لجريدة عمان:
2025-11-04@23:24:36 GMT

الوهم.. وحتميته في بناء الحياة

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

الوهم.. في «لسان العرب» لابن منظور هو: (من خطرات القلب، والجمع أوهام، وللقلب وَهْمٌ. وتوهّم الشيء: تخيّله وتمثلّه، كان في الوجود أو لم يكن. توهّمت الشيء وتفرسته وتوسمته وتبينته بمعنى واحد. ووهمتَ إلى الشيء إذا ذهب قلبك إليه وأنت تريد غيره. وتوهمت: أي ظننت. ووَهِمَ: غلط وسها. والوَهم: الطريق الواسع. وقال الليث: الوَهم: الطريق الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر.

والوَهم: العظيم من الرجال والجِمال. وقيل: هو من الإبل الذلول المنقاد مع ضخم وقوة. والجمع: أَوْهَام ووُهُوم ووُهُم).

بالمقاربة اللغوية؛ الوَهم.. يتدرج في بُنيته الدلالية من خطرات القلب، ليأخذ سبيل التخيّل والتمثّل، ثم ينتهي بعد ذلك واسعا، وفي كل مرحلة هو عرضة للظن والغلط والسهو. لنأخذ هذه المقاربة إلى حقل التفكير، فتصور الأشياء من حولنا يبدأ بخواطر قلبية؛ أي بحدس عقلي. فالإنسان.. عندما يرى ظاهرة معينة لا يعرف تفسيرا لحصولها؛ لا نشأة ولا غاية، فإن عقله لا يحتمل غموضها -خاصة إن كانت متكررة- دون أن يقدّر لها تفسيرا، بغض النظر عن صوابه وخطئه.

إذا؛ العقل -بحكم تركيبه- مجبر على تقديم تفسير للظواهر التي ترفده بها الحواس. والسؤال: ما الذي يدفع العقل إلى وضع تفسير للظاهرة؟ وما الفائدة من التفسير؟

الفضول هو ما يدفعه لذلك، ويقف خلف الفضول حب التملك، وهو جبلّة في الإنسان. وحب التملك يرجع إلى مبدأ أعلى وهو الحفاظ على النوع، فلكي يعيش الإنسان؛ عليه أن يحافظ على نوعه، وليحافظ على نوعه؛ يلزمه تملّك الأشياء من حوله، وهذا لا يحصل إلا بالفضول المعرفي، الذي يدفع به إلى وضع أجوبة على تساؤلاته؛ وإن كانت وهما. هذه العمليات المتتابعة لدى الإنسان؛ وخوفه على نوعه من الفناء، يؤدي به إلى المزيد من البحث. وهو يبحث في الوجود يحصل على فوائد شتى؛ منها: التخلص من بعض جهله، وتوفير الأمن من تقلبات الطبيعة، والحماية من هجوم الكواسر عليه، وتحقيق الرفاه والسعادة والتوازن النفسي، والسعي إلى الوفرة لتأمين أيامه العجاف. وبغض النظر إن كان يحصل له ذلك حقيقة أم لا. فالمهم؛ أن الوهم هو ما يكفله له.

الوهم.. سابق على اللغة، وما فيها من تخيّل واتساع فمن أثره. ولذلك؛ علينا الحذر من المطابقة التامة بين الفكر واللغة، فالمعجم اللغوي وهو يجمع كلمات اللغة ومعانيها؛ كثيرا ما يغفل عن التطور الدلالي للكلمة، وعن الربط بين الأنساق التي توجد فيها بدلالات نراها ظاهريا متباعدة، في حين أن المسافة الفاصلة بينهما -إن وجدت- ليست بعيدة، مما يجعل العقل قاصرا عن إبصار مراتع الوهم في اللغة، التي هي المبنى الأول للتفكير.

وبالتالي؛ فإن مَن يتتبع «بُنية الوهم» في أي حقل يتعامل معه التفكير، يجد أن اللغة لا تحكي إلا جانبا من الحقيقة، فاللغة مهما عظمت قدرتها لا تستطيع أن تخرج من الوهم وتقدم حقائق مجردة. وإن كان قد قيل: ثلاث لا وجود لها: الغول والعنقاء والخل الوفي. فينبغي أن يضاف إليها رابعة وهي الحقيقة، بل بالأحرى ألّا وجود للحقيقة خارج دوائر الوهم.

الوهم.. يقف على ثلاث ركائز، يكفي أن يتلبّس الإنسان بواحدة منها؛ ليغرق في بحر الوهم اللجي؛ وهي:

- الجهل.. عدم معرفة الشيء. وهو ليس وصمة سيئة في الإنسان، وإنما هو توصيف لحاله، فما من إنسان إلا جهله أكثر من علمه، ومهما بدا عالِما بفنون من العلم، مدركا لجوانب من الحياة، فما علمه وإدراكه إلا بقعة ضئيلة في ساحة جهله الواسعة.

- الخوف.. المقصود به الخوف من الموت بالنسبة للفرد الإنساني، والانقراض بالنسبة لنوعه. وهو كذلك ليس منقصة في الإنسان، وإنما جبلّة فيه؛ حتى يحافظ على نوعه.

- القياس.. مَلَكة في العقل، يستطيع بها الإنسان تصنيف الأشياء في فئات، بحيث يجعل الأفراد المتشابهة في فئة واحدة: فئة للحيوان، وفئة للنبات، وفئة للجمادات. وتحت كل فئة تنضوي مجموعات عديدة، ففئة الحيوان تشتمل على مجموعة البشر ومجموعة الأسماك ومجموعة الطيور ومجموعة السباع ومجموعة الحشرات. وكل مجموعة منها تضم أصنافا كثيرة. وهكذا في بقية الموجودات، ومثلها صنّف الإنسان المعاني والمفاهيم.

مما ينبغي ملاحظته.. (قياس الغائب على الحاضر)، فإذا قلنا: طير. يمكن أن نحكم عليه دون أن نشاهده بأنه كائن ذو جناحين، وإذا قلنا: سمكة حكمنا عليها بأنها كائن سابح في الماء دون قوائم. بغض النظر عن تحققنا من طبيعة هذا الطير وتلك السمكة. ولذلك؛ كثيرا ما يقع العقل في الوهم، لأن معرفة الحقيقة تحتاج إلى استقراء تام لأفراد الطيور والسمك. والأخطر في القياس.. أن العقل استطاع أن يتصور أشياء لم يقف عليها الإنسان بأي وجه من وجوه المعرفة، فتصور ما يوجد في السموات منذ القدم، وتصور ما بعد الموت. وكل ذلك لم يأتِ من لا شيء، لأن العقل لا يقتدر على الإتيان بشيء من العدم، وإنما أتى به من مَلَكَة القياس. ومن ذلك أيضا (إلحاق حكم شيء على شيء آخر بجامع العلة)، كقياس الفقهاء في الزكاة.. الأرز على القمح، وهذا بابه واسع، ليس هنا محل بسطه. وهو كذلك لا يمكن أن يكون موثوقا به في الحكم، وقد وقع الناس بسببه في الوهم.

وإذا كان الجهل يولد الإنسان متصفا به، والخوف نشأ منذ التكوّن الأول لخلاياه، بمعنى؛ أن لها هروبا ذاتيا من الفناء. فإن القياس رغم أن أصله جبلّة بالإنسان إلا أنه ارتبط بحاجته إليه؛ أي جاء عليه حين لا يعي القياس، وإنما تنبه له نتيجة الحاجة العقلية المترتبة على الفضول.

وعلى هذا؛ يمكن فهم «حتمية الوهم» في بناء حياة الإنسان، فتصور الإنسان القديم للوجود ليس كما نتصوره، فقد كان يتصور بأن الأرض هي مركز السماء والأجرام تدور حولها. وهذا التصور الذي نراه اليوم وهما؛ قامت عليه أنظمة الحياة ردحا من الزمن: كالمعتقدات الدينية، والحسابات الزمنية، والفصول الزراعية، ونشأة الدول، واشتعال المعارك، والملاحم الشعرية، والأساطير الأدبية. ثم جاء إسحاق نيوتن (ت:1727م) وتبنى تصورات كوبرنيكوس (ت:1543م) وجاليلو (ت:1642م) لحركة الأجرام السماوية، بأن الشمس هي المركز الذي تدور حوله الأرض وبقية الكواكب وأقمارها، ووضع أسس حساب المسافات بين الأجرام، وقوانين الحركة. فاعتمد العالَمُ الفيزياءَ النيوتنية للكون، وتجاوز التصور القديم، الذي لم يعد صالحا لتسيير الحياة. ثم إن هذا التصور جرى تعديله على يد ألبرت أينشتين (ت:1955م)، وكشف عن جوانب من الوهم فيه. وها هو العالم الآن بمسبار جيمس ويب يجوب أقطار السموات، كاشفا عن مقدار الوهم الذي وقع فيه علماء الفضاء قبله وهم يتعاملون مع الكون.

خذ أية معرفة للإنسان بهذا الوجود؛ سيرى كل يوم جديدا فيها، خالعا في الوقت ذاته عن نفسه لباسا من الوهم كان متدثرا به، ويكفي أن نعرف بأن الكون ليس مادة بحتة كما نتوهمه وإنما هو بالأساس فوتونات، على الأقل بحسب المنظور الفيزيائي الحديث. ولكن هذا الوهم لم يكن معرقلا لبناء الحياة، بل كان ضروريا له. وإنما المشكلة تكمن في الإصرار على الوهم بعد انكشافه، وتحوّل الحياة إلى معرفة أخرى؛ ليست بالضرورة هي الحقيقة، ولكنها التصور الجديد الذي يحتاجه العالم لبنائه في وقته.

الوهم.. مشكلته ليست في ذاته، وإنما في التشبث به بعد انكشافه وانتهاء صلاحيته، والأكثر إشكالا عندما يتحول إلى معتقد ديني، أو مسلّمة اجتماعية، أو تجارة يُستغل بها الناس، أو سياسة تُخدع بها الشعوب، وربما بلغ الحال إلى الاقتتال بسبب الوهم، أو الإقصاء، أو شتم الناس لبعضهم البعض.

خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على نوعه إن کان

إقرأ أيضاً:

جودة الحياة (2)

يحدث في أحيان كثيرة أن تخلد للنوم بعد يوم عمل طويل، ثم يوقظك هاتف من شركة المياه الوطنية يطلب فيها الموظف شخصياً منك تقويم خدمة فحص العدّاد، التي قدّمتها الشركة هذا الصباح. لم يكتف الموظف برسالتين وردتا إلى الهاتف، وأصرّ على المكالمة وكأنك تعمل في هيئة تقويم خاصة لصالح الشركة. تُرى، ما هي الدرجة التي ستعطيها للشركة في سلّم درجات تقويمٍ تبدأ من واحد إلى خمسة؛ حيث الرقم 5 يعني راض جداً والرقم 1 غير راض؟
هذا لا يعني أن هذا الهوس بالتقويم، وضمان الجودة خاص بشركة المياه، بل تقريباً في كل قطاع وكل شركة ومؤسسة. يقول أحد الطلاب في الجامعة أنه لم يتمكّن من الوصول عبر حسابه في النظام الإليكتروني إلى نتيجة المقررات، التي يدرسها إلا بعد أن يجيب على استبانة تقويم لأستاذ المقرر. من هو المجنون الذي سيقوّم أستاذه؟ ماذا لو عرف الأستاذ بطريقة ما اسم الطالب الذي قوّمه؟ ماذا سيفعل الأستاذ لو درّسه من جديد في مقرر آخر؟ سبحان مغيّر الأحوال؛ بعد أن كان المعلم يضرب طلاّبه بالعصا أصبح تحت رحمتهم وربما أوسعوه ضرباً بالسوط والعصا!
لا يشمل هذا الطالب فقط، وإنما يتعدّاه إلى الأستاذ نفسه الذي يقوم بتعبئة استبانات إليكترونية لا تنتهي حول الجودة إلى الدرجة، التي أصبح فيها تنفيذ متطلّبات الجودة والاعتماد الأكاديمي من معايير كفاءة عضو هيئة التدريس بحيث لا يمكن ترقيته أو التعاقد معه بدونها.
كما يمكنك أن تخرج من مستوصف خاص بطب الأسنان، وقبل أن تصل إلى مواقف السيارات وأنت تشعر أن فمك قد تحوّل إلى كرة قدم بفعل المخدّر، الذي أعطاك إياه الطبيب قبل علاج أسنانك يرن هاتفك معلنًا وصول رسالة قصيرة تطلب تقييمك للزيارة التي حدثت قبل قليل. ألا يمكن الانتظار حتى يعود الفم إلى طبيعته الأولى؟ ماذا لو كان الطبيب قد أخطأ هنا أو هناك؟ كيف يمكن لي كمريض أن أضمن أن انتقاد الطبيب أو الممرّض لن يضرّني عندما أفتح فمي للطبيب الغاضب مرة أخرى من تقييمي له في الزيارة السابقة؟
أحدهم عبّر عن إحجامه عن تقييم مستوى الخدمة للأطباء أو الممرضين أو العاملين في قسم شؤون المرضى؛ لأنه لا يضمن كيف يمكن أن يكون التعامل معه لو راجعهم مرة أخرى؛ فهو لا يعرف معلومات كافية حول مستوى الخصوصية، التي تتيحها هذه الاستفتاءات ومدى معرفة واطلاع المسؤولين في هذه المنظمات والمؤسسات عن شخصيات من يقوم بعمليات التقييم هذه.
وتستمر هذه الأسطوانة المملة في كل مكان، وعبر كل منصة حكومية أو خاصة. المفارقة الساخرة هي عندما يطلب منك أحد الموظفين تقييم مستوى الخدمة قبل انتهاء مكالمتك معه، وهو الذي أبقاك منتظرًا على الهاتف أكثر من عشر دقائق، ولم يتمكن من حل مشكلتك أو الإجابة على أسئلتك.
تأكد من إغلاق هاتفك جيداً قبل أن تقض مضجعك مكالمة تطلب منك تقييم مستوى الخدمة.

khaledalawadh @

مقالات مشابهة

  • جودة الحياة (2)
  • جوجل يستسلم لـ«تشات جى بى تي»!!
  • "ملتقى الحياة الثاني" بنزوى يؤكد على أهمية ترسيخ قيم التوازن والاعتدال في المجتمع
  • فنّ الحوار.. لغة العقل وأدب الاختلاف
  • أمير الشرقية يرعى تكريم الفائزين بجائزة اليمامة للتميز من منسوبي "بناء"
  • التجييش الشعبي في السودان: تحديات التماسك ومخاطر التفكك
  • مدير شئون المساجد بالأوقاف: مصر أيقونة الحضارة ومهد الإنسانية الراقية
  • أسامة الجندي: صناعة الحضارة تبدأ من الشخص الواعي والعقل سر تكريم الإنسان
  • انتشال جثة قائد فرقة غزة الذي أسرته المقاومة في 7 أكتوبر
  • هل غياب العقل شرط للحب؟