الوهم.. وحتميته في بناء الحياة
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
الوهم.. في «لسان العرب» لابن منظور هو: (من خطرات القلب، والجمع أوهام، وللقلب وَهْمٌ. وتوهّم الشيء: تخيّله وتمثلّه، كان في الوجود أو لم يكن. توهّمت الشيء وتفرسته وتوسمته وتبينته بمعنى واحد. ووهمتَ إلى الشيء إذا ذهب قلبك إليه وأنت تريد غيره. وتوهمت: أي ظننت. ووَهِمَ: غلط وسها. والوَهم: الطريق الواسع. وقال الليث: الوَهم: الطريق الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر.
بالمقاربة اللغوية؛ الوَهم.. يتدرج في بُنيته الدلالية من خطرات القلب، ليأخذ سبيل التخيّل والتمثّل، ثم ينتهي بعد ذلك واسعا، وفي كل مرحلة هو عرضة للظن والغلط والسهو. لنأخذ هذه المقاربة إلى حقل التفكير، فتصور الأشياء من حولنا يبدأ بخواطر قلبية؛ أي بحدس عقلي. فالإنسان.. عندما يرى ظاهرة معينة لا يعرف تفسيرا لحصولها؛ لا نشأة ولا غاية، فإن عقله لا يحتمل غموضها -خاصة إن كانت متكررة- دون أن يقدّر لها تفسيرا، بغض النظر عن صوابه وخطئه.
إذا؛ العقل -بحكم تركيبه- مجبر على تقديم تفسير للظواهر التي ترفده بها الحواس. والسؤال: ما الذي يدفع العقل إلى وضع تفسير للظاهرة؟ وما الفائدة من التفسير؟
الفضول هو ما يدفعه لذلك، ويقف خلف الفضول حب التملك، وهو جبلّة في الإنسان. وحب التملك يرجع إلى مبدأ أعلى وهو الحفاظ على النوع، فلكي يعيش الإنسان؛ عليه أن يحافظ على نوعه، وليحافظ على نوعه؛ يلزمه تملّك الأشياء من حوله، وهذا لا يحصل إلا بالفضول المعرفي، الذي يدفع به إلى وضع أجوبة على تساؤلاته؛ وإن كانت وهما. هذه العمليات المتتابعة لدى الإنسان؛ وخوفه على نوعه من الفناء، يؤدي به إلى المزيد من البحث. وهو يبحث في الوجود يحصل على فوائد شتى؛ منها: التخلص من بعض جهله، وتوفير الأمن من تقلبات الطبيعة، والحماية من هجوم الكواسر عليه، وتحقيق الرفاه والسعادة والتوازن النفسي، والسعي إلى الوفرة لتأمين أيامه العجاف. وبغض النظر إن كان يحصل له ذلك حقيقة أم لا. فالمهم؛ أن الوهم هو ما يكفله له.
الوهم.. سابق على اللغة، وما فيها من تخيّل واتساع فمن أثره. ولذلك؛ علينا الحذر من المطابقة التامة بين الفكر واللغة، فالمعجم اللغوي وهو يجمع كلمات اللغة ومعانيها؛ كثيرا ما يغفل عن التطور الدلالي للكلمة، وعن الربط بين الأنساق التي توجد فيها بدلالات نراها ظاهريا متباعدة، في حين أن المسافة الفاصلة بينهما -إن وجدت- ليست بعيدة، مما يجعل العقل قاصرا عن إبصار مراتع الوهم في اللغة، التي هي المبنى الأول للتفكير.
وبالتالي؛ فإن مَن يتتبع «بُنية الوهم» في أي حقل يتعامل معه التفكير، يجد أن اللغة لا تحكي إلا جانبا من الحقيقة، فاللغة مهما عظمت قدرتها لا تستطيع أن تخرج من الوهم وتقدم حقائق مجردة. وإن كان قد قيل: ثلاث لا وجود لها: الغول والعنقاء والخل الوفي. فينبغي أن يضاف إليها رابعة وهي الحقيقة، بل بالأحرى ألّا وجود للحقيقة خارج دوائر الوهم.
الوهم.. يقف على ثلاث ركائز، يكفي أن يتلبّس الإنسان بواحدة منها؛ ليغرق في بحر الوهم اللجي؛ وهي:
- الجهل.. عدم معرفة الشيء. وهو ليس وصمة سيئة في الإنسان، وإنما هو توصيف لحاله، فما من إنسان إلا جهله أكثر من علمه، ومهما بدا عالِما بفنون من العلم، مدركا لجوانب من الحياة، فما علمه وإدراكه إلا بقعة ضئيلة في ساحة جهله الواسعة.
- الخوف.. المقصود به الخوف من الموت بالنسبة للفرد الإنساني، والانقراض بالنسبة لنوعه. وهو كذلك ليس منقصة في الإنسان، وإنما جبلّة فيه؛ حتى يحافظ على نوعه.
- القياس.. مَلَكة في العقل، يستطيع بها الإنسان تصنيف الأشياء في فئات، بحيث يجعل الأفراد المتشابهة في فئة واحدة: فئة للحيوان، وفئة للنبات، وفئة للجمادات. وتحت كل فئة تنضوي مجموعات عديدة، ففئة الحيوان تشتمل على مجموعة البشر ومجموعة الأسماك ومجموعة الطيور ومجموعة السباع ومجموعة الحشرات. وكل مجموعة منها تضم أصنافا كثيرة. وهكذا في بقية الموجودات، ومثلها صنّف الإنسان المعاني والمفاهيم.
مما ينبغي ملاحظته.. (قياس الغائب على الحاضر)، فإذا قلنا: طير. يمكن أن نحكم عليه دون أن نشاهده بأنه كائن ذو جناحين، وإذا قلنا: سمكة حكمنا عليها بأنها كائن سابح في الماء دون قوائم. بغض النظر عن تحققنا من طبيعة هذا الطير وتلك السمكة. ولذلك؛ كثيرا ما يقع العقل في الوهم، لأن معرفة الحقيقة تحتاج إلى استقراء تام لأفراد الطيور والسمك. والأخطر في القياس.. أن العقل استطاع أن يتصور أشياء لم يقف عليها الإنسان بأي وجه من وجوه المعرفة، فتصور ما يوجد في السموات منذ القدم، وتصور ما بعد الموت. وكل ذلك لم يأتِ من لا شيء، لأن العقل لا يقتدر على الإتيان بشيء من العدم، وإنما أتى به من مَلَكَة القياس. ومن ذلك أيضا (إلحاق حكم شيء على شيء آخر بجامع العلة)، كقياس الفقهاء في الزكاة.. الأرز على القمح، وهذا بابه واسع، ليس هنا محل بسطه. وهو كذلك لا يمكن أن يكون موثوقا به في الحكم، وقد وقع الناس بسببه في الوهم.
وإذا كان الجهل يولد الإنسان متصفا به، والخوف نشأ منذ التكوّن الأول لخلاياه، بمعنى؛ أن لها هروبا ذاتيا من الفناء. فإن القياس رغم أن أصله جبلّة بالإنسان إلا أنه ارتبط بحاجته إليه؛ أي جاء عليه حين لا يعي القياس، وإنما تنبه له نتيجة الحاجة العقلية المترتبة على الفضول.
وعلى هذا؛ يمكن فهم «حتمية الوهم» في بناء حياة الإنسان، فتصور الإنسان القديم للوجود ليس كما نتصوره، فقد كان يتصور بأن الأرض هي مركز السماء والأجرام تدور حولها. وهذا التصور الذي نراه اليوم وهما؛ قامت عليه أنظمة الحياة ردحا من الزمن: كالمعتقدات الدينية، والحسابات الزمنية، والفصول الزراعية، ونشأة الدول، واشتعال المعارك، والملاحم الشعرية، والأساطير الأدبية. ثم جاء إسحاق نيوتن (ت:1727م) وتبنى تصورات كوبرنيكوس (ت:1543م) وجاليلو (ت:1642م) لحركة الأجرام السماوية، بأن الشمس هي المركز الذي تدور حوله الأرض وبقية الكواكب وأقمارها، ووضع أسس حساب المسافات بين الأجرام، وقوانين الحركة. فاعتمد العالَمُ الفيزياءَ النيوتنية للكون، وتجاوز التصور القديم، الذي لم يعد صالحا لتسيير الحياة. ثم إن هذا التصور جرى تعديله على يد ألبرت أينشتين (ت:1955م)، وكشف عن جوانب من الوهم فيه. وها هو العالم الآن بمسبار جيمس ويب يجوب أقطار السموات، كاشفا عن مقدار الوهم الذي وقع فيه علماء الفضاء قبله وهم يتعاملون مع الكون.
خذ أية معرفة للإنسان بهذا الوجود؛ سيرى كل يوم جديدا فيها، خالعا في الوقت ذاته عن نفسه لباسا من الوهم كان متدثرا به، ويكفي أن نعرف بأن الكون ليس مادة بحتة كما نتوهمه وإنما هو بالأساس فوتونات، على الأقل بحسب المنظور الفيزيائي الحديث. ولكن هذا الوهم لم يكن معرقلا لبناء الحياة، بل كان ضروريا له. وإنما المشكلة تكمن في الإصرار على الوهم بعد انكشافه، وتحوّل الحياة إلى معرفة أخرى؛ ليست بالضرورة هي الحقيقة، ولكنها التصور الجديد الذي يحتاجه العالم لبنائه في وقته.
الوهم.. مشكلته ليست في ذاته، وإنما في التشبث به بعد انكشافه وانتهاء صلاحيته، والأكثر إشكالا عندما يتحول إلى معتقد ديني، أو مسلّمة اجتماعية، أو تجارة يُستغل بها الناس، أو سياسة تُخدع بها الشعوب، وربما بلغ الحال إلى الاقتتال بسبب الوهم، أو الإقصاء، أو شتم الناس لبعضهم البعض.
خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نحو منظور جديد للديمقراطية التمثيلية
معتصم الحارث الضوّي
23 ديسمبر 2024
مقدمة
إحدى مشكلاتنا المزمنة منذ أمد بعيد أننا نسخنا ديمقراطية وستمنستر في معظم ملامحها وتمظهراتها؛ ظانين أننا التحقنا بركب الحضارة واستلهمنا أفضل ما طرحه علماء السياسة من نظم الحكم.
تتحمل النخب السودانية التي تصدرت المشهد منذ ثلاثينيات القرن المنصرم هذه الجريمة، فنسبة لا يُستهان بها من ذلكم النفر تعرضت للقولبة الفكرية فتشوهت مداركها انسلاخا من الواقع المعيش، وتماهت مع المنظومة الفكرية البريطانية كاملة دون نقصان، وكانت النتيجة أنها تعالت على الإرث الثقافي المحلي، ولفظت أسه وأساسه، وتأففت من روابطها به، فكانت بحق مسوخا "ميتافورسيسية" كما حلا لكافكا تسميتها؛ لم تدرك أبعاد البرطنة "نسبة إلى بريطانيا"، ولم تعِ أبعاد الحصاد الوطني.
تلك علة أودتنا مدارك الردى، وصبغت واقعنا بعلقم مرير يتجرعه جيل الشباب بشكل خاص (أكثر من 60% من إجمالي السكان) صِرفا، وكانت ثانية الأثافي أن نشوء الأحزاب السياسية كان إثر صراعات سياسية مقيتة ثم مصالحات معيبة بين الطائفية والمتعلمين (ما يزال الكثيرون يخلطون بين المثقف والمتعلم!)، فكانت النشأة تعتورها الركاكة، والمنبت مثخنا بجراح التآمر، مشوبا بطرائق التحايل والاحتيال، والنتيجة هزائم مريرة في غير مُعترك.
أضحى نظامنا السياسي كائنا مسخا، يستمد صلفه، ويتغذى على أميبا حزبية لا تحذق العمل من أجل الوطن، بل حبك المؤامرات ونسج الدسائس، ودونك إن شئت كتاب د. فيصل عبد الرحمن علي طه الموسوم "الحركة السياسية السودانية والصراع المصري - البريطاني بشأن السودان : 1936-1953"، ومذكرات عبد الرحمن مختار المعنّونة "خريف الفرح أسرار السودان 1950- 1970"، وخلافهما كثير.
كانت النتيجة تأسيسا لمدرسة راسخة شملت الأحزاب من أقصى اليمين إلى اليسار، وكان جوهرها أن السياسة غش وخداع، وأن الممارسة الحزبية تلوّن ونفاق، وأن المسطرة هي المصلحة الشخصية ثم الحزبية، وأن الوطن والمواطن كم مهمل لا يُستدعى إلا لأغراض الكسب السياسي، ولا يُلقى إليه بال إلا عندما تدق صناديق الاقتراع أجراسها، ليُساق المواطنون زُرافات ووحدانا ليلقوا بطاقاتهم الانتخابية لصالح مرشح قد يجهلونه، ولكن الولاء الأعمى لمرشح الحزب والحمية القبلية وأوامر السيد/ الشيخ يجبرهم؛ حتف إرادتهم، على مرشح بعينه.
استمر الوضع المغلوط عبر العقود الماضية، ولم تفلح السلطة/ النخبة عبر الدورة الشيطانية للديمقراطية الخائبة والعسكر المتسلط في استنباط منظومة جديدة تستلهم واقعنا، وتنهل من موروثنا الثر، وتعبّر صادقة عن رغبات السواد الأعظم من الشعوب التي تتعايش داخل جغرافيا السودان.
حقّ علينا الآن، وخاصة في سياق التأسيس المبكر لمرحلة ما بعد الحرب أن نصطنع منظومة جديدة لتؤطر تعريف دولتنا، وأسس إدارتها، والمنطلقات الاستراتيجية لعلاقاتها الخارجية، والمبادئ الحاكمة لسوس مواطنيها، وقولبة العلاقات بين مكوناتهم بما يحقق المصلحة العليا للوطن.
كيف نؤسس لنظام عادل
السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، وبحكم الموقع الجغرافي كان بوتقة لانصهار ما يزال في سفر التكوين بين مكوناته الثقافية والحضارية، ولعجبي أن البعض يستبطئ تلك الصيرورة، ويستعجل النتيجة. يتمثل ذلك في الأسئلة المتكررة حد السقم من أمثال: هل السودان دولة عربية أم إفريقية؟ وهل شعبها إفريقي أم عربي؟
للإنصاف، ينطلق الكثيرون في طرحهم لهذه الأسئلة الحدّية والمعادلات الصفرية من رغبة صادقة بحسم الانتماء والهوية بُغية تحديد المنطلقات الأساسية تمهيدا للعمل على النمو السليم؛ سياسيا ومجتمعيا وثقافيا واقتصاديا.. إلخ. لكن أولئك النفر الكريم يغفلون عن حقيقة أساسية مفادها أن التحولات الاجتماعية والتلاقح الثقافي نحو وعاء جمعي لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يستغرق قرون، ويتطلب جهودا مدروسة، ودونك إن شئت أمثلة أمريكا وماليزيا في تأسيس الشعوب، والهند وسنغافورة في إدارة التنوع والتأسيس الصلد لقيم التسامح والتعايش السلمي والقبول بالآخر، وفي كل الحالات تحدث تجاوزات من حين لآخر بلا شك، فالكمال لله وحده، ولكن الفيصل هو سلامة المبدأ وإيجاد الأرضية السليمة وتوفير العزيمة السياسية مصحوبة بإرادة شعبية يؤسس لها التعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني (أسميتُهُ "ثالوث الانعتاق" في مقالة سابقة).
إذن، التأسيس لنظام حكم عادل في بلادنا مهمة شاقة، فالواقع –دون تجميل أو تزويق- يشير إلى تباينات مريعة في مستويات التعليم، وبالتالي الوعي، بين ربوع الوطن، ويشيرُ أيضا إلى أن المكونات القبلية والعرقية يلفظ كل منها الآخر، وينظر إليه نظرة دونية في سُلمٍ للتمييز العنصري ما يزال سائدا، بل حاكما، في مجتمعنا بالغ التعقيد والرجعية معا.
في هذا السياق من الجلي أن الأجيال الصاعدة قد استطاعت نسبيا كبح غلواء تلك النزعات العنصرية، وتجاوزت ذلكم الخطاب التقليدي، ولكن فئة الشباب، ورغم تناميها، ما زالت عاجزة عن اختراق الصروح التي شيدتها المجتمعات التقليدية في الأصقاع النائية، والتي ما يزال التأثير الأكبر فيها للشيخ المقبور، أو "الفكي" المحضور، أو زعيم القبيلة، أو غيره من قوى تُجذّر التخلف التي تسعى بلا كلل لتعطيل حاسة العقل، والإبقاء على أوضاع متخلفة لا تواكب مسيرة الحضارة، فهذا المجتمع بالغ التعقيد تتنازعه قوى الحداثة وجحافل الظلام، ويتناوش أفراده الحيرة والتأرجح بين الانضمام إلى ركب الحضارة أو الانغلاق في منظومات للتجهيل المطبق.
ثمة حاجة ماسة لاجتراح نظام سياسي ينطلق من ثوابتنا، ويستوعب اختلافاتنا، ويخطط لمستقبلنا بروية وحكمة، ويضع الحلول المسبّقة لكل القنابل الموقوتة، ويحقق تطلعات الجميع في الرخاء والسلام والتنمية، ويصوغ جدرانا قانونية صلدة تحول دون العبث بمقدرات الوطن أو بمصلحة أو مستقبل شعوبه.
هذا النظام لا يصح أن يطوّره البعض، بل يجدر أن تكتفي النخبة فيه بدور التعريف والتأطير والإدارة، وتدع الشعوب تُعرب عن رأيها الصريح: دون فوقية أو إملاءات، ودون تزييف للإرادة الجمعية.
هذا النظام يجدر أن يستلهم رأي الشعب في كل المسائل المصيرية عبر طروحات يسيرة الفهم، مصحوبة بحملات تعريف وتوعية عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حتى يكون الرأي الفصل ليس لحفنة من البرلمانيين حتى وإن كانوا مُنتخبين، بل الفاروق هو رغبة الشعوب التي تضمها هذه الجغرافيا، حتى وإن كان الثمن انفصال البلاد والذي ينظر إليه الكثيرون بأنه قد أصبح حتميا، بل وبدأت بالفعل جذوره تنبت على سطح الأرض.
هذا النظام يجب أن يتأسس على أن السياسي والمسؤول خادم للشعب (civil servant)، وأنه ليس مبعوثا للعناية الإلهية كما يعتقد البعض، وأن المصلحة الحكومية التي يرأسها أحدهم ليس عزبة تمتلكها أسرته، وأن سيوف المتابعة والمراجعة والمساءلة والثواب أو العقاب مُسلّطة على الجميع بلا استثناء بصرف النظر عن مناصبهم، وأن الدستور ومنظومة القوانين ليست لعبة يعدلها من شاء كيفما ومتى شاء وفق أهواءه ومصالحه الشخصية والحزبية.
هذا النظام هو ابن المعرفة التقنية الحديثة؛ يستلهم مفاهيمها ومنطلقاتها، ويطبق مناهجها وطرائقها في التعريف والتوعية ورصد الآراء، فقانون مقترح على سبيل المثال لا بد أن يُعرض على كافة قطاعات الشعب في كل أصقاع البلاد؛ تُعرّف وتُبشّر به وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتُصوّت عليه الجماهير بوسائل إلكترونية وتقليدية حسب المتاح، بعد فهم شامل لمنطلقاته وأهدافه عبر وسائل حديثة مبتكرة (29% تقريبا من السكان يستخدمون الإنترنت، أي ما يقارب 14 مليون نسمة) إضافة إلى الوسائل التقليدية، وبالتالي يكون الحكم فعليا للشعب؛ في أنصع صوره وأكثرها تمثيلا للإرادة الشعبية.
هذا النظام لا محل فيه للمحسوبية، فكل شيء وإن صغُر يخضع للمراقبة، وكل مسؤول يعلم علم اليقين أن التجاوزات ستنقله على جناح السرعة من الكرسي الوثير إلى المقعد الخشبي في محكمة عادلة.
هذا النظام سيبني للمستقبل بخطى وخطوات راسخة، ويُعزز مبدأ أن القوانين هي التي تُعيد صياغة العقل الجمعي الخرب، وتنزع عنه درن التخلف، وفي الحالة السودانية فإن ذلك متطلب أساسي وعاجل، خاصة وأن نظام القتلة واللصوص (الإنقاذ إن شئت) قد دمّر نظام الدولة المدنية، ونشر من القيم الزائفة قدرا ملحوظا.
هذا النظام سيفرض قيمة التخطيط الاستراتيجي الشامل في قمة الأولويات، ويجعل من إدارات البحث والتطوير (R & D) ثوابت في كل مرافق الدولة وجزءا أصيلا من هياكلها، ومن منظومة الرقابة الإدارية عامل تطوير وتجديد مستمر لشريان الخدمة العامة.
هذا النظام لن ينطلق من العدم، فلا حاجة لإعادة اختراع العجلة، ولذا فإنه سيحتقب تجارب سياسية سابقة: سوفيتات البلاشفة، وتجارب جوزيف بروز تيتو، واللجان الشعبية في ليبيا، وإرث الحركة التعاونية الدولية، وعطاء مايكل ألبرت في الاقتصاد التشاركي "Participatory Economics"، وغيرها كثير من العطاء الإنساني المفيد عبر الزمان والجغرافيا والثقافة، ويُزاوج بينها ونتائج التشخيص المتقن لواقعنا بكل معطياته المتأزمة والمتشظية؛ مستبطنا ما يصلُح من الإرث الشعبي والثقافة السائدة، إضافة إلى عطاء المفكرين والمثقفين والتكنوقراط الشرفاء من داخل وخارج البلاد. لذا سيكون من الخطل وصمُهُ بالتلفيقي أو التوفيقي، بل الأقرب إلى الدقة وصفه بالانتقائي العقلاني (أو الاصطفائي الانتخابي).
هذا النظام لن يكون ديمقراطيا أو رأسماليا أو اشتراكيا أو ليبراليا.. إلخ بالتعريفات القياسية المتعارف عليها، بل المقام الأرفع فيه للقيمة الوظيفية ولتحقيق الغاية مع الالتزام الأخلاقي (أي بعيدا عن الماكيافيللية، باستثناء العلاقات الخارجية)، وليس الإغراق والاستغراق في متاهات فكرية متقعرة، فالأصل في الأمور البساطة، وقيل قديما إن الفكرة الفلسفية التي لا يمكن شرحُها في خمس دقائق لا تستحق عناء التفكير والبحث!
هذا النظام سيطرح منظورا مختلفا، فهو مُبتكر يستند إلى الحكمة والإنصاف، ويُعلي من صوت العقل والمنطق، وينحاز ضد التخلف وكل معاول التجهيل والتجريف الاجتماعي، ليؤسس لدولة (أو ربما دول!) سِمتها العقل في السلم والحرب، والإنصاف في كل الأحوال، والعقلانية في شتى المواقف.
هذا النظام؛ عندما تتفاعل الجهود وتتلاقح العقول النيّرة على اجتراحه من علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع وشتى العلوم، سيكون هاديا للركب وحاديا للمسيرة، وإضافة غير مسبوقة إلى المعرفة الإنسانية، ليُثبت بالدليل الملموس أن العقل لا غرو سيهدم أصنام الأفكار المعطوبة والإلهة الزائفة، وأن البقاء في ناموس الشعوب للأصلح فكريا والأحذق علميا والأفطن سياسيا.
moutassim.elharith@gmail.com