قد يكون من البديهي القول إن التصاميم الهندسية للمركبات والطائرات تُستوحى تقنياً من أشكال الطيور والحيوانات، وإن شركات كبرى مثل إيرباص وبوينغ توظف تقنيات تحاكي الطبيعة في صناعتها لرؤوس وأجنحة وذيول الطائرات.

لكن من غريبِ القول أن ينطبق مثل ذلك على علوم الكهرباء والطاقة، فكيف يمكن أن تحاكي الطبيعة توليد الكهرباء، وما علاقة أجساد الحيوانات وسلوكياتها بعلوم صرفة يدخل فيها تعقيدات الفولتات والتيارات وغيرها، ومن أيّ طبيعة استلهم العلماء أفكارهم ومعلوماتهم؟

الحديث فيه تفصيل، وقبل البدء، نُعرّج على ثعبان البحر الكهربائي (أو مسدس الأمازون) أحد مخلوقات الله المعجزة، التي ألهمت الفيزيائي "أليكساندرو فولتا" لإنشاء أول بطارية تخزين في التاريخ، وبفضلها نملك اليوم البطاريات.

وفولتا هذا اقترن اسمه بوحدة الجهد الكهربائي "الفولت" في نظام الوحدات الدولي تكريما له.

وعند تتمة الحديث عن إنتاج الكهرباء عند حيوانات المياه، فهناك فرس البحر وأبو سيف وأسماك القرش وعدد من ثعابين المياه؛ فالثعابين لديها قدرات كهربائية هائلة، إذ تمتلك خلايا كهربائية داخل أجسادها، وعند تشريحها تظهر في أعمدة مكدسة ومتوازية هي في الحقيقة خلايا معدلة إما من العضلات أو وصلات عصبية. الأمر لا يخلو من تعقيد، أعلم ذلك.

أما زملاء وزميلات ثعابين المياه مثل القرش؛ فإحدى علاقاته مع الكهرباء في إنتاج الأيونات. ولمزيد من التوضيح، فإنه في عملية التنفس تُنضح الإلكترونات من أفواه وخياشيم الأسماك، فالقرش مثلا لديه مستشعرات ومجسات هائلة يستطيع بها أن يدرك ما يدور في محيطه عبر استشعار الأيونات المنتَجة من الكائنات حوله، وبهذه الطريقة يصل إلى مبتغاه.

الحوت الأزرق يغوص أسفل فريسته ويطلق موجات من الفقاعات على شكل الشبكة التي تسهل الاصطياد (شترستوك)

ليست الأجساد والتشريح هي الملهمة وحدها، فسلوكيات الحيوانات عبارة عن علوم غاية في الدقة ألهمت علماء الكهرباء، فحولوها بعد دراسات مستفيضة إلى خوارزميات (الخوارزمية: مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما).

نعود إلى سلوك الحيوانات، ونبدأ بالأسماك، حيث حوّل العلماء سلوكها إلى خوارزميات استُخدمت في تحسين أنظمة الكهرباء بمختلف أجزائها ووظائفها. فهذا الحوت الأزرق على سبيل المثال الذي يغوص أسفل فريسته ويطلق موجات كثيفة من فقاعات الهواء تتشكل على شكل يشبه الشبكة؛ ففي سلوك الحوت فإن هذه الفقاعات تسهل الاصطياد وبالتالي وجبة أسهل وكمية أكبر من الأسماك.

أما عند الكهربائيين فإن ما يقوم به أمير البحر هذا علم من العلوم التي يمكن أن تُستثمر في أنظمة القدرة، وبالفعل صمموا خوارزميات تعمل على اكتشاف الأخطاء أو مستويات الفولتية أو القدرة في شبكات الطاقة، وعند حدوث خلل ما تتدخل الأنظمة مباشرة فيتم تقليل الأخطاء، وبالتالي تكون وجبة توليد الكهرباء هذه أكثر دقة وأقل خسائر، تماماً مثل الحوت الذي اصطاد فريسته بأسهل طريقة وأقل أخطاء.

وفي الحديث عن الخوارزميات التي استلهمها الكهربائيون من سلوكيات الحيوانات في تحسين أنظمة القدرة لديهم، تبرز عندنا خوارزمية الذئاب الرمادية، فهذه الذئاب لديها طريقة فريدة في اتخاذ القرارات، فلا قرار في الصيد دون الرجوع إلى التسلسل الهرمي للقيادة، هكذا يتصرف قطيع الذئاب الذي يقتضي تنفيذ صيده الالتزام بثلاث خطوات رئيسية: البحث عن فريسة، وتطويقها، ومن ثم مهاجمتها.. هذا النظام الهرمي المنطقي في معالجة المواقف استُلهم في حل قضايا عدة، فهو مفيد في بيئة من العوائق والأهداف غير المعروفة، وبالتالي يكون المنطق في معالجة السبب هو الأجدى باتخاذ قرارات صائبة.

العلماء صمموا شبكة عصبية تحاكي النمل فتحلل الصور وتتذكر الطرق المثلى للانتقال بين بيئات معقدة (شترستوك)

كذلك الحال بالنسبة للحيوانات الأخرى، فهناك خوارزميات كثيرة مثل: خوارزمية خلايا النحل، خوارزمية الخفافيش، خوارزمية اليرقات، إضافة إلى خوارزميات كثيرة عن الأنواع المختلفة للطيور والافاعي والزواحف.

أما النمل فقصة أخرى، فهذا الحيوان "الصغير" لديه قدرات هائلة وعجيبة استلهمها العلماء في صناعة الربوتات؛ فبعد أن صمموا روبوتات تعمل على حصد الأعشاب الضارة في المزارع، واجهوا مشكلة أن تلك الروبوتات تصدم بالحشائش الكثيفة وبالتالي لا تستطيع إنجاز مهامها، وهنا جاء الإلهام من النمل القادر على التعلم من البيئة عبر نظام حسي وعصبي معقد، فصمم العلماء شبكة عصبية اصطناعية تحاكي أسلوب النمل وتسمح بتحليل الصور وتذكر الطرق المثلى للانتقال بين هذه البيئات المعقدة.

ولا تزال التجارب في هذه الحقول تتطور، فاستلهام مختلف العلوم من الطبيعة لم يتوقف ولن ينتهي، وهو من الإعجاز الموجود في أسرار الخلق، فتبارك الله أحسن الخالقين.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

هل اقترب العلماء من حل لغز سراديب الموتى الباريسية؟

"توقفوا! هذه إمبراطورية الموت"، هذه الكلمات من قصيدة "الإنيادة" للشاعر الروماني فيرجيل محفورة بأحرف كبيرة عند مدخل سراديب الموتى المعروفة باسم "كاتاكومب" في باريس، وهذه العبارة تمثل تحذيرا لآلاف الزوار الذين لا يُسمح لهم بتجاوز كيلومترين فقط داخل السراديب.

لكن هذا لم يوقف الباحثين الذين يقضون منذ عام 2022 أيامًا متواصلة في هذا العالم السفلي المظلم والبارد على عمق أكثر من 20 مترًا تحت الأرض، وفي متاهة من جدران الجثث وبقايا الهياكل العظمية تمتد على مسافة 300 كيلومتر داخل شبكة طويلة من أنفاق المحاجر تملؤها رائحة الموت، وممرات ضيقة يصعب التجول فيها، وصالات مظلمة تتزين أحيانًا برسوم جدارية.

وفي أول دراسة علمية لسراديب الموتى يقودها عالم الأنثروبولوجيا والآثار في جامعة باريس ساكلي، فيليب شارلييه، يسعى فريق متعدد التخصصات من علماء الأنثروبولوجيا والأحياء والأطباء وعلماء الآثار إلى كشف الغموض والألغاز التي تدور حول ملايين الجثث التي تحويها هذه السراديب، ومعرفة عدد المدفونين فيها، وكيف ولماذا ماتوا، وكيفية وصول جثثهم إلى أسفل شوارع باريس.

ويقول شارلييه، في تصريحات للجزيرة نت، إن مشروعهم البحثي يهدف إلى الكشف عما يمكن أن تخفيه البقايا البشرية عن أسرار صحة دفن أكثر من 6 ملايين باريسي داخل هذه الأنفاق، والأمراض والعدوى التي عانوا والتي ربما أدت إلى وفاتهم على مدار القرون الماضية.

فريق متعدد التخصصات من علماء الأنثروبولوجيا والأحياء والأطباء وعلماء الآثار يسعى إلى كشف الغموض والألغاز التي تدور حول ملايين الجثث التي تحويها هذه السراديب (بيكساباي) بقايا مؤرقة من الماضي

بالعودة إلى الوراء قرنين ونصف القرن إلى زمن لويس السادس عشر، عندما واجهت باريس سلسلة من الأحداث المزعجة، نجد أن سراديب الموتى الباريسية نشأت نتيجة لحدثين رئيسيين في القرن الثامن عشر؛ الأول يتعلق بانهيار المحاجر تحت الأرض التي كانت تُستخرج منها الأحجار المستخدمة في بناء المدينة منذ مدة طويلة.

أدى هذا الانهيار إلى إنشاء شبكة خطيرة من الفراغات تحت شوارع باريس، وخاصة على الضفة اليسرى للمدينة. واستجابة لذلك، أنشأ الملك لويس السادس عشر هيئة التفتيش العام للمقابر في عام 1777 لرسم خريطة للبنية التحتية تحت الأرض وتعزيز المناطق غير المستقرة.

كان الحادث الثاني الذي أدى إلى إنشاء سراديب الموتى أزمة صحية عامة مروعة؛ ففي عام 1780 أصبحت "مقبرة الأبرياء" العملاقة في منطقة هاليس مكتظة للغاية لدرجة أن الجثث المتحللة تناثرت إلى الأقبية القريبة، وهو مشهد مرعب لسكان باريس.

ومع مخاوف انتشار الأمراض، قررت السلطات استخراج الجثث من مقابر باريس المكتظة. وفي عام 1785، وعلى مدى 15 شهرًا، وبصحبة طقوس دينية، كانت عربات ضخمة تجرها الثيران تنقل الرفات ليلا إلى أعمدة المحاجر المهجورة على مشارف المدينة، وتم إسقاطها في أعمدة المحاجر المهجورة وتركها مكدسة فوق بعضها.

لم يكن الأمر كذلك حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما أراد المفتش العام للمحاجر هيريكارد دي ثوري إظهار الاحترام العميق لأولئك الذين ماتوا، فتولى مهمة تنظيم ترتيب العظام في جدران زخرفية باستخدام عظام طويلة مثل عظام الفخذ والجماجم لإنشاء عرض أكثر تنظيمًا من الناحية البصرية. ومع ذلك، خلف هذه الواجهات المصممة بعناية، كانت العظام المتبقية ملقاة في كومة فوضوية.

وفي هذا السياق، يشير شارلييه إلى وجود مقابر عظام أخرى في العالم، لكن تلك التي تقع أسفل باريس وضواحيها تمثل أكبر مقبرة جماعية مكتشفة حتى الآن، ومتحفًا مفتوحًا للعظام البشرية، مضيفًا أن هذا يجعلها المكان الأفضل لإجراء دراسة أنثروبولوجية وباثولوجية، خاصة مع عدم وجود أي دراسة علمية جادة لسراديب باريس.

الفرصة أتيحت لفريق شارلييه لدراسة الموقع منذ عام 2022 (فيليب شارلييه) ألف عام من المرض

لا يهتم فريق شارلييه بالترتيب الفني للعظام فحسب، بل يهدف بحثهم، الذي بدأ بعد انهيار جزء من جدار العظام قبل 3 سنوات، إلى الكشف عن سبب انتهاء المتوفى إلى حيث انتهى به المطاف، وكيف عاش هؤلاء الأفراد وكيف ماتوا، للوقوف على تاريخ الصحة العامة في باريس وضواحيها.

يأتي ذلك في سياق دراسة تاريخ طويل جدا من المرض، حيث إن الجثث الموجودة في سراديب الموتى تعود إلى مراحل مختلفة، ويبلغ عمر بعض أقدم البقايا أكثر من ألف عام، من العصر الميروفنجي.

ومن خلال دراسة البقايا الهيكلية، يأمل الفريق فهم كيفية تطور الأمراض على مر القرون، وكيفية إجراء الممارسات الطبية التي خضع لها الباريسيون، مثل عمليات ثقب الجمجمة والبتر والتشريح والتحنيط.

أحد الأساليب الرئيسة المستخدمة هو علم الأمراض القديمة أو "الباليوباثولوجيا"، إذ يفحص الفريق عينات العظام بحثًا عن آثار لحالات مثل الكساح والزهري والجذام، التي تترك علامات يمكن التعرف بها على بقايا الهياكل العظمية.

ويمكن أن تؤدي الأبحاث والنتائج إلى رؤى لا تُصدق وعلاجات للأمراض التي نعاني منها في العالم الحديث اليوم. فعلى سبيل المثال، يمكن التحقق مما إذا كان مرض الزهري الذي أودى بحياة شخص ما في القرن السادس عشر هو المرض نفسه الذي نعرفه اليوم، أو إذا كان العامل المسبب للمرض قد تطور بشكل ملحوظ.

الباحثون يقومون باستخراج الحمض النووي من الأسنان لتحديد العوامل المعدية للأمراض (بيكسابي) فهم الحمض النووي

يقوم الباحثون باستخراج الحمض النووي من الأسنان لتحديد العوامل المعدية للأمراض وإذا كانت قد تطورت على مدار القرون الماضية، مثل الطاعون الذي تسبب في قتل كثير من الناس بسرعة كبيرة دون ترك آثار واضحة.

كذلك يقوم فريق شارلييه بالتحقيق في حالات التسمم الناتجة عن التعرض لكميات كبيرة من المعادن الثقيلة مثل الزئبق والزرنيخ والرصاص الإِثْمِد أو الأنتيمون.

ويُتوقع أن يمكِّن التأريخ باستخدام الكربون المشع من معرفة عمر العظام، كما سيمكّن العد البسيط من إحصاء أكثر دقة لعدد الأفراد المدفونين في سراديب الموتى التي يتوقع شارلييه أن يتجاوز عددها 6 ملايين.

ومن المتوقع أن يقدم بحث الفريق، الذي دخل عامه الثالث الآن، أول نتائجه الأولية بحلول نهاية عام 2024، وقد يستغرق الأمر عقودًا لإكماله.

مقالات مشابهة

  • بترتيبات معقدة.. قناة السويس تكشف تفاصيل نجاح أكبر عملية عبور في تاريخها لحوض عائم
  • تلوث الهواء يغلق المتنزهات وحدائق الحيوان في باكستان
  • جمعة: بعض العلماء جعلوا الجهاد في سبيل الله ركنًا سادسًا
  • مستشفى السبعين للأمومة يجري عملية معقدة
  • إجراء عملية معقدة بمستشفى السبعين بالامانة العاصمة
  • صعدة.. لقاء لمناقشة دور العلماء ولجان التصالح في معالجة القضايا المجتمعية
  • هل اقترب العلماء من حل لغز سراديب الموتى الباريسية؟
  • “التربية” تفتتح مراكز رعاية المتعلمين بجميع المناطق التعليمية للعام الدراسي 2024 – 2025
  • اقتراع ورقي وقوانين معقدة.. كيف تختلف الانتخابات الأمريكية عن مثيلاتها؟
  • حراك متجدد بعد الانتخابات الأميركية لبلورة تسوية سياسية عمادها الـ1701