أحمد الدريني يكتب: هوامش على متن «جاكرتا»
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
لم تكد طائرتى تحط فى «جاكرتا»، حتى انتحى بى شاب إندونيسى مهذب ليسألنى عن نصر حامد أبوزيد!
بدا سؤاله وبدت ملامحه كما لو كان يسأل رجلاً جاء فى قافلة من بلاد بعيدة، ويستفسر منه عن أخبار القوم الذين هو منهم والقوم الذين مر عليهم.. وفى عينيه شغف عظيم.
الدولة الإندونيسية تولي اهتماماً بالغاً بالمؤتمر «الصوفى العالمى» تمثل فى حضور رئيسها ووزير دفاعها وكبار مسئوليها فعاليات الافتتاحجلست معه فى صالة كبار الزوار التى تستقبل فيها الدولة ضيوف المؤتمر الدولى الذى ينظمه «المجلس الصوفى العالمى»، وأنا بالكاد أحاول الإفاقة من ساعات السفر الطويلة تارة، وأزوِّده بما أفهمه عن «نصر حامد» تارة أخرى.
حين صدحت مكبرات الصوت بنقل صلاة العشاء فى جاكرتا قرأ الإمام الآيات على نسق مصرى كأنك فى القاهرة
(1)
فى قلب العاصمة الإندونيسية جاكرتا، وحين صدحت مكبرات الصوت بنقل صلاة العشاء، بالقرب من «جراند مول»، قرأ الإمام الآيات على نسق مصرى تماماً، حتى لوهلة تحس أنك فى القاهرة.
فهذا اللسان إما قد تربى على مشايخنا الأكابر، أو أن هذه الأذن لم تسمع سوى قُرّائنا القمم. بلا لكنة ولا لحن ولا شُبهة تأثر بمدرسة أخرى سوى المصرية.لم تكن طريقة قراءة القرآن هى أول ما ينبئنى عن الروابط العميقة بين القاهرة وجاكرتا،
كان لافتاً لى الاستقبال الحافل والأحاديث التى ينخرط فيها الجميع معك - لأنك مصرى - حتى لكأنك «كل مصر»فالاستقبال الحافل من مخرج الطائرة، والأحاديث التى ينخرط فيها الجميع معك -لأنك مصرى- حتى لكأنك «كل مصر»، بدت لافتة لى. فكل من التقيتهم فى المطار، بعد الابتسام والترحيب، يسألون عن مصر أو يحكون عن ذكرياتهم فى مصر أو عن خططهم للذهاب إلى مصر.
وكلمة السر هنا ليست «الأزهر الشريف» فحسب، بل الحالة العلمية والفكرية الدينية المصرية عموماً، فهذا الشاب الذى رافقنى فى صالة كبار الزوار وأخذ يسألنى بشغف عن نصر حامد أبوزيد، لأنه يعد رسالة علمية عنه، كان يتصور بحسن نية بالغ أننى لمجرد مصريتى لا بد أعرف نصر حامد أبوزيد، ولا بد متقن لفهم أفكاره، ولا بد أنا من خير المتحدثين عنه.. وأُدرك طرحه والمآخذ التى يصوِّبها خصومه لطرحه، والاستدراكات التى طرأت على مشروعه، والتطورات التى اكتنفت مسيرته.. لا بد أننى أدرك كل هذا.. لا بد!
وهو جزء من الصورة الذهنية عنك -عموماً- وسأتطرّق لها لاحقاً.فهناك من يأنس لعربيتك التى يراها ميزة عظمى حباك الله إياها.. وهناك من يتلصص على مصر التى بدت لى هناك هائلة ضخمة عظيمة فى الأعين.. وهناك من يبحث فيك عن شىء ما لست تدركه أنت، ولا غالباً هو، لكنه الهوى على عواهن الهوى.
(2)
حين ضغط المعالج الإندونيسى على موضع بعينه بين السبابة والإبهام من يدى اليسرى، تألمت حتى كدت أصرخ.
نظر لى نظرة خبير وقال: هناك مشكلة فى معدتك.. أنت تؤخر طعامك.. أنت تأكل متى تريد لا متى ينبغى.
ثم استمر فى الضغط على مواضع بعينها من الظهر والساق والرأس.. ومع كل موضع يستشف شيئاً ما، ثم يخبرنى به، فبدا لى كأنه يعيش معى منذ عشرين عاماً، من فرط ما شخّص تشخيصاً دقيقاً مذهلاً فى كل شىء!
هادتنى الأقدار بهذا الشاب الأريب الذى يتقن العلاج الإندونيسى التقليدى، والذى كثيراً ما تاقت نفسى لتجربته، فهذه البقعة من الشرق الآسيوى لطالما فعلت العجائب بطبها القديم ومهارة معالجيها الذين توارثوا هذه العلوم بانضباط صارم.
لم أدرِ كيف أكافئه بعد جلستين للعلاج من آلام الصداع المبرح الذى عصف برأسى بسبب السفر المتواصل من القاهرة لجدة، ومن جدة لجاكرتا، ومن جاكرتا لبكالونجان.
الإندونيسيون أنزلوا الدين من نفوسهم موضع الإجلال وأحبوا العرب بصدور صافية ونفوس شفيفة متواضعة ودودةفى ساعات بدت لى سنين عدداً.
فكرت فى مهاداته بشىء، لأنه أخضعنى لعلاجه حباً لا تكسُّباً لمال، لكنه حسم الأمر حين لوّحت له برغبتى فى إعطائه شيئاً ما.
قال بصرامة ودودة للغاية: الدعاء فقط يا شيخ.. الدعاء!
حاولت أن أشرح له أننى لست شيخاً، حتى وإن كنت مدعواً للمؤتمر العالمى «التصوف فى عالم متجدد» الذى ينظمه المجلس الصوفى العالمى فى إندونيسيا برعاية رئيس الدولة شخصيا، وبحضور وزير الدفاع وكبار رجال الدولة.
إلا أنه، إكراماً لعربيتى ولمصريتى، أصر على موقفه بود وحياء شديدين هما الغلاف العام الذى يحيط بالمعاملة التى تتلقاها فى هذه البلاد الطيبة.
فعربيتك تعنى أنك من القوم والعرق الذى بُعث فيه (صلى الله عليه وسلم)، وعربيتك هى لسان عربى مبين يفهم الدين ونصوصه بغير عناء ولا لبس.. فكأنك -فى نظرهم- أقرب فهماً للوحى والحديث الشريف منهم.. مهما اجتهدوا ودرسوا ومهما فرطت أنت أو تكاسلت!
وعربيتك قد تعنى انتماءً هاشمياً للبيت النبوى المبارك، من النسل الحسنى والحسينى المشرّف، ومن ثم فأنت لفافة من القداسات المحتملة تسير على قدمين.
وهذا لأنهم أنزلوا الدين من نفوسهم موضع الإجلال، وأحبوا العرب، بصدور صافية ونفوس شفيفة متواضعة ودودة.
مصر بلد الأزهر الشريف الذي درسوا في جنباته وتربوا على مشايخه وتوارثوا حكاياه فألهبت خيال أجيال وأجيال عن هذه البقعة المباركةوفى القلب من كل هذا أنت من مصر، بلد الأزهر الشريف، الذى درسوا فى جنباته وتربوا على مشايخه، وتوارثوا حكاياه فألهبت خيال أجيال وأجيال عن هذه البقعة المباركة وهذا الصرح المهيب.
أذكر أحدهم وقد مال علىَّ وقال لى بكل فخر: ابنى ذاهب للأزهر الشريف للدراسة.قالها وملء شدقيه ابتسامة تُنير جاوة الوسطى بأكملها.
ولأنى المصرى العربى، الذى نشأ فى بلد الأزهر، وتوسموا من حديثه على منصة فعاليات المؤتمر سلامة لغته، انتحى بى رجل فى العقد السادس من العمر تقريبا جانبا من جوانب فندق سانتيكا فى مدينة بكالونجان، وقال لى كأنما يساررنى بسر يستحى أن يبوح به، إنه لا يفهم معنى حديث شريف بعينه.
قاله الرجل بنطق سليم وبلسان تملؤه هدجة التقوى فى الصوت.. لكنه لا يستقيم فى ذهنه لغةً ومن ثم لا يستقيم منطقاً.
«أنقذنى أيها العربى!».
هكذا أحسست دواخل الرجل تجأر.مِلتُ عليه وقلت له: المعنى كذا وكذا.. فانفرجت أساريره وانزاحت عن صدره صخرة كؤود.
فهمت، بطبيعة الحال، كيف استشكل عليه المعنى لتركيب الجملة، ودخول عناصر الشرط والنفى فى بنيتها، ما أربك قدرته على الاستيعاب الكامل.
وساعتها كأن المشهد أشرق كاملاً أمامى.. هم ينظرون لنا على نحو عجيب من الإجلال.. لأننا أقدر إبحاراً وأفهم لهذا اللسان، ومن ثم هذا الدين الحنيف.
(3)
مِلتُ على صديقى العزيز، فضيلة الدكتور أسامة الأزهرى، أحد علماء الأزهر الشريف ومستشار السيد رئيس الجمهورية للشئون الدينية، وقلت له: الضجة التى صاحبت صورك حين نُشرت للمرة الثانية (بعد أشهر طوال من أول مرة نُشرت فيها صور شبيهة!) بينما يحملك الناس على الأعناق.. هى ضجة من لم يأتِ لهذا المكان، ولم يستوعب هذا التكوين النفسى وهذه النظرة عميقة التقدير والعرفان لنا.. مصريين وعرباً.
لقد كففتُ أفواها شريفة انكبّت على يدى لتُقبلها لحسن ظنهم بى.. لصحبتى لعلماء شريعة وشيوخ طرق وباحثين تراثيين.
لقد ظنونى أحد هؤلاء العلماء، وعربية ملامحى ولسانى أذكت أوار التقدير فى النفوس، وما أنا إلا مشارك فى الفعاليات فى محور الإعلام وصناعة المحتوى، لى كلمة وبحث، ألقيها من منظور إعلامى بحت، فكيف بهم معك وأنت العالم الشيخ الأزهرى العَلَم؟كنت أهمس له بهذه الملاحظة بينما يلاحقه طلبة العلم من إندونيسيا، ليجيزهم فى رواية بعض الأحاديث النبوية المشرّفة.
يطاردونه على مداخل الفنادق ومحطات القطار وأمام الأسانسير وفى قاعة الطعام.. حتى مللتُ للرجل.
إلى أن قادنى طالع السعد والسعادة، حين كنت موجوداً وقد انتحى بثلة منهم جانباً، ليجيزهم فى رواية الحديث الشريف بعدما يقرأونه عليه، فيقر لهم الأخذ عنه ويقول لهم تفصيلاً عمن أخذ هذا الحديث وعمن أجيز بروايته من حفاظ وعلماء شتى فى بقاع العالم الإسلامى.
بدا وهو يسرد لهم هذه الوحدات الزخرفية المتصلة من النقل والرواية، كمن يرسم صورة أرابيسكية دقيقة لشبكات من العلم والتواصل بين الأفراد والأجيال والأمم والمدارس فى نقل الحديث الشريف وفى فهم سياقاته.
وبدت لى إبحاراً عابرا للزمان والمكان، وفهما لسلاسل النقَلة الكرام، ومؤشراً لكيفية استيعاب أجيال من الأمة لمحورية ومفصلية الحديث النبوى المطهّر المشرّف فى بنيان هذا الدين.
ووسط إجازتهم أُجزت أنا والحاضرون برواية هذه الأحاديث المشرّفة.. فصرت من الرواة المشرّفين بنقل أعظم الكلم على مدار العصور.
«عربيتك» قد تعني انتماءً هاشمياً للبيت النبوي المبارك من النسل الحسنى والحسينى المشرّف(ولهذا إيضاح فى مقال مستقل، إذ أريد أن أتوسع فى شرح معنى الإجازة والرواية على النحو الذى فهمته من موقعى «غير الشريعى» تخصصا، ولتوضيح زائد فى حالتنا هذه، إذ إن الإجازة كانت فى أحاديث مسلسلة، وهو نمط من الأحاديث المشرفة نُقلت على هيئة بعينها وبتسلسل وشرط بعينه من راوٍ إلى راوٍ على مدار خمسة عشر قرناً من الزمان، ولها خصوصية وسط عملية النقل والرواية بوجه عام).
إندونيسيا الدولة الإسلامية الأكبر تعداداً حول العالم.. والتصوف ضرورة حتمية لاحتواء ومواجهة تيارات التطرف المتسللة للمجتمعات المسلمة(4)
جرت فعاليات المؤتمر الذى توليه الدولة الإندونيسية اهتماماً بالغاً، تمثل فى حضور رئيسها ووزير دفاعها وكبار مسئوليها، فعاليات جلستها الافتتاحية.
الحبيب لطفى نموذج لم أصادف مثيلاً له اليوم فى دولة عربية.. والحالة الوحيدة المشابهة له هو المرشد الأعلى للثورة الإيرانيةالثقل الأكبر للمؤتمر ينبع من رعاية الحبيب محمد بن لطفى بن يحيى بن هاشم، شيخ الطريقة النهضية المعتبرة، ومستشار رئيس الدولة للشئون الدينية، لهذا المؤتمر.
والحبيب محمد بن لطفى ينتمى نسباً للسادة آل باعلوى، ذوى الأصول اليمنية والنسب الحسينى المبارك.
وقد جاءوا قبل أجيال بعيدة إلى هذه البلاد وأدخلوا فيها الإسلام حتى صاروا سدنته وشُرّاحه والقائمين على تفاصيله وتعليمه والعناية به والمنغمسين فى خدمته جيلاً بعد جيل.
وللحبيب محمد بن لطفى (الذى يتحدث الإندونيسية كأهلها، بوصفه ابن هذه البلاد، ويتحدث العربية حديث من تربى منذ نعومة أظافره فى بوادى العرب وحواضرهم) ثقل هائل فى المجتمع الإندونيسى ككل.. وتقدير من الجميع.
حتى إن رئيس الدولة السيد جوكو وديدو خرق البروتوكول أكثر من مرة مع الحبيب «لطفى» وهو ينهض له ليسند حركته أو ليتأبط ذراعه أو ليستقبله.
وهذه الحالة من خرق البروتوكول هى قرينة جاه وسلطان عظيم للحبيب لطفى على نفوس الجميع، حتى ليبدو مستثنى من كل القواعد، بل فوقها.. باتفاق ضمنى ورضاء عام بين الجميع.
فدولة إندونيسيا، وهى الدولة الإسلامية الأكبر تعداداً حول العالم، لم يكن التصوف والاعتدال خيارها العقائدى وميلها الذوقى ومشربها الروحى فحسب، بل كان ضرورة حتمية لاحتواء ومواجهة تيارات التطرف والدواعش والمتسلفنين وخلافهم من الذين يتسللون لكل مجتمعات الدول المسلمة.
فقبل واحد وعشرين عاماً شهدت إندونيسيا واحدة من أكثر الحوادث مأساوية على الإطلاق والتى لا تزال تُلقى بظلالها الكئيبة إلى اليوم، وهى «تفجيرات بالى» التى نفذها إرهابيو القاعدة عام ٢٠٠٢ فى جزيرة بالى الإندونيسية السياحية الشهيرة، فراح ضحيتها مئات الأبرياء والضحايا.
بل فى شهر أغسطس الفائت، وقبيل انعقاد المؤتمر بأيام، ألقت السلطات القبض على مشتبه فى انتمائه لداعش، وجدت وحدة مكافحة الإرهاب الإندونيسية فى بيته رصاصاً وعلَماً لتنظيم الدولة وأغراضاً أخرى.
ومن ثم فإن التصوف فى هذه البلاد، باعتداله وانضباط موازينه الشريعية، خيار صلب للدولة ككل.. وخيار مجتمعى يطابق التكوين النفسى لهذا الشعب المضياف الكريم المهذب الودود.
ومن ثم يجىء ثقل الحبيب «لطفى»، رأس التصوف الأبرز فى هذه البلاد، كضرورة تاريخية وواقعية.. عاطفية وعلمية.. دولتية ودينية.
والحبيب لطفى، من واقع مشاهدتى له عن قرب، رجل محير، يتصرف ببساطة، ويتحرك بتلقائية، ويسلم على الجميع، ويبتسم، ويكرم ضيفه.
وإذا أردت أن تفتش فيه عن شىء استثنائى يفسر هذه المكانة الهائلة، لن تجد حقيقةً شيئاً ما على هذه المسافة من التعرف، فبعض الرجال يُخفون خطرهم وعِظَم أمرهم داخل العادية المفرطة، وبعضهم يتمترس بالمظهرية الأخاذة لإخفاء نقصه، وبعضهم تتسق إطلالتهم الاستثنائية مع حالهم الاستثنائى.
إلا أن الحبيب لطفى، فيما يبدو، قد اختار الخيار الأول وهو يدرك قبل عقود أنه سيصير مفصلاً دقيقاً من مفاصل الحالة الإندونيسية.
أو هكذا بدا لى، هو ونموذجه الذى لم أصادف مثيلاً له اليوم فى دولة عربية.
بل ربما أقول إن الحالة الوحيدة المشابهة له هى حالة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، بكل ما يحال لهذا المنصب من صلاحيات وخصوصيات.
غير أن إندونيسيا لها خصوصيتها ووضعها بمعادلاته المختلفة كلية، وبجغرافيتها وما تمليه عليها.. فضلاً عن أن تحدى إندونيسيا داخلى بحت.
أو هكذا فهمت من الحالة العامة للبلاد.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: إندونيسيا مصر الأزهر الشريف الأزهر الشریف هذه البلاد ومن ثم
إقرأ أيضاً:
مؤتمر الأدباء يناقش “كتابات من واقع حرب أكتوبر” للروائي أحمد إبراهيم الشريف
يناقش مؤتمر الأدباء فى السادسة مساء اليوم بجامعة المنيا “كتابات من واقع حرب 1973.. البحث عن القيم فى خطاب المعركة” للروائي الدكتور أحمد إبراهيم الشريف.
ويشارك الدكتور أحمد إبراهيم الشريف، ببحثه ضمن الجلسات البحثية الخاصة بالدورة الـ36 للمؤتمر العام لأدباء مصر "دورة الكاتب الكبير جمال الغيطاني"، والمقامة برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، واللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، وتنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة، بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، تحت عنوان "أدب الانتصار والأمن الثقافي.. خمسون عاما من العبور".
خالدة عبر تاريخ مصر والعالم
ويقول الكاتب الروائى الدكتور أحمد إبراهيم الشريف إن حرب أكتوبر 1973 ستظل خالدة عبر تاريخ مصر والعالم أجمع، لما مثلته من أثر كبير فى موازين السياسة فى المنطقة.
وأشار إلى أن الإنسان المصري هو البطل، وأن إرادته وإيمانه بوطنه هما مفتاح كل شيء، كما أن الإعداد الجيد عامل أساسي فى النصر ولا يمكن التخلي عنه أبدًا.
وأوضح أن قيم الوطنية والشجاعة والتضحية والإنسانية شكلت هوية الجندي المصري.
وخلُص "الشريف" إلى أن التاريخ المصري يمكن تكوينه وتشكيله من طرق عدة وليس فقط الاكتفاء بما يكتبه المؤرخون بشكل مباشر، كما أن الشخصية المصرية قوية تظهر فى وقت الحاجة، والإيمان بالوطن عميق ومستقر فى الوجدان.
وننشر تفاصيل البحث كاملاً
مقدمة: الحروب علامات فاصلة فى تاريخ البلدان، سواء حروب الهزيمة أو حروب النصر، فكل منها تترك أثرها، وتصنع علامات فارقة لا يمكن تلافيها أو تناسيها، وبالطبع لا يمكن أبدًا تجاوزها.
ودراسة مدونات من واقع الحرب بكل ما تشمله من رسائل ومذكرات ويوميات وشهادات وكتب تحليلية وأفلام وثائقية وأفلام سينمائية ومقتنيات وغيرها، يعني الكثير من باب حفظ ذلك التراث، ومن باب تحليله وتقديم قراءات جديدة لهذه الحروب مما يساعد على فهمها أكثر، وفهم ملابساتها، وتقريب الوضع الذي كان محيطًا بالأطراف المشاركة.
وتعد حرب السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، واحدة من أشهر الحروب فى القرن العشرين ، وذلك على الرغم من كون هذا القرن شهد حربين عالميتين وحروبًا أخرى منتشرة فى كل البلدان، لكن حرب أكتوبر لها وضع سياسي مهم، وقد لفتت الأنظار إليها بقوة، ولا تزال حتى الآن ذات دلالة وتحتل مكانة جوهرية فى العلاقة بين مصر والعرب من جانب وجيش الاحتلال الإسرائيلي من جانب آخر.
وتمر هذا العام خمسون سنة على هذه الحرب، التي يحلو للبعض أن يطلق عليها حرب التحرير، والتي تملك "مدونة" مهمة تستحق القراءة ومزيدًا من القراءة، كي نلقي نظرة متقنة - قدر ما نستطيع - على هذه الفترة المهمة من تاريخ الوطن، والتي كان لها تأثير كبير في تشكيل المجتمع المصري إثر انتهاء هذه الحرب، وعودة العلم المصري مرة أخرى ليرتفع على الجهة الشرقية من قناة السويس.
وندرس هنا بعض النماذج من مدونة الحرب ، ونقدمها بصفتها بعضًا دالًا على الكل، وإشارةً معبرة عن المجموع لكل ما جرى وحدث، ونتوقف عند المعلومات ونحللها قدر ما نستطيع بحيث نضيء جانبًا من طريقة التفكير فى ذلك الوقت.
ونستخدم فى قراءتنا نوعًا من البلاغة الحديثة تتعلق بما يسمى بـ "تحليل الخطاب" إذ إننا نتعامل مع "المدونة الأكتوبرية" – إن صح لنا أن نستخدم هذا التعبير- بوصفها خطابًا موجهًا إلى آخر، أيَّا كان هذا الآخر، ونسعى من خلال كشف هذا الخطاب ومضامينه وحججه وطرق إقناعه إلى فهم عقلية وشخصية المساهمين فى هذه المدونة.
وتظهر أهمية تحليل الخطاب باعتباره "آليات تساهم في الإجابة عن عدد من الأسئلة المتعلقة بدور اللغة في الحياة الاجتماعية، كما يساعد في الإجابة عن الأسئلة التي طرحت في حقول معرفية تقليدية مثل الأنثروبولوجية والدراسات الثقافية وعلم النفس وعلم الاتصال وعلم الاجتماع؛ وهي حقول تركز على حياة الإنسان وتواصله، وذلك من خلال تشخيص الممكن من مقومات الخطاب المعرفية والعلمية والدينية والاجتماعية... إلخ، والنظر في علمية المعرفة التي يستند إليها، زيادة على النظر في طبيعة الأدلة التي يستند إليها، والاهتمام بطريقة تشكله من خلال عباراته، والتحقق في الكيفية التي تربط الجمل المتتالية فيه، والاتحاد بينها من أجل بلوغ المعنى، والبحث عن الانسجام" .
مقتنيات المدونة
اخترنا في هذه المدونة مجموعة مميزة من النصوص تقدم في مجملها حقلًا دالًا على ثراء الوسيط الثقافي الذي تناول الحرب وما جرى فيها:
1- رسائل شخصية للشهيد أحمد محمد جعفر، استشهد في نهاية شهر أكتوبر 1973، وقد اطلع الباحث بنفسه على هذه الرسائل التي توجد في حيازة الأسرة . والرسائل تكشف جانبًا مهما من حياة الجنود في الفترة التي سبقت الحرب مباشرة، كما أنها حافلة بقيم مهمة مثل الشجاعة والصداقة والوطنية والتفاني.
2- مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس، لأحمد حجي، ومن خلالها استخلص الباحث صورة لحرب الاستنزاف، من خلال اليوميات المكتوبة في الفترة من 1969 وحتى نهاية 1970، وكشفت هذه اليوميات مدى الاستعداد والشجاعة والمعاناة أيضًا في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الحرب.
3- على خط النار، يوميات الكاتب جمال الغيطاني، والتي نشرت في صحيفة الأخبار زمن الحرب، ومثلت يوميات مباشرة للأحداث التي وقعت والانتصارات التي توالت، وهو يكشف أيضا من وجهة نظر المراسل الحربي قيمًا مهمة مثل الشجاعة والوطنية، كما يكشف لنا قيمة التضافر الشعبي ومشاركة المدنيين فى اكتمال النصر.
4- مذكرات العميد أركان حرب عادل يسري "رحلة الساق المعلقة"، وتأتي أهميتها بسبب التضحية الكبيرة التي قدمها صاحب المذكرات، وكيف تقبل هذه التضحية بكل صبر ومحبة فى حرب أكتوبر المجيدة.
إن هذه المدونة المتنوعة قدمت في اكتمالها معًا خطابًا ثقافيا مهمًا نستطيع بقراءته أن نحيط بدرجة جيدة بالحالة الإنسانية والثقافية والوطنية والشعور العام والجو العام الذي كان محيطًا بالحرب.
القيمة والاستراتيجية في مدونة الحرب
نقرأ المدونة التي اخترناها من خلال مستويين يكملان بعضهما كأنهما معادلة منطقية، المستوى الأولى يتعلق بالقيم التي يقدمها الخطاب؛ وهي متنوعة مثل (التضحية والشجاعة والوطنية، والصداقة)، والمستوى الثاني يتعلق بالاستراتيجيات التي قدمها الخطاب خلال هذه القيم، وهي تتعلق بتقنيات معينة وحجج معتمدة على اللغة والوسائط الثقافية والمعلومات التاريخية والقصص الشخصية والاعترافات والتصوير والتوثيق وغيرها.
أولا: الرسائل.. قيم مخضبة بالدم
اتفقنا على أن تحليل الخطاب يتعلق بكشف أبعاد "المدونة" من خلال تشكيلها اللغوي بوصفها "نصًا"، ودراسة الظروف والمؤثرات المحيطة بهذا النص من خلال السياق، ومعرفة الاستراتيجيات الحجاجية والطرق الإقناعية لتحقيق غاية الخطاب، واستنطاق الرموز المنتشرة داخل العمل ، ويمكن تطبيق ذلك فى قراءتنا للرسائل الشخصية التي دارت فى حرب 1973.
والرسائل يمكن أن ننظر إليها بوصفها فكرة تواصلية، غرضها الرئيسي هو الإخبار، أو ننظر إليها بوصفها "فنًّا" بجانب كونها تواصلية، فهي فنية لها أصول وأحكام، وقد عرفها التهانوى بأنَّها "الكلام الذى أرسل إلى الغير" وقد عرفت الثقافة العربية الرسائل كفن منذ قديم، لكنه فن ازدهر فى القرنين الثالث والرابع الهجري، ولعل رسائل إخوان الصفا النموذج الفني الذي حظي بدراسات عديدة لما لهذه الرسائل من أهمية.
ونحن الآن فى مواجهة نوع آخر من الرسائل، هي الرسائل الشخصية، بكل ما تحمله من خصوصية، وهذا النوع متعدد بين رسائل الغرام ورسائل السفر والغربة، ورسائل الصداقة، ورسائل الحرب، وهي ما تهمنا فى هذا الشأن.
ورسائل الحرب هي الرسائل الشخصية القادمة من أرض المعركة أو الذاهبة إليها، وبداية هي رسائل تحمل أهمية كبرى منها:
• طالما أُرسلت فمعناها أن المرسل لا يزال على قيد الحياة، لذا فإن الأهل كانوا يبتهجون بالرسائل منذ يهل ساعي البريد عليهم، لأنه يسري لديهم إحساس بأن ابنهم الموجود فى المعركة الآن لا يزال حيًّا يرسل الخطابات ويرسلونها إليه.
• إن الرسائل تعنى أن حالة المرسل جيدة، لأنه لا يزال قادرا على إرسال الرسائل، وبالتالي هو ليس فى ورطة كبيرة أو ما شابه.
• يستقي الناس المعلومات من الرسائل، فهم لم يذهبوا إلى ساحة الحرب، ولم يعرفوا ما الذي يجري هناك، وبالتالي فإن خيالهم يتسع مع كل جملة تأتي فى الرسالة حتى لو كانت عامة أو مبتورة ولم تقدم كثيرًا، لكن المتلقي يُعمل خياله ليصل إلى تصور معين.
رسائل الجندي المقاتل أحمد محمد جعفر
أول ما أقوله عن هذه الرسائل أنني أمسكتها بيدي وشممت رائحتها العتيقة، رسائل عمرها خمسون عامًا، تخص الشهيد المقاتل أحمد محمد جعفر بالوحدة 683، رسائل عليها دم الشهيد بالمعنى الفعلي، فقد استشهد وهي فى حوزته.
1 - خط يد الشهيد .. الحياة والموت فى صفحة واحدة
استشهد أحمد محمد جعفر في الأيام التي تلت حرب أكتوبر 1973، رحل بعدما ذاق طعم النصر وعرف فرحة العبور، وضمن مقتنياته التي عادت إلى أسرته في الجيزة مجموعة من الرسائل التي كانت مرسلة إليه، لكن من ضمن مقتنياته كانت ورقة كتب على وجهها اسم حبيبته، ورسم على ظهرها صورة دبابة.
هذه الثنانية بين الحب والدبابة تكشف بصورة أساسية نفسية المقاتل الذي يجمع بين محبة الحياة والاستعداد للموت، فالجمع بين (الحياة والموت) في ورقة واحدة وجه/ظهر، بمثابة أيقونة تختصر المرحلة كلها.
والملاحظ أن المقاتل أبدع في كتابة اسم حبيبته "بشرة" التي يسميها "أونا" رسمها كأنها لوحة، أما الدبابة المرسومة باللون الأحمر فهي رسم "كوروكى" تعليمي، كأنه واجب عليه مذاكرته ودراسته.
إن الصفحتين تعبران عن قيمتي الموت والحياة فى مواجهة بعضهما، إنهما يتصارعان في ورقة واحدة.
2 - خطابات الأصدقاء.. رسالة الوداع
إن الكم الأكبر من الرسائل التي كانت بحوزة الشهيد المقاتل أحمد محمد جعفر تعود إلى أصدقائه، هم أرسلوها له، وهو احتفظ بها حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
وكانت معظم رسائل الأصدقاء من المقاتل بهاء الدين عبد الله بالوحدة 1059، وسنتوقف عند رسالتين، ومن قراءتنا نفهم أنهما الرسالة الأولى والرسالة الأخيرة.
يقول فى إحدى الرسائل، وهي ليست مؤرخة، لكن نفهم أنها أول رسالة من بهاء الدين إلى أحمد محمد جعفر؛ لأنه يقول "وهكذا كنت صاحب فضل إذ بدأت بالمراسلة كما كنت صاحب فضل دائما فى كل أفعالك وتصرفاتك" ، هذه الجملة ترجح لنا أنها كانت ردًا من بهاء الدين على رسالة من أحمد محمد جعفر – وهي رسالة لم نقرأها - أي أنها الرسالة الأولى، وهي تكشف صفات فى شخصية أحمد محمد جعفر؛ إذ إنه صاحب فضل ولديه مبادرة التواصل مع الأصدقاء، كما أنه محبوب منهم، وهذا ما تؤكده رسالة أخرى من المقاتل إبراهيم عباس أحمد من الدفعة 7451، والتي يقول فيها إنه فرح جدًا عندما وصلته رسالة من أحمد فيصف الخطاب بأنه "من عند أعز الأحباب وكدت أطير من الفرحة" .
والرسالة الأخيرة، ويمكن أن نطلق عليها "رسالة الوداع" فهي مؤرخة بيوم 21 سبتمبر 1973، أي أنها قبل الحرب بنحو 15 يومًا فقط، كتب بهاء الدين فيها إلى أحمد يخبره بأنه إجازة حتى يوم 22 سبتمبر، وأنه ذهب إلى بيت أحمد لكنه لم يجده إجازه، أي أنه على الجبهة، فقال له "وأنا زعلت جدا علشان لم يسعدني الحظ وأراك. ولكن هذه ظروف ولم نتحكم فيها" وأعتقد أنه لم يره مرة أخرى، وأن هذا الخطاب كان الأخير.
والأعمال الأخيرة دائمًا ما تكون لها قداسة معينة، وتحظى بتأويلات مرتبطة بالحدث الذي أتى بعدها، وهو حدث الاستشهاد، الذي ينكعس علينا، فنعرف مدى الحزن الذي صاحب بهاء الدين عندما علم باستشهاد أحمد دون أن يراه.
3 ـ رسائل الأهل.. رسالة لم يقرأها الشهيد
سنختار من رسائل الأهل رسالة لها قصة خاصة، فقد أرسلوها إلى المقاتل أحمد محمد جعفر، ولم يعرفوا أنه استشهد، وبالتالي هي الرسالة الأخيرة التي أُرسلت إلى الابن على الجبهة، والتي لم يقرأها أبدًا.
يقول محمد عبد المجيد فى الخطاب الذي أرسل فى يوم 2 -11- 1973 "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى السيد المحترم أحمد محمد جعفر (حفظه الله) أبعث إليك سلامي من كل أعماق قلبي مع فرحتي لك ولإخوانك المقاتلين فى سبيل الله، وبإذن الله وحده سيزيدكم الله مزيدًا من الانتصارات الرائعة الباهرة ضد أعداء الله والوطن.
لقد سمعنا الكثير من أنباء الانتصارات العظيمة التي كتبها الله عليكم كما وعد الله المؤمنين بالنصر القريب، أما بعد، لقد طمأن الجواب الذي بعته مع صديقك إلى المنزل والحمد لله قد اطمأننا عليك، واستقبلنا جوابك بالأفراح، وكان الجواب مكتوب عليه النصر، ومن قراءة الجواب عرفنا مدى انتصاراتكم العظيمة، التي سيتحدث عنها كل مواطن، على ظهر الدنيا والبشرية أجمع، لقد سجلتم الكثير من الانتصارات فى أيام معدودة على عدو الله وعدو البشرية، لقد فرح أبوك بالانتصار" .
هذه بداية الخطاب التي تكشف أثر النصر العظيم على الشعب المصري، وصولًا إلى جملة "لقد فرح أبوك بالانتصار" وهي جملة مفتاحية لفهم الخطاب، وفهم الشعب كله، وكيف تحققت الأماني، وكيف صارت صورة الجندي المصري فى نظر الناس في قمة السلم الاجتماعي.
هنا نجد حججًا لغوية ذات أصول دينية؛ فالله ينصر المؤمنين، والسياق الديني فى المجتمع المصري عامل أساسي فى فهم الحياة، كما أن الخطاب يقدم حجة مفادها أن إسرائيل هي العدو الأبرز للمجتمع المصري وللإنسانية ولله أيضًا، وذلك معناه أن الجنود المصريين لا يحررون الأرض فقط، لكنهم يجاهدون فى سبيل الله، وبالتالي يقودنا هذا السياق إلى تقبل الشهادة بعد ذلك، لأن الشهيد كان فى سبيل الله وله الأجر العظيم والثواب.
4ـ الدم يخضب الخطابات.. اكتمال الأسطورة
يظهر من تاريخ الخطاب الأخير الذي لم يقرأه الشهيد أحمد محمد جعفر أنه استشهد قبل حلول شهر نوفمبر؛ أي أن النهاية كانت فى نهاية شهر أكتوبر، ولا نعرف كيف استشهد لكن أثر دمه على الخطابات دال بقوة، والدم له مدلولات عديدة منها الإخلاص، ومنها الفداء، ومنها التضحية، ومنها الثبات للنهاية.
ثانيا: اليوميات.. يحدث فى زمن النصر
تعد اليوميات مرتكزًا مهمًا لفهم هذه المرحلة، وهي غنية بتفاصيل الوقت والمكان، ويمكن أن نقسمها إلى نوعين؛ الأول يتعلق بما قبل حرب التحرير، أي أنها يوميات تتعلق بحرب الاستنزاف، والثانية تتعلق بحرب أكتوبر وما بعدها.
1- يوميات ما قبل الحرب.. مذكرات جندي مصري
يمكن لنا أن نعتمد على كتاب "مذكرات جندي مصري.. في جبهة قناة السويس" لـ أحمد حجي، والصادر عن دار الكرمة .
بداية، تجب الإشارة إلى أن أحمد حجي الذي استشهد فى سنة 1972 ـ أي قبل اندلاع حرب التحرير ـ قد كتب يومياته بدءًا من يوم الأربعاء 2 أبريل 1969، وأنهاها يوم الأحد 19 ديسمبر1970.
يبدأ الكتاب بمقدمة مهمة جدًا يظهر فيها صوت أحمد حجي، يقول فيها "منذ أن وصلت إلى جبهة القتال في الخط الأمامي، تلح عليَّ ذاكرتي أن أسجّل ما يحدث وما يجري في مواجهتنا للعدوّ الصهيوني، وأقول حقيقة بأن الذي أكتبه وما يجري به قلمي ليس إلا النزر اليسير. وإذا لم توفيني منيتي أو يدركني الموت فسوف أقصّ على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم. أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحًا، لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز الحركة. وبذلك تكون هذه المذكرات هي حديث الرصاص الذي يجب أن تتكلم به قضية شعبنا" ، هذا ما كتبه أحمد حجي يوم 5 أبريل من سنة 1969، وهنا تستوقفنا استعارة مهمة هي "حديث الرصاص" وهي تنقل لنا مستوى الحزم والغضب الساكن فى نفس أحمد حجي تجاه العدو الصهيوني، والوعد الذى قطعه على نفسه بصفته جنديَّا محبًا لوطنه ومستعدًا للنصر أو الشهادة، فقد أشار إلى الناحيتين، وتحدث عنهما بصورة إيجابية "سأموت مستريحا".
ويقول الكتاب "كم سيشرفني أن أكون جنديًا يشارك في معركته، وكم سأكون قريبًا من نفسي وأنا أراقب سيناء منتظرًا مع المنتظرين يوم تحريرها" ، هذه رسالها تركها أحمد حجي على ورقة كي تصل إلى أخيه فى قريتهما البعيدة، ويمكن من خلال قراءتها أن ندرك مدى سعادته بذهابه إلى المنطقة الشرقية في القنطرة غرب، وقد اختار بكامل إرادته أن يذهب إلى هناك، وهو يدرك تمامًا مدى الخطورة التي ستواجهه، لكن هذه الرسالة تكشف لنا الروح التي كانت منتشرة بين عدد من الجنود المصريين، والأمل الذي كان يقود خطاهم ويتحرك بهم للأمام.
في الكتاب يستوصي الجنود بعضهم "يجب أن نكون رجالا" ، وهي جملة تكشف لنا حالة الاستعداد والاستنفار التي صاحبت الجنود، وهم هنا جنود مستجدون يذهبون لأول مرة إلى خط القتال.
أما جملة "النصر لنا" فقد قرأها أحمد حجي، على جدار بيت متهدم فى إحدى قرى القناة، يقول "مفارقة عجيبة.. حائط ما زال قائما في القرية وقد خطت عليه يد صغيرة ، يبدو أنها لطفل فى المدرسة الابتدائية "النصر لنا" ، إن مثل هذه المشاهد التي يقدمها أحمد حجي تكشف لنا العزيمة التي كانت مستقرة فى نفوس المجتمع المصري، بكل من فيه الكبار والأطفال، فلا حل سوى النصر، وهو قريب وآتٍ.
إن شخصية "عم بيومي" التي تحدث عنها "حجي" في مذكرات يوم 7 أبريل 1969 تقدم لنا وجهًا حقيقيًّا للمجتمع المصري؛ حيث الفلاح الذي رفض أن يغادر قريته ويترك أرضه وبقي مع أسرته فى تحدٍ صارمٍ للاحتلال، فهو يعمل فى حقله ويساعد الجنود فى حمل السلاح، ويقدم لهم زجاجات اللبن كل صباح، ولا يتوقف عن مطالبة الجنود بأن يعطوه سلاحًا شخصيًّا يدافع به عن الأرض.
وقدم أحمد حجي من خلال مشاهد قصيرة حالة للجنود وتربصهم وفرحهم وأحزانهم وأفراحهم، وقدم صورًا مدهشة لأبطال كانوا يعبرون القناة فى جنح الليل كي ينفذوا عمليات عسكرية ويخربوا منشآت العدو، منهم أبطال لا يعرفهم أحد يقومون بواجبهم تجاه أوطانهم خير قيام، كذلك أشار إلى رجال المقاومة الشعبية وبطولاتهم المعروفة.
والكتاب يعتمد للتأثير في القارئ والمتلقي على قصص الشهداء والجنود الذين يرفضون أن يتركوا أماكنهم رغم انهمار الصواريخ عليهم، فيظلون يواجهون الأعداء حتى الاستشهاد وهم يحتضنون مدافعهم، وكيف كان الزملاء الباقون ينتقمون للشهداء فيدمرون مواقع العدو ويقتلون جنوده.
وجملة مثل "البعض يتلو آيات من القرآن والبعض يتلو فقرات من الإنجيل كلما اهتز الملجأ من قوة الانفجارات الصاروخية" يقول لنا أحمد حجي فيها إن الجنود بشر، يخشون الموت ويحتمون بكلام الله فى مواجهة الهجوم عليهم، وهذه البشرية التي يتحدث عنها الكتاب هي سبب أساسي فى العظمة التي تلحق بهؤلاء الجنود الذين يخوضون الحرب على الرغم مما يشعرون به من خوف من الموت ومحبة للحياة.
وفى يومية كتبها بتاريخ 30 مايو 1969 بعث رسالة إلى والده يقول فيها "أرجو يا والدي ألا يكون عطفكم عليَّ يضعفني، فأنا أتألم وأتعذب لأني أحس أنكم دائمًا قلقون عليَّ، وأصدقكم القول إن العدو لا يحرك شعرة واحدة في رأسي، ولكن ما يؤلمني ويقشعر له جسدي، وتسيل الدموع حارة وملتهبة من أجله، هو خوفكم وقلقكم من أجلي" ، تقدم لنا هذه اليومية الحالة النفسية للجنود، فهم أقوياء فى مواجهة العدو، ويعترفون بأنه لا يحرك شعرة منهم، لكنهم وهم يقومون بواجبهم يفكرون فى قلق الأهل عليهم، بما يدل على أن مصر كلها كانت مشغولة بما يحدث على الجبهة، فلدينا جنود يقاتلون وأهل قلقون يترقبون.
ونقل أحمد حجي عددًا من الرسائل كانت تصله على الجبهة من تلاميذ المدارس الذين لا يعرفهم شخصيًّا لكنهم يرسلون الرسائل ويسلمون على الجنود ويسألون أسئلة تدل على مدى اهتمامهم بالقضية.
وجزء مهم من قوة خطاب الكتاب اعتماده على قدرة أدبية فى اللغة وفي وصف الشخصيات وتقديمها، وذلك يصنع درجة عالية من التشويق.
وحجة أخرى مهمة في خطاب اليوميات هي إنسانية الجنود، فلن نستطيع أبدًا أن ننسى الجندي الذي مات كلب أمام عينيه بعد أن أصابته شظية، فحمله الجندي ودفنه، وظل وفيًّا لذكراه، كل يوم يضع على قبر الكلب الميت جريدة نخل خضراء ، أو الجندي الذي يستحلفه أهل قريته بأن يأتي لهم برأس "موشى ديان" وكان يكتب ذلك فى الخطابات التي يرسها لهم "قريبا سآتي لكم برأس موشي ديان" .
حجة أخرى فى الكتاب تتمثل فى التأثير فى الحواس، فكلما قرأت عبور جماعة من الجنود الأبطال للقيام بعملية في سيناء، يقصها أحمد حجي بتشويق كأن العبور يحدث الآن، تجد نفسك منفعلًا قابضًا على دمعك تخشى أن ينتبه العدو ويؤذى الأبطال.
إن الشعب كله كان يفكر فى النصر الآتي، والكتاب يمنح طلبة الكليات الذين كانوا يتطوعون ويذهبون لخدمة الجنود ومساعدتهم بعض الوقت، يمنحهم مساحة كبيرة تدل على أن الجميع كان على قلب رجل واحد.
كما أن الاستشهاد بجيفارا وشخصيته الآثرة فى ذلك الوقت بمثابة حجة مهمة، كي نفهمها، لا بد أن ندرك أن جيفارا كان قد تحول إلى رمز بعدما قتل في أحراش بوليفيا، وعندما كتب عنه أحمد حجي كان قد مر عامان على موت جيفارا.
وأهم الحجج فى الكتاب هي القصص الحقيقية للأبطال، القائد الذي بترت ذراعه ورفض أن يغادر موقعه أو حتى يعالج جراحه قال لحجي "لا داعي فقد بترت ذراعي .. ضمد جراح الآخرين" ، وظل يقاتل حتى استشهد بعدما أسقط طائرة إسرائيلية وانتقم لنفسه، جندي آخر ظل قابضا على رقبة جندي إسرائيلي حتى الموت، فعل ذلك بينما في صدره خنجر مزروع فى قلبه استشهد به .
إن الحكمة من الكتاب تكمن فى جملة "في الجبهة يولد الإنسان الجديد" هذه الجملة التي كتبها أحمد حجي فى يوم الأربعاء 5 أغسطس 1970، بعد كل هذه اليوميات التى ذكرها تكشف عن معناها الفعلي، فهنا كما قال: وراء كل خبر عسكري قصة لإنسان ولد من جديد على الجبهة، إنسان يعرف كيف يحب وطنه، ويعرف معنى الواجب" .
2- على خط النار.. يوميات مراسل حربي
ظهرت العديد من اليوميات التي قدمها المراسلون الحربيون في حرب 1973 منها "6أكتوبر الحرب الإليكترونية الأولى لمحمد عبد المنعم، عن مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، عام 1974، وحرب الساعات الست لعبد الستار الطويلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ببيروت، 1974، والعسكرية المصرية فوق سيناء لحمدي لطفي، عن دار الهلال 1976، ويوميات أكتوبر في سيناء والجولان لعبده مباشر، عن دار المعارف، 1976" وغيرها الكثير، لكن سنتوقف مع الكاتب الراحل جمال الغيطاني بوصفه كان مراسلًا حربيا منذ حرب الاستنزاف وحتى انتهاء حرب أكتوبر، وقد كتب يومياته ونشرها فى سنة 1974 "على خط النار.. يوميات حرب أكتوبر" ، ويضم الكتاب رسائل وتحقيقات وتقارير صحفية مؤرخة بمواعيد نشرها فى جريدة الأخبار، وفيها حديث مع الجنود وما قاموا به، وفيها رسائل، وفيها شهادات مباشرة من الحرب وآثارها، وتعليقات على النصر وتوابعه.
وجاء في الكتاب تقرير بعنوان "رأيتهم يستسلمون.. جيش مهزوم رؤوسهم منكسة.. وعيونهم زائغة" وهذا التقرير نشر فى الأخبار بتاريخ 14 أكتوبر 1973، وفيه شهد جمال الغيطاني بأم عينيه جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وهم يستسلمون للجيش المصري، وهذا التقرير يتناول فيه الغيطاني سيطرة القوات المصرية على أحد المواقع الحصينة الخاصة بجيش الاحتلال الإسرائيلى على الضفة الشرقية.
إن استخدام جمال الغيطاني لفظة "رأيتهم" فى عنوان التقرير تؤكد المصداقية الكبيرة، وأنه شاهد عيان على ما حدث، كما أن استخدام الضمير "هم" وإلحاقه بالفعل "رأيت" يدل على التقليل من العدو واعتباره لا يستحق التصريح باسمه، لأنه فى اللغة كان يجب أن يسبق الضمير تصريح بالاسم يعود عليه الضمير، لكن ذلك لم يحدث، والعنوان كله لم يذكر فيه اسم إسرائيل ولا جيش الاحتلال، لكنه اعتمد على الضمائر، واعتمد على السياق العام، الذي يجعل القارئ يعرف أنه يتحدث عن جيش إسرائيل المهزوم.
بعد ذلك يبدأ جمال الغيطاني التقرير بجملة "قال أحد المقاتلين" وبالطبع يقصد المقاتلين المصريين، وهذه بداية قوية للتقرير؛ لأنه يعتمد على مقولة قول، وهي حجة مهمة فى بناء الجملة، تعطي التقرير مصداقية أيضًا، لأنه يعني أن الكاتب جمال الغيطاني قد التقى بأحد المقاتلين وتحدث إليه ونقل عنه.
ويكتب جمال الغيطاني معتمدًا على رواية المقاتل الذي ظهر فى أول التقرير "أحد المقاتلين من أبناء صعيد مصر بعد أعوام طويلة أضمر فيها الثأر، اندفع يهاجم هذا الموقع، كانت المقاومة عنيدة وقاسية، وكانت التحصينات القوية تساعد العدو على التمركز خلفها، والبقاء أطول وقت ممكن، أمسك المواطن الأسمر قنبلة بيده، وصاح تحت وابل الرصاص:
- أنا جاي لك
واندفع في مدخل الخندق، رمى القنبلة تجاه أحد المزاغل التي كانت تطلق النيران على زملائه واستشهد المقاتل بعد أن أسكت أحد مواقع العدو" ، هذه واحدة من الحكايات التي أوردها تقرير جمال الغيطاني، والتي يؤكد من خلالها أن النصر فى حرب التحرير لم يأت مجانًا، بل دفع المصريون ثمن ذلك من دمائهم وأرواحهم، وقد ذكر هنا أن "جندي من صعيد مصر" لم يقل اسمًا معينًا، لكنه قدمه بوصفه رمزًا لكل جنود مصر، وأيقونة دالة على محبة الوطن والتضحية.
أما جوهر التقرير وهو ما كتب جمال الغيطاني اليوميات من أجله، فذلك حينما يصف أسرى الموقع الحصين الذي استسلم للقوات المصرية "الأسرى سبعة وثلاثون فردًا، منكسوا الرؤوس، عيونهم زائغة، ممزقوا الثياب، ملامحهم غريبة، خليط متناقض، منهم القادم من أمريكا وبولندا وأوروبا وجنوب أفريقيا، خليط كالعصابة، كأنهم قطيع أغنام، يتلاصقون بجوار بعضهم، يطلبون في شراهة الماء والسجائر، وتقدم إليهم السجائر والمياه" هذه الفقرة مهمة جدًا لفهم الموقف كاملًا، نحن الآن في لحظة انتصار، الجيش المصري استطاع أن يسيطر على الموقع الحصين شرق القناة، وراح جنود العدو يستسلمون، ويصفهم جمال الغيطاني ـ حسبما رآهم ـ بما يليق بأسرى مهزومين، لكنه ينتبه إلى أمرين مهمين فى وصفهم؛ حيث التناقض فى ملامحهم وأصولهم فهم قادمون من دول مختلفة؛ أجناس وأعراق مختلفة ومتباعدة ومتناحرة؛ بما يؤكد أنهم "عصابة"، وقد وفق جمال الغيطاني فى تشبيه جيش الاحتلال بالعصابة، وهو هنا يتكئ على أصل، هو أنهم من أماكن وبلدان متفرقة، كما يحدث بين العصابات التي لا يجمع بين أفرادها سوى محبة الإيذاء.
وجانب آخر مهم قدمه جمال الغيطاني كشف جزءًا مهمًا من شخصية الأسرى الإسرائيليين هو أنهم شرهون فى طلب الماء والسجائر، بما يدل على أنهم ليسوا مهمومين بما حدث لهم من كارثة، إنهم فى هذه الحالة يشبهون جنودًا مرتزقة، ليس مهمًا أن الهزيمة قد لحقت بهم، كأنهم غير معنيين بجيشهم، ولا بكيانهم، وفى ذلك يضربهم جمال الغيطاني فى أصل مهم من أصول الوطنية، فهم مشغلون بالماء والسجائر وليس فى قلوبهم غصة من الهزيمة.
وفى المقابل قدم الغيطاني الجيش المصري وهو يتعامل بحرفية كبيرة ويمنحهم الماء والسجائر، وذلك ليس محبة فيهم ولا رأفة بهم، لكن احترامًا للقوانين الدولية المتعلقة بحقوق الأسرى، وهو ما يريد أن يؤكد عليه جمال الغيطاني، الذي يعقد فى النهاية مقارنة مهمة بين الفريقين فيقول "هنا تتجسد صورتان متناقضتان تمامًا، حضارة عمرها سبعة آلاف سنة تدافع عن نفسها ضد مجموعة من الشراذم" وهي صورة تفتح باب التخييل واسعًا، وتسوق حججًا تاريخية وثقافية وجغرافية عديدة، وتكشف عن رؤية الغيطاني الشخصية فى جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وفي صورة مقابلة يختتم جمال الغيطاني التقرير بقوله "الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. تحيا مصر.. تحيا مصر. يرفع قائد التشكيل يده بالتحية العسكرية" إنها صورة تعتمد على المقارنة التي تكشف الفارق بين جيش منتصر وجيش مهزوم، صورة تليق بمصر وبحرب عظيمة تليق بها، مستعينة بالله وبالإعداد الجيد، وبعظمة الجنود وكاريزما القادة.
ثالثا: المذكرات.. العلامة الفارقة
تمثل المذكرات وثيقة حية على ما جرى بالفعل، وهي وإن كانت تُكتب بعد انتهاء الحدث، لكن من شروطها أن الذي يكتبها أو يرويها يكون مشاركًا بالفعل فى أحداثها، وبالتالي يكون معاصرًا للحدث، فهي بمثابة شاهد عيان، لكن يميزها أن فيها قليل من التأمل لما حدث وجرى.
والمذكرات المتعلقة بحرب أكتوبر 1973 كثيرة؛ منها مذكرات الفريق عبد المنعم خليل، ومذكرات حرب أكتوبر للفريق سعد الشاذلي، ومذكرات الجمسي، لكن سنتوقف مع واحدة من أهم المذكرات هي "رحلة الساق المعلقة.. من رأس العش إلى رأس الكوبري":
مذكرات رحلة الساق المعلقة
"العربة المدرعة تسرع ليلًا
إنها تتحرك بصعوبة فوق رمال سيناء متجهة إلى الغرب إلى قناة السويس.. من عند النقطة121 على مسافة 19كم شرق القناة..
داخل العربة ثلاثة أفراد.. سائق ومساعد وقائد جريح يرقد على الكرسي الخلفي.. وجهه إلى السماء يتفحص النجوم بينما ساقه اليمنى تنزف بغزارة وعلى بعد قليل منه باقي الساق والقدم.."
هكذا يبدأ العميد عادل يسري مذكراته المهمة "رحلة الساق المعلقة.. من رأس العش إلى رأس الكوبري"، وهي واحدة من أشهر مذكرات حرب أكتوبر1973، يبدأها من النقطة المركزية، نقطة الذروة، والمشهد الذي يظل خالدًا في الذاكرة، وهي تقنية روائية وسينمائية معروفة ومجربة، ودائمًا ما تأتي بنتيجة إيجابية.
والخطاب في المشهد السابق غامض فلا نعرف أي من الشخصيات فيه؛ لا السائق ولا المساعد ولا القائد المصاب، لكن عيوننا تتخيل الساق التي تنزف وعلى مقربة منها بقيتها المقطوعة، وبما أننا في حرب فهي حتمًا مصابة في الحرب، لكن لا نعرف الكواليس، ولا نعرف الزمن بالتحديد.
المكان فقط هو المعروف، إنها سيناء وبالتحديد قرب الضفة الشرقية من سيناء، وبالتالي سنستشف أنها حرب دائرة أو على الأقل إحدى العمليات التي كانت تقع ضد جيش الاحتلال.
"إن القائد الراقد هو العميد أ.ح. عادل يسرى قائد لواء النصر.. وقد أخذ يستعرض أحداث اليوم، وهو راقد على ظهره في المقعد الخلفي للعربة المدرعة، وساقه اليمنى ما زالت تنزف" .
بعد صفحتين تواجهنا المذكرات بعدد من المعلومات، تعرفنا بالقائد الجريح، إنه صاحب المذكرات العميد عادل يسري، لكنه قوى لا يظهر عليه أي ذعر أو خوف، هو شجاع، يعرف أنه فى عربة ويتقبل مصيره، ومن هذه النقطة يبدأ تذكر ما جرى وحدث.
"لقد فقدت ساقي. ولكن كسبت نصرًا عزيزًا لمصر العزيزة" الخطاب هنا متجاوز للذات، فهو يعترف بالألم والخسارة التي أصابته (فقد الساق)، لكنه عندما يضعها فى مواجهة المكسب الذي حققه (النصر) يختار المكسب، وذلك لأنه يرى أن مصر عزيزة لا يليق بها سوى النصر.
وبالاطلاع على الشهادات والمذكرات التي كتبت فى زمن الحرب، نعرف أن ما قاله عادل يسري ليس غريبًا، لقد كانت الخطابات جميعًا فى ذلك الوقت تنتصر للعام على حساب الخاص، كان الجنود مستعدين للشهادة فى مقابل النصر، وكان القادة يضحون بأنفسهم من أجل نجاح العمليات وهزيمة العدو، لكن مع انتشار هذه المشاعر تظل الخصوصية أيضًا حاضرة بقوة فى كل اعتراف بالتضحية.
بعد ذلك يدخل بنا عادل يسري إلى تفاصيل يوم 8 أكتوبر من سنة 1973 نتحرك معه فى مواجهة جيش الاحتلال ومحاصرة دباباته، ونشعر من خلال كلماته بقوة الجيش المصري وتدريبه الجيد "وهنا تظهر أهمية التدريب وأهمية التخطيط، لقد غرست عقيدة في جنودي، أن دبابات العدو المخترقة هي بمثابة وجبة دسمة لرجال جائعين، إذا كان دفاعنا بعمق" ، إن استخدام لفظتي تدريب وتخطيط كاشفتان عن استخدام العقل والعلم والقوة والإعداد، وإن كان عادل يسري يتحدث عن كتيبته لكن يمكن لنا أن نعمم هذا الحكم على الجيش المصري كله.
كما يعكس هذا الخطاب الثقة التي كانت تسيطر على الجنود المصريين، وهي ليست ثقة عمياء، لكن ثقة أصلها الإيمان بالحق والعمل الجيد.
ونصل مع عادل يسري الذي يصول ويجول بين جنوده إلى اللحظة الخطرة فى القصة، لحظة الإصابة التي يفخر بها ويعدها وسامًا على صدره ودليلًا على قيامه بدوره:
"وفجأة أسمع صوت انفجار عنيف. وأرى للحظات ضوءًا مبهرًا.
ثم أقع على الأرض وسط عاصفة ترابية عنيفة.
وهي لحظات. لحظات خاطفة كالوميض.. ثم أمد يدي إلى ساقي اليمنى فلا أجدها لقد طارت. أصابتني طلقة دبابة كاملة لاحتراق الدروع. طلقة لا شظايا لها تسمى "سابو" .
الخطاب هنا يقدم قيمتين؛ قيمة التضحية وقيمة الشجاعة، وقد دلل على هاتين القيمتين من خلال المشهدية، لقد جعلنا نتخيل المشهد، وأثار فى داخلنا محفزات بصرية، وجعلنا ندخل فى قلب المشهد، ونرى الطلقة المقبلة قبل أن تصيبه، ودفع فى أذهاننا بحالة شعورية لا يمكن وصفها بالتحديد، لكن تذكرنا بما نشاهده فى الأفلام العالمية عن الحرب، فبعد الضجيج يصمت كل شيء فجأة، قبل أن يعود الضجيج مرة أخرى ونكتشف الأثر.
أما الشجاعة فليس هناك أكثر من أن يمد عادل يسري يده فيعرف أن قدمه (طارت)، على حد قوله، وفى الوقت نفسه يكون مدركًا لكل ما يحدث حوله حتى نوع الطلقة التي توجهت إليه وأصابته، هذا ما يؤكده قوله بعد ذلك "وانتابني هدوء غريب كأنه السكينة على قلبي، وصفت الرؤية أمامي وأنا راقد على الأرض" .
لدينا قيمة جديدة تظهر هنا هي "القدرة على التحمل"، يقول عادل يسري "وكلما زاد نزيف الدماء، أخذت حفنات أخرى من الرمال لأوقف النزيف، حتى أصبح الجرح كومة من الدماء والرمال، وكان على قرب مني يرقد عمال الأجهزة اللاسلكية المترجلون فى انتظار أوامري" ، هذا الموقف كاشف عما يحكيه الإنسان إذا كان مقام الحكي متعلقًا بالمواقف العظيمة، وما أقصده أن هذا موقف عظيم سيظل يتذكره الجنود طوال حياتهم، أن قائدهم مصاب مبتور الساق ومع ذلك لا يغادر الموقف، بل يلقى الأوامر ويقود الفريق، سيظل الجنود يتذكرون هذا المشهد ويروونه فى كل مكان، فهو مشهد خالد لا يموت أبدا.
يقول عادل يسري "ورفعت رأسي للسماء، أشكر الله أن حقق لي نعمة التضحية من أجل مصر" هذه الجملة دالة على أشياء كثيرة لا يمكن حصرها بسهولة إنها الوطنية فى أبهى صورها وقمة التعبير عنها، والرضاء بالتضحية من أجل الوطن، بل هنا زيادة عن الرضاء إنه شكر الله على النعمة.
الخاتمة:
تجولنا قليلًا فى مدونة حرب أكتوبر 1973، تلك التي ستظل خالدة عبر تاريخ مصر ومنطقة الشرق الأوسط، بل والعالم أجمع، لما مثلته من أثر كبير فى موازين السياسة فى المنطقة.
وأول الملاحظات التي تقدمها لنا دراسة هذه المدونة أن الإنسان المصري هو البطل، وأن إرادته وإيمانه بوطنه هما مفتاح كل شيء، كما أن الإعداد الجيد عامل أساسي فى النصر ولا يمكن التخلي عنه أبدًا.
قدمنا من خلال تطوافنا مجموعة من القيم التي شكلت هوية الجندي المصري، تأتي فى مقدمتها الوطنية والشجاعة والتضحية والإنسانية، وهذه القيم احتاجت إلى سياقات كي تظهر، جاء فى مقدمة هذه السياقات المشاركة الحية والشهادات المباشرة واللغة المعبرة والمشهدية.
وتنوعت المدونة فى الأسلوب بين الرسائل الشخصية واليوميات والمذكرات، لكن فى مجملها تقدم تأريخا لفترة خالدة فى تاريخ الإنسان المصري، حاولنا فهمه عن طريق تحليل هذه المدونة بوصفها نصًا موجهًا إلى المصريين، وإلى العدو – أي عدو – وإلى العالم أجمع الذي يسعى للتعرف على الشخصية المصرية فى لحظات الرخاء والشدة.
وخلصنا من هذه الدراسة إلى أن التاريخ المصري يمكن تكوينه وتشكيله من طرق عدة وليس فقط الاكتفاء بما يكتبه المؤرخون بشكل مباشر، كما أن الشخصية المصرية قوية تظهر فى وقت الحاجة، والإيمان بالوطن عميق ومستقر فى الوجدان.
يذكر أن الدكتور أحمد إبراهيم الشريف كاتب صحفي وناقد وروائي .