كلنا يا صديقي أسماك صغيرة. عبارة قالها أحد الأصدقاء وقد أغضبه حال الأمة العربية وما يحدث في فلسطين. قال تلك العبارة وحضر هنري كيسنجر بنظريته المشهورة اصطياد السمكة الكبيرة، تقوم تلك النظرية على اصطياد السمكة الكبيرة سيفتح المجال أمام اصطياد الأسماك الصغيرة الأخرى. نظرية سياسية في العلاقات الدولية تبناها وأرسى معالمها هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الذي رحل عن عمر يناهز المائة سنة، وكان ذلك خلال محادثاته المكوكية بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973 بقصد إنهاء الحرب، إذ ذاك كان لابد من اصطياد السمكة الكبيرة لإنجاح تلك الخطة فكانت السمكة الكبيرة التي يقصدها في ذلك الوقت هي مصر، وهي الدولة العربية الكبيرة والمهمة التي خرجت للتو من الحقبة الناصرية ولا تزال تعيش بقايا من زهو القومية ممزوجة بالكبرياء والتحرر ومكافحة الاستعمار.
أدرك تماما أن الاصطياد يختلف عن الصيد، الصيد مهنة أو هواية تمارس بوسائل شتى، لكن الاصطياد ككلمة تحمل معاني مختلفة ضمنها الترصد والبحث عن وسائل ناجعة وقد يكون منها الخداع والتضليل لإيقاع الضحية للوصول للهدف المرجو من ذلك الفعل.
الدول الكبيرة كما الأسماك الكبيرة، لا تراعي حرمة لشيء ولا يهمها أن تفتك بالدول الصغيرة وسحقها فقط لمجرد أن تعيش هي، فالأسماك الكبيرة تكتسب حجمها من عوامل وميزات عدة لكن ليس بالضرورة أن يؤهلها حجمها أن تكون كبيرة ولها نفس القوة والعنفوان لأسماك كبيرة أخرى، فعمليا عندما تسقط السمكة الكبيرة تجد الأسماك الصغار نفسها مكشوفه وضعيفة لا أحد يحميها ولا يدافع عن وجودها، فتتساقط تباعا وكأنها حجر لعبة الدويمنو.
يخبرنا كيسنجر بأن هذا العالم الذي نحيا فيه لا مكان فيه للضعفاء، العالم ليس إلا غابة أو محيط كبير لا حدود للمعاناة فيه، غابات متراكمة من المآسي والكوارث، كل شيء لا يخرج عن سيطرة السيد، الكبار وحدهم من يحيون، أما الصغار ليس أمامهم إلا الخضوع إن أرادوا العيش.
ما كان يدور في خلد كيسنجر مختلف جدا، ليس وقف الحرب فقط هو هدفه من ذلك الاصطياد وإنما مخطط آخر وهو أن يفتح الطريق لاصطياد بقية الدول العربية وجرها نحو قبول الكيان الصهيوني المغتصب وإقامة علاقات وتطبيع معه، فقد ركز كل اهتمامه ووضع الاستراتيجيات للوصول لذلك الهدف وهو ما حصل لاحقا وفعلا حين فتح الاتفاق المصري الإسرائيلي في عهد السادات السبيل أمام مفاوضات مع الفلسطينيين، ثم لاحقا مع بعض الأقطار العربية كالأردن ولاحقا اتفاقيات التطبيع أو ما عرف باتفاقيات السلام الإبراهيمي، وإن جاءت استراتيجية اصطياد تلك الأسماك الصغيرة متأخرا.
نظرية اصطياد السمكة الكبيرة لا تزال تعمل كمرشد وخارطة طريق تستدعيها السياسة الأمريكية عندما تنوي تنفيذ إحدى خططها الجهنمية لتفتيت العالم العربي والسيطرة على مقدراته. فعمليا طبقت أمريكا تلك النظرية عندما اصطادت دولا عربية كبيرة وإن بمقاسات ومفاهيم مختلفة، دولا كانت رائدة بشكل أو بآخر وبارزة. وجودها كما يقال يعدّ ركيزة داعمة للدول الصغيرة، تحمي تلك الدول الصغيرة، ما حدث لتلك الدول يؤكد أن نظرية السمكة الكبيرة التي تم اصطيادها ولا يزال تأثيرها باقيا فينا وتزداد ضراوتها. كيف لنا أن ننسى الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية علينا؟ منذ ما يقارب ثلاثين سنة ونحن نعيش ارتدادات اصطياد السمكة الكبيرة، ثم استطاعت أمريكا أن تصطاد العراق عام 2003 ثم ليبيا واليمن وسوريا وقبلها مصر بالطبع. دمرت كل شيء تحت مزاعم كاذبة، وإن بقيت هذه الدول فهي دون روح ليست إلا هيكلا وخواء.
منذ اصطياد السمكة الكبيرة التي عمل كيسنجر على تهيئة ظروف اصطيادها وها نحن نبحث في محيطاتنا وبحارنا وخلجاننا عن سمكة كبيرة نحتمي بها. تقلص حجمنا الذي اضمحل وأصبحنا في وضعية صغيرة منكمشة جدا مما سهل اصطيادنا منفردين أو حتى بالجملة لا اختلاف في ذلك. وبوضعنا الحالي ما زلنا نعيش دور السمك الصغير نحوم حول أنفسنا تائهين نبحث عن سمكة كبيرة تحمينا من هذا المصير الكارثي.
في المفهوم الأمريكي كلنا أسماك صغيرة؛ لذلك نعيش واقعا مؤلما ووضعية صعبة ونحن نتماهى ونتقمص دور الصغار في عالم البقاء فيه للكبار، لسان حالنا يقول: (أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض) مهما حاولنا أو أوهمنا أنفسنا بأننا نخرج من ذلك الإطار، نتفاجأ بأن حجمنا يزداد صغرا، لم تغيرنا الأحداث ولا الكوارث راضين لأنفسنا دورا صغيرا لا نحيد عنه، تقلص حجمنا ولم نكبر وأصبحنا أجسادا واهنة مريضة لا تحمل غير الذل والضعف. يتجلى أمامنا عالم يتحكم فيه الكبار الذين تزداد غطرستهم ولا حدود لتوحشهم، ولا رادع لجنونهم.
في غزة يشن الغرب كله بقيادة أمريكا برأس حربتها الكيان الصهيوني المجرم حربا تطهيرية متوحشة، يقتل ويدمر ولا يراعي أي حرمة للبشرية والإنسانية، لا حدود لتوحشه وهمجيته وعدوانيته، يمني الغرب نفسه بسحق تلك الأسماك الصغيرة التي تُظهر المقاومة بين الحين والآخر وتخرج على نسق القطيع، يتوهم الغرب بالانتصار وعيش نشوته على المقاومة ويروج لمقولات وسرديات أصبحت مكشوفة ومفضوحة أمام الشعوب الحرة.
هنري كيسنجر الذي شرع ورسم الاستراتيجيات لكثير من الحروب التي شنتها أمريكا، نجده صادقا في تلك العبارة التي قالها إبان الحرب الأمريكية على فيتنام، عام 1969 قال: «خضنا ضد الفيتناميين حربا عسكرية لكنهم حولوها إلى حرب سياسية. حاولنا استنزافهم ماديا فاستنزفونا سيكولوجيا. في الحروب تنتصر العصابات عندما لا تنهزم، وتنهزم الجيوش التقليدية عندما لا تنتصر». هكذا هي الشعوب الحرة الأبية الشريفة التي لا تبيت على ضيم، يبتكرون شتى الوسائل لمقاومة الاستعمار والغطرسة الكولونيالية المتوحشة.
كم هي صعبة هزيمة الشعب الفلسطيني، لن يركع ذلك الشعب وجيناته تحمل المقاومة والتصدي والتحرر. آن لأمريكا وزبانيتها أن يدركوا ذلك، آن لهم أن ينزلوا من قصور غطرستهم وتكبرهم وخيالهم المريض الذي يقودهم من وهم إلى وهم، ذلك الفكر المريض الذي لا يزين لهم إلا الحروب ويقودهم من جريمة لأخرى، يصمون آذانهم ويغشون أعينهم. مكابرين ولا يهمهم غير مصالحهم فليذهب العالم كله إلى الجحيم طالما هم وحدهم الباقون. حقيقة قد لا تروق لهم.
هيهات أن تهزم مقاومة الشعوب الحرة، شيء بعيد المنال في زمن تغيرت فيه الكثير من المفاهيم والمقاييس، الغرب المتوحش يعتقد أن النصر في الحروب هو بكثرة القتل والدمار، فيعمد إلى تدمير غزة وقتل أهلها، لم تراعِ آلة القتل الجهنمية لا طفلا ولا كبيرا في السن ولا نساء ولا مدنيين عزل. القتل والتدمير الذي تنتهجه إسرائيل وأمريكا والغرب هو خبط عشواء. لا يريدون لتلك الأسماك الصغيرة أن تزاحم الكبار وتغير من حجمها، يريدون أن تنطفئ شعلة التحرر للأبد، لكن ألا يعلمون أن شعلة المقاومة ستظل جذوتها مشتعلة لن تموت ولن تمحى، وستنشأ أجيال بعد أجيال ترفع تلك الشعلة.
بدر الشيدي قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأسماک الصغیرة
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يعزز تفاؤل 77% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات بالمستقبل دبي (الاتحاد)
دبي (الاتحاد) أظهرت نتائج تقرير «توجهات الشركات الصغيرة والمتوسطة»، الصادر عن سيلزفورس المتخصصة في تطوير حلول إدارة علاقات العملاء، تفاؤل 77% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات بالمستقبل مع تكثيف تبنيها للذكاء الاصطناعي. ووفقاً لنتائج التقرير الذي يستطلع آراء 3,350 من قادة الشركات الصغيرة والمتوسطة في 26 بلداً، من ضمنهم 75 من دولة الإمارات العربية المتحدة، يتوقع أن تحقق الشركات الصغيرة والمتوسطة نتائج جيدة بفضل الذكاء الاصطناعي وترسخ الأسس اللازمة لحقبة وكلاء الذكاء الاصطناعي المستقلين. وشملت أبرز نتائج التقرير 75% من الشركات الصغيرة والمتوسطة على الصعيد العالمي، والتي إنها إما في مرحلة اختبار الذكاء الاصطناعي، أو قامت بتطبيقه بالفعل، مشيرة إلى النتائج الإيجابية التي حققتها في ما يخص الإيرادات والإنتاجية وتجربة العميل، فيما أشار 87% إلى استخدام الشركات الصغيرة والمتوسطة في دولة الإمارات الذكاء الاصطناعي أو تقوم بتجربته. وكانت أبرز ثلاث حالات استخدام للذكاء الاصطناعي في الشركات الصغيرة والمتوسطة بدولة الإمارات هي: التنبؤ بالمبيعات، وتحديد أولويات العملاء المحتملين (المركز الأول المشترك)، وأدوات البحث الخاصة باللغات الطبيعية. وأظهرت نتائج التقرير أن 88% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات ترى أن الذكاء الاصطناعي ساهم في زيادة الإيرادات، فيما أشار 66% من قادة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات إلى قلقلهم من تخلف شركتهم عن الركب في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. ومع تزايد عروض خدمات التكنولوجيا وتوسع القدرات، يواجه قادة الشركات الصغيرة والمتوسطة ضغوطاً متزايدة لإدارة التكنولوجيا لديهم بفعالية، حيث أفاد 57% من قادة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات بصعوبة مواكبة التكنولوجيا دائمة التغير، في حين أشار 49% منهم إلى أنه لا يوجد وقت لإتقان جميع التقنيات التي تستخدمها شركاتهم، مقابل 77% من الشركات رأت أن تحسين جودة بياناتها سيسهم في زيادة إيراداتها. وأشار التقرير إلى قيام الشركات الصغيرة والمتوسطة بإعطاء الأولوية إلى الشراكات الموثوقة خلال مواجهتها لتحديات عالم اليوم، التي تشتمل على مخاطر أمن إلكتروني وتغيرات تقنية متسارعة، إذ يتوقع 72% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات إنفاق المزيد على التكنولوجيا المقدمة من مزودين موثوقين. وقال تيري نيكول، نائب الرئيس والمدير العام لشركة سيلزفورس لمنطقة الشرق الأوسط: «تقوم الشركات الصغيرة والمتوسطة في الإمارات باختبار الذكاء الاصطناعي، مدفوعة برغبة قوية في البقاء في صدارة مسيرة التقدم واستخدام التكنولوجيا، وذلك من أجل تحسين طريقة عملها وتعزيز خدمات العملاء. وعلى الرغم من ذلك، يشعر العديد من قادة الأعمال بالقلق إزاء قدرتهم على مواكبة التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، وخاصة ما يخص القضايا الأمنية والأخلاقية التي تثيرها هذه التكنولوجيا المتطورة. إننا نتطلع إلى العمل مع الشركات الصغيرة والمتوسطة في منطقة الشرق الأوسط لمساعدتها على التعامل مع مشهد التكنولوجيا دائم التغير، وضمان قدرتها على نشر الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنة وأخلاقية وفعالة».