لجريدة عمان:
2024-11-17@15:25:33 GMT

اصطياد السمكة الكبيرة

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

كلنا يا صديقي أسماك صغيرة. عبارة قالها أحد الأصدقاء وقد أغضبه حال الأمة العربية وما يحدث في فلسطين. قال تلك العبارة وحضر هنري كيسنجر بنظريته المشهورة اصطياد السمكة الكبيرة، تقوم تلك النظرية على اصطياد السمكة الكبيرة سيفتح المجال أمام اصطياد الأسماك الصغيرة الأخرى. نظرية سياسية في العلاقات الدولية تبناها وأرسى معالمها هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الذي رحل عن عمر يناهز المائة سنة، وكان ذلك خلال محادثاته المكوكية بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973 بقصد إنهاء الحرب، إذ ذاك كان لابد من اصطياد السمكة الكبيرة لإنجاح تلك الخطة فكانت السمكة الكبيرة التي يقصدها في ذلك الوقت هي مصر، وهي الدولة العربية الكبيرة والمهمة التي خرجت للتو من الحقبة الناصرية ولا تزال تعيش بقايا من زهو القومية ممزوجة بالكبرياء والتحرر ومكافحة الاستعمار.

أدرك تماما أن الاصطياد يختلف عن الصيد، الصيد مهنة أو هواية تمارس بوسائل شتى، لكن الاصطياد ككلمة تحمل معاني مختلفة ضمنها الترصد والبحث عن وسائل ناجعة وقد يكون منها الخداع والتضليل لإيقاع الضحية للوصول للهدف المرجو من ذلك الفعل.

الدول الكبيرة كما الأسماك الكبيرة، لا تراعي حرمة لشيء ولا يهمها أن تفتك بالدول الصغيرة وسحقها فقط لمجرد أن تعيش هي، فالأسماك الكبيرة تكتسب حجمها من عوامل وميزات عدة لكن ليس بالضرورة أن يؤهلها حجمها أن تكون كبيرة ولها نفس القوة والعنفوان لأسماك كبيرة أخرى، فعمليا عندما تسقط السمكة الكبيرة تجد الأسماك الصغار نفسها مكشوفه وضعيفة لا أحد يحميها ولا يدافع عن وجودها، فتتساقط تباعا وكأنها حجر لعبة الدويمنو.

يخبرنا كيسنجر بأن هذا العالم الذي نحيا فيه لا مكان فيه للضعفاء، العالم ليس إلا غابة أو محيط كبير لا حدود للمعاناة فيه، غابات متراكمة من المآسي والكوارث، كل شيء لا يخرج عن سيطرة السيد، الكبار وحدهم من يحيون، أما الصغار ليس أمامهم إلا الخضوع إن أرادوا العيش.

ما كان يدور في خلد كيسنجر مختلف جدا، ليس وقف الحرب فقط هو هدفه من ذلك الاصطياد وإنما مخطط آخر وهو أن يفتح الطريق لاصطياد بقية الدول العربية وجرها نحو قبول الكيان الصهيوني المغتصب وإقامة علاقات وتطبيع معه، فقد ركز كل اهتمامه ووضع الاستراتيجيات للوصول لذلك الهدف وهو ما حصل لاحقا وفعلا حين فتح الاتفاق المصري الإسرائيلي في عهد السادات السبيل أمام مفاوضات مع الفلسطينيين، ثم لاحقا مع بعض الأقطار العربية كالأردن ولاحقا اتفاقيات التطبيع أو ما عرف باتفاقيات السلام الإبراهيمي، وإن جاءت استراتيجية اصطياد تلك الأسماك الصغيرة متأخرا.

نظرية اصطياد السمكة الكبيرة لا تزال تعمل كمرشد وخارطة طريق تستدعيها السياسة الأمريكية عندما تنوي تنفيذ إحدى خططها الجهنمية لتفتيت العالم العربي والسيطرة على مقدراته. فعمليا طبقت أمريكا تلك النظرية عندما اصطادت دولا عربية كبيرة وإن بمقاسات ومفاهيم مختلفة، دولا كانت رائدة بشكل أو بآخر وبارزة. وجودها كما يقال يعدّ ركيزة داعمة للدول الصغيرة، تحمي تلك الدول الصغيرة، ما حدث لتلك الدول يؤكد أن نظرية السمكة الكبيرة التي تم اصطيادها ولا يزال تأثيرها باقيا فينا وتزداد ضراوتها. كيف لنا أن ننسى الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية علينا؟ منذ ما يقارب ثلاثين سنة ونحن نعيش ارتدادات اصطياد السمكة الكبيرة، ثم استطاعت أمريكا أن تصطاد العراق عام 2003 ثم ليبيا واليمن وسوريا وقبلها مصر بالطبع. دمرت كل شيء تحت مزاعم كاذبة، وإن بقيت هذه الدول فهي دون روح ليست إلا هيكلا وخواء.

منذ اصطياد السمكة الكبيرة التي عمل كيسنجر على تهيئة ظروف اصطيادها وها نحن نبحث في محيطاتنا وبحارنا وخلجاننا عن سمكة كبيرة نحتمي بها. تقلص حجمنا الذي اضمحل وأصبحنا في وضعية صغيرة منكمشة جدا مما سهل اصطيادنا منفردين أو حتى بالجملة لا اختلاف في ذلك. وبوضعنا الحالي ما زلنا نعيش دور السمك الصغير نحوم حول أنفسنا تائهين نبحث عن سمكة كبيرة تحمينا من هذا المصير الكارثي.

في المفهوم الأمريكي كلنا أسماك صغيرة؛ لذلك نعيش واقعا مؤلما ووضعية صعبة ونحن نتماهى ونتقمص دور الصغار في عالم البقاء فيه للكبار، لسان حالنا يقول: (أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض) مهما حاولنا أو أوهمنا أنفسنا بأننا نخرج من ذلك الإطار، نتفاجأ بأن حجمنا يزداد صغرا، لم تغيرنا الأحداث ولا الكوارث راضين لأنفسنا دورا صغيرا لا نحيد عنه، تقلص حجمنا ولم نكبر وأصبحنا أجسادا واهنة مريضة لا تحمل غير الذل والضعف. يتجلى أمامنا عالم يتحكم فيه الكبار الذين تزداد غطرستهم ولا حدود لتوحشهم، ولا رادع لجنونهم.

في غزة يشن الغرب كله بقيادة أمريكا برأس حربتها الكيان الصهيوني المجرم حربا تطهيرية متوحشة، يقتل ويدمر ولا يراعي أي حرمة للبشرية والإنسانية، لا حدود لتوحشه وهمجيته وعدوانيته، يمني الغرب نفسه بسحق تلك الأسماك الصغيرة التي تُظهر المقاومة بين الحين والآخر وتخرج على نسق القطيع، يتوهم الغرب بالانتصار وعيش نشوته على المقاومة ويروج لمقولات وسرديات أصبحت مكشوفة ومفضوحة أمام الشعوب الحرة.

هنري كيسنجر الذي شرع ورسم الاستراتيجيات لكثير من الحروب التي شنتها أمريكا، نجده صادقا في تلك العبارة التي قالها إبان الحرب الأمريكية على فيتنام، عام 1969 قال: «خضنا ضد الفيتناميين حربا عسكرية لكنهم حولوها إلى حرب سياسية. حاولنا استنزافهم ماديا فاستنزفونا سيكولوجيا. في الحروب تنتصر العصابات عندما لا تنهزم، وتنهزم الجيوش التقليدية عندما لا تنتصر». هكذا هي الشعوب الحرة الأبية الشريفة التي لا تبيت على ضيم، يبتكرون شتى الوسائل لمقاومة الاستعمار والغطرسة الكولونيالية المتوحشة.

كم هي صعبة هزيمة الشعب الفلسطيني، لن يركع ذلك الشعب وجيناته تحمل المقاومة والتصدي والتحرر. آن لأمريكا وزبانيتها أن يدركوا ذلك، آن لهم أن ينزلوا من قصور غطرستهم وتكبرهم وخيالهم المريض الذي يقودهم من وهم إلى وهم، ذلك الفكر المريض الذي لا يزين لهم إلا الحروب ويقودهم من جريمة لأخرى، يصمون آذانهم ويغشون أعينهم. مكابرين ولا يهمهم غير مصالحهم فليذهب العالم كله إلى الجحيم طالما هم وحدهم الباقون. حقيقة قد لا تروق لهم.

هيهات أن تهزم مقاومة الشعوب الحرة، شيء بعيد المنال في زمن تغيرت فيه الكثير من المفاهيم والمقاييس، الغرب المتوحش يعتقد أن النصر في الحروب هو بكثرة القتل والدمار، فيعمد إلى تدمير غزة وقتل أهلها، لم تراعِ آلة القتل الجهنمية لا طفلا ولا كبيرا في السن ولا نساء ولا مدنيين عزل. القتل والتدمير الذي تنتهجه إسرائيل وأمريكا والغرب هو خبط عشواء. لا يريدون لتلك الأسماك الصغيرة أن تزاحم الكبار وتغير من حجمها، يريدون أن تنطفئ شعلة التحرر للأبد، لكن ألا يعلمون أن شعلة المقاومة ستظل جذوتها مشتعلة لن تموت ولن تمحى، وستنشأ أجيال بعد أجيال ترفع تلك الشعلة.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأسماک الصغیرة

إقرأ أيضاً:

حرب غزة والنموذج المقاوم: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟

الحرب الجارية على المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي الحرب السادسة عشرة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية، وفق رصد أ.د. نادية مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة. وهي بهذا تستكمل ما قام به المستشار طارق البشري – المفكر والقاضي المصري رحمه الله – الذي يميز في محاضرة وورقة مهمة بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير.

ففي رأي البشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 – حين كتب ورقته – هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أم شعبية، ومتضمنة الحروب الأميركية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة.

وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمس كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب.

جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأميركان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009.

تمثِّل هذه الحروب – في نظر البشري – حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو إستراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية.

ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. لكن مع كل معركة جديدة في صراع سيمتد معنا لعقود قادمة؛ يحسن أن نتوقف لنستخلص الاتجاهات التاريخية، كما يرسمها نموذج التحرير والمقاومة.

إن إحدى سمات نموذج المقاومة/ التحرير هي سيرورته التي لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل أيضًا في نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة.

من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي.

ونقطة البدء في بناء النموذج المقاوم/ التحرر هي: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟

أولًا: نظام رسمي عربي لم تعد له هوية واضحة

وهو نظام لم تعد له هوية واضحة، أصابه التفتت والانقسام، وباتت مكونات منه جزءًا من نظام صهيو/عربي يجري مأسسته بعد أن دشنته اتفاقات التطبيع.

أظهر الطوفان أن هناك أنظمة عربية لم تقم بواجب النصرة والمساندة للفلسطينيين فقط؛ بل تآمرت عليهم وقدمت الدعم المادي والمعنوي للكيان الصهيوني وبشكل علني، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع. قبل ذلك ربما تم ذلك من بعض الأنظمة، ولكنه كان يجري بشكل مستتر وخفي.

يستند هذا النظام إلى أسس أربعة:

المصالح القُطرية أولًا. المصالح الاقتصادية تقود السياسة. إخراج القيم من المشهد، حيث البراغماتية – تحت عنوان الواقعية – هي التي يجب أن تسود. القفز على تطلعات الجماهير.

برز مع الطوفان الاختلاف الواضح بين موقف الأنظمة العربية من مساندة الفلسطينيين الذي اقتصر على التصريحات والبيانات اللفظية، وقد يمتد إلى الإغاثة، وبين موقف الشعوب العربية التي انحازت في مجملها لدعم ومساندة الفلسطينيين.

سبق أن تعرضت في مقال سابق لهذه السمات بالتفصيل والتي يطلق عليها البعض "الشرق الأوسط الجديد"، لكن الجديد الذي كشف عنه الطوفان هو كيف باتت إسرائيل جزءًا وأحد مكونات هذا النظام رغبًا ورهبًا؛ رغبًا من خلال قيام بعض الأنظمة ببناء مصالح مشتركة معها، ورهبًا من خلال التوحش المدعوم غربيًا، وهي تتطلع أن تقود هذا النظام في شقه الأمني على الأقل.

ثانيًا: عجز شعبي عربي عن النصرة والمساندة

العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات – هم أقل المساهمين في نصرة الفلسطينيين. المشكلة أن الدولة العربية تحجب نصرة الشعوب وتحول دون التعبير عن مواقفهم بحرية. الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة.

لا أدري إن بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؟ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب التي بات الإنهاك يحيط بها في كل ركن من حياتها.

المواطن العربي المنهك يشعر بثقل ووطأة المأساة، ولكنْ هناك أولويات وضغوط أخرى: اجتمعت على كثير من المواطنين العرب ضغوط كثيرة، فالمجتمع يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطى والدنيا إلى الانصراف إلى توفير الحياة الكريمة – في حدودها الدنيا – لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان؛ كما في ليبيا، والسودان، وسوريا.

ثالثًا: التطبيع مع الإبادة

على مدار 10 سنوات أو يزيد، تم تطبيعنا – نحن الشعوب العربية – مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات والتنظيمات غير الرسمية، ومن ثم كانت الحرب على الفلسطينيين واللبنانيين بعد "طوفان الأقصى" – للأسف – إحدى الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفًا هذه المرّة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها، لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة.

على مدار العقد الماضي، تفشت ولا تزال الحروب الأهلية في المنطقة، وشارك فيها الجميع بالدعم والمساندة أو بالصمت والسكوت. جرى إخفاء الضحايا والتحلل من المسؤولية الواجبة بالدعاية أو إثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسؤولية للآخرين أو بإثارة الأسئلة الخاطئة في اللحظة التي يتعرّض فيها البشر للإبادة.

أدرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأميركية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسؤولين، ولا الاعتراف بدولتهم.. فالمعاناة والمأساة اللتان يكابدونهما في كل لحظة هما معاناتهم ومأساتهم وحدهم.

من أبرز ما جرى في الطوفان هو التكيف المعرفي مع الإبادة. جرى ذلك عن طريق تزويدنا بروايات ودعايات سياسية لقبول العنف مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصى لم تستشر الفلسطينيين، أو أنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الإخوان الموصومين بالإرهاب، أو أنها غير وطنية، أو على أقل تقدير خرجت عن الإجماع الوطني، أو أنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلى نفسها جنت براقش، وأخيرًا وليس آخرًا؛ شريكة في الإبادة مع الإسرائيليين – كما صرح أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية.

رابعًا: التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر

هذا الاستعمار – بشكله القديم والمتجدد – هو المكون الرابع مما ينبغي أن نتحرر منه كسبيل لبناء النموذج المقاوم. أعادتنا الحرب الجارية في المنطقة لأكثر من عام للتساؤل عن: هل تحررنا نحن العرب من الاستعمار حقًا؟

كشفت الحرب على غزة حقائق خمسًا يجب أن نتوقف أمامها طويلًا:

نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا. نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، التي انتشرت قواعدها العسكرية وجنودها في كل مكان في المنطقة (يتمركز نحو 30 ألفًا من جنودها بشكل دائم في العشرات من القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من 15 دولة في الإقليم)، وقدمت من خلالها الدعم المباشر وغير المباشر لإسرائيل. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991. مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا. في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا. هل هناك علاقة بين التبشير باليوم التالي في غزة الذي ستكون فيه مركزا اقتصاديا على البحر المتوسط، وبين تفكيك المقاومة مستقبلًا من خلال هذا النموذج؟ قوى إقليمية غير عربية احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا. أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي. أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع والاتفاق المرشح مع الدولة اللبنانية، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى عاصمة للتجارة والأعمال على البحر المتوسط. خامسًا: الاستقطاب المسموم

برز مع طوفان الأقصى موقفان كبيران يضم كل منهما أطرافًا متعددة مختلفة، وبين هذين الموقفين يوجد من ينتظر متفرجًا أو لم يحسم انحيازه بعد إلى أي الفريقين يجب أن ينضم؛ لعل تطور الأحداث ونهاية المعركة تساعده على حسم موقفه.

الموقف الأول يضم الإسلاميين في المنطقة، وقوميين ومجموعات علمانية ويسارية، ونخبًا مثقفة تضم تنويعات كثيرة. تدرك هذه المجموعات – وغيرها الكثير- التهديد الوجودي الذي يمثله المشروع الصهيوني في المنطقة، كما ظهر جليًا في الإبادة الجماعية التي تتدفق صورها على مدار اليوم والمستمرة لأكثر من عام حتى الآن.

يدرك هذا الفريق فداحة تأثير الإبادة الجارية على الفلسطينيين في مستقبل دول وشعوب المنطقة، وكيف سيكون لنتيجة هذه المعركة تأثير حاسم على ذاته ونفسيته أولًا، وعلى دور المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسس تأييد الحكومات الغربية له، وفي القلب منه علاقة حكومات دول المنطقة بهذا المشروع.

هؤلاء يقفون جميعًا في مواجهة موقف يضم كثيرًا من الأنظمة العربية، ومعظم الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. تملك هذه الأطراف تصورًا لمستقبل المنطقة يقوم أساسًا على قوة الاقتصاد والمصالح المالية في تفكيك جميع الصراعات، وإن لم يتمّ ذلك، فيمكن القفز عليها أو إنكار كثير من حقائقها.

الأيديولوجيات يجب أن يختفي أصحابها، والنضالات الاجتماعية مرفوضة، والمقاومة المسلحة مدانة، ونصرة المظلوم هي فقط بالإغاثة، والتضامن العربي أو الإسلامي بقايا ماضٍ انتهت صلاحيته؛ فالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للدولة الوطنية هي الحكم، وغير ذلك هراء أو من سفاسف الأمور التي نهينا عنها وطنيًّا وعقليًّا وربما شرعيًّا.

بين هذين الموقفين هناك من لا يزال يراجع موقفه، أو لم يحسم أمره بعد؛ تتملّكه الهواجس والمخاوف من "حماس الإسلامية"، أو لا يزال قابعًا في قفص الأيديولوجيا الجامد وانحيازاته السياسية، أو يعيش في ظلال الماضي القريب أو البعيد بمعاركه السياسية والفكرية.

طوفان المقاومة يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين متضادين يتجسدان في يحيى السنوار الذي مات لتحيا أمة، والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة أو انتماء. وبغية التغطية على هذا الاستقطاب تم بعث وإذكاء استقطابات أخرى مسمومة.

بناء نموذج المقاومة/ التحرر – كما كلمة التوحيد – له شقان: نفي وإثبات. عالجت في هذا المقال الشق الأول، ويتبقى أن أشير في التالي إلى مرتكزاته ومقوماته التي لا غنى عنها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • لتمثيل لبنان في القمة العربية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.. بوشكيان إلى قطر
  • حرب غزة والنموذج المقاوم: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
  • النشمية الصغيرة.. ولي عهد الأردن ينشر صورة لابنته (شاهد)
  • "الأنامل الصغيرة" تحيي احتفالية أعياد الطفولة في بورسعيد .. صور
  • "الأنامل الصغيرة" تحيي احتفالية أعياد الطفولة في بورسعيد.. صور
  • بشأن جورج عبدالله.. ما الذي قرّرته محكمة فرنسيّة؟
  • جمعية الخبراء: 6 مزايا ضريبية لأصحاب المشروعات الصغيرة في مشروع القانون الجديد
  • خبراء الضرائب: 6 مزايا ضريبية للمشروعات الصغيرة في القانون الجديد
  • بيان البرهان الذي تتوقعه الجماهير
  • قبل لقاء العراق.. ولي عهد الأردن ينشر صورة مع النشمية الصغيرة