لجريدة عمان:
2025-04-29@14:58:15 GMT

اصطياد السمكة الكبيرة

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

كلنا يا صديقي أسماك صغيرة. عبارة قالها أحد الأصدقاء وقد أغضبه حال الأمة العربية وما يحدث في فلسطين. قال تلك العبارة وحضر هنري كيسنجر بنظريته المشهورة اصطياد السمكة الكبيرة، تقوم تلك النظرية على اصطياد السمكة الكبيرة سيفتح المجال أمام اصطياد الأسماك الصغيرة الأخرى. نظرية سياسية في العلاقات الدولية تبناها وأرسى معالمها هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الذي رحل عن عمر يناهز المائة سنة، وكان ذلك خلال محادثاته المكوكية بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973 بقصد إنهاء الحرب، إذ ذاك كان لابد من اصطياد السمكة الكبيرة لإنجاح تلك الخطة فكانت السمكة الكبيرة التي يقصدها في ذلك الوقت هي مصر، وهي الدولة العربية الكبيرة والمهمة التي خرجت للتو من الحقبة الناصرية ولا تزال تعيش بقايا من زهو القومية ممزوجة بالكبرياء والتحرر ومكافحة الاستعمار.

أدرك تماما أن الاصطياد يختلف عن الصيد، الصيد مهنة أو هواية تمارس بوسائل شتى، لكن الاصطياد ككلمة تحمل معاني مختلفة ضمنها الترصد والبحث عن وسائل ناجعة وقد يكون منها الخداع والتضليل لإيقاع الضحية للوصول للهدف المرجو من ذلك الفعل.

الدول الكبيرة كما الأسماك الكبيرة، لا تراعي حرمة لشيء ولا يهمها أن تفتك بالدول الصغيرة وسحقها فقط لمجرد أن تعيش هي، فالأسماك الكبيرة تكتسب حجمها من عوامل وميزات عدة لكن ليس بالضرورة أن يؤهلها حجمها أن تكون كبيرة ولها نفس القوة والعنفوان لأسماك كبيرة أخرى، فعمليا عندما تسقط السمكة الكبيرة تجد الأسماك الصغار نفسها مكشوفه وضعيفة لا أحد يحميها ولا يدافع عن وجودها، فتتساقط تباعا وكأنها حجر لعبة الدويمنو.

يخبرنا كيسنجر بأن هذا العالم الذي نحيا فيه لا مكان فيه للضعفاء، العالم ليس إلا غابة أو محيط كبير لا حدود للمعاناة فيه، غابات متراكمة من المآسي والكوارث، كل شيء لا يخرج عن سيطرة السيد، الكبار وحدهم من يحيون، أما الصغار ليس أمامهم إلا الخضوع إن أرادوا العيش.

ما كان يدور في خلد كيسنجر مختلف جدا، ليس وقف الحرب فقط هو هدفه من ذلك الاصطياد وإنما مخطط آخر وهو أن يفتح الطريق لاصطياد بقية الدول العربية وجرها نحو قبول الكيان الصهيوني المغتصب وإقامة علاقات وتطبيع معه، فقد ركز كل اهتمامه ووضع الاستراتيجيات للوصول لذلك الهدف وهو ما حصل لاحقا وفعلا حين فتح الاتفاق المصري الإسرائيلي في عهد السادات السبيل أمام مفاوضات مع الفلسطينيين، ثم لاحقا مع بعض الأقطار العربية كالأردن ولاحقا اتفاقيات التطبيع أو ما عرف باتفاقيات السلام الإبراهيمي، وإن جاءت استراتيجية اصطياد تلك الأسماك الصغيرة متأخرا.

نظرية اصطياد السمكة الكبيرة لا تزال تعمل كمرشد وخارطة طريق تستدعيها السياسة الأمريكية عندما تنوي تنفيذ إحدى خططها الجهنمية لتفتيت العالم العربي والسيطرة على مقدراته. فعمليا طبقت أمريكا تلك النظرية عندما اصطادت دولا عربية كبيرة وإن بمقاسات ومفاهيم مختلفة، دولا كانت رائدة بشكل أو بآخر وبارزة. وجودها كما يقال يعدّ ركيزة داعمة للدول الصغيرة، تحمي تلك الدول الصغيرة، ما حدث لتلك الدول يؤكد أن نظرية السمكة الكبيرة التي تم اصطيادها ولا يزال تأثيرها باقيا فينا وتزداد ضراوتها. كيف لنا أن ننسى الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية علينا؟ منذ ما يقارب ثلاثين سنة ونحن نعيش ارتدادات اصطياد السمكة الكبيرة، ثم استطاعت أمريكا أن تصطاد العراق عام 2003 ثم ليبيا واليمن وسوريا وقبلها مصر بالطبع. دمرت كل شيء تحت مزاعم كاذبة، وإن بقيت هذه الدول فهي دون روح ليست إلا هيكلا وخواء.

منذ اصطياد السمكة الكبيرة التي عمل كيسنجر على تهيئة ظروف اصطيادها وها نحن نبحث في محيطاتنا وبحارنا وخلجاننا عن سمكة كبيرة نحتمي بها. تقلص حجمنا الذي اضمحل وأصبحنا في وضعية صغيرة منكمشة جدا مما سهل اصطيادنا منفردين أو حتى بالجملة لا اختلاف في ذلك. وبوضعنا الحالي ما زلنا نعيش دور السمك الصغير نحوم حول أنفسنا تائهين نبحث عن سمكة كبيرة تحمينا من هذا المصير الكارثي.

في المفهوم الأمريكي كلنا أسماك صغيرة؛ لذلك نعيش واقعا مؤلما ووضعية صعبة ونحن نتماهى ونتقمص دور الصغار في عالم البقاء فيه للكبار، لسان حالنا يقول: (أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض) مهما حاولنا أو أوهمنا أنفسنا بأننا نخرج من ذلك الإطار، نتفاجأ بأن حجمنا يزداد صغرا، لم تغيرنا الأحداث ولا الكوارث راضين لأنفسنا دورا صغيرا لا نحيد عنه، تقلص حجمنا ولم نكبر وأصبحنا أجسادا واهنة مريضة لا تحمل غير الذل والضعف. يتجلى أمامنا عالم يتحكم فيه الكبار الذين تزداد غطرستهم ولا حدود لتوحشهم، ولا رادع لجنونهم.

في غزة يشن الغرب كله بقيادة أمريكا برأس حربتها الكيان الصهيوني المجرم حربا تطهيرية متوحشة، يقتل ويدمر ولا يراعي أي حرمة للبشرية والإنسانية، لا حدود لتوحشه وهمجيته وعدوانيته، يمني الغرب نفسه بسحق تلك الأسماك الصغيرة التي تُظهر المقاومة بين الحين والآخر وتخرج على نسق القطيع، يتوهم الغرب بالانتصار وعيش نشوته على المقاومة ويروج لمقولات وسرديات أصبحت مكشوفة ومفضوحة أمام الشعوب الحرة.

هنري كيسنجر الذي شرع ورسم الاستراتيجيات لكثير من الحروب التي شنتها أمريكا، نجده صادقا في تلك العبارة التي قالها إبان الحرب الأمريكية على فيتنام، عام 1969 قال: «خضنا ضد الفيتناميين حربا عسكرية لكنهم حولوها إلى حرب سياسية. حاولنا استنزافهم ماديا فاستنزفونا سيكولوجيا. في الحروب تنتصر العصابات عندما لا تنهزم، وتنهزم الجيوش التقليدية عندما لا تنتصر». هكذا هي الشعوب الحرة الأبية الشريفة التي لا تبيت على ضيم، يبتكرون شتى الوسائل لمقاومة الاستعمار والغطرسة الكولونيالية المتوحشة.

كم هي صعبة هزيمة الشعب الفلسطيني، لن يركع ذلك الشعب وجيناته تحمل المقاومة والتصدي والتحرر. آن لأمريكا وزبانيتها أن يدركوا ذلك، آن لهم أن ينزلوا من قصور غطرستهم وتكبرهم وخيالهم المريض الذي يقودهم من وهم إلى وهم، ذلك الفكر المريض الذي لا يزين لهم إلا الحروب ويقودهم من جريمة لأخرى، يصمون آذانهم ويغشون أعينهم. مكابرين ولا يهمهم غير مصالحهم فليذهب العالم كله إلى الجحيم طالما هم وحدهم الباقون. حقيقة قد لا تروق لهم.

هيهات أن تهزم مقاومة الشعوب الحرة، شيء بعيد المنال في زمن تغيرت فيه الكثير من المفاهيم والمقاييس، الغرب المتوحش يعتقد أن النصر في الحروب هو بكثرة القتل والدمار، فيعمد إلى تدمير غزة وقتل أهلها، لم تراعِ آلة القتل الجهنمية لا طفلا ولا كبيرا في السن ولا نساء ولا مدنيين عزل. القتل والتدمير الذي تنتهجه إسرائيل وأمريكا والغرب هو خبط عشواء. لا يريدون لتلك الأسماك الصغيرة أن تزاحم الكبار وتغير من حجمها، يريدون أن تنطفئ شعلة التحرر للأبد، لكن ألا يعلمون أن شعلة المقاومة ستظل جذوتها مشتعلة لن تموت ولن تمحى، وستنشأ أجيال بعد أجيال ترفع تلك الشعلة.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأسماک الصغیرة

إقرأ أيضاً:

تجاوزت قيمتها 4.8 مليار ريال.. “تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة”: إصدار 1900 كفالة خلال الربع الأول من 2025

كشفت برنامج ضمان التمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة “كفالة” عن إصداره 1900 كفالة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، بقيمة تمويل تجاوزت 4.8 مليار ريال، مقابل 4 مليارات ريال خلال الفترة نفسها من العام السابق، بمعدل ارتفاع بلغ 19%.
وبلغت قيمة الاعتمادات أكثر من 3.4 مليار ريال، مقابل 2.9 مليار ريال خلال نفس الفترة من العام السابق، بمعدل ارتفاع بلغ 17%. فيما بلغ عدد المنشآت التي استفادت من برنامج “كفالة” خلال الربع الأول من العام المالي 2025م 1610 منشآت صغيرة ومتوسطة.
وعد الرئيس التنفيذي وعضو مجلس إدارة برنامج ضمان التمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة “كفالة” همام هاشم المنشآت الصغيرة والمتوسطة ركيزة أساسية في دفع عجلة الاقتصاد الوطني، وعنصرًا محوريًا في تحقيق التنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل، وفقًا لرؤية المملكة 2030.
ونوه بتجربة برنامج “كفالة” كنموذج ناجح للتكامل بين القطاعين العام والخاص في تمكين المنشآت الصغيرة والمتوسطة من مواجهة التحديات وتحقيق النمو، مشيرًا إلى أن البرنامج منذ انطلاقه عام 2006م حتى نهاية الربع الأول من عام 2025م اعتمد أكثر من 67.7 ألف كفالة، استفاد منها ما يزيد عن 25 ألف منشأة صغيرة ومتوسطة، بإجمالي تمويل تجاوز 115 مليار ريال، مقابل كفالات بلغت قيمتها نحو 82 مليار ريال.
ويسعى برنامج ضمان التمويل “كفالة” إلى تعزيز الاقتصاد الوطني، من خلال تقديم الضمانات المالية؛ لتعزيز فرصة حصول المنشآت على التمويل اللازم؛ لغرض تخفيض مخاطر الإقراض التي تتحملها جهات التمويل عبر شراكات استراتيجية، وأدوات تقنية مبتكرة ومدعومة بقواعد البرنامج المعرفية. ويأتي ذلك بالتكامل مع بنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة، التي تدعم التوسع في تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة تحت إدارة صندوق التنمية الوطني، الذي يعمل لتوفير بيئة حاضنة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة في المملكة.

مقالات مشابهة

  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • اختتام الدورة ‏الخامسة من مشروع دورات التدريب المهني ودعم المشاريع الصغيرة في حلب
  • إطلاق النسخة الثامنة من برنامج "التوجيه" لأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
  • جيسوس قبل قمة الأهلي: التناغم واللعب كمجموعة يحسم المواجهات الكبيرة
  • عاجل - قصف إسرائيلي يستهدف بلدة عبسان الكبيرة ويوقع 4 مصابين في قطاع غزة
  • «الإمارات لريادة الأعمال» يستعرض خطط دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة
  • المقاومة تواصل اصطياد دبابات وجنود الاحتلال بغزة 
  • سامي قمصان يعتذر عن عدم الاستمرار.. والأهلي يثمّن جهوده الكبيرة
  • تجاوزت قيمتها 4.8 مليار ريال.. “تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة”: إصدار 1900 كفالة خلال الربع الأول من 2025
  • كيفية التخلص من الحشرات الصغيرة في المنزل