لماذا عجزت المقاربة الأميركية عن إحداث اختراق في السودان؟
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في العشرين من الشهر الحالي أن جهودا بذلتها واشنطن ساعدت في التوصل إلى اتفاق لعقد لقاء مباشر يجمع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي من أجل التوصل لوقف إطلاق النار.
وجاء تصريح بلينكن في مؤتمر صحفي بعيد سيطرة الدعم السريع على مدينة ود مدني الإستراتيجية في ولاية الجزيرة (وسط السودان)، التي تزامنت مع مطالبة مشرعين أميركيين البيت الأبيض بانتهاج سياسات أكثر حزما لوقف نزيف الدماء في السودان.
وقد تصاعدت الانتقادات لأداء إدارة الرئيس جو بايدن في الملف السوداني، ويجسد ذلك تقرير لمجلة فورين بوليسي يشير إلى "جهود أميركية فاشلة للوساطة لوقف النزاع"، ويطالب بمقاربات جديدة لإحداث اختراقات في الأزمة المستمرة منذ 8 أشهر.
ومثّل التزام الحياد أحد أبرز ملامح المقاربة الأميركية تجاه الحرب الدائرة في السودان.
كما نشطت دبلوماسية واشنطن في دعم المبادرات الثنائية والمتعددة الأطراف، كما هو الحال مع الجهود التي يبذلها كل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة التنمية لشرق أفريقيا (إيغاد)، التي أثمرت إعلان الأخيرة في قمتها المنعقدة بجيبوتي موافقة البرهان (وهو أيضا قائد الجيش السوداني) وحميدتي على عقد لقاء مباشر بينهما، وهو ما رفضته الخارجية السودانية لاحقا.
وفي هذا السياق يبرز منبر جدة الذي ترعاه كل من واشنطن والسعودية، حيث نجح طوال شهور في التوصل إلى هدن تكتيكية، لكنه أخفق في دفع الطرفين إلى الالتزام بوقف دائم لإطلاق النار.
بلينكن تحدث قبل أيام عن نجاح جهود واشنطن لعقد لقاء بين البرهان وحميدتي (الفرنسية) رؤية غير واضحةهذه المحصلة المتواضعة يعزوها المحلل السياسي السوداني محمد تورشين إلى أن "المقاربة الأميركية لم تكن منذ اندلاع الحرب في السودان واضحة المعالم"، ويرى أنها كانت تتبلور في كل مرحلة بشكل مختلف.
ويقول تورشين للجزيرة نت إنه منذ الوهلة الأولى كانت واشنطن تتحدث عن ضرورة انخراط الأطراف في مفاوضات، وعملت جاهدة مع الرياض ليكون منبر جدة مساحة للمحادثات والتفاوض.
لكن رغم ذلك، يقول تورشين، فإن غياب رؤية أميركية محددة ترك مساحة للمناورة لأطراف الصراع، "فعلى سبيل المثال تتحدث واشنطن دائما عن ضرورة وجود فترة انتقالية بقيادة مدنية، لكنها لا تتطرق إلى كيفية دمج الدعم السريع في الجيش السوداني الذي كان صاعق تفجير الحرب في أبريل/نيسان الماضي".
دخول الدعم السريع مدينة ود مدني من شأنه أن يزيد المساعي السياسية لحل الأزمة تعقيدا (الفرنسية) بين العجز وعدم التدخلمن جانبه، يرى الباحث السياسي عباس محمد صالح أن مقاربة واشنطن تجاه السودان تعاني من ضعف وعجز بنيوي.
ويستطرد صالح المتخصص في الشؤون الأفريقية في حديث للجزيرة نت أن واشنطن لم تدرك "الديناميات الفعلية في المشهد السياسي بالبلاد، حيث وقعت في تنميط ضار: عسكر ضد مدنيين، ومدنيين ضد إسلاميين، وصراع الجنرالين".
وخلال السنوات الماضية أكدت الولايات المتحدة أن قضية التحول الديمقراطي تحتل رأس أجندتها في السودان، وهو ما يعتقد محمد صالح أن الإدارة الأميركية انطلقت في معالجتها له "من تصور قاصر اختزل هذا الانتقال في مجموعات سياسية صغيرة، معتبرة أنها الممثل الوحيد للديمقراطية والمدنية، وهو ما يجافي الواقع ويستبعد قوى أخرى أوسع تمثيلا في الشارع السوداني".
وشهد يوليو/تموز 2019 توقيع قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي في السودان على اتفاق لتقاسم السلطة شكّل أحد أهم أعمدة الفترة الانتقالية، قبل أن يتفكك ائتلاف الحرية والتغيير إلى تكتلات متصارعة، في حين أطلق الجيش السوداني رصاصة الرحمة على هذا الاتفاق بانقلابه على رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وفي هذا الإطار، يعتقد المحلل السياسي السوداني عباس محمد صالح أن النهج الأميركي تمسك بأمور "مثالية" وأهمل التعاطي الدبلوماسي المبكر تجاه التهديدات الحقيقية لوحدة وسيادة السودان، المتمثلة في الازدواج العسكري الذي برز أواخر الفترة الانتقالية، والذي غدت معه القوى المدنية مجرد تابع لأحد الطرفين أو حليفا لمشروعه السياسي على قاعدة الجدل بشأن إصلاح القطاع الأمني.
ويرى صالح أن من الأسباب الجوهرية لإضعاف فاعلية الانخراط الأميركي في السودان "جنوح واشنطن إلى توكيل قوى أو منظمات إقليمية للتعاطي مع تطورات الصراع في السودان، في حين أن هذه القوى هي إما جزءا من الصراع كطرف خارجي أو "متكسبا" من تفاعلات هذا الصراع".
من جانبه، يذهب محمد خليفة الصدّيق أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم إلى أن العجز الأميركي "هو عجز مع سبق الإصرار".
ويؤكد خليفة أن واشنطن تمتلك الكثير من الأدوات والآليات للتدخل، سواء عبر الضغوط أو الوسطاء أو وكلائها الإقليميين أو المنظمات الدولية، "كما نرى في النهج الأميركي تجاه غزة".
ويضيف الصدّيق للجزيرة نت أن "الإدارة الأميركية غير راغبة في إنهاء الصراع وربما تريد أن تترك الأمر للفوضى الخلاقة حتى يتشكل السودان من جديد، وربما هي مع تقسيم السودان وظهور دويلات جديدة في المنطقة، وهو ما بدأ بجنوب السودان وما قد يمتد لدول أخرى كما هو معروف في خارطة برنارد لويس لتفكيك وحدة العالم العربي والإسلامي".
هل من تحوّل في الأفق؟
"دبلوماسية عقيمة واستجابة هزيلة"، هكذا وصفت ميشيل جافلين الباحثة في مركز العلاقات الخارجية الأميركية مقاربة واشنطن تجاه السودان، وهو تقييم ليس ببعيد عن تصورات أروقة صنع القرار في واشنطن.
حيث طالب مشرعون أميركيون إدارة الرئيس بايدن بتعيين مبعوث خاص للأزمة في السودان والضغط على القوى الخارجية التي تعمل على تأجيج الصراع، في دعوة إلى تفعيل الدور الأميركي في إنهاء الكارثة المتفاقمة هناك.
ويرى المحلل السياسي عباس محمد صالح تعليقا على تصريح وزير الخارجية الأميركي أن جهد واشنطن قائم على افتراض أن الحرب مجرد صراع بين "جنرالين" يمكن حله من خلال تنظيم لقاء مباشر بينهما.
ويعتبر أنها مقاربة خطرة لأنها تأمل في تسوية سياسية معطوبة ستعيد، إن تحققت، إنتاج صراعات متعددة وخطيرة حال عدم استصحاب الحقائق الجديدة في ضوء الانتهاكات الجسيمة التي أعقبت تفجر الصراع، وبالتالي إعادة الأوضاع إلى ما قبل اندلاع الحرب، "مما يعني انتظار كارثة كبرى ستأتي".
من جانبه يشكك محمد خليفة الصديق في أن يؤدي جلوس البرهان وحميدتي إلى طاولة الحوار إلى حل، معللا ذلك بأنه "ما لم يظهر هذا الأمر مباشرة على أرض الواقع، فلا نستطيع الحديث عن إمكانية تحققه".
أما محمد تورشين فيبدو متفائلا بانخراط أميركي أكثر فاعلية بعد استنزاف طرفي الصراع، بما يسهل إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية السودانية بمعايير تراعي المصالح الأميركية في المنطقة.
ويقول إن مساعي واشنطن الأخيرة مرتبطة بمبادرة منظمة إيغاد المدعومة من واشنطن، حيث يتوقع أن تمارس الأخيرة ضغطا كبيرا على طرفي الصراع للتوصل إلى تفاهمات، ربما من خلال إشراك عناصر من القوى السياسية، مستدركا أن "هذا سيكون من التحديات أمام فريق الوزير أنتوني بلينكن في ظل انقسام الحاضنة السياسية لقوى الحرية والتغيير".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الدعم السریع فی السودان محمد صالح صالح أن وهو ما
إقرأ أيضاً:
قراءة تحليلية: تصريحات محمد علي الحوثي ودلالاتها في سياق الصراع الإقليمي
هاني الخالد
جاءت تصريحات رئيس اللجنة الثورية في حكومة صنعاء، محمد علي الحوثي، لتسلط الضوء على تحول نوعي في الخطاب السياسي والعسكري لصنعاء. التصريح الذي يؤكد غياب “الخطوط الحمراء” في مواجهة الأمريكيين والإسرائيليين ومن يدور في فلكهم، يعكس تصعيداً حاسماً في الموقف اليمني، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل في الاستعداد العملي لمواجهة ما تعتبره صنعاء تهديداً مباشراً لأمنها وسيادتها.
تحليل التصريحات: أبعاد ودلالات
1. الإعلان عن استراتيجية مفتوحة
الإشارة إلى غياب الخطوط الحمراء تعني أن صنعاء لم تعد ترى أي قيود على خياراتها العسكرية والسياسية في مواجهة القوى المعادية. هذا التحول يهدف إلى إرسال رسائل متعددة الأطراف:
للداخل اليمني: تأكيد الاستعداد الكامل للدفاع عن السيادة، مما يعزز الروح المعنوية لدى القوات والمواطنين.
للخارج الإقليمي والدولي: إعلان عن استعداد صنعاء لتوسيع نطاق المواجهة، بما يشمل استهداف مصالح قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل.
2. كسر الحاجز النفسي في المواجهة
الحديث عن أن هذا الموقف “ليس من أجل الحرب النفسية” يشير إلى رغبة في تجاوز التصريحات الرمزية إلى الفعل الميداني. صنعاء تدرك أن الحروب النفسية كانت إحدى أدوات القوى الكبرى لإضعاف الإرادة الشعبية، وبالتالي تسعى لتأكيد جدية مواقفها بما يتجاوز الدعاية.
3. ربط السياق اليمني بالصراع الإقليمي
بإدخال الأمريكيين والإسرائيليين في دائرة الاستهداف، تربط صنعاء الصراع الداخلي بمشهد إقليمي أوسع. هذا الربط يعكس استراتيجية ترى في الصراع في اليمن جزءاً من معركة إقليمية أكبر ضد الهيمنة الغربية والصهيونية.
الأبعاد العسكرية: خيارات صنعاء في المواجهة
1. الصواريخ والطائرات المسيّرة
تصريحات الحوثي تبرز أهمية التطور الذي شهدته القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة في اليمن. هذه الأسلحة أصبحت أدوات فعالة في كسر هيمنة القوى التقليدية في المنطقة، مع القدرة على استهداف مواقع استراتيجية، سواء داخل اليمن أو في عمق أراضي الخصوم.
2. القوة البحرية
تأكيد دور البحرية يعكس وعياً بأهمية خطوط الملاحة البحرية في معادلات الصراع. مضيق باب المندب والبحر الأحمر يشكلان نقاطاً حيوية للتجارة العالمية، مما يجعل أي تحرك بحري لصنعاء تهديداً استراتيجياً لمصالح القوى الكبرى.
3. المواجهة غير التقليدية
تصريحات الحوثي تؤكد أن صنعاء تستعد لاستخدام أساليب غير تقليدية في المواجهة. هذه الأساليب تعتمد على المرونة، والمفاجأة، واستهداف نقاط الضعف لدى الخصوم، مما يمنحها ميزة في مواجهة قوى متفوقة عسكرياً.
التداعيات الإقليمية والدولية
1. تصعيد المواجهة مع التحالف الإقليمي
إعلان صنعاء عن غياب الخطوط الحمراء يضع القوى المنخرطة في التحالف ضدها، مثل السعودية والإمارات، أمام تحدٍ كبير. هذا التصعيد قد يؤدي إلى تصعيد مقابل، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن إرادة صنعاء في فرض معادلة ردع جديدة.
2. رسائل مباشرة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل
توسيع دائرة الاستهداف لتشمل الولايات المتحدة وإسرائيل يشير إلى أن صنعاء ترى في تدخلاتهما في اليمن جزءاً من مشروع أكبر يستهدف استقلال القرار اليمني. هذه الرسالة تهدف إلى كسر ما يُعتبر حصانة تقليدية لهاتين القوتين، وإجبارهما على إعادة النظر في سياساتهما تجاه اليمن.
3. تأثير على مسار المفاوضات
قد تؤثر هذه التصريحات على أي محاولات لاستئناف المفاوضات السياسية. صنعاء تستخدم هذه اللغة لإعادة تشكيل ميزان القوى قبل أي تسوية محتملة، مما يجعل من الضروري أن تؤخذ مصالحها بجدية.
الرسائل الاستراتيجية: قراءة ما وراء التصريحات
1. تأكيد الاستقلالية في القرار
هذه التصريحات تأتي لتؤكد أن صنعاء ليست خاضعة لأي إملاءات خارجية، وأن قراراتها تنبع من رؤيتها الوطنية والإقليمية.
2. إعادة تشكيل قواعد الاشتباك
بتجاوز الخطوط الحمراء التقليدية، تسعى صنعاء لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك، بحيث تكون قادرة على الردع، وليس فقط الدفاع.
3. استثمار في المظلومية الإقليمية
الربط بين اليمن والقضية الفلسطينية يعكس رغبة في تقديم صنعاء كجزء من محور المقاومة ضد الهيمنة الغربية والصهيونية.
خاتمة: صنعاء في معادلة الصراع الجديد
تصريحات محمد علي الحوثي تمثل انعطافة استراتيجية في خطاب صنعاء. هذا الموقف يعكس إدراكاً عميقاً لتعقيدات المرحلة، ورغبة في فرض معادلات جديدة تتجاوز الأساليب التقليدية. إذا ما ترجم هذا الخطاب إلى أفعال، فإنه قد يغير شكل الصراع في اليمن والمنطقة، ويعيد تعريف موازين القوى في مواجهة الهيمنة الغربية والإسرائيلية.