أعلن في العاصمة نجامينا مساء الأحد عن صدور نتائج دستور تشاد الجديد والذي تم تقديمه للشعب في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري.

الدستور الجديد الذي أعلنت اللجنة المنظمة للانتخابات أن 86% من الناخبين صوتوا لصالحه وبنسبة مشاركة بلغت 64%، يأتي في ظروف محلية وإقليمية بالغة التعقيد، حيث حركات التمرد من الداخل، وموجة الانقلابات في دول الجوار، وحرب السودان وما تضيفه من أعباء على دولة تشاد.

ومنذ أن نالت تشاد استقلالها عن فرنسا عرفت الكثير من المواثيق والدساتير التي تكتب مع كل انقلاب جديد، أو تأتي لتمهد الطريق أمام الحكام العسكريين للبقاء في السلطة.

وخلال 60 عاما من الاستقلال عرفت البلاد 8 دساتير، أولها الدستور الفرنسي 1958، ثم دستور 1959 الذي عرف بدستور الاستقلال.

وعام 1962، صدر الدستور الثالث للبلاد ونصّ حينها على نظام الحزب الواحد الذي يتولّى بمفرده إدارة الشأن السياسي.

وبعد جملة من المواثيق والمراسيم والأحكام الاستثنائية التي تم بها تسيير البلاد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، صدر دستور الجمهورية في العاشر من فبراير/شباط 1989.

حقبة ديبي والدستور الجديد

وعندما حكم إدريس ديبي البلاد عبر انقلاب عسكري عام 1990، نظم استفتاء دستوريا في 31 مارس/آذار 1996 تميّز بإصلاحات سياسية واسعة.

لكن ديبي بعد ولايتين رئاسيتين، نظم استفتاء دستوريا جديدا عام 2005، وحكم به البلاد أيضا عقدا من الزمن، ثم نظم دستورا جديدا سنة 2018 عزز به سلطات الرئيس، وألغى مسؤولية الحكومة أمام رئيس الوزراء.

وبعد مقتل ديبي على يد المتمردين في أبريل/نيسان 2021،  تشكل مجلس عسكري انتقالي برئاسة ابنه محمد ديبي وأصدر ميثاقا انتقاليا تم بموجبه كتابة دستور جديد، وقدم للاستفتاء في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وأعلنت نتائجه مساء أمس الأحد.

الدستور الجديد ينطلق من مخرجات الحوار الوطني المنظم في أغسطس/آب 2022، ويعتمد على دستور مارس/آذار 1996.

وقد تضمن الدستور الجديد 13 فصلا و299 مادة، وديباجة موسعة تطرّقت لمبادئ وقيم جديدة كالتسامح السياسي والعرقي والديني.

كما بوّب لإنشاء وإعادة تنظيم بعض المؤسسات السياسية كالمجلس الدستوري، والمجلس الأعلى للقضاء، والمحكمة العليا، ومحكمة الحسابات والمحكمة العسكرية.

وفي تصريحات للصحافة الدولية قال عضو "لجنة صياغة الدستور" سنوسي محمد علي إن الدستور الجديد لا يختلف كثيرا عن دستور 1991، لأنه بوّب على مكانة رئيس الوزراء وجعل الحكومة مسؤولة أمامه، على عكس الدستور السابق الذي ينص على أن جميع الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية.

ومن أبرز الإصلاحات القضائية التي شملها الدستور الجديد، هو تحويل رئاسة المجلس الأعلى للقضاء لرئيس المحكمة العليا بدلا من رئيس الدولة.

المجلس العسكري برئاسة ديبي الابن أعلن عن حوار وطني قبل الاستفتاء على الدستور (الفرنسية) المعارضة والجيش والتوريث

وقد أثار الدستور الجديد الكثير من الجدل بين الفرقاء السياسيين، ذلك أن أغلب قادة المعارضة، ومنظمات المجتمع المدني، اعتبروه مناقضا لما تم الاتفاق عليه في مخرجات الحوار الوطني الشامل، الذي أوصى بأن الشعب هو من يختار شكل الحكم بدون ضغوط أو تدخل.

لكن المجلس العسكري كلّف لجنة لصياغة الدستور بدون الرجوع للفاعلين السياسيين من قادة أحزاب ونقابات وحركات.

كما قامت الحكومة بحملة دعائية كبيرة أنفقت فيها الأموال، ومارست فيها الضغوط من أجل التصويت لصالح الدستور الجديد.

وبينما تدعو فصائل من المعارضة إلى ضرورة تبنّي الفدرالية في الحكم، فإن المعسكر الموالي للمجلس العسكري يؤكد أن مركزية الدولة هي السبيل الأمثل للاستقرار وعدم الفوضى.

ورغم أن المجلس العسكري الانتقالي الذي يرأسه الجنرال الشاب محمد إدريس ديبي إتنو هو من شكّل لجنة لوضع مشروع الدستور وتولّى الإشراف على عملية الاستفتاء، فإن الدستور نصّ على أن القوات الأمنية والمسلحة في خدمة الدولة ولا علاقة لها بالسياسة.

وهذا يعني أن المجلس العسكري سينتهي دوره بعد إجراء الانتخابات الرئاسية. لكن المعارضة ترى أن الدستور الجديد جاء لتكريس توريث الرئاسة لمحمد إدريس ديبي الذي تولى السلطة مباشرة بعد مقتل والده.

ويقف في وجه الدستور الجديد عدد من رموز المعارضة بقيادة يايا ديلو، ومجموعات أخرى من الحركات العسكرية التي لم توقع على اتفاق الدوحة للسلام سنة 2022 بين المجلس الانتقالي وعدد من قادة الحركات السياسية والفصائل المسلّحة.

وقد نصّ الدستور الجديد في المادة 68 على أنه يحق للقادة العسكريين الترشح للانتخابات الرئاسية، شريطة التفرغ لهذا المنصب.

كما نقص سن الترشح من 40 عاما إلى 35، وهي تعديلات تصبّ في صالح الجنرال الشاب الذي لم يصل عمره إلى سن الـ40.

ومنذ أن استقلت تشاد عن فرنسا عام 1958 لم تعرف حكما مدنيا، وإنما تعاقب عليها رؤساء كل واحد منهم جاء للرئاسة عن طريق المؤسسة العسكرية، وذلك ما يجعل تطلّع المعارضة لحكم مدني أمرا بعيد المنال.

تعقيدات سياسية ومصاعب اقتصادية

وعلى منصة إكس كتب الخبير في الشؤون الأفريقية إدريس آيات أن الدستور الجديد "إذا ما تم فرضه عبر عملية متحيزة وغير شاملة، فإن ذلك من شأنه أن يساهم في توجيه مسار مستقبل تشاد نحو السلبية".

وأضاف آيات أن الجدل حول الدستور الجديد يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية، ويضعف الاستقرار السياسي للبلاد.

يذكر أن ديبي الابن تولى الحكم بعد مقتل والده على يد المتمردين عام 2021، وفور وصوله للحكم عن طريق مجلس عسكري أعلن فترة انتقالية مدتها 18 شهرا؛ لكن الحكومة الانتقالية مددتها حتى أواخر 2024، وسمحت له بالترشح لمنصب الرئيس، وهو ما أثار الكثير من الاحتجاجات في العاصمة نجامينا معقل المعارضة التشادية.

وقد سقط في الاحتجاجات عدد من القتلى واعتقلت الحكومة ما يربو على ألف شخص من أجل قمع الاحتجاج المناهض لسلطة محمد ديبي.

وتصنّف تشاد التي تقع في وسط أفريقيا بأنها ثاني أقل دولة نموا في العالم حسب تقارير الأمم المتّحدة.

ويحتاج 7 ملايين تشادي إلى المساعدات الإنسانية أي نسبة 40% من إجمالي السكان، كما تسببت الهجمات المسلحة في بحيرة تشاد إلى نزوح 215 ألف شخص.

وتعاني تشاد كثيرا من الأزمات، وقد استقبلت مؤخرا أكثر من مليون نازح قادمين من السودان بسبب الحرب الدائرة هناك بين الجيش وقوات الدعم السريع.

كما أن تشاد من دول الساحل التي تنشط فيها الحركات المسلّحة، وتمر بموجة من الانقلابات غيّرت الخريطة السياسية وجاءت بفاعلين جدد للمنطقة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدستور الجدید المجلس العسکری

إقرأ أيضاً:

المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي

المعارضة التونسية بين رهان السياسي و"وجدان" القاضي
عادل بن عبد الله
بصرف النظر عن التوصيف الدستوري لإجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021 -هل هي انقلاب أم قراءة ما فوق دستورية- فإن تلك الإجراءات قد أعادت هندسة المشهد العام بصورة تجاوزت المستوى السياسي الصرف. ولأسباب يمكن ردها إلى ضعف المعارضة وهشاشة مخرجات الانتقال الديمقراطي من جهة، وإلى الدعم النشط من القوى الإقليمية المتوجسة من نجاح التجربة التونسية من جهة ثانية، استطاع الرئيس -بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وأذرعها المختلفة- أن يجمّع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد القرار 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وهو ما أعطى للمراسيم والقرارات الرئاسية سلطة لا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، كما خوّل ذلك المرسوم للرئيس "حصريا" سلطة إصدار القوانين لتنظيم المحاكم وكذلك مراجعة إجراءات التقاضي.

بدخول الدستور التونسي الجديد حيز التنفيذ إثر الاستفتاء الشعبي العام سنة 2022، أصبحت "السلطة" القضائية مجرد "وظيفة" مثلها في ذلك كمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولم يكن تغير التسمية مجرد مسألة لغوية، بل كان تعبيرا عن رهان سياسي مداره شرعية "التأسيس الثوري الجديد". فالرئيس لا يعتبر "تصحيح المسار" تأسيسا لسلطة جديدة، بل هو إعادة لها إلى صاحبها الأصلي، أي الشعب. وهذا الشعب -حسب أنصار تصحيح المسار- هو الذي فوّض "الخبير الدستوري" قيس سعيد ليمارس السلطة باسمه مرتين: مرة أولى سنة 2019 عند انتخابه رئيسا من خارج النخب السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، ومرة ثانية عند تأييده لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.

ومهما كان موقفنا من الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 ومن مدى التزامها بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة، فإن فوز الرئيس قيس سعيد قد جاء ليُشرعن سردية التفويض الشعبي وليدفع بـ"حرب التحرير الوطني" إلى مرحلة اللا عودة، خاصة من جهة علاقة المنظومة الحاكمة بأغلب الفاعلين الاجتماعيين المعارضين، أي بأولئك الذين جاء "تصحيح المسار" لإنهاء الحاجة إليهم وإلى أجسامهم الوسيطة وديمقراطيتهم التمثيلية.

في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، لا يكون توحّد الجبهة الداخلية ضد "الخونة" و"المتآمرين" و"الفاسدين" خيارا، بل هو واجب وطني لا يمكن لأي "وظيفة" من الوظائف الثلاث ألا تنخرط فيه دون أن تكون عرضة هي الأخرى لتهمة الخيانة/ العمالة. وهو ما وضع الوظيفة القضائية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاشتغال بمنطق "الوظيفة" التابعة للوظيفة التنفيذية، لا بمنطق السلطة المستقلة، وهو ما يعني أن يتخلى القاضي عن وجدانه ثقةً في وجدان السياسي والأمني حتى إن لم يكن ذلك الوجدان مسنودا بأدلة وبراهين، وإما أن يحافظ على استقلال "وجدانه" فيصبح عندها محل استهداف مباشر من السلطة التنفيذية كما وقع لعشرات القضاة المعزولين أو المعاقبين بنقلات تعسفية وغيرها. فتبرئة من وقر في وجدان السياسي و/أو الأمني أنهم مذنبون يجب "تطهير" البلاد منهم، تعني أنّ القاضي "شريك لهم" كما صرّح بذلك الرئيس نفسه.

للرد على بيان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الداعي إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير"، لم يجد النظام التونسي ممثلا في وزارة الخارجية تعبيرا أفضل من "بالغ الاستغراب". فالمفوض الأممي فولكر تورك يبني انتقاداته للنظام التونسي على "مغالطات"، ذلك أن الرواية الرسمية للنظام ما زالت متمسكة باستقلال القضاء وبتوفير الضمانات القضائية للمتهمين، كما أن النظام ينكر الطبيعة السياسية للقضايا ويعتبرها مجرد "قضايا حق عام" لا علاقة لها بأنشطة أصحابها الحزبية والسياسية والإعلامية ولا بممارستهم حرية الرأي والتعبير. وإذا قرأنا هذا الموقف الرسمي في سياق المحاكمات السياسية الحالية التي قد تصل بعض العقوبات فيها إلى الإعدام، سيكون من الواضح أن لا نية للسلطة للتراجع عن المقاربة الأمنية-القضائية لحل القضايا السياسية.

بمعنى من المعاني، يبدو أن النظام قد اختار المضيّ في المحاكمات الحالية ردا على دعوات الحوار الوطني وإظهارا لقدرته على فرض خياراته السلطوية الأحادية. فما لا يفهمه العديد من السياسيين والمحللين هو أن الحوار والتشاركية والاعتراف بتعدد الشرعيات والرمزيات والإقرار بدور الأجسام الوسيطة.. كل ذلك يعني نهاية "تصحيح المسار" وفقدانه لعلة وجوده أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج. ولذلك يواصل النظام سياسة الهروب إلى الأمام ويرفض الاعتراف بأي حاجة لتعديل خياراته الكبرى سواء في السياسة (الديمقراطية المباشرة) أو في الاقتصاد (الشركات الأهلية).

إن إدارة ملف المعارضة السياسية بمقاربة أمنية-قضائية مسنودة بإعلام مدجّن ليس خيارا جديدا في الساحة التونسية، بل هو إعادة إنتاج لخيارات سابقة منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية. ولا شك في أن التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" وبين الرأسمال البشري/الفكري للمنظومة القديمة يجعل من التفكير في بدائل للمقاربة الأمنية أمرا مستبعدا.

عندما كان القضاء "سلطة" فإنه كان نظريا محكوما بجملة من القواعد مثل أن القاضي لا يحكم بعلمه، وأن الإدانة أو التبرئة يكونان بما "استقر في وجدان المحكمة". ولكن انتقال القضاء من سلطة إلى وظيفة في ظل سردية "التأسيس الثوري الجديد" وسردية "حرب التحرير" تجعل القاضي محمولا على الحكم بعلم السلطة وما يستقر في وجدان السياسي والأمني بصرف النظر عما يستقر في وجدانه بعد الاطلاع على ملف الإحالة. فالقاضي -مثل جميع موظفي الدولة- هو الآن في خدمة "مشروع سياسي"، وإلا في معارضته إذا ما خالف انتظارات المنظومة الحاكمة منه.

ولا شك في أن لكل احتمال من الاحتمالين كلفة أخلاقية وقانونية يتحملها القضاء وسائر المواطنين سواء في الوضع الراهن أو في المستقبل. وإذا كان وجدان القضاء قبل "تصحيح المسار" غير مطابق للقلب السليم -أي خاضعا لاعتبارات وتدخلات من خارج الملفات ذاتها- فإنه على الأقل كان قادرا على ضمان نوع من الاستقلالية بحكم تعدد مراكز السلطة والسلطة المضادة. ولكنّ تمركز السلطة وغياب السلطات المضادة في ظل "تصحيح المسار" يجعلان من ذلك الوجدان القضائي مسيجا بوجدان السياسي والأمني، وخاضعا للسلطة التنفيذية التي تجعل الوجدان الصافي للمحكمة خيارا لا يستطيع إلا القليل من القضاة تحمل كلفته.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • ميثاق ودستور تأسيس .. هل من عاصم من تفتيت وحدة البلاد وشعبها؟
  • إدانة شاب سرق مبلغ 121 مليون سنتيم من المنزل العائلي لصديقته المقربة بالشراقة
  • دستور دولة (تأسيس) الإفتراضية
  • الرئيس التشادي يطلب عقد قمة رئاسية والبرهان يضع شروطًا
  • الحكومة اليونانية تنجو من حجب الثقة
  • رفض الموظف المنتهية خدمته للانقطاع غير المتصل عن العمل من تقديم عذر يخالف الدستور
  • فرنسا تبدأ انسحابها من السنغال بتسليم قاعدتين عسكريتين للحكومة المحلية
  • المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي
  • عمران: مشروع الدستور يعالج الفيدرالية والمماطلة تعمّق الأزمة
  • بعد مستشفى أم جرس في تشاد..  الامارات تفتتح مستشفى ميداني في موقع حدودي جديد