جريدة الرؤية العمانية:
2024-12-28@10:26:22 GMT

حُسن النوايا

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

حُسن النوايا

 

د. صالح الفهدي

يُخبرني أحد الأصحاب أنّه باع بيته، فلمّا التقى بالمشتري في السجِّل العقاري، وقّع على أوراق البيعِ التي تؤكِّد على قبضه للمبلغ المتفق عليه، لكنّه أحسن النيّة في المشتري لأنه رآه صاحب لحيةٍ طويلة، وظنّ صاحبها تقيًّا، متديِّنًا، يخشى الله فيه، فلمّا انهيا الإجراءات، وخرج مع المشتري خارج الوزارة، سأله المشتري مستفزًّا: هل ما فعلته من عقلك؟! فردّ عليه: وماذا فعلت؟ فأجابه المشتري: كيف توقِّع على أوراق البيع وأنت لم تستلم قيمة عقارك؟ فرد عليه: أحسنت الظن فيك، ورأيتُ في وجهك الصلاح والتقوى؟! قال له كأنّما يدفِّعه ثمن حسن نواياه فيه: إذن سأسلمِّك جزءًا من المبلغ، أمّا الجزء المتبقي فبعد حين، وهنا وقع البائع في مأزق حسن نواياه بالرجل (التقي، الورع، المتديِّن)، يقول الصاحب: بعد محاكمات، ومناكفات، ومخاصمات، حصلتُ على ما تبقى من المبلغ، ومع ذلك نقول أنّه محظوظ لأنه حصل في الأخير على مستحقاته وإن كانت بغصصٍ، ومتاعب!

قصص كثيرة من هذا القبيل تقع في مجتمعنا بسبب حسن النوايا، والطبيعة الطيبة للإنسان العماني الذي تتقدمه الطيبة والعفوية، ثم يصبحُ ذلك الذي حصل على ما يريدُ منه عدوًا لدودًا، ويمسي صاحبُ الحقِّ صاحبُ مشقّة ومكابدة، ليستعيد حقّه ممن رأف به وأشفق، وأحسن النية في التعامل معه فأخفق.

 

إنّ أطول آية في القرآن الكريم هي آية الدّين، وقد فصّل الله فيها تعامل الطرفين الدائن والمدين بكل شفافية وتجرُّد من الشخصنة، حتى يضمن صاحب الحقِّ حقّه، لكن من المؤسف فقد تغيّرت قيم البعض الذي يتقنُ فن الخداع إما بالحديث اللطيف، أو بالأخلاق العالية، أو بمظهر التديُّن، وما إن يحصلُ على بغيّته حتى ينقلب أفعى سامّة لا يستطيع الآخر الاقتراب منها.

ولا يتصوّر الإِنسان مدى ما وصل إليه بعض الناس من إنكار الحق في مجتمعنا، وطغيان شهوة المال عليهم، فقد سمعتُ أن أخًا اتفق مع أخيه لينقل إليه أرضًا له بصفة مؤقّتة حتى يُنهي بعض الأمور، فلمّا طلب من أخيه بعد حينٍ أن يُعيد أرضه إليه رفض الأخ وأنكر أنّ أخاهُ قد حوّلها بصورةٍ مؤقّتة، فإذا كان هذا ما قد يحدث بين الأخوة فكيف هو الحال بين آخرين؟!

حُسنُ النوايا لا تعني أن تغشى الغفلة صاحبها، فلا يُدرك ما يتوجّبُ عليه فعله في الأمر، فحسنُ النوايا هي قاعدة التعامل في العموم انطلاقًا من القاعدة الأعم "الأصلُ في الأشياء الإِباحة" ولكن هذا لا يعني أن يُعرِض الإنسان عن ما يحفظُ له حقّه.

حسنُ النوايا لا تعني عدم الطيبة وطغيان الشكِّ في التعامل مع النّاس، وإن كثرت أفعالهم المخادعة، وإنما تعني أن يحذر الإنسان من مأمنه، كما يقول المثل العربي "يؤتى الحذِرُ مِنْ مأمنه" أي إن الإنسان قد يلاقى الضرر من الذي أمنه، وكان حذرًا من غيره.

حسنُ النوايا لا يعني التوقف عن مساعدة الآخرين خشية فقدان الحق، وإنّما يجب اتباعُ القوانين المنظِّمة التي تنظِّم المعاملات، فما وضعت القوانين إلا لحفظ الحقوق، إذ يقال "القانون لا يحمي المغفلين" لأنهم أسقطوا من اعتباراتهم خطواتٍ وإجراءاتٍ هي الضامنة لحقوقهم.

نباهة الإِنسان وفطنته هي التي يفترضُ أن توجِّه حسن نواياه وطيبته في تعامله مع الناس، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"(رواه المغيرة بن شعبة)، والله تبارك وتعالى يقول: "ولا تُؤْتُوا السُّفهاء أمْوالكُمُ الّتِي جعل اللّهُ لكُمْ قِيامًا" [النساء:5]، وهكذا نؤسِّس تعاملاتنا مع الناس متوازنين بين قيم الطيبة وحب الخير والإحسان والعون من جهة، وبين حفظ الحقوق، وعدم الابتزاز في العواطف والمشاعر، والإتيان من مأمن لم يُحذر.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ليس بالمراكب والأقدام.. خطيب المسجد الحرام: السباق إلى الله بالقلوب والأعمال

قال الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إن السباق إلى الله بالقلوب والأعمال، لا بالمراكب والأقدام.

السباق إلى الله

وأوضح “ بن حميد ” خلال خطبة الجمعة الأخيرة من جمادي الآخر من المسجد الحرام بمكة المكرمة،  أن كرام الناس أسرعهم مودة، وأبطؤهم جفوة، ولئام الناس أبطؤهم مودة، وأسرعهم عداوة، منوهًا بأن التعامل بالرفق مع الحبيب يستديم المودة.

وأضاف أن التعامل بالرفق مع الغريب يجلب المحبة، ومع العدو يكف الشر، ومع الغضوب يطفئ الجمر، مشيرًا إلى  أن داء التعصب ومرض العصبية يعدان داءً اجتماعيًا خطيرًا يورث الكراهية، وينبت العداوة.

وتابع: ويمزق العلاقات، ويزرع الضغائن، ويفرق الجماعات، ويهدد الاستقرار، وينشر القطيعة، مرض كريه، يبني جدارًا صلبًا بين المبتلى به وبين الأخرين، ويمنع التفاهم، ويغلق باب الحوار، يعمم في الأحكام، ويزدري المخالف، فالتعصب داء فتاك.

داء فتاك

وأكد أنه علة كل بلاء، وجمود في العقل، وانغلاق في الفكر، يعمي عن الحق، ويصد عن الهدى، ويثير النعرات، ويقود إلى الحروب، ويغذي النزاعات، ويطيل أمد الخلاف، لافتًا النظر إلى أن التعصب عنف، وإقصاء، ويدعو إلى كتم الحق وسَتْرِه.

وبين أن ذلك لأن صاحبه يرى في الحق حجةً لمخالفه، كما أنه يقلل من فرص التوصل إلى الحلول الصحيحة، وينشر الظلم، وهضمَ الحقوق، ويضعف الأمة، وينشر الفتن والحروب الداخلية، لافتًا إلى أن التعصب يكون غلو في الأشخاص، وفي الأسر، وفي المذاهب، وفي القوم، وفي القبيلة، وفي المنطقة، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وفي الرياضة، وفي كل شأن اجتماعي.

واستدل بالموقف النبوي الحازم الصارم، حيث أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صل الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين - أي ضرب - رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرون: يا للمهاجرين، فقال النبي صل الله عليه وسلم: ما بالُ دعوى الجاهلية ؟! ثم قال: دعوها فإنها منتنة.

الهجرة والنصرة 

وأفاد بأن الهجرة والنصرة وصفان شريفان كريمان، والمهاجرون والأنصار هم الأولون السابقون رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولكن لما أراد هذان الرجلان توظيف هذه الألقابِ الشريفة والنعوتِ الكريمة توظيفًا عصبيًا فَزِع النبي صل الله عليه وسلم وبادر باحتواء الموقف بقوله: ( أبدعوى الجاهلية ؟! ).

وأردف:  أي أن شرف الهجرة، وشرف النصرة تحول بالعصبية إلى نعت غير حميد، بل صار مسلكًا منتنًا مكروهًا، وصار من دعوى الجاهلية: ( دعوها فإنها منتنة ) لا أشد إنكارًا من هذا الوصف، ولا أعظم ذمًا من هذا النعت .

ونوه بأنه في الحديث الصحيح عنه صل الله عليه وسلم: من قاتل الناس تحت راية عِمِّيةٍ يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فِقتلةٌ الجاهلية، وفي لفظ " فليس من أمتي " رواه مسلم .

ونبه إلى أن المتعصب ينسُب نقائصه وعيوبه إلى غيره، المتعصب يعرف الحق بالرجال، ولا يعرف الرجال بالحق، المتعصب لا يود أن يكون الحق مع الطرف الآخر، فهو أسير أفكاره ورؤيته الضيقة، همه المراء، والترفع على الأقران.

من صفات المتعصب

وأشار إلى أن  المتعصب يعتقد أنه على الحق بحجة وبغير حجة، ومن خالفه فهو على الباطل بحجة وبغير حجة، والمتعصب لا يرى إلا ما يريد أن يراه ، فمن صفات المتعصب التشدد في الرأي، والجمود في الفكر، والميل إلى العنف ضد المخالف.

ولفت إلى أن المتعصب يميز الناس ويقيِّمهم حسب انتماءاتهم الدينية، والقبلية، والمناطقية، والمذهبية، والطائفية، والسياسية، و المرء لا يولد متعصبًا ، وإنما يكتسب التعصب من أسرته، ومن أقرانه، ومن مدرسته، ومن الوسط المحيط به.

وأكد  أنه من أجل علاج التعصب فلا بد من تقرير المساواة بين الناس، ونشر ثقافة الحوار، والتعايش، وقبول الآخر، والمحبة، والاعتذار، وبذل المعروف لمن عرفت ومن لمن تعرف، منوهًا لأنه يقي من التعصب - بإذن الله - الاعتقاد الجازم، واليقين الصادق، أنه لا عصمة لغير كتاب الله، ولا لبشر غير رسول الله صل الله عليه وسلم.

وواصل:  والنظر إلى العلماء والشيوخ على أنهم أدلاء على الحق، مبلغون عن الله بحسب اجتهادهم وطاقتهم غير معصومين، ولا مبرأين من الأخطاء والأغلاط ، وكذلك القوة والعزيمة في نبذ العادات والأعراف الخاطئة ، والتقاليد المجافية للحق والعدل.

مسؤولية أهل العلم

واستطرد: وهذا كله من مسؤولية أهل العلم، والفضل، والصلاح، والوجهاء، ورجالات التربية، والغيورين على الأمة، والعمل على بناء الإنسان السوي، وإشاعة الصلاح والإصلاح، ومقاومة الفساد بكل أشكاله، وقبل ذلك وبعده الإخلاص، وحسن السريرة، وقطع النفس عن شهوة الغلبة، والانتصار، والسلامة من فتنة التطلع، للمدح والرئاسات.

وأكمل : ونشر المحبة في البيت، والمدرسة ، وفي السوق، وفي الإعلام بكل وسائله وأدواته، وسلامة النفس من الأحقاد، والتحرر من الأنانية، يجمع ذلك كله قول صلى الله عليه وسلم في كلمته الجامعة: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).

وذكر أن أهل العلم قالوا : كل من نصب شخصًا كائنًا من كان فيوالي على موافقته ويعادي على مخالفته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون ، قالوا : وهذه طريقة أهل البدع والأهواء المذمومين، فمن تعصب لواحد بعينه ففيه شبه منهم، وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"

وشدد على أن التعصب حجاب غليظ يحول بين صاحبه وبين الحق وبينه وبين الحب، التعصب حجاب غليظ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وعقبة كؤود عن الاستفادة من الآخرين، ويمنع الإبداع والابتكار، مبينًا أنه لا يقضي على التعصب إلا التسامح ، ذلك أن التسامح احترام التنوع، وقبول الاختلاف، ويسلم من التعصب من كان همه الوصول إلى الحق، وليس الانتصار للنفس، أو المذهب، أو الطائفة.

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض يقول إنه تمكن من إضعاف قدرات الحوثيين لتهديد السفن
  • جدار صلب بين المبتلى به والآخرين .. خطيب المسجد الحرام يحذر من مرض كريه
  • ليس بالمراكب والأقدام.. خطيب المسجد الحرام: السباق إلى الله بالقلوب والأعمال
  • خطيب المسجد الحرام: التعصب حجاب غليظ يحول بين الحق وصاحبه
  • خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي
  • والي الخرطوم يشارك فى احتفالات اعياد الميلاد و مك النوبة يقول: سنحارب مع الجيش حتى حدود تشاد و”نحن النوبة الد واس حقنا”
  • هآرتس: نتنياهو يُشبِّه نفسه بتشرشل والتاريخ يقول إنه ميلوسوفيتش
  • مبادرة "خلق يبني".. دعوة لنشر الأخلاق الطيبة وتعزيز العلاقات الإنسانية
  • محمد حسن كنجو.. سفاح صيدنايا الذي قبض عليه في عمليات طرطوس
  • الحق في الدواء يطالب بتفعيل قوانين مواجهة الإعلانات الطبية المضللة