية وفكرها السياسي؛ في الترويج للوهم وفي حبس الخيال بحلٍّ مستوردٍ ثبت فشله عند منعطفات لم يعد عدّها ممكنا لفرط كثرتها.

* من المضائق المائية الأربع التي يحضر فيها العرب، وحدهم أنصار الله من عسكروا البحر وجعلوه أداةً للضغط الاقتصادي والأمني على إسرائيل، ومن كامل الحدود المحيطة بالكيان العبري، وحدها المقاومة الإسلامية في لبنان من دخلت مواجهة مفتوحة ومستمرة مع جيشه، وأمام قواعد أمريكية تملأ الخارطة العربية، وحدها الفصائل العراقية من نظّمت جهدا متواصلا لضربها. الأمر لا يُختزل في مسألة "المحور" وبرنامجه السياسي، فحتى داخل حدود "المحور" وعناصره المؤسسة، وحدها الحركات المسلحة -لا الدول- من تمكّن من اجتراح فعلٍ عسكري مباشر ومؤثر خارج حدود الدعم اللوجستي والمدّ بالسلاح.

* تقرأ ما يُكتب عن "الدولة" في العالم العربي، فتجدها محطّ توافق بين كثير من المتخاصمين: الكل يريدها، والخلاف ليس على المبدأ وإنما على الطبيعة والكيفية والمآل المنشود. قلة صغيرة من تُشهر كفرَها بهذا الصنم المعبود، فالخروج عن ملة الدولة هو خروج عن حتمية التاريخ وأبسطِ مستلزمات الحداثة. وصارت عبارات من قبيل "لا حل إلا بالدولة" قولا شائعا في الأدبيات العربية، تذوب فيه فكرة الحداثة بلغة الغيبيات. ليس بعيدا عن كل هذا ما كتبه كارل شميت عن الدولة الحديثة: كل مفاهيمها الكبرى ليست سوى علمنةٍ لمفاهيم من عالم الدين. ولا يحتاج المرء تدقيقا كثيرا حتى يلمح هذه السمة عند المتمسكين بفكرة الدولة في سياقنا العربي، فمهما تراكمت أمثلة الفشل يبقى استقراء النتيجة على حاله، فالمسألة باتت أقرب للإيمان منها للقناعة.

* ومرة أخرى، فمن يَنقدون أداء الدولة العربية أمام المجزرة الإسرائيلية يطمسون وراء نقدهم سؤالا أهمّ بكثير: هل يمكن للدولة العربية أن تكون شيئا سوى هذا الذي نراه؟ وهل يمكن بناء دولةٍ -في السياق العربي- من دون ارتهان للهيمنة الغربية وعجزٍ كاسح عن الفعل بلحظات كهذه؟ كثيرون يرون في السؤال نفسه إهانةً للقدرة العربية على الانعتاق، فالسؤال يوحي باستحالة نجاحنا في إنشاء دولة مستقلة بحق. لكن الواقع أن هؤلاء مرتهنون لصورة مستوردة لكيانهم السياسي الممكن، ويرون أن النهوض -كي يكون نهوضاً- لا بد أن يقود حتما لنتيجة واحدة: الدولة الحديثة.

* لماذا ينبغي أن تكون "الدولة" هدفنا؟ وإذا سلمنا أن الدولة، المستقلة حقاً، هي هدف بذاته، فهل يسمح ظرفنا الموضوعي بنشوئها؟ مَن ذاك الذي يمثل اليوم إحساسا جامعا للانعتاق والتحرر أكثر من جماعة مسلحة محاصرة في قطاع غزة، لا يعترف بشرعية حُكمِها أغلب العالم؟ وأي قوة على امتداد العالم العربي أعادت لمفهوم السيادة وقْعَه كما فعلت جماعة مسلحة في البحر الأحمر لا يكاد أحد يعترف لها بشرعية الدولة؟

* ليست الأسئلة السابقة أسئلة حقا؛ الواقع أنها قراءة تقدّم نفسها بهيئة السؤال لواقعٍ يتبلور أمامنا ويتآكل فيه صنم الدولة الحديثة، ويصعد مقابله نزوع للتحرر من استيطان الغرب لأفكارنا وخيالنا ولإجابتنا عن سؤال "ماذا نريد". هل نحتاح حقاً اعترافا دوليا بشرعياتنا؟ وهل يلزمنا حقا أن نحاكي شكل الدولة الحديثة ونجعل منه مسطرةً لمعنى النهوض؟ لربما لا نحتاج قادةً في قصور رئاسية على رؤوس التلال وذرى الجبال تصلهم إسرائيل وأسراب الأطلسي متى شاءت، وإنما رجال يديرون المعارك من تحت الأرض ويمثّلون الكيان السياسي المستقل، الوحيد والممكن، في ظرفنا التاريخي والسياق الذي نحن فيه اليوم. من الصعب على الساجدين في محراب الدولة الحديثة أن يقبلوا التفكير -مجرد التفكير- في أسئلة كهذه، لكن الواقع الذي من حولهم، وحولنا، ينزاح بسرعة متصاعدة، وسنرى ماذا سيحلّ بمحرابهم، ومحرابنا، بعد هذه الحرب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدولة حماس حزب الله غزة حماس غزة حزب الله الحوثيين الدولة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الحدیثة

إقرأ أيضاً:

من هنأ الشرع ومن امتنع.. هذه مواقف الدول العربية الجديدة تجاه سوريا

تلقى الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تولى رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية، تهاني رسمية من عدة دول عربية، بينما استقبل أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في أول زيارة لقائد دولة إلى دمشق منذ سقوط نظام المخلوع بشار الأسد.

وجاءت التهاني من قطر والسعودية والإمارات والكويت وسلطنة عمان والأردن واليمن وفلسطين والبحرين، في خطوات تعكس دعمًا عربيًا للمرحلة الانتقالية الجديدة في سوريا. 

زيارة أمير قطر إلى دمشق
زار أمير قطر تميم بن حمد دمشق أمس الخميس، حيث التقى بالشرع في قصر الشعب. وهنأه بمناسبة "انتصار الثورة السورية" وتوليه رئاسة المرحلة الانتقالية.
الرئيس أحمد الشرع يهدي الشيخ تميم بن حمد عباءة ويُلبسه إياها في اجتماع الأمس

فيديو يُظهر الودية في مباحثات سوريا وقطر بالأمس#سوريا #قطر pic.twitter.com/4uaN3fFMa9 — تمام أبو الخير (@RevTamam) January 31, 2025
وأكد الأمير القطري على "الحاجة الماسة لتشكيل حكومة تمثل جميع أطياف الشعب السوري"، مشددًا على أهمية تعزيز الاستقرار وإعادة الإعمار والتنمية. وأضاف أن قطر ستواصل دعمها للشعب السوري لتحقيق أهدافه في بناء دولة تسودها العدالة والحرية. 


وجاءت هذه الزيارة بعد يوم من إعلان الإدارة السورية الجديدة، الأربعاء الماضي، تعيين أحمد الشرع رئيسًا للمرحلة الانتقالية، وإصدار قرارات تاريخية تشمل حل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، وحل مجلس الشعب وحزب البعث، وإلغاء العمل بالدستور السابق.

وأعربت الخارجية القطرية عن ترحيبها بهذه الخطوات، مؤكدة على ضرورة "احتكار الدولة للسلاح في جيش واحد يعبر عن جميع المكونات دون إقصاء". 

رسائل تهنئة من الدول العربية
كما جّه رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي مساء الجمعة تهنئة رسمية إلى أحمد الشرع بمناسبة توليه منصب رئاسة الجمهورية العربية السورية خلال المرحلة الانتقالية.

وقال السيسي في تغريدة على حساباته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي: "أتوجه بالتهنئة للسيد أحمد الشرع لتوليه منصب رئاسة الجمهورية العربية السورية خلال المرحلة الانتقالية، وتمنياتي له بالنجاح في تحقيق تطلعات الشعب السوري نحو مزيد من التقدم والازدهار".
أتوجه بالتهنئة للسيد/ أحمد الشرع لتوليه منصب رئاسة الجمهورية العربية السورية خلال المرحلة الإنتقالية ، وتمنياتي له بالنجاح في تحقيق تطلعات الشعب السورى نحو مزيد من التقدم والإزدهار — Abdelfattah Elsisi (@AlsisiOfficial) January 31, 2025
جاءت تهنئة السيسي في ظل موقف مصري متردد إزاء التطبيع الكامل للعلاقات مع النظام السوري الجديد، حيث لا تزال القاهرة توازن بين مصالحها الإقليمية وموقفها الداعم للحل السياسي في سوريا.


وعلى الرغم من إعادة فتح قنوات التواصل الدبلوماسي بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، إلا أن الموقف المصري لم يصل بعد إلى حد الاعتراف الكامل بالنظام الجديد أو تعزيز العلاقات الثنائية بشكل واضح.

وكما بعث قادة عرب برسائل تهنئة إلى الرئيس الشرع، حيث هنأه ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، معربين عن تمنياتهم له بالتوفيق في قيادة المرحلة الانتقالية.
#خادم_الحرمين_الشريفين و سمو #ولي_العهد يهنئان الرئيس أحمد الشرع بمناسبة توليه رئاسة الجمهورية العربية السورية في المرحلة الانتقالية. #واس pic.twitter.com/P8h2jQqsgn — واس الأخبار الملكية (@spagov) January 30, 2025
كما هنأه رئيس الإمارات محمد بن زايد، وأمير الكويت مشعل الأحمد الجابر الصباح، وسلطان عمان هيثم بن طارق، والملك الأردني عبد الله الثاني، ورئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي. 

من جهته، هنأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس نظيره السوري، مؤكدًا على عمق العلاقات التاريخية بين البلدين. كما بعث ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة برسالة تهنئة، متمنيًا للشعب السوري التقدم والازدهار. 

فيما لم تهنئ دول عربية الرئيس السوري الجديد٬ مثل تونس والجزائر والمغرب.


في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، سيطرت الفصائل السورية على دمشق ومدن أخرى، منهية 61 عامًا من حكم حزب البعث و53 عامًا من حكم أسرة الأسد.

وفي اليوم التالي، تم تكليف محمد البشير بتشكيل حكومة انتقالية لإدارة المرحلة الجديدة، مما يمثل بداية فصل جديد في تاريخ سوريا بعد سنوات من الصراع الدموي.

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية يؤكد دعم مصر للسودان والدولة الوطنية ومؤسساتها
  • ما سبب غياب الدول العربية عن تحالف لاهاي لدعم فلسطين ومحاسبة الاحتلال؟
  • «فتح» تشدد على ضرورة دعم الدول العربية للموقف المصري الرافض للتهجير
  • من هنأ الشرع ومن امتنع.. هذه مواقف الدول العربية الجديدة تجاه سوريا
  • أسمته “إسرائيل” رجل الموت.. من هو محمد الضّيف مهندس معركة “طوفان الأقصى” الذي أرعب الكيان الصهيوني؟ (تفاصيل + فيديو)
  • من هو الشهيد محمد الضيف؟.. مرعب إسرائيل الذي أرهق الإحتلال لثلاثة عقود
  • «الظّل» الذي طاردته إسرائيل لعقود.. من هو «محمد الضيف»؟
  • السفير حسام زكي: العراق تستضيف القمة العربية في أواخر أبريل
  • ومضات توثيقية: أنهضي يا أحزان الحرب العبثية وأتحدي يا أفراح الدولة المدنية
  • الصلابي: سوريا تبدأ مرحلة البناء والدولة المدنية الحديثة