المرجعية في الأدب العماني «7»: صورة الساحر في سرديات محمود الرحبي
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
هل يمكن للسرد أن يبتكر صورة جميلة لشخصية الساحر؟ أم أن الحكاية الشعبية سبقته فرسّخت صورته كيفما أرادت؟
لقد سبق لي أن كتبت مقالة عن الحكاية الشعبية في روايتي (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي، و(درب المسحورة) لمحمود الرحبي، وذكرتُ فيها مرجعية حكايات التراث الشعبي في الأعمال السردية، وتحديدا في الروايتين المذكورتين.
في هذا السياق يلجأ كثيرا كُتّابُ السرد إلى التراث مستلهمين قصصه وحكاياته الشفهية وتوظيفها سردا متخيّلا. ولعلّ محمود الرحبي واحد من الكُتّاب الذين اشتغلوا على هذا التوظيف وذلك بإعادة رسم صورة الساحر المتخيلة التي وردت على ألسنة الناس في الثقافة الشعبية إلى النصوص السردية، فنجده منح شخصية الساحر ملامح تمزج بين الخيال ومقاربته للواقع بما يخدم الحدث السردي الذي يدور حوله النص.
لقد أبرزت رواية (درب المسحورة) صورة الساحر التي رسمها الناس في مخيلتهم وحكاياتهم الشعبية انطلاقا من توضيح سبب قيامه بأكل لحوم البشر وإنهاء حياتهم بذلك، فهو قائم على كراهيته لهم، كتبتُ عن ذلك قائلا: «...كما تتفق الروايتان على شخصية الساحر، وترسم له صورة مخيفة، وقبيحة، ومقززة قائمة على التلذذ بأكل الآخر. إنّ اشتهاء الساحر للحم الآخرين هي مرجعية حكائية تناولتها الحكايات العمانية القديمة...»، وكتبتُ أيضا: «إلا أنّ (درب المسحورة) تُظهر صورة للساحر قائمة على الكراهية للبشر، فهو لا يتلذّذ بأكل الناس وحسب، بل يُقدّم كراهيته لهم سببا في انطلاق الفعل، تقول الرواية على لسان الساحر (ص23): «أيها البشر، كم أكرهكم! كم أتمنى زوالكم جميعا! أن تُصهروا في معدتي ومعدات رفاقي. سنسحلكم بسهولة في معداتنا الجافة. ستتحول لحومكم إلى سوائل نقذفها نتنة في الصحراء». وفي موضع آخر (ص24): «ستتّحدُ كراهيتنا لسلالة القرود هذه».
لقد اشتغل السرد كثيرا على هذا الحضور لشخصية الساحر، والذي ربط من خلالها بين الخيال السردي والخيال التراثي؛ نجد ذلك عند الرحبي في غير موضع من كتاباته القصصية. لقد أوجد الرحبي هذه الشخصية من ذاكرة التراث الشعبي وأضفى عليها شيئا من تدخلات السرد مقيما علاقة توازٍ بين الحدث السردي والذاكرة الحكائية المتخيّلة في مجتمعنا.
تلك الشخصية المرعبة والمخيفة، آكلة لحوم البشر والمتلذّذة بعذابهم ونهايتهم، والشخصية المقترنة بالشرّ في رواية (درب المسحورة)، نجد محمود الرحبي يُظهرُ توبتها في قصة (غفلة الساحر)، إذ إنّ كبير سحرة بهلا يُقرّر التوبة من السحر، ولكنه قبل ذلك يقرّر مواجهة عالم السحرة، ويخوض معركة كبيرة مع سحرة نزوى، فـ: «حين قرّر كبير سحرة بهلا أن يتوب، ويهوي بضربة السيف على عنق أسطورة السحر في عمان، كان عليه أن يصل إلى حيلة ليقطع بها الفرضة الموجودة في سوق نزوى، التي يستظل بها ضحايا السحرة هناك، حيث تتم المزايدة عليهم قبل سحبهم تحت الستارة التي تُخفي بهجة الضيافة والأكل، ليصنعوا بهم ما يشاءون من خوارق.
ولأن تلك الغرفة لا يمكن قطعها إلا بيد أصحابها، فإن مشقة البحث عن حيلة أخذت وقتا طويلا في رأسه. ومثل هذه المعارك كانت معروفة بين الطرفين، وإتيان الخروقات في التعامل مع الضحية، حتى أنّ سوقي المدينتين كانا مثار العجائب في مسخها وإبادتها، فحين يأتي سحرة نزوى بفعل خارق في ضحية ما، وتنتشر بين الناس، فإن سحرة بهلا لا بد وأن يظهروا بخارقة أكبر، وتستمر اللعبة وفي ميدان الضحية وحدها، دون أن يطال السحرة شيئ منها، وحين قرّر كبير السحرة في بهلا التوبة، والامتناع عن أكل لحوم الناس والعبث بأرواحهم كان ذلك بمثابة فتح شرخ عميق، وسابقة مهّدت تصدع وذوبان صناعة السحر في عمان».
هنا تبدأ القصة بفعل التوبة وهو فاتحة الأحداث، ومعها يدخل الراوي إلى عوالم الحكايات الشعبية واستنطاقها للتأكيد على واقعية الفعل؛ لقد أوجدت القصة مكانين مختلفين لصناعة السحر في عمان (بهلا، ونزوى) وذلك بالعودة إلى الحكايات القديمة حول البلدتين في هذا الموضوع، كذلك أوجدت قيمة كبرى لعالم السحر بوجود كبار السحرة وتلاميذهم وهو ما يمكن وصفه بالمدارس التعليمية لهذه الصناعة، كذلك أوجدت المواضع التي يُصنع فعل السحر فيها وهي الأسواق التي هي مواضع البيع والشراء ويدخل ضمنها بيع وشراء المسحورين، كل ذلك عمدت القصة إلى إظهاره لإقامة جانب واقعي/ سردي مقترن بالجانب التخيلي/ الموروث الحكائي، فما الحيلة التي اخترعتها القصة لانتقال الأحداث إلى نهايتها؟
إن انتقال الأحداث وتصاعدها جانب مهم في القصة خاصة مع الخيالي والغرائبي من الأحداث، وهنا يصعد الراوي بالأحداث حاملا القارئ على أخيلة الغرائبي، فكان على كبير سحرة بهلا أن يدخل سوق نزوى متخفيا لممارسة قوته، وإظهار مهاراته في عالم السحر وصولا لما يريده من قطع الفرضة التي هي محور الشر في الكون. هنا يظهر الصراع محتدما بين كبيري السحرة في البلدتين، وهو صراع كان محتدما في السابق بحكم السحر، وامتدّ الآن لإنهائه. نقرأ في غرائبية الأحداث وتصاعدها والتصادم بين الشخصيتين الأمهر في عالم السحر من خلال الأحداث الآتية: «كانت فعلة كبير السحرة هي أن يتحول إلى ضحية، ويذهب إلى تلك الفرضة، وحين دخل المدينة لم يتعرف عليه أحد من نزوى، حيث بدا ملثّما وفي لباس البدو وعيناه تشعان بالحذر، وحين اقترب من تلك الفرضة، وجد فناء واسعا تتوسطه حصيرة سعفية يتوسطها مسن تمر ودلة قهوة وإناء، تعوم في مائه ثلاثة فناجين مثلومة الحواف».
يرتفع عنصر التشويق في سرد الأحداث الغرائبية وغير المتوقعة إلا في حكاياتها الشعبية: «اقترب من الظل بحذر وثنى ركبتيه ثم مد يمينه على الصحن وعيناه تدوران في محجريهما دون توقف، آنذاك اقتربت أربعة ظلال من خلف جدار طيني قرب الفرضة، كانت تظهر أعناقها في الأرض الرطبة وهي تتلوى وتهمس في جدل صامت، وكبير السحرة يراقب بتلك العينين الساطعتين ما يدور في ذلك الخفاء.
وحين انزاح أحد الظلال من مجموعته مقتربا، عرف بأنه الساحر، وحين ظهر بملامحه، أخفى كبير السحرة عينيه ملتهيا بهز القطرة الأخيرة في فنجان القهوة، ثم رفعها دفعة واحدة إلى حلقه وفي هذه اللحظة اصطدمت عيناه بعيني الرجل القادم، فتفرس في هيئته فبادله الآخر النظرة فارجا أساريره بخبث وهو يشرب. حيّاه كبير السحرة واقفا، ثم أجلسه بجانبه، ودار بينهما حديث طويل، قبل أن يقترح القادم ضيافته للعشاء في بيته.
وتظهر لعبة الساحرين وقوتهما وبراعتهما في بيت كبير سحرة نزوى، وهنا تصل الشخصيات بالقارئ إلى ذروة الإمعان والتفكر في سماتها الخارقة، نجد الخوارق الناشئة على يديهما والتي تشير إلى قوتهما الخارقة في تحويل الأشياء، والاستفادة منها خيرا أو شرا، نقرأ ذلك مثلا في المشهد الآتي: «بقي كبير السحرة وشفتاه تتراقصان بتمتمات متسارعة وعيناه تتفحصان ما يضيئه مدخل الغرفة على أشيائها، حيث ظهر النصف العلوي لسلاح قديم، وصفحة من (جزء عم) محشورة في جرف، وكتب داكنة، وخيط عنكبوت بدأ يرتعش، وفي الأرض ظهر الجزء الأمامي لحصيرة السعف، وفي دائرة القنديل بدأت تحوم بعض الحشرات الضعيفة إلى أن بددتها خطوات صاحب البيت الذي أقبل وفي يده إناء من المرق وضعه بصمت ثم اختفى، تزايدت تمتمات كبير السحرة ثم أغمض عينيه وفتحهما على الإناء الذي ارتفع مثلما تسحبها خيوط خفية ليلتصق منقلبا على السقف وصفحة المرق تتلألأ منه دون أن تسقط. دخل صاحب الدار وفي يده صحن من الخبز، وحين سأل عن إناء المرق أشار إليه كبير السحرة بعينيه الجاحظتين إلى السقف، والتمتمات تهتاج من بين شفتيه دون صوت فباغتته هالة من الذعر، لكنه تراجع إلى شق متآكل في جدار الغرفة، ومن كيس هناك أخرج حفنة من الرماد ونثرها في جسد الضيف الذي تحول في لحظات إلى (دِبِيّة) وحين تَقَدَّم صاحب البيت ليطأها رأى جسده يتحول إلى (قاشعة) ويرتفع محمولا بين شفتي الحشرة إلى بهلا. خرجت الدبية خفيفة من الباب، وطارت مرتفعة فوق النخيل والكثبان، مسافات طويلة وحبة القاشع في فمها».
إن صراع السحرة في المشهد السابق قدّم صورة عن الخوارق التي يمتلكها الساحر في المخيال الشعبي وحكاياته. لقد استطاع السرد الانفتاح على الثقافة الشعبية واستحضار حكاياتها وإعادة تطويرها وتقديمها في الكتابة السردية بما يضمن الامتزاج بين الموروث القديم والسرد الفني.
أخيرا يمكن أن نقف على نموذج آخر مختلف عند محمود الرحبي يظهر فيه الساحر بهيئته الشريرة الراغبة في الانتقام، نقرأ قصة (حكاية الأمير وقمر الكتاب) في مجموعة (ساعة زوال، 2011م) التي تحكي قصةً تحيلنا في طريقة سردها على قصص التراث القديم كألف ليلة وليلة مثلا، الذي جاء ظهور الساحر بسيطا في آخر القصة، انفتحت معه فكرة القصة وصولا إلى الأميرة التي حبسها الساحر في كتاب لأنها رفضت الزواج به وظلّت تصرخ على الأمير لإنقاذها حتى توصل إلى مكانها.
تدور أحداث القصة في عالم متخيل، وشخوص تقليديين أشبه بقصص التراث كما ذكرت، وفي طريقة السرد التقليدية البسيطة التي تقدّم شخصياتها بكل بساطة. فكان لوجود الساحر في نهاية الأحداث دلالات اقتضتها الحكاية، وربطها بقرائن في القصة (الصوت المتكرر في المنام، المغارة، الكتاب القديم، العنكبوت، خيوط قديمة) كلها دلالات أراد الراوي من إقحامها في القصة محاولة تغليف السرد بجو من القلق والرعب. ومع أنّ شخصية الساحر هنا بسيطة لا وجود بارز لها كما هو الحال في قصص أخرى، فإنّ السرد عبّر لنا أن للساحر صورة سوداء خارقة مرتبطة بالذهن البشري، فها هو الساحر يلجأ للحيلة في حبسه للأميرة في كتاب في مغامرة لفترة طويلة. إذن فنحن على اعتقاد مسبق أنها الصورة الأوحد للساحر، الصورة التي ترسّخت لدينا من خلال حكاياتنا عن بشاعة الوصف للساحر. إنها صورة متخيلة وكفى.
خالد المعمري كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الساحر فی السحر فی التی ت
إقرأ أيضاً:
المخاطرُ الأليفة في كتابة القصة القصيرة
آخر تحديث: 10 أبريل 2025 - 11:16 صدونال رايان ترجمة : أثير الهاشمي أول قصة كتبتها خارج المدرسة في العاشرة من عمري، كانت عن الملاكم الأيرلندي المُفضّل لديّ (باري ماكجيجان)، إذ خسر لتوّه لقبه العالمي في وزن الريشة، أمام الأمريكي ستيف كروز تحت شمس (نيفادا الحارقة)، والشيء الوحيد الذي كان بإمكانه أن يشفي قلبي المكسور هو استعادة حزام بطلي المُفضل؛ لذلك كتبتُ قصتي عنه.كانت قصتي المُتخيلة في أيرلندا، وكنتُ بجانب الحلبة، في قصتي، رتبتُ الأمر برمّته حتى أنني قدمتُ لـــــــ (باري ماكجيجان) بعض النصائح لمواجهة لكمة ستيف اللاذعة. استمرّ القتال حتى النهاية، لكن باري فاز بسهولة بالنقاط، عانق ستيف، غنّى والده “داني بوي”. شعرتُ بارتياحٍ عميق، وأنا أنهي قصتي، إذ كان العالم في تلك اللحظة هادئًا، خلقتُ واقعًا جديدًا لنفسي، واستطعتُ أن أشغله لبعض الوقت، لأشعر بفرحةٍ تشكّلتْ بتحريك قلم حبر على الورق. أتذكر تلك القصة الآن، وفي كلّ مرة أجلس فيها لأكتب، إذ إنني أسعى جاهدًا لشعور الصواب الذي منحني إياه ذلك الإحساس بالسلام.. استغرق الأمر منّي بعض الوقت لاستعادة ذلك الشعور، عندما تركتُ المدرسة، إذ كنتُ محظوظًا بما يكفي؛ لتلقّي تشجيعٍ كبيرٍ وإقناعٍ بأنني كاتب، انغمستُ، من دون أي تفسير، في مسيرةٍ من التخريب الذاتي، فلم أسمح لطموحاتي الأدبية بالظهور إلّا نادرًا، ثم أحرقتُ ما كتبتُه في نوباتٍ من الاشمئزاز، فلم أجد شيئًا ممّا كتبتُه صادقًا؛ لم أجد شيئًا يستحق القراءة.بعد زواجي بفترة وجيزة، عثرتْ حماتي على ملف قرص صلب لجهاز كمبيوتر أقرضته لها (كان الملف يحتوي على قصة سخيفة عن محام ٍ شاب أفسده عميل عصابات)، لقد نسيت القصة، وواحدة من شخصياتها الهامشية، رجل بسيط ونقي القلب يُدعى جونسي كونليف.اقترحتْ زوجتي منح شخصية جونسي حياة جديدة، وبدأتُ إعادة كتابة العمل من جديد؛ استمرت القصة في النموّ حتى وجدتُ نفسي مع مسودة روايتي الأولى المكتملة: The Thing About December”.” وهكذا، تبيّن أن قصة قصيرة منسية، كُتبت في ضباب أوائل العشرينيات من عمري، هي التي صنعت مسيرتي في الكتابة، ربما كان ذلك ليحدث على أي حال، أو ربما لا، لكنني أعتقد أن الدافع كان سيظل حاضرًا دائمًا، الرغبة في صياغة الأفكار في ذهني.تقول ماري كوستيلو، مؤلفة ” مصنع الصين”، إحدى أروع مجموعات القصص القصيرة التي قرأتها على الإطلاق: “أكتب فقط ما هو أساسي، ما يجب كتابته… صورة أو قصة تُؤرقك باستمرار، ولن تتركك وشأنك، والطريقة الوحيدة لتحقيق السلام هي كتابتها”.أعلم أنه في هذا الحاضر المُقيّد؛ المُقيّد بالقواعد، والمُبتلى بالفيروسات، يجد الكثيرون أنفسهم مُثقلين بذلك الشعور، بتلك الرغبة المُلحّة في صُنع واقع جديد من اللغة، أو في إخراج الفكرة التي كانت تُلحّ عليهم من خيالهم إلى العالم؛ لذا جمعتُ بعض الأفكار، بمساعدة بعض كُتّابي المُفضّلين، حول أفضل السبل لإيجاد ذلك السلام. في القصة القصيرة، لا بدّ من أن تكون الجمل مؤثرة للغاية! بعض قصص تشيخوف لا تتجاوز ثلاث صفحات مطبوعة، وبعضها يتألف من فقرة واحدة موجزة، إذ نجد في قصته الأشهر، “السيدة صاحبة الكلب”، يُقدم لنا سرداً مفصلاً لطبيعة وتاريخ ودوافع غوروف في الصفحة الأولى، ولكن من دون أي شعور بالضغط أو الإرهاق، ومثلها مجموعة ستيفن كينغ ” ظلام دامس، بلا نجوم” الصادرة عام 2010 التي تُعدّ درسًا في التكثيف والتشويق. زميلتي في الكتابة الإبداعية بجامعة ليمريك، سارة مور فيتزجيرالد، مثلي، روائية تلجأ أحيانًا إلى القصص القصيرة. إذ تعتبر سارة القصص القصيرة “أروع مواهب السرد وأفضلها، لا شيء فيها زائدا عن الحاجة، ويكون تركيزها حادًا وحيويًا، ولكنها قد تكون أيضًا مختصرة بشكل رائع، مليئة بالأصداء”، على العكس من الرواية، كما سمعت مايك ماكورماك يقول: “توفر مساحة رائعة للكاتب”، لكن القصة القصيرة أرض قاحلة، لا مكان للاختباء، ولا مجال للإفراط أو الانحراف. سألتني زوجتي ذات مرة عن سبب قلقي الشديد، كنتُ قد نشرتُ روايتين، وبدأتُ كتابة مجموعة قصصية كاملة بعنوان ” ميل الشمس”، عادت من العمل لتجدني غارقًا في اليأس “كلّ جملة تُقلقني”، قلتُ متذمرًا “لا شيء منها كاف”ٍ. قالت: “لا تقلق بشأن حجم العمل الذي يقومون به حتى ينتهي النص”، “ابدأ بكتابة القصة، ثم يمكنك العودة وإصلاح كل تلك الجمل المقلقة، ومن المرجح، بمجرد نشر القصة، أن تهدأ من قلقك بشأن تلك الجمل، ستكون كذلك فحسب ” . لم أزل أشعر بالارتياح الجميل الذي شعرت به عند سماع كلماتها الحكيمة، الحياة مليئة بالقلق، ينبغي أن تكون جودة جملنا تحديًا وسعيًا دؤوبًا مثمرًا، وتراكمًا تدريجيًا للإنجازات، لكن الإبداع ينبغي أن يمنحنا دائمًا ولو همسة فرح، ينبغي أن يكون مخرجًا من القلق.من المفاهيم التي تُسلّط زميلتي سارة الضوء عليها مفهوم “المسودة الصفرية” – وهي مسودة تسبق المسودة الأولى، حيث تنشر قصتك على شاشتك أو صفحتك، متضمنة جميع أو معظم عناصرها المطلوبة، فتُتيح المسودة الصفرية حريةً تامةً في اختيار الأسلوب أو الدقة”. تُقدّم كيت دي وال، التي نشرت مؤخرًا مجموعة رائعة بعنوان Supporting Cast ، هذه الحكمة حول كيفية نقل قصتك من رأسك إلى صفحتك أو شاشتك: ” لا تفكر كثيرًا ولكن أكتب مرة أخرى، في بعض الأحيان ترى زوجًا من القفازات أو زهرة في الشارع أو أحمر شفاه على فنجان قهوة ويحركك بطريقة معينة. هذا هو موجهك هناك، أكتب هذا الشعور أو ضع شيئًا حول هذه الفكرة، فأنت لا تعرف ما هو في هذه المرحلة، ثم تنطلق من الإلهام المحض والطاقة الكتابية؛ لذا اتبعها فقط، واتبعها حتى النهاية – قد يكون يومًا أو أسبوعًا أو عامًا. أكتب شيئا، ثم أجلس واسأل نفسك: “أين السحر؟ ماذا أقول؟ من يتحدث؟” عندما تعمل على ذلك، ستنمو قصتك، ويمكنك البدء في الصياغة والتحرير”. كن صادقا: لا أقصد بذلك أن عليك أن تُعبّر عن حقيقتك دائمًا أو أن تعتمد فقط على تجربتك المعاشة، ولكن من المهم أن نكون صادقين مع دوافعنا وطموحاتنا ككتّاب؛ أن نكتب القصة التي نريد كتابتها، لا القصة التي نعتقد بأنه يجب علينا كتابتها، هذا أشبه بقول ما تعتقد بأن الناس يريدون سماعه: ستقع في فخّ أنصاف الحقائق والمعتقدات المصطنعة والمُستعارة. ستكون سياسيًا أكثر منك كاتبًا، ومهما كان بعضهم جيدًا ومحترمًا ، فإن العالم لديه ما يكفي من السياسيين. تجاربك الشخصية، وحقيقتك الشخصية بالطبع، يمكن تحويلها إلى قصص خيالية رائعة، ويمكنها، بفضل رسوخها في الواقع، أن تحتوي على فورية وكثافة شبه تلقائيتين. مجموعة ميلاتو أوتشي أوكوري الأولى، ” حياة هذا النزل “، مستمدة من تجاربها في نظام التوفير المباشر الأيرلندي كطالبة لجوء، إذ تتميز القصة التي تحمل عنوانها، على وجه الخصوص، بشعور من الصدق المطلق، مكتوبة بأسلوب مختلف؛ بينما تبدو قصة أخرى، “تحت المظلة”، وكأنها وصف غير مباشر لأحداث شهدتها أو عاشتها الكاتبة شخصيًا. تحمل المخاطر: يمكنك أيضًا أن تفعل بالضبط ما تريد فعله، إذا لم يتم فعله من قبل، فليس لديك ما تخسره من خلال المخاطرة، بالشكل أو المحتوى أو الأسلوب أو البنية أو أي عنصر آخر في قطعة الخيال الخاصة بك.يحث روب دويل ، وهو مغامر أدبي بارع، على المزج بين الخيال والواقع، إذ يؤكد على مزج الخيال بما هو عكسه؛ لذلك حاول أن تجعل الناس يتساءلون عمّا إذا كانت خيالًا أم لا ، إذ يمكن للقصص القصيرة استكشاف الأفكار وكذلك المشاعر – ويمكن أن تتناسب الأفكار الضخمة مع القصص القصيرة، وللدليل، اقرأ أعمال خورخي لويس بورخيس ، في الواقع، أؤيد نصيحة روبرتو بولانيو لأي شخص يكتب قصصًا قصيرة : اقرأ بورخيس”. ثني عمود الحديد: قال فرانك أوكونور عن القصة القصيرة: عندما يُسدل الستار، يجب أن يتغير كل شيء. لا بد من أن عموداً حديديًا قد ثُني وشُوهد وهو يُثنى”. كانت قصة ” ضيوف الأمة ” لأوكونور من أوائل القصص القصيرة التي حطمت قلبي، إذ وُصفت بأنها واحدة من أعظم القصص المناهضة للحرب على الإطلاق، وواحدة من أروع القصص التي كتبها أستاذ في هذا النوع من الكتابة، وتنتهي خاتمتها المدمرة بهذه العبارة الحزينة من الراوي المحطم: “وأي شيء حدث لي بعد ذلك، لم أشعر به مرة أخرى أبدًا”.يحتوي هذا السطر في داخله على توسّل لكتّاب القصة القصيرة للوصول إلى تلك اللحظة العميقة، ذلك الحدث أو الإلهام أو الانعكاس أو الانتصار؛ للوصول داخل حدود قصتهم إلى لحظة سيكون لها صدى يتجاوز نطاقها الضيق. يقول أوكونور، وهو روائيٌّ يُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة ليمريك، وهو كاتبٌ عظيمٌ : إن ” كل قصةٍ قصيرةٍ ممتازةٍ، في رأيي، تتمحور حول لحظةٍ يصبح فيها التغييرُ الكبيرُ ممكنًا، أو في الأقل مُتخيَّلًا، للشخصية. اقتطع القصةَ متأخرًا، واتركها مُبكرًا، ثمّ ابحث عن لحظةٍ مُناسبة”. يقتبس جوزيف الكلمات الختامية لإحدى قصصه القصيرة المُفضّلة، “فات” لريموند كارفر: ” إنه شهر أغسطس. ستتغير حياتي. أشعرُ بذلك”. استمع لما لا يُقال في الحوار. غالبًا ما تكون القصة مخفية خلف سطح الحديث. بالطبع، ليس بالضرورة أن تكون اللحظة في النهاية، وليس بالضرورة أن تكون نهاية القصة مُلهمة أو كاشفة، أو أن تحتوي على مفاجأة غير متوقعة. تصف قصة ماري جيتسكيل “الجنة” عائلة تمر بتغيرات وصدمات وفقد، وتظهر قضبان الحديد ملتوية في كل فقرة تقريبًا، لكن نهايتها لا تُنسى لما تُقدمه من راحة، في وصف هادئ لجمال أمسية صيفية رائعة وعائلة مجتمعة لتناول وجبة. ” جلسوا جميعًا على كراسي الحديقة وتناولوا الطعام من الأطباق الدافئة في أحضانهم. كانت شريحة اللحم جيدة ونيئة؛ انسابت عصارتها إلى السلطة والمعكرونة عندما حركت فيرجينيا ركبتيها. هبت ريح خفيفة ودغدغت خصلات شعرهم المتساقطة حول وجوههم. حفيف الأشجار خافت، إذ كانت هناك أصوات حشرات لطيفة. توقف جارولد، وارتفعت شوكة من شريحة اللحم فوق صدره. قال: ” مثل الجنة. إنها مثل الجنة”. حتى ساد الصمت لعدة دقائق”. استمع إلى قصتك: تتجلى “رحلة بيرة إلى لاندودنو”، بوصفها تحفة كيفن باري القصيرة، من مجموعته Dark Lies the Island هي قصة أخرى ظلت ناصعة في ذهني منذ أن قرأتها لأول مرة. جزء من سحر تلك القصة، وجميع أعمال باري، في حوارها: التبادلات الواقعية والمختصرة والأصيلة تمامًا بين شخصياته. عندما سألت كيفن عن هذا، قال: “إذا شعرت بأنك تقترب من المسودة النهائية لقصة ما، فاطبعها واقرأها بصوت عالٍ، ببطء، بقلم أحمر في يدك؛ ستلتقط أذنك جميع التهربات والملاحظات الزائفة في القصة أسرع بكثير مما ستلتقطه عينك على الشاشة أو الصفحة، وبعدها استمع إلى ما لا يُقال في الحوار، فغالبًا ما توجد القصة والدراما أسفل سطح الحديث مباشرةً.”إنّ هذا الاهتمام الدقيق بالعبء الذي تحمله كل وحدة لغوية، وبالعمل الذي تقوم به النوتات الموسيقية، سواءً أكانت معزوفة أم لا، كفيلٌ بجعل القصة تتألق بحق. أليس كينسيلا شاعرة بارعة، وقد أبدعت مؤخرًا في الكتابة القصيرة بأسلوب رائع، وذلك من خلال ديوانها الرائع “نافذة” الذي تناول الأمومة المبكرة. تقول أليس: “سواءً كان شعرًا أو نثرًا، فالهدف واحد؛ هو أن تكسب كل كلمة مكانها على الصفحة”. تجاهل كل شيء: وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو مُحبطًا، إليك نصيحة أخيرة: حالما تجلس لكتابة قصتك، انسَ هذه المقالة. انسَ كل النصائح التي تلقّيتها. حرّر يدك، حرّر عقلك، انطلق في عالم الاحتمالات اللامتناهي، وابتكر من هذه الرموز الصغيرة ما تشاء. لقد جئنا من قلوب النجوم. نحن الكون، يروي لنفسه قصته الخاصة.*دونال رايان كاتب ، وعضوٌ في لجنة تحكيم جائزة بي بي سي الوطنية للقصة القصيرة مع جامعة كامبريدج.