عندما تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 10 آلاف في الحرب الحالية في غزة، سأل أحد الصحفيين الرئيس الأميركي جو بايدن عن فرص وقف إطلاق النار. ولم يتردد الشخص الذي يتمتع بأوسع نفوذ في العالم في إجابته قائلا: "لا شيء، لا يوجد أي احتمال".

هكذا استهلت مجلة "موذر جونز" الأميركية تقريرا مطولا لها عن العلاقة العميقة لبايدن بإسرائيل سردت فيه كثيرا من الأحداث والتفاصيل التي تتجلى فيها هذه العلاقة.

وقالت المجلة "التقدمية" التي تركز على الأخبار والتحقيقات الاستقصائية حول مواضيع تشمل السياسة، البيئة، وحقوق الإنسان، في التقرير الذي كتبه مراسلها نوح لانارد، إن دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل في شن عدوانها الحالي على غزة، وهو واحد من أكثر حملات القصف تدميرا في التاريخ الحديث، وضعه على خلاف مع معظم العالم وأجزاء كبيرة من قاعدته السياسية. ومع ذلك لم يظهر الرئيس حتى الآن إلا بطئا واضحا في التراجع عن دعمه القوي لإسرائيل.

سنظل ندافع عنها

وأشار لانارد إلى أن بايدن قال ذات مرة، "من الممكن أن تدخل إسرائيل في معركة بالأيدي مع أميركا، ومع ذلك سنظل ندافع عنها".

وفي تصريح آخر قال بايدن إنه يفضل إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف، ولم ينس تأكيد دعمه الثابت لـ"الأمة اليهودية"، قائلا "لن نفعل أي شيء سوى حماية إسرائيل. لا شيء أبدا".

ومضى التقرير ليقول إن الأمر استغرق شهرا كاملا من بدء الهجوم الكاسح لإسرائيل على قطاع غزة، حتى يبدأ بايدن ينتقد إسرائيل بطريقة ذات مغزى، بتحذير من أن "القصف العشوائي" لإسرائيل يكلف أميركا الدعم الدولي، لكن دعم بايدن نفسه لحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ظل كما كان إلى حد كبير.

وأضاف أنه قبل هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل وبعده، لم يظهر الرئيس الأميركي أي تعاطف مع الفلسطينيين.

وعن هذا التحيّز إلى إسرائيل، نقل الكاتب عن راشد الخالدي، أستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، قوله إنه لا يعتقد أن بايدن يرى الفلسطينيين على الإطلاق، لكنه، في المقابل، يرى الإسرائيليين كما يتم تقديمهم بعناية شديدة من قبل حكومتهم وأجهزتهم الإعلامية الضخمة.

لا يعترف بإنسانية جميع الأطراف

كما نقل عن مسؤول سابق في إدارة بايدن وجهة نظر مماثلة، إذ قال "يبدو أن الرئيس لا يعترف بإنسانية جميع الأطراف المتضررة من هذا الصراع. لقد وصف المعاناة الإسرائيلية بتفصيل كبير، بينما ظل يتحدث عن معاناة الفلسطينيين بشكل غامض، هذا إذا ذكرها على الإطلاق".

وأوضح أن جميع من التقاهم من المسؤولين والأكاديميين الأميركيين والإسرائيليين والفلسطينيين كشفوا عن تمتع بايدن بتعاطف غريزي مع إسرائيل مقابل عدم اهتمامه بالفلسطينيين، ولديه وجهة نظر عفا عليها الزمن بشكل متزايد للسياسة الداخلية حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي أن السلام لن يأتي إلا من عدم وجود اختلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة.

والنتيجة هي أن بايدن أعطى الأولوية لتزويد إسرائيل بدعم غير مشروط إلى حد كبير ومساحة لمواصلة القتال في مواجهة معارضة دولية مكثفة، مضيفا أن أي رئيس أميركي كان سيدعم إسرائيل في أعقاب هجوم حماس الذي أودى بحياة 1200 شخص، لكن بايدن ذهب أبعد من أي من زملائه الديمقراطيين في الدفاع عن إسرائيل.

وسرد لانارد أن بايدن عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ، أيد نقل السفارة الأميركية إلى القدس قبل عقود من قيام دونالد ترامب بجعل ذلك حقيقة واقعة، وتفاخر بحضور المزيد من جمع التبرعات للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) أكثر من أي عضو آخر في مجلس الشيوخ، وهاجم محاولة جورج بوش الأب لدفع إسرائيل نحو التفاوض مع الفلسطينيين.

قوّض جهود أوباما

وكنائب للرئيس، قوّض بايدن جهود الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لدفع إسرائيل نحو السلام. وكرئيس، قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واصل السياسات التي نفذها ترامب والتي قامت على تهميش الفلسطينيين.

ورغم تجاهل إسرائيل للعديد من توصياتها، يقول التقرير، تواصل إدارة بايدن دفع الكونغرس لتقديم 14 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية في الغالب بدون قيود، وذلك بعد أن زودت الولايات المتحدة إسرائيل بالفعل بآلاف القنابل التي دمرت أجزاء واسعة من غزة، وشردت أكثر من 80% من سكانها، وارتكبت جريمة الحرب المتمثلة في استخدام تجويع المدنيين كسلاح حرب، وفقا لتقرير من هيومن رايتس ووتش صدر الاثنين.

وقال لانارد إن بايدن وصف في الأيام الأولى للحرب حجم هجوم حماس بقوله إنه يعادل 15 مرة هجمات 11 سبتمبر/أيلول لدولة بحجم إسرائيل، لكنه نسي أن يقول إن مقتل أكثر من 20 ألف شخص حتى الآن في غزة، يعادل تقريبا 900 مرة هجمات 11 سبتمبر/أيلول بنفس المقياس.

مناحيم بيغن تلقى ترحيبا حارا من بايدن عندما زار واشنطن بعد حرب لبنان في 1982 (مواقع التواصل الاجتماعي)

بعد ذلك، دلف لانارد إلى تفسير العلاقة العميقة لبايدن بإسرائيل، قائلا إن دوافعها شخصية تماما.

وعن هذه الدوافع، ذكر التقرير أن الرئيس الأميركي كان كثيرا ما يُرجع ذلك إلى محادثات مائدة العشاء مع والده حول أهوال "المحرقة" النازية وإلى اجتماع في عام 1973 في إسرائيل مع رئيسة الوزراء غولدا مائير خلال عامه الأول كعضو في مجلس الشيوخ، ومناقشات طويلة مع هنري "سكوب" جاكسون، السيناتور الديمقراطي المتشدد الشهير من ولاية واشنطن.

وتحت تأثير جاكسون، قال الكاتب، ظهر بايدن مؤيدا متعصبا لإسرائيل. ففي عام 1982، وهو العام الذي التقى فيه بايدن ونتنياهو لأول مرة، غزت إسرائيل لبنان وأثارت غضب الناس في العالم العربي وعارضها مسؤولون أميركيون بارزون، أظهر بايدن تأييدا واضحا لإسرائيل آنذاك.

رحب ترحيبا حارا ببيغن

وفي الأسابيع الأولى من الحرب، جاء رئيس الوزراء اليميني المتطرف مناحيم بيغن إلى واشنطن لتعزيز الدعم، في مواجهة انتقادات علنية شديدة. وتلقى بيغن ترحيبا حارا من بايدن.

وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" آنذاك أن بايدن أخبر بيغن أنه لا ينتقد غزو لبنان. وبعد عودته إلى إسرائيل، قدم بيغن مزيدا من التفاصيل للصحافة الإسرائيلية وقال إن عضوا شابا بمجلس الشيوخ ألقى "خطابا حماسيا" خلال اجتماع خاص مع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.

وقال بيغن إن هذا السيناتور جادل بأن الأميركيين "لن ينتبهوا إذا قتلت أميركا الرجال أو النساء أو الأطفال انتقاما من هجوم مماثل من كندا".

وخلال خطاب ألقاه في عام 1992 أمام "أيباك"، أعرب بايدن مرة أخرى عن دعمه القوي لإسرائيل، وكان يصرخ ويضرب صدره من أجل التأثير العاطفي حيث انتقد حملة عامة غير مسبوقة للرئيس جورج بوش الأب لدفع إسرائيل نحو التعامل مع مطالب الفلسطينيين بالسيادة وإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية والأراضي الأخرى.

فكرته المركزية

وقال الكاتب إن أي زعيم يفكر قد يغيّر مساره، لكن بايدن ظل ملتزما بنهجه كما أوضح في مقابلة أثناء ترشحه للرئاسة، قائلا "خلال مسيرتي المهنية التي استمرت 34 عاما، لم أتردد أبدا تجاه فكرة أن الوقت الوحيد الذي تم فيه إحراز تقدم في الشرق الأوسط هو عندما عرفت الدول العربية أنه لا يوجد اختلاف بيننا وبين إسرائيل".

غولدا مائير من الشخصيات التي أثرت في التكوين السياسي لبايدن (مواقع التواصل الاجتماعي)

من خلال القيام بذلك، قال الخالدي إن بايدن كان يتبنى النسخة الدبلوماسية من النظرة اليمينية العسكرية التي وضعها قبل قرن من الزمان زئيف جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التحريفية التي ساعدت في تشكيل حزب الليكود.

وبعبارة أخرى، أوضح الخالدي، أن بايدن يقصد "فقط عندما يفهم العرب أنه يتعين عليهم قبول كل ما ترغب إسرائيل في تقديمه، سيكون هناك سلام".

لا يهتم بوجود الفلسطينيين

وتابع الخالدي، أحد أبرز علماء فلسطين في العالم، "أعتقد أن هذا يمثل موقفه إلى حد ما حتى يومنا هذا. أنا بصراحة لا أعتقد أن هذا الرجل لديه أي شعور بأن هناك جانبا آخر لهذا الصراع. لا أعتقد أنه يفهم أو يهتم بالإنسانية، أو الحقوق، أو مجرد وجود الفلسطينيين".

وبعد أن أصبح بايدن نائبا للرئيس عام 2009، تمسك بموقفه حول القضية الفلسطينية، وتسبب التزامه بحماية إسرائيل من الضغوط الشعبية في تقويض سياسة أوباما في لحظة مهمة عندما كان يحاول إحياء محادثات السلام.

ونقل الكاتب عن مقال للصحفي بيتر بينارت أنه "خلال فترة حرجة في وقت مبكر من إدارة أوباما، عندما فكر البيت الأبيض في ممارسة ضغط حقيقي على نتنياهو للحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية على قيد الحياة، عمل بايدن أكثر من أي مسؤول آخر على مستوى الحكومة لحماية نتنياهو من هذا الضغط".

وفي عام 2010، أغضبت حكومة نتنياهو أوباما ومستشاريه بإعلانها توسعا استيطانيا كبيرا، لكن بايدن الذي كان في إسرائيل آنذاك، عمل بانفراد على النزاع الناشئ. واتخذ معسكر أوباما طريقا مختلفا من خلال وضع قائمة بالمطالب التي يجب تقديمها لنتنياهو. ثم أعطت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون رئيس الوزراء 24 ساعة للرد، محذرة إياه، "إذا لم تكن قادرا على الامتثال، فقد يكون لذلك عواقب غير مسبوقة على العلاقات الثنائية من النوع الذي لم يسبق له مثيل من قبل".

وسرعان ما كان بايدن على اتصال مع نتنياهو المذهول. وقال مسؤول سابق في الإدارة الأميركية إن "بايدن قوّض جهود وزيرة الخارجية تماما وأعطى نتنياهو إشارة قوية إلى أن كل ما كان مخططا له في واشنطن كان متهورا ويمكنه نزع فتيله عندما يعود".

نباح أوباما أسوأ كثيرا من عضه

وعندما زار نتنياهو وموظفوه البيت الأبيض بعد فترة وجيزة، قال أحد كبار مستشاريه لصحيفة "نيويورك تايمز" إن بايدن قال لنتنياهو، "فقط تذكر أنني أفضل صديق لك هنا".

وبفضل دعم بايدن جزئيا، تعلم نتنياهو عدم القلق من جهود أوباما للضغط من أجل إقامة دولة فلسطينية. وقال مسؤول أميركي كبير للصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت: "بدأ نتنياهو يفهم أن نباح أوباما أسوأ بكثير من عضه، وأنه لا يوجد سبب للخوف منه".

بايدن (يمين) قوّض جهود أوباما للسلام في الشرق الأوسط (رويترز)

وخلال الأيام الأخيرة لأوباما في منصبه، صدر قرار من الأمم المتحدة يطالب بوقف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والأراضي المحتلة الأخرى. وفي دعوة لمناقشة كيفية تصويت الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، قال العديد من مسؤولي الإدارة إن بايدن ووزير الخزانة آنذاك جاك ليو هما الوحيدان اللذان أيدا استخدام حق النقض ضد القرار. وعلى غير العادة، فشل بايدن وليو في هذا الجهد. وليو هو الآن سفير بايدن في إسرائيل.

وقال الكاتب إن عودة ليو تشير إلى أن بايدن لم يتغيّر تجاه إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد تمسك بقرار ترامب نقل السفارة إلى القدس، ولم يتراجع عن إعلان كبير لوزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو قلب عقودا من السياسة الأميركية بقوله إن المستوطنات الإسرائيلية لا تنتهك بالضرورة القانون الدولي، وفشل في إعادة فتح قنصلية منفصلة للفلسطينيين أغلقها ترامب.

لم يقف ضد نتنياهو

ولم يفعل بايدن الكثير لتعديل تعامله مع إسرائيل بعد أن انتخبت أكثر برلمان يميني في تاريخها في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ولم يقف حتى لمرة واحدة ضد سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة التي تمخض عنها هذا البرلمان.

ومن المؤكد، يقول الكاتب، أن هجوم حماس ضد إسرائيل أدى لتعميق ارتباط بايدن بإسرائيل. وبدلا من الضغط من أجل وقف إطلاق النار، نقلت إدارة بايدن الأسلحة، وشمل ذلك ما لا يقل عن 100 قنبلة تزن كل منها طنا كاملا وهي ذخيرة كانت 4 أضعاف حجم ما استخدمته الولايات المتحدة عادة خلال معاركها الجوية عام 2017 ضد تنظيم الدولة في الموصل، العراق.

وأوضح الكاتب أن التداعيات السياسية لموقف بايدن أصبحت عالمية النطاق الآن. وقال شبلي تلحمي، أستاذ السلام والتنمية في جامعة ماريلاند، إن بايدن قد يتفوق الآن على نتنياهو باعتباره الزعيم الأكثر كرها في العالم العربي، مضيفا أن "هناك مستوى من الصدمة الآن في العالم العربي لم أره حتى أثناء حرب العراق، عندما كانت مروعة للغاية".

وختم لانارد تقريره بأنه لم يكن هناك ما يشير إلى أن دعم بايدن لإسرائيل آخذ في التراجع، لكن المشكلة هي أن كثيرين من حزبه لم يعودوا معه، ولذلك ربما يدرك، وهو السياسي المخضرم، ما يجب عليه فعله في مواجهة الضغوط الدولية والمحلية. فقد يحاول قريبا وقف الحرب الحالية، وقد يقاوم لأطول فترة ممكنة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الرئیس الأمیرکی إسرائیل فی فی العالم دعم بایدن أن بایدن إن بایدن أکثر من ما کان إلى أن فی عام

إقرأ أيضاً:

فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب

ابتداء من هذا العدد، تنشر بوابة «الأسبوع» فصولًا من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» للكاتب الصحفي مصطفى بكري رئيس التحرير، والصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع. وفي الحلقة الأولى يرصد المؤلف تاريخ نتنياهو منذ الطفولة وعلاقته بوالده الذي لقنه الأفكار المتطرفة والمعادية للعرب والفلسطينيين، خاصة وأن جده كان من كبار دعاة الحركة الصهيونية. لقد رباه والده على كراهية أي يهودي يقبل بمصافحة العرب، وكان دائم الترديد على مسامعه «أن العربي إذا مد يده بالسلام، فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك».

الحلقة الأولى:

-والده رباه على التطرف وكراهية العرب وجده من قادة الحركة الصهيونية

- كان يقول له: العرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم

- المفكر الصهيوني المتطرف «جابوتنسكى» كان مثله الأعلى

في الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 1949، ولد بنيامين تسيون نتنياهو في مستشفى “أسونا” بتل أبيب، أي بعد إعلان ولادة دولة الكيان الصهيوني بعام وخمسة أشهر تقريبًا.

كان جد بنيامين خطيبًا مفوهًا.. ومن كبار دعاة الحركة الصهيونية.. وكان يمتلك قدرات هائلة لجذب المزيد من يهود العالم، خاصة اليهود الشرقيين إلى “أرض الميعاد” حسب الوصف الصهيوني، وقد عرف عنه كرهه الشديد للعرب، ومن المؤمنين بضرورة اختفائهم من فوق ظهر الأرض.

وكان “تسيون” يرى ألا يكتفى اليهود بإقامة دولتهم في فلسطين فحسب، بل يجب أن تمتد حدودها في كل الأراضي والمناطق المجاورة لـ “أرض إسرائيل” في فلسطين على حد تعبيره.

وقد طبّع الجد ميليكوفسكي أولاده التسعة، ومن بينهم “تسيون نتنياهو” والد بنيامين بشخصيته القوية والمؤثرة.. حتى أن “تسيون” كان من فرط تأثره بآراء والده.. يردد أمام أولاده بأن العرب.. “دنس.. وأن الكلاب أفضل منهم لو أقاموا فى البلدان المجاورة لنا”.

ومن أقواله كذلك “إنك إذا سرت فى الطريق مع كلب.. أفضل من أن تسير مع عربى”.. وكان يردد على مسامع أولاده بأنه لا مجال للتعامل مع العرب إلا بإبادتهم.. وأنه لا حلول وسط فى هذه المسألة.

ومنذ صغره تشرب “بنيامين” من والده “تسيون نتنياهو” حبه لزعماء الحركة الصهيونية بل وتمجيدهم، حيث كان الأب يتغنى بآباء الحركة.. بينما نجله “بنيامين” ينقل عنه هذه الأغانى ويحفظها عن ظهر قلب.. بل ويرددها أمام أصدقائه بين الحين والآخر.. مبديًا تفاخره بأن والده هو صاحب هذه الأغانى.

وكانت هناك علاقة تربط فى ذلك الوقت بين والد بنيامين و”زئيف جابوتنسكى” مؤسس الحركة التصحيحية المتطرفة، حيث شكلت تلك العلاقة إدراك وعقلية “بنيامين نتنياهو”.. .ذلك أنه كان معروفًا عن المتطرف الصهيونى “جابوتنسكى” ميوله العدوانية الواضحة ضد العرب.. وكرهه الشديد لهم.

لقد كان كل من تسيون وجابوتنسكى يؤمنان بالعنف المطلق مع العرب وحتميته.. فيما كان يسعى “حاييم دايزمان” إلى المرونة فى التعامل معهم.

وفى هذا الجو المشحون بالعداء للعرب.. ولد “بنيامين تسيون نتنياهو”، حيث رباه والده على كراهية أى يهودى يقبل مصافحة العرب.. وكان دائم الترديد على مسامعه ”أن العربى إذا مد يده إليك بالسلام.. فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك”.!!

هذه الأفكار التى آمن بها والد “بنيامين نتنياهو” هى التى دفعت المتطرف الصهيونى جابوتنسكى لأن يعينه رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” الصهيونية.. والتى من خلالها لمع اسمه وذاع صيته.. حيث تخصصت تلك الصحيفة فى مهاجمة كل يهودى أو مسئول يفكر ولو بشكل غير مباشر فى السلام مع العرب أو أن يجلس معهم على مائدة مفاوضات واحدة.

ومن الكلمات التى كان يرددها “تسيون” على مسامع ولده “بنيامين” قوله “إنك أفضل من أى عربى.. وإذا جلست فاجلس مع من هم نظراؤك.. فالعرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم”.. إلا أن الأكثر تأثيرًا فى عقل “بنيامين نتنياهو” كانت هى تلك الكتب الصغيرة التى ألفها والده وآخرون من خلال دار النشر الصغيرة التى أنشأها.. وهى كتب تدور فى مجملها حول “أسس الحركة الصهيونية” و “كيفية إقامة دولة إسرائيل” و “إسرائيل المستقبل والأمل” و”العرب إلى الهاوية” و “إسرائيل العظمى فى كل البلاد العربية”.

كان “تسيون” حريصًا على تلقين ابنه دروسًا يومية فى السياسة.. شارحًا له بالتفصيل كيفية تفكير “جابوتنسكى” القائد الملهم له.. والذى سيصبح أيضًا القائد الملهم لنجله “بنيامين”!!

لقد عرف جابوتنسكى بكثرة تنقلاته وسفرياته بالاضافة إلى علاقاته الوطيدة بعدد من المسئولين الأمريكيين، والترويج لمقولاته أينما ذهب، فاستطاع بذلك أن يضم إلى جانبه آلاف المتطرفين والذين أمنوا بمقواته

فى العام 1940، شغل “تسيون نتنياهو” منصب السكرتير الشخصى لجابوتنسكى، وبات ملازمًا له فى كل رحلاته وتحركاته.. وأتاح له ذلك الاطلاع على العديد من الأوراق السرية التى كان يتم الإعداد والتخطيط من خلالها لإقامة دولة إسرائيل، وقد ضمت هذه الأوراق وثائق فى غاية الأهمية احتفظ بها “تسيون” وحده بعد وفاة جابوتنسكى.. وكانت هذه الوثائق تحمل عبارة تقول: “إلى كل مخلص.. إلى كل وطنى.. إلى كل شريف فى هذا الكون.. إذا ما وقعت هذه الأوراق فى يدك.. عليك أن تكون أمينًا فى تنفيذ ما بها حتى ترضى الله.. فشعب الله المختار الذى شرد ونهبت ثرواته لابد أن يعود.. وعندما يعود لابد أن يكون سيد العالم.. ومع سيادة العالم لابد من إبادة العرب الأقذار”.

هذه الأوراق السرية لم يتح لأحد الإطلاع عليها سوى “تسيلاه سيجل” والدة “بنيامين نتنياهو”.. ثم شاء القدر أن تشكل تلك الأوراق رؤية “بنيامين” فى المستقبل، حتى أنه من كثرة قراءته لهذه الوثائق حفظها وكان دائم الترديد لها.

وقد كان والده حريصًا على ألا ينسى نجله “بنيامين” ما تحمله تلك الوثائق من أفكار ومعتقدات، حتى أنه كان يطلب منه ترديدها فى إطار حلقات استماع كان يعقدها بحضور بقية اخوته، لدرجة أن والدته “تسيلاه” كانت تشفق عليه من والده الذى كان دائم الإصرار على تلقينه كل دروس الصهيونية.

وكانت “تسيلاه” ذاتها صهيونية متطرفة.. فهى من أسرة ثرية تنتمى لرجل أعمال يهودى، لديه العديد من المشروعات المتعددة والمترامية الأطراف، سواء فى الولايات المتحدة أو إسرائيل.. حيث كان يخصص ريعًا سنويًا من هذه المشروعات، بالإضافة إلى مساهمات كبيرة من أجل تنشيط الحركة الصهيونية.

وكان لدى والد “تسيلاه” تطلع دائم بأن يسخر كل القوى الدعائية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية.. ولذا فقد كان يسعى للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل دعاية مؤيدة للصهيونية.

وحين اشتد عود “تسيلاه” وأصبحت زميلة لـ”تسيون” فى حركة جابوتنسكى، جمعهما كره مشترك لعائلة وايزمان.. ومن هنا تبرز طبيعة العداء الذى حمله “بنيامين” عن والده ووالدته لرئيس إسرائيل الأسبق عيزرا وايزمان.

كانت والدة “بنيامين” تعشق القانون.. ورأت أن دراستها له يمكن أن تفيد الحركة الصهيونية أكثر بكثير من دراستها لأى فرع من فروع العلم الأخرى، حيث رأت أن القانون سيعلمها المنطق وتفنيد الحجج المضادة التى يمكن استخدامها ضد إسرائيل، خاصة من جانب العرب فى حال إقامة دولة إسرائيل.. وكان ولعها بالقانون وسيلة لتحقيق حلم الصهيونية الكبرى وتنفيذ تعليمات “جابوتنسكى” فى أن دراسة القانون مفيدة لأسس الحركة.. وأنها ستعطيها قوة جديدة تضاف إلى قوة المفكرين للحركة.

كانت “تسيلاه” مؤمنة بأن “جابوتنسكى” على حق حين أدرك أن الخطابة وحدها ليست كافية لدعم أسس الحركة.. وأنه لابد من سفراء لهذه الحركة فى مختلف دول العالم وأن سفراء هذه الحركة لابد أن يكونوا على قدر كبير من العلم والفهم الكامل لمتطلبات الحركة فى العقود القادمة.

وكان جابوتنسكى حريصًا على توجيه تلاميذه إلى دراسة فروع العلم المختلفة.

وقد برز تفوق “تسيلاه سيجل” بشكل واضح لدى دراستها للقانون بالجامعة العبرية بالقدس.. وعرف عنها الصراحة والجدية فى عملها ودراستها.. ودفعتها دراستها للقانون إلى السفر إلى لندن، حيث انضمت هناك إلى الحركات الصهيونية الناشئة فى ذلك الوقت، وأبرزت اهتمامًا ملحوظًا بأنشطتها داخل تلك الحركات، حتى أنها أصبحت واحدة من القيادات المعروفة بتخطيطها الجيد من أجل إقامة دولة إسرائيل.. واستطاعت “تسيلاه” الارتباط فى ذلك الوقت بمن يعرفون بزعماء وآباء الحركة الصهيونية فى إنجلترا.. وتمكنت بفضل تلك الروابط الوثيقة من أن تسافر إلى العديد من البلدان الأوروبية.

فى ذلك الوقت.. كان “جابوتنسكى” المرتبط بآباء وزعماء هذه الحركة يعزز من وضعية “تسيلاه” ولأن “تسيون نتنياهو” كان رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” ويتابع أنشطة “تسيلاه” رأى أنه من المناسب الارتباط بهذه الفتاة التى تشاركه الفكر والحلم فى إقامة دولة إسرائيل.. وخصوصًا أن العديد من الصفات الأخرى ربطت بينهما.. وفى مقدمتها الكره الشديد للعرب وضرورة العمل على إزالتهم من الوجود.

ولذا.. حين التقى “تسيون” و “تسيلاه” كونا ثنائيًا مشتركًا.. وكانا يكرهان أى شخص يحمل جنسية أية دولة- حتى ولو كان يهوديًا- يتحدث عن العرب بلغة لا يرغبانها.

كل هذه المؤثرات النفسية المعقدة لكل من «تسيون وتسيلاه» ورثها عنهما فيما بعد ابنهما «بنيامين» الذى قدر له فيما بعد تولى رئاسة حكومة إسرائيل لأكثر من مرة.

ومع حدوث الزواج بين “تسيون وتسيلاه” استجابت الزوجة لمطالب زوجها وقررت التفرغ لمعاونته.. ومع وفاة “جابوتنسكى” كان همهما الأول هو كيفية العمل على تنفيذ وصاياه التى يحتفظ بها “تسيون” والذى رأى أن تنفيذها يمكن أن يتم من خلال طبع كتيبات ونشرها على جميع يهوديّ العالم حتى يتجمع اليهود حول الفكرة الصهيونية الأساسية وهى “إسرائيل العظمى”.

وبالفعل بدأت سلسلة كتب “تسيون” فى الظهور بفضل معاونة زوجته والتى تلقت بدورها دعمًا من والدها رجل الأعمال المعروف فى الولايات المتحدة، الذى أخذ على عاتقه نشر كتب “تسيون” بين يهود أمريكا.. ثم انتشرت الكتب فى العديد من الدول الأوروبية عبر اليهود الأمريكان.

وبدأ صيت “تسيون” ينتشر بين اليهود فى العالم.. غير أن والد “تسيلاه” لم يرق له ذوبان شخصية ابنته فى شخصية زوجها.

فى العام 1946 قرر “تسيون” أن يكون أبًا من آباء الصهيونية، رافضًا أن يكون مجرد داعٍ لها.. فنصحته “تسيلاه” بأن يحصل على درجة الدكتوراه باعتبار أن ذلك سوف يسهم فى وضعه العلمى بين صفوف اليهود.. وكانت ترى أن هذا الطموح يمكن أن يجعله على رأس دولة إسرائيل.

وبالفعل حقق “تسيون” طموحه، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية “درونس” فى فيلادلفيا بالولايات المتحدة غير أن هذه الدرجة العلمية خلقت له العديد من المشاكل مع الزعامات اليهودية الموجودة فى الولايات المتحدة خصوصًا بعد شعورهم بأنه يسعى إلى تخطيهم فى طريقه للصعود إلى قمة سلم الدولة الوليدة.

فى ذلك الوقت ثار الكثير من الجدل بين القيادات اليهودية فى الولايات المتحدة، حيث كان البعض يرى أن التفاوض مع العرب يمكن أن يمثل إحدى وسائل إقامة دولة إسرائيل، إلا أن “تسيون” كان يرى عكس ذلك معتبرًا أن العنف هو الوسيلة الأساسية لإقامة الدولة.

وحين احتدم الخلاف بين الزعامات الصهيونية فى الولايات المتحدة قرر “تسيون نتنياهو” العودة إلى إسرائيل فى العام 1948وذلك بعد وقت قصير من قيامها على أرض فلسطين المحتلة.

ولم يكن “تسيون” على وفاق مع مسئولى الدولة الإسرائيلية الوليدة معتبرًا أنهم تنكروا لنضاله ودوره فى إقامة دولة إسرائيل.. حيث كان يرى أن كتبه وأبحاثه التى انتشرت فى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد أسهمت فى إقامة هذه الدولة.. والحصول على تأييد الأوروبيين والأمريكان.. فى حين كان ساسة إسرائيل ينظرون إليه بازدراء لأنه كان أنانيًا ومحبًا لذاته.

ورغم رفض ساسة إسرائيل التعاون معه إلا أنه كان يسعى إلى مشاركة القيادات الإسرائيلية فى مناظراتهم وندواتهم حول مستقبل الدولة الإسرائيلية.. وكان يردد دائمًا أنه تلميذ لجابوتنسكى، وأنه من أكثر الذين تحملوا العبء الأكبر من أجل إقامة هذه الدولة.

ووسط هذه الأجواء جاء “بنيامين تسيون نتنياهو” إلى الدنيا فى عام 1949.. حيث شهد هذا العام صراعًا مريرًا ومعقدًا بين تسيون ومناحم بيجين الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزارة الإسرائيلية وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.

كان الصراع فى مجمله يدور حول الحركة التصحيحية التى أرسى قواعدها “جابوتنسكى”.. وكان مناحم بيجين يرى أنه أكثر قدرة من تسيون على السيطرة على مقاليد الأمور داخل الحركة المتطرفة.

هذا الصراع الذى نشأ بين تسيون ومناحم بيجين لم يكن ليختفى أبدًا عن ذاكرة الطفل “بنيامين” الذى شب على كراهية “بيجين” منذ صغره، حيث اعتبره السبب الأساسى وراء القضاء على مستقبل والده السياسى.

ومنذ ذلك الحين تملكت “بنيامين نتنياهو” رغبة جامحة فى كيفية الانتقام لوالده وإعادة الاعتبار إليه.. وكان يرى أن ذلك لن يتحقق إلا بوصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء فى إسرائيل.

وبالرغم من انضمام “بنيامين نتنياهو” إلى ذات تكتل الليكود الذى أوصل “مناحم بيجين” إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلا أنه كان يعتبر أن ما أقدم عليه “بيجين” من توقيع معاهدة للصلح مع مصر بمثابة خطأ إستراتيجى لا يغتفر.. وكان يرى أن “بيجين” تسرع فى التوقيع على هذه المعاهدة.. بينما كان بإمكانه المماطلة لسنوات طويلة يحصل خلالها على السلام دون التفريط فى شبر واحد من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء.

لقد شهد “بنيامين” كيف أن بيجين أزاح والده عن طريقه، وكان بيجين يردد دائمًا أن “تسيون نتنياهو” لم يحارب مع منظمة “أتسل” وهى المنظمة العسكرية الإسرائيلية “الوطنية” وأنه لم يقدم أى تضحيات.. ولذا رفض منحه أى منصب.

من جانبه قرر “تسيون” ألا يستسلم لأفكار “بيجين” والقيادات اليمنية الإسرائيلية وأخذ على عاتقه أن يكون زعيمًا لحركة “حيروت” إلا أن الحركة رفضته.. مما فسره بأن هناك مؤامرة على مستقبله السياسى.

لقد نصحه أحد أصدقائه بالتخفيف من أفكاره المتطرفة للغاية إلا أن زوجته “تسيلاه” رفضت أن يقدم تسيون أية تنازلات فى هذا الصدد.. وطالبته بالتمسك بموقفه.. وأن يترك السياسة ويلتحق بالسلك الأكاديمى فى الجامعة العبرية.

اقرأ أيضاً«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. كتاب جديد لـ مصطفى بكري يكشف فيه بالوثائق استراتيجية الكيان الصهيوني للهيمنة على المنطقة

نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى (2)

مصطفى بكري عن كتابه «حلم إسرائيل الكبرى»: يكشف سيناريو ما هو متوقع

مقالات مشابهة

  • كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» بـذور التطـرف ( 2)
  • فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب
  • موقع عبري: إسرائيل على علم مسبق بالضربات الأمريكية في اليمن
  • مكتب نتنياهو: إسرائيل ستواصل محادثات وقف إطلاق النار في غزة وفقًا للمقترح الأمريكي
  • لماذا غضب نتنياهو من صفقة تبادل الأسرى التي وافقت عليها حماس؟
  • لأول مرة في التاريخ.. أكثر من نصف الديمقراطيين في أمريكا يؤيدون فلسطين ضد إسرائيل
  • واشنطن بوست: إسرائيل تطبق قواعد صارمة على منظمات إغاثة الفلسطينيين
  • عاجل | واشنطن بوست عن مصادر: إسرائيل تطبق قواعد جديدة صارمة على منظمات الإغاثة التي تساعد الفلسطينيين
  • رمضان في سجون “إسرائيل”.. قمع وتجويع بحق الأسرى الفلسطينيين
  • كاتس: إسرائيل ستبقى في المواقع الخمسة التي أنشأتها في جنوب لبنان