تخجل الكلمات من هول معاناتهم، وتستحي الدروب من عجزها أن توصلَ إلَيْهم حبّة دواء أو رشفةَ ماء أو لقمة طعام تقيهم مرارة الموتِ جوعًا وعطشًا وقصْفًا، ولا يخجل من أثقلوا كاهل البَشَريَّة بأكاذيبهم عن الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان أن يستخدموا كُلَّ سُلطتهم وتأثيرهم كي يسدُّوا سُبل العيش عن شَعب محتلٍّ ومحاصَر، وعن امرأة وطفل كُلُّ ما يبتغونه هو العيش بأمن وسلام على أرضهم وفي منازلهم.
في الأيَّام والأسابيع الَّتي تمنع فيها الولايات المُتَّحدة وقف العدوان على النِّساء والأطفال، وتمنع اتِّخاذ قرار بفتح المعابر وإيصال سُبل البقاء لأُناس لا حَوْلَ لَهُمْ ولا قوَّة، في هذا الوقت تحكم بالموت، عَبْرَ إرسالها أحدث القنابل والصواريخ، على عشرات الآلاف من الأطفال والنِّساء والمَدنيِّين العُزَّل دُونَ خجلٍ أو وجَلٍ، ودُونَ أن ترتفعَ أصوات حتَّى في الشَّرق والجنوب لِتستصرخَ النَّاس، كُلَّ النَّاس، لإيقاف عدوان إبادة وحقد شيطاني لَمْ تشهد البَشَريَّة له مثيلًا. مَنْ لَمْ يستطِع الوقوف في وَجْه كُلِّ هذا الظلم يُمكِن له على الأقلِّ أن يغيِّرَ مجرى الرياح، وأن يُعلنَ مرَّة وإلى الأبد سقوط الغرب، كُلِّ الغرب، بدُوَلِه وإعلامه وتاريخه وكتُبه وأدَبه في هاوية العنصريَّة والقتل المجرم بدمٍ بارد لجرحى وأطفال ونساء ولاجئين ونازحين في المدارس والكنائس والمساجد. وبهذا فقَدِ انتهك الغرب حرمة الحياة والمقدَّسات. وأقلُّ ما يُمكِن فعله اليوم من قِبل أصحاب الضمائر في كُلِّ مكان هو تعريف هذا الغرب بما برهن عَنْه وتصنيفه ووضعه في الخانة الَّتي يستحقُّها، وسحب كُلِّ الأوصاف الَّتي أسبغها على نَفْسه، كذبًا وزورًا، على مدى قرون وبرهنت في اللحظة الحاسمة أنَّها لا تمتُّ إلى الحقيقة بصِلَة، وأنَّها ثياب خدَّاعة يتمُّ استخدامها لخلق الوَهَم والانبهار بما تحقَّقنا جميعًا من أنَّه سراب كُلَّما ظننتَ أنَّك وصلتَ إليه اكتشفتَ أنَّه لا ينضوي على شيء.
هذه التضحيات الَّتي دفع ثَمنها الشَّعب الفلسطيني واللبناني يجِبُ ألَّا تمرَّ مرور الكرام، بل يجِبُ على الأقلِّ أن تشكِّلَ محطَّة تاريخيَّة تفصل، وبشكلٍ لا لبْسَ فيه، بَيْنَ ما قبلها وما بعدها. وهذه فرصة ثمينة لدوَل الشَّرق والجنوب أن يبرهنوا ما كانوا يدعون له منذ عقود عن أهمِّية الأخوة في الإنسانيَّة، وعن تشكيل الغرب الاستعماري المتعطِّش للدماء عائقًا أكيدًا في طريق الوحدة بَيْنَ البَشَر، والمؤازرة على البَرِّ والتقوى بدلًا من الإثم والعدوان. لا يُمكِن أن يُفهمَ الجمود والكسل الَّذي يعتري العالَم برُمَّته، والصَّمْت المريب إزاء أسوأ جريمة إبادة شهدتها البَشَريَّة في القرن الحادي والعشرين. كُلُّنا يفْهَم عدم رغبة الأطراف بإشعال فتيل حرب عالَميَّة ثالثة، ولكن تثبيت الحقائق والمفاهيم لا يحتاج إلى حاملات طائرات ولا إلى غوَّاصات نوويَّة، بل إلى عزيمة ومقدرة لُغويَّة وفكريَّة وإعلاميَّة على تحديد الزمن الفاصل، وهو واضح اليوم بَيْنَ ريادة الغرب الَّتي ادَّعاها وبَيْنَ هزيمته الأخلاقيَّة المشينة لدى أوَّل امتحان حقيقي لكُلِّ ما يدَّعيه، وهو الزمن ذاته للفصل بَيْنَ إرث الغرب الفكري وكُلِّ ما أنتجه من تصنيفات لدوَلنا وشعوبنا، وبَيْنَ إرث جديد نكتبه نحن كُلُّنا جميعًا، ونستودع إرث الغرب في غُرَفِه المظلمة ونغلق أبواب مكتباته وأبحاثه؛ لأنَّها برهنت أنَّها محض هُراء ونفاق.
في هذا الزمن الفاصل نُعيدُ تعريف الفقير والغني، والحضاري والمتخلِّف، والمتقدِّم والمتأخِّر، بعيدًا عن كُلِّ ما لقَّنوننا إيَّاه خلال سنواتهم الاستعماريَّة والقرون الَّتي نهبوا بها مقدَّرات بلداننا، ودبُّوا الوهن في إرادة شعوبنا، فنفتح صفحات جديدة لتاريخ جديد لا يمتُّ إلى مستشرقيهم بصِلَة، ولا إلى المفاهيم الخادعة الَّتي غرسوها في أذهان الناشئة عَبْرَ الجزء الأكبر من الكرة الأرضيَّة. في هذا الزمن الفاصل يبرهن شَعب مظلوم ومقهور ومحاصَر في اليمن، فُرضت عَلَيْه حرب على مدى سنوات، أنَّه أقوى شكيمة وأشدُّ بأسًا ممَّن يمتلكون الأسلحة والمليارات، وأنَّه وعلى دَمِه يقف مع الحقِّ ومع المظلومين، ويعمل ما يُمليه عَلَيْه ضميره، حتَّى وإن اضطرَّ أن يدفع أثمانًا باهظة في سبيل احترام قناعاته ومطابقة أفعاله لأقواله.
هل يُعقل أن يأخذَ أحَد اليوم بمفاهيم مَنْ دفن الجرحى أحياء في باحة المستشفى بعد أن قتل الكوادر الطبيَّة وحوَّل المشافي إلى ثكنات عسكريَّة، واستباح طفولة الأطفال ودماءهم، والنِّساء الحوامل والولادات والرضَّع، والأطبَّاء والرهبان والشيوخ، وكُلُّ مَن قتل واعتقل وأرسل السَّلاح ودعم سياسيًّا وإعلاميًّا ومنع التوصُّل إلى وقف للمجزرة كُلُّهم شركاء في حرب إبادة تُشكِّل أكبر وصمة عار لمرتكبيها الصَّامتين إزاءها، والمتواطئين ولو بصَمْتِهم أو حياديَّتهم المدَّعاة على استمرارها واستمرار نزيف دماء شَعب كُلُّ ذنبه أنَّه خُلق على هذه الأرض الطاهرة، وأنَّه مصمِّم على البقاء عَلَيْها في وجْهِ المستوطنين الأجانب والطامعين القادمين من دوَل الغرب الاستعماري لِيعيدوا تاريخ الإبادة الاستعماريَّة لسكَّان أميركا وأستراليا الأصليِّين.
القوَّة الحقيقيَّة لا تكمن في امتلاك حاملات طائرات وغوَّاصات نوويَّة وقنابل محرَّمة دوليًّا تُقطِّع أوصال البَشَريَّة؛ فهذه هي الوحشيَّة بذاتها، واستخدام هذه القوَّة من قِبل وحوش بَشَريَّة، فعلًا لا قولًا، يجِبُ أن يكُونَ مصدر عارٍ يلاحق مستخدميها وداعميها لأجيال قادمة. فمِمَّ تخشون أيُّها الصامتون في دوَل الشَّرق؟ أَتخشونَ من قول كلمة حقٍّ ورفع الصوت عاليًا في وجْهِ قَتَلَة مُجرمين، ووضعهم على الأقلِّ تاريخيًّا وفكريًّا ومفهوماتيًّا في الحيِّز الَّذي يستحقُّون؟!
في حمأةِ الصراع بَيْنَ عالَم القطب الواحد ومحاولات انبلاج عالَم متعدِّد الأقطاب، أراد الغرب أن يستخدمَ الحرب على شَعب فلسطين ليُثبتَ للعالَم أنَّه ما زالت له اليد العُليا في إدارة العالَم؛ فزَجَّ بكُلِّ قواه العسكريَّة والسِّياسيَّة لدعم عدوان إجرامي إبادي مظلم على شَعب أعزل، وبذلك فقَدْ حفر الغرب قبره بيدَيْه، وسقط سقوطًا مدوِّيًا، وفتح الباب على مصراعَيْه لنهاية حتميَّة وقريبة جدًّا لعالَم القطب الأرعن والمنافق والمُجرِم وولادة أقطاب تُعبِّر عن البَشَر، خلائف الله في الأرض، وتليق بمكانتهم وقدسيَّة خلفهم، ورفعة الرسالة الَّتي أوكلها الله لَهُم على هذه الأرض. ستكُونُ دماء أطفال ونساء فلسطين شفعاء للبَشَريَّة لمرحلة قادمة يضرب الحقُّ بسَيْفه كُلَّ مَن ظلَم ونافق واستهدف حياة أخيه الإنسان، وحينها ينتصر الحقُّ نصره النهائي، ويُزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقًا. فأسرِعوا إلى نَيْل شرف مؤازرة الحقِّ الفلسطيني والوقوف الشريف والمَجيد في وجْهِ الطغيان الغربي والإجرام الصهيوني؛ فللتاريخ مساره وذاكرته، وللحقِّ قوَّته وسطوته الَّتي سوف تحوِّل الظالمين، قَتَلَةَ الأطفال، إلى ذكر سوء تلعَنه الأجيال القادمة. أهمُّ ما يُمكِن لكُلِّ امرئ أن يفعلَه اليوم هو أن يقفَ على الجانب الصحيح من التاريخ.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الغرب ال الب ش ر
إقرأ أيضاً:
الوضع السورى.. ومستقبل ليبيا
من السابق الحكم على مستقبل سوريا فى ظل تعدد اللاعبين الدوليين على الأراضى السورية، وسعى كل القوى الدولية والإقليمية لتقديم نفسها فى المشهد السورى وفرض نفوذها خلال المرحلة الانتقالية التى تؤسس لشكل الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد الذى أسس للطائفية والعرقية فى سوريا، ولم يستطع تجاوز المرحلة الأولى من الربيع العربى منذ عام 2011 وكانت سببًا فى هجرة وتشريد ما يقارب نصف الشعب السورى، وسقوط كثير من المحافظات والمدن السورية فى أيدى الجماعات الإرهابية وتيار الإسلام السياسى والمعارضة السورية، حتى جاءت لحظة التفاهمات الدولية الجديدة لمسرح الأحداث فى أوكرانيا والشرق الأوسط، لتتخلى روسيا عن النظام السورى مقابل مصالحها المباشرة فى أوكرانيا وحماية أمنها القومى فى مواجهة الغرب، وفى ذات اللحظة انسحبت إيران من المشهد السورى مقابل تأمين منشآتها النووية باعتبارها أهم أهدافها الاستراتيجية، لتتصدر تركيا المشهد السورى وتصبح اللاعب الرئيسى فى سوريا نتيجة دعمها لهيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع فى دخول دمشق وإعلان سقوط النظام السابق.
التحركات الدبلوماسية الأخيرة، تكشف عن بعض من جوانب الغموض للحالة السورية، خاصة بعد زيارة الوفد الأمريكى ولقائه مع أحمد الشرع وعدد من أعضاء هيئة تحرير الشام التى تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية كجماعة إرهابية، فى تغير دراماتيكى يكشف عن تلون وازدواجية السياسية الأمريكية طبقًا للمصالح الأمريكية الإسرائيلية وتحقيق أهدافهما الاستراتيجية فى الشرق الأوسط.. أما زيارة وزير الخارجية التركى هاكان فيدان قبل أيام كانت كاشفة بجلاء عن أن الرابح الأكبر من أزمة سوريا هى تركيا كما جاء فى المؤتمر الصحفى مع أحمد الشرع عندما أكد أن التنسيق كامل على محاور عدة وأتى على رأسها العمل مع القيادة الجديدة على تحرير كامل الأراضى السورية من الجماعات الإرهابية والمسلحة إلى خارج سوريا، كاشفًا عن التعاون فى شتى المجالات ودعم تركى سياسى وفنى خلال المرحلة الانتقالية لإعادة بناء المؤسسات السورية وأيضًا عمليات الإعمار وبناء البنية الأساسية للدولة السورية، مشيرًا إلى البدء فى ترتيب زيارة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلى سوريا فى تأكيد على الهيمنة التركية على سوريا، وفى ظل تشتت وغياب موقف عربى موحد لما يحدث فى سوريا نتيجة أيديولوجيات طائفية وعرقية تحدد مواقف بعض الأنظمة العربية، وعمل البعض الآخر كوكلاء لقوى كبرى، أو بعض الأنظمة التى ترفض التعامل مع تيار الإسلام السياسى والجماعات الإرهابية.
خطورة الوضع السورى لا يقف عند حد الوضع المجهول لمنطقة الشام وتأثيرها على الأمن القومى العربى والنزعة العروبية لهذه المنطقة بالغة الأهمية، وإنما يمتد تأثيرها لما هو أبعد وأخطر وتحديدًا على الأمن القومى المصرى، فى ظل ما تشهده المنطقة من إنتاج موجة من تيارات الإسلام السياسى ودعمها للسيطرة على الدول، كهدف استراتيجى أمريكى لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد.. ومع تلاقى المصالح والأهداف التركية الأمريكية فى سوريا والهيمنة التركية على الوضع السورى، يجب التوقف أمام تصريحات وزير الخارجية التركى حول مستقبل جبهة النصرة ونقلها خارج سوريا، خاصة أن الكل يعلم أن تركيا لها مصالح فى الغرب الليبى وتدعم حكومة الغرب وتيار الإسلام السياسى، الذى بات ينتظر الدعم ويتحين الفرصة لتكرار التجربة السورية فى ليبيا، الأمر الذى يدعو الشعب الليبى الآن، وأكثر من أى وقت مضى إلى التحرك واتخاذ خطوات جادة لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية لحماية دولته ومقدراته من المخططات الخارجية وغزو تيارات الإسلام السياسى إلى الغرب لفرض واقع جديد على ليبيا، وهو نفس الأمر الذى يدعو الدولة المصرية إلى تحركات فاعلة ومسبقة تشكل خطوطا حمراء جديدة أمام محالات العبث بمستقبل ليبيا باعتبارها حدود الأمن القومى المصرى المباشر.
حفظ الله مصر