الولايات المتحدة الأمريكية هي دولة تقتات على الحروب منذ عام 1776م أي منذ استقلالها وهي في حالة حرب دائمة ومستمرة خاضت عددا من الحروب والغزوات بعيدا عن حدودها آلاف الأميال، انخرطت الولايات المتحدة منذ عام 1776حتى عام 2017 في 188عملية عسكرية صغيرة وحرب كبيرة.
صناعة الحروب هي جزء من العقيدة السياسية والاقتصادية الأمريكية وتركيبتها الايديليوجية وبطبيعة الحال هي جزء أصيل من عقيدة الفكر الرأسمالي الذي يعتبر الحروب الأداة الملحة والمثالية لإصلاح الاختلالات الناتجة من داخل النظام ذاته، وإعادة التوازنات داخل النظام الرأسمالي.


النظام الرأسمالي بدون ادنى شك يحسب له كفاءة نسبية من ناحية الإنتاج فقد فجر طاقات إنتاجية هائلة وهذا مدفوع بالرغبة للربح كمحفز رئيسي وتتمثل إحدى صوره في الغاء العلاقة بين المنفعة المتأتية من السلعة وسعرها، ولكن النظام الرأسمالي عندما يعمل يخلق اختلالات اقتصادية من داخل النظام نفسه بسبب طبيعة النظام الاجتماعي في النظام الرأسمالي السياسي هذه التشوهات والاختلالات ملازمة له تتجلى في عدم المساواة كاتجاه عام وبصورة رئيسية أزمة فائض في الإنتاج، تتولد أزمة فائض الإنتاج من قدرة هذا النظام على الإنتاجية بشكل كبير، ولكن بسبب طبيعة هذا النظام الذي تتركز فيه الأموال في أيدي قلة، لا يوازي هذا الفائض في الإنتاج طلب كاف يستوعبه بمعنى أن الدخل المتاح للأغلبية اقل من أن يتحول إلى طلب فعال على ما تنتجه الآلة الإنتاجية الرأسمالية.
وهذه القلة المذكورة أعلاه هي من تتحكم بالعملية الإنتاجية وتوزيع الدخول يتم توزيع الأعباء المالية بطريقة غير عادلة وهذا ما يؤدي إلى تركز الثروات في جيوب فئة قليلة. مثل هذا التناقض المصدر الرئيسي الأول للازمات في النظام.
جاء العالم والمفكر الاقتصادي جون مينارد كينز وهو من داخل الفكر الرأسمالي وقام بثورة في الفكر الرأسمالي تراجع فيها عن إحدى الركائز المهمة في فكر هذا النظام وهو عدم تدخل الدولة في السوق وان السوق قادر على أن يصحح نفسه بنفسه ليقول كينز لابد من أن تتدخل الدولة في فترة ما لإنقاذ النظام المتكلس أو الشلل الذي يصيب السوق المتمثل بالركود بإنشاء مشاريع بنية تحتية ضخمة تخلق دخولاً جديدة وتضخ دماء جديدة في النظام الاقتصادي.
في فترة ما، بعد ذلك تم التراجع عن أفكار كينز لتخرج لنا إبداعات مفكري الفكر الرأسمالي بالحروب كأداة لحل المشكلات الاقتصادية تحت قاعدة الحروب والأزمات تزيل بطريقة عفوية أو عنفية اختلالات التوازن المتراكمة في الاقتصاد. وهنا يأتي دور المجمع الصناعي العسكري والنفوذ الذي يتمتع به فيما تسمى الدولة العميقة ومؤسسات إنتاج الفكر الرأسمالي.
ومع تطور الرأسمالية وبزوغ الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية صاعدة ظهر لنا نوع جديد من الرأسمالية وهو الرأسمالية المالية كمرحلة متطورة للرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية وظهرت معها ظاهرة العولمة المالية أي إطلاق العنان للرساميل للحركة في الفضاء العالمي متجاوزة الحدود دون قيود ومن خلال حركتها هذه أنتجت العديد من الاختلالات والمشاكل الاقتصادية التي بدورها عمقت الأزمة في النظام الاقتصادي الرأسمالي.
في ظل هذه الظروف حدث تحول جوهري في موازين القوى داخل النظام الرأسمالي أنتجت لنا “النخب المالية” ومؤسساتها التي غدت تنمو وتتضخم بشكل ملفت وأصبحت اليوم هي من تتحكم بالفضاء السياسي والاقتصادي أصبحت الرأسمالية النقدية أو المالية ومؤسساتها تنمو بشكل لا يستوعبه القطاع الإنتاجي والتجاري وحدثت تغيرات جوهرية في وظيفة النقود التي هي الأصل والمنتج الرئيسي لهذه الرأسمالية الجديدة، تحولت النقود من وسيط للتبادل ولتسوية المعاملات(المدفوعات) إلى مورد أو اصل ومستودع قيمة بحد ذاتها ووسيلة للمضاربات وتم تطويع النظام الاقتصادي الحالي ليتكيف مع هذا النوع من الفكر والنظام، تكريس عقيدة النمو المبني على الاقتراض والاقتراض الاستهلاكي. نتج عن هذا نمو مفرط في حركة الاقتراض يتجاوز الحصافة الائتمانية ليخدم هذه الفئة أو النخبة وهذا ما حدث في أزمة عام 2008 وفي أزمة فيروس كورونا.
أنتجت لنا هذه العمليات التفاعلية والظواهر وضعاً يشوبه العديد من التشوهات والاختلالات تحول الاقتصاد من اقتصاد حقيقي إلى اقتصاد مالي، حجم هذه المؤسسات المالية، قطاع الصناعة المالية (البنوك والمؤسسات المالية وصناديق الثروة وصناديق التحوط)يتجاوز حجم قطاع الصناعة والتجارة أي انه خلق عملية هرمية رأس المال النقدي/المالي اصبح هو في الأعلى والمتحكم براس المال الصناعي والتجاري اللذان اصبحا ثانويين وهما السبب الرئيسي للتنمية، واصبحت هنالك عملية إنتاج نقود من النقود وأصبحت دخول هذه المؤسسات تفوق الإنتاج الحقيقي ووجدنا انفسنا أمام اقتصاد افتراضي، اقتصاد البورصات والمضاربات والمشتقات المالية منفصل تماما عن الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، إنتاج السلع والخدمات، واصبح الأول يعمل فوق الآخر. في ظل هذا النظام القائم الأموال تنمو من تلقاء نفسها وأصبح العائد على الثروة اعلى بكثير من العائد على الجهد حيث أن نوعية الأنشطة المالية التي ذكرتها البورصات والإقراض والمشتقات المالية لا تعود بالفائدة على المجتمع بل تقتصر عوائدها على أصحاب الأموال أنفسهم ما أدى إلى اتساع الفجوة بين أصحاب الأموال وعامة الناس. اصبح إنتاج النقود من النقود عملية مربحة اكثر من تحويلها إلى جهد صناعي أو تجاري وبدلا من أن يكون اقتصاد موارد اصبح اقتصاد نقود (باعتبارها مخزناً للقيمة واصلاً للتداول) واقتصاد ديون وإعادة إنتاج دين من دين، والأدوات المالية والمشتقات غدت أصول الاقتصاد الحقيقي. وهذا التناقض مصدر آخر للازمات داخل النظام الرأسمالي أدى بدوره إلى مزيد من التركيز للأموال في أيدي فئة معينة وإعادة توزيع الثروة بين هذه الفئة.
نعزز الفكرة هذه بمعلومات موجودة ومتاحة إذا أخذنا اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية سنجد أن حجم الصناعة المالية يتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعناه المعروف وان دل ذاك فأنه يؤشر إلى وجود خلل جوهري وأزمة حقيقية في النظام.
لكي تكتمل الصورة لابد لنا من التطرق إلى آخر تطور للرأسمالية وهي الرأسمالية التكنولوجية أو المعلوماتية “نخب سادة المعلومات” والتي تمثل أبشع صورة للرأسمالية حيث تجاوزت تحويل الإنسان إلى مستهلك وأداة إنتاج ومدين إلى إنسان مستعبد من الناحية الاقتصادية والروحية والفكرية لما تمتلكه هذه المؤسسات من قدرة على التأثير ساعدت فيها الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة والرابعة وما توصلت اليه البشرية من تطور تكنولوجي كان الإنسان يتعرض لتأثير مباشر الآن يمارس عليه التأثير على مستوى اللاوعي العقل الباطن. وهذا النوع من الرأسمالية يعمل بطريقة تكرس الاحتكار وتكرس السيطرة المالية بتسخير التقنيات الحديثة لهذه الأهداف بجعل كل من القطاعات الصناعية والتجارية الحقيقية وحتى القطاع المالي رقمية متحكما بها. أصبحت المنصات التي لا تمتلك وسائل الإنتاج هي من تحكم السيطرة على هذه القطاعات بل وهي من تدير قواعد اللعبة تفرض شروطها وقواعدها الخاصة، على سبيل المثال لا الحصر شركة أمازون.
في الخلاصة، نعود إلى أصل الفكرة أن النظام الرأسمالي بمراحله وتطوراته يحمل عناصر تدميره ومشكلاته بشكل يجعله عاجزا عن الأداء ومن هنا تكتسب الحروب أهمية في ظل هذه الأزمات والتشوهات لتزيل هذه الاختلالات لذلك اصبحنا نرى أن الحروب كآلة تدميرية هي أداة أصيلة في الرأسمالية يعالج بها النظام اختلالاته الداخلية. ويعيد التوازنات بشكل أفقي بين النخب الرأسمالية نفسها(جهة العرض)وبشكل عمودي (جهة الطلب)غالبية الناس وبالتالي بعث الحياة في النظام الاقتصادي.
هذا ما يفسر لنا ارتباط نشأة الولايات المتحدة الأمريكية بالحروب وتبنيها الواضح في سياستها إشعال الحروب وتأجيج الصراعات حول العالم ليس فقط كأداة للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي والجيواقتصادي بل كأحد آليات إصلاح العطب الاقتصادي. وهذه هي الطامة الكبرى.
ويخبرنا التاريخ أن الحروب تؤدي إلى تغيرات في تناسب القوى على الصعيد الاقتصادي العالمي المدينون يصبحون مقرضين (دائنين)والدول المقرضة التي كانت دائنة تختفي في بعض الأحيان من الخارطة السياسية. وهذا دائما ما تعمل عليه الولايات المتحدة الأمريكية حيث تحولت في الحرب العالمية الأولى من اكبر مدين عالمي إلى اكبر دائن عالمي.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

الرسوم الجمركية الأمريكية تفرض ضغوطا على صناعة السيارات النمساوية

فرضت الرسوم الجمركية الأمريكية ضغوطًا على صناعة السيارات النمساوية مما أثار مخاوف بشأن مستقبل صناعة توريد مكونات السيارات في النمسا، التي تعد حلقة أساسية في سلسلة التوريد الأوروبية لقطاع صناعة السيارات، رغم عدم شهرتها كدولة مصنعة للسيارات مقارنة بدول أوروبية رائدة في هذا المجال مثل ألمانيا.
وحذرت غرفة الاقتصاد النمساوية الاتحادية من عواقب وتداعيات اقتصادية خطيرة، ودعت إلى تبني استجابة أوروبية مدروسة استراتيجيا لمواجهة السياسة التجارية الحمائية الجديدة، التي تنتهجها الولايات المتحدة مؤخراً، حيث يتضمن قانون التعريفات الجمركية الجديد زيادة الرسوم المفروضة على السيارات وأجزائها المنتجة خارج الولايات المتحدة، بنسبة تترواح ما بين 2.5% إلى 25% مستقبلاً.
وطالب ممثلو قطاع الصناعة الاتحاد الأوروبي، بالتحرك العاجل لتفادي العيوب التنافسية وتجنب تراجع الإنتاج وفقدان الوظائف، حيث تشكل التعريفات الجمركية الأمريكية الجديدة تهديدًا كبيرًا لصناعة توريد مكونات السيارات في النمسا.
وأظهرت أحدث أرقام رسمية نجاح صناعة توريد السيارات في النمسا، خلال العام الماضي، في تحقيق قيمة إنتاجية بلغت 28.5 مليار يورو وتوفير نحو 81.700 وظيفة بشكل مباشر، حيث تعد النمسا واحدة من أهم اللاعبين الأساسيين في سوق توريد مكونات ومستلزمات السيارات الأوروبية، من خلال مجموعة شركات مثل شركة “Magna Steyr”، التي تعد من أبرز الشركات العالمية في مجال تصنيع السيارات، وشركة “BMW Motoren” المتخصصة في تصدير محركات السيارات إلى الولايات المتحدة، وشركة “Pierer Mobility” في مجال تصنيع المركبات، وشركة “AVL List” المتخصصة في تطوير أنظمة دفع السيارات. وقال أوضح هانسيورج توتنر، نائب رئيس جمعية صناعة السيارات في غرفة الاقتصاد النمساوية إن الولايات المتحدة تمثل السوق التصديرية الأهم بالنسبة للنمسا بعد ألمانيا، ولفت إلى أن الشركات النمساوية تقوم بإنتاج ومعالجة جزء كبير من مكونات السيارات المنتجة في ألمانيا، التي تصل لاحقاً إلى الولايات المتحدة عبر ألمانيا.
ودعا توتنر إلى تبني نهج موحد من جانب الاتحاد الأوروبي، تجاه التعريفات الجمركية الأمريكية الجديدة، وطالب بإجراء مفاوضات على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. وأوضح هانسيورج توتنر، المتحدث باسم قطاع صناعة السيارات في غرفة الاقتصاد، أن النمسا صدّرت مكونات سيارات ومحركات بشكل مباشر إلى الولايات المتحدة بقيمة 2.8 مليار يورو في العام الماضي 2024، وفي المقابل بلغت قيمة واردات النمسا من نفس القطاع نحو 0.8 مليار يورو.
وشدد المسؤول النمساوي على أهمية إيجاد حل سريع للنزاع التجاري من خلال التفاوض، لتجنب الرسوم الجمركية والعواقب السلبية للصراع التجاري، وقال توتنر “الرسوم الجمركية على السيارات المصنعة خارج الولايات المتحدة تضر بالجميع وتعرض الوظائف للخطر وتضر بالشركات على جانبي المحيط الأطلسي.”
وتوقع غابرييل فيلبرماير، مدير معهد البحوث الاقتصادية “Wifo”، تعرض صناعة إمدادات السيارات في النمسا لتداعيات وعواقب سلبية، وقال “الرسوم الجمركية الأمريكية تضر بصناعة السيارات الألمانية وصناعة توريد السيارات النمساوية التي تعتمد بشكل كبير على ألمانيا”.
وأظهرت نتائج دراسة حديثة أجراها المعهد، انخفاض انتاج قطاع السيارات في النمسا بنسبة 2.29%، وتكبد خسارة بقيمة 616 مليون يورو. وكشفت أحدث أرقام عن انخفاض إجمالي صادرات النمسا بنسبة 0.76%، بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية، مع توقعات بحدوث انخفاض يصل إلى 1.4% على المدى الطويل، كما رصدت تأثيرات سلبية طالت قطاعات صناعية أخرى هامة، أبرزها صناعة المعدات والآلات، التي انخفض حجم صادراتها بنسبة 1.27%، وخسرت نحو 400 مليون يورو، بالتزامن مع تراجع صادرات قطاع المنتجات المعدنية المصنعة بنسبة 1.73% تعادل خسائر بقيمة 373 مليون يورو، وتعرض صناعة الحديد والصلب لخسائر بقيمة 422 مليون يورو بسبب تراجع الصادرات بنسبة 2.5%.
وتوقع معهد البحوث الاقتصادية “Wifo”، انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في النمسا على المدى القصير بنسبة 0.23% وعلى المدى المتوسط إلى الطويل بنسبة 0.33%، وانخفاض الصادرات النمساوية على المدى القصير بنسبة0.76% وعلى المدى المتوسط إلى الطويل بنسبة1.4% .
وتعول حكومة النمسا بقوة على سرعة استجابة الاتحاد الأوروبي وقدرته على حماية سلاسل توريد صناعة السيارات، وحل النزاع التجاري عبر الأطلسي عن طريق الحوار والتوصل إلى حل تفاوضي، بسبب أهمية قطاع صناعة توريد مكونات ومستلزات السيارات بالنسبة لاقتصاد النمسا، الذي يعاني من الكساد للعام الثالث على التوالي.وام


مقالات مشابهة

  • تعرف على أبرز الشركاء التجاريين للولايات المتحدة
  • ذبابة حلزونية تصيب ماشية المكسيك وتمنع تصديرها للولايات المتحدة
  • الرسوم الجمركية الأمريكية تفرض ضغوطا على صناعة السيارات النمساوية
  • آبل تخطط لنقل تصنيع هواتف آيفون الموجهة للولايات المتحدة من الصين إلى الهند بسبب الرسوم الجمركية
  • الوزير الشيباني يلتقي وفداً من الجالية السورية بالولايات المتحدة الأمريكية
  • «الإمبراطورية البريطانية».. أحدث إصدارات هيئة الكتاب
  • ترامب يطالب بمرور السفن الأمريكية مجانا عبر قناتي السويس وبنما
  • رفع العلم السوري الجديد في الأمم المتحدة لأول مرة
  • اكتشاف أول دليل ملموس على وحشية العروض الترفيهية في الإمبراطورية الرومانية
  • مصر وأوروبا تبحثان التعاون الاقتصادي وحزمة المساعدات المالية للقاهرة