إنها الأعياد أشتاقها وأهابها، فهي وعاء الذكريات ودفتر الحكايات، وكل حكاية عرضة للسهو أو الخطأ إلا حكايات رأس السنة لا تقبل الخطأ، فهي مُعنوَنة بأرقامها، مثبتة في أوراق أعمارنا بالدقيقة والثانية، مؤرِخة للحظات انتصارنا وشاهدة على أوقات انكسارنا، فهي الكراسة التي رسمنا فيها ضحكاتنا واللوحة التي علقنا بها دموعنا، والصفحة التي أغلقناها لنستكمل على ظهرها ما بقي من أعمارنا.

اشتاق للأيام التي كنت فيها طفلة تنتظر الساعة الثانية عشر في صباح اليوم الأول من كل عام جديد، ليمر على بابها سانتا كلوز ويمطرها بالحلويات والألعاب والبلالين وحضن كبير، أعلم من الذي كان يتنكر في زي سانتا، ولكنه لم يكن لي في تلك اللحظة إلا سانتا كلوز الذي جاء من أقصى جبال الثليج على حيوان الرنة اللطيف، تسبقه الأجراس ويعلن عن قدومه هذا الصخب والأفراح، وتلك الزينة والماسكات البلاستيكية الرخيصة التي كنا نبتاعها من رجل على باب الله بجوار سور المدرسة، أو امرأة حكايتها على من خلقها تفترش الرصيف ببعض أقنعة، ومعها صافرات وبالونات لجل العيال تهيص، ولا يعلم كلاهما أنهما بائعا البهجة وذلك البصيص بعام قادم نأمل خيره وأخر راحل كنا في ذلك الوقت نشعر بالحيرة ونحن على وشك الموعد مع غيره، فلم تكن كل الأيام إلا مشاريع أحلام والشهور والسنوات هي متسع للأمنيات.

في مخيلتي كطفلة أن سانتا خاض الرحلة ليرسم على وجهي البسمة، ويطمأنني أن الدنيا كرحلته، محطاتها السعادة واستراحاتها الفرج واليُسر والفرح وتلك لها عادة. 


ولكن تمضي الأيام فأصبح أنا سانتا الذي يستقبل رسائل ابنائي والتي كنت أصر على أن تكون أحلاما مكتوبة وليست أمنيات شفهية مرسلة، ربما هي محاولة أن أعلمهم أن الآمال يجب أن تكون محسوبة، وقطعاً كانت تحايلاً أن احتفظ بوثيقة موقعة بأياديهم الرقيقة لأحتفظ بتلك الدقيقة في علبة الذكرى الرفيقة.

اعتدت أن أحضُر الهدايا وأتركها مع رسائل ممهورة بالحب دوماً وبأمنية معروفة لهم مسبقاً، على شاكلة ذاكر أكتر، أعتذر لمدرسك، اهتم بالتمرين، بطل شيكولاتة، أغسل أسنانك بضمير وغيرها من أمنيات هذا الزمن الجميل..


أضع الهدايا على باب البيت وأدق الجرس خلسة، وأعود أدراجي حتى لا يكتشف أحدهم أمري بغتة.. وببراءة أهرول معهم للباب لأسبهل من المفاجأة. 


والمفاجأة إنني كنت أتفاجأ بالفعل، وكأنني لم أمضي كل هذا الوقت في البحث والشراء والتحضير، ولا كل هذا المجهود في التخطيط والتفكير لأنفذ مخططي ولا ينكشف أمري ويعرف ابنائي إنني العميل السري لسانتا.

 

ولعلي لازلت متفاجئة كيف لمشاعري أن تكون واحدة في كلا الموقفين، وكأنها البارحة نفس الشغف والفرح والتصديق والانتظار لسانتا حتى وإن كان أنا!
فمتعة شراء هدايا الكريسماس لا يضاهيها جمالاً إلا الأمنيات التي تحملها تلك الهدايا.

 

واليوم بعد أن هرِم الكبار وكَبِر الصغار ولم يعد سانتا إلا ذكرى تحملها صوت سيناترا وشجن فيروز ورائحة بسكويت الجنزبيل والشيكولاتة الساخنة، وتلك الرسائل التي كان يكتبها أبنائي والمكدسة في علبة الحنين أقرأها واشتاق لذكراها من حين إلى حين، أضع العلبة تحت  شجرة تقاوم أن تكون بائسة فالكل مشغول عن تزيينها بعد أن كان الكل يتقاتل من أجلها، ولكن لم يشغلها هذا الانصراف فهي تقاوم لتؤدي دورها.

أتذكر طفولتي والتي كان فيها سانتا حاضراً لكن ربما لم تكن الشجرة فيها متاحة مثل طفولة أبنائي، كانت نبتة بنت القنصل هي البطل ولازلت أذكر فرحة أمي عندما يطرق بابنا الجنايني في نهايات نوفمبر محملاً بعدد من الأصائص بها أجود النباتات التي طلبها خصيصاً لها، وفي طرفة عين يكتسي المنزل بالنبتة الحمراء، وتقوم أمي احتفالاً بقدومها بتغيير مفارش الطاولات لتلك التي تحمل رسم المربعات الخضراء والبيضاء، وتزينها بالشموع الذهبية والفضية، وتعلق في غرفة المعيشة شراب سانتا الأحمر الكبير مصحوباً بالكثير من كلمات التحذير بعدم المساس بمحتوياته، فإذا أوشك العام على الانقضاء بدأنا الانقضاض على كل ما في جعبة هذا الشراب من حلوى وشيكولاتات.

ومرت السنوات وبدأت شجرة الأروكاريا أو شجرة الميلاد المخروطية أن تعرف طريقها للسوق المصري وتكون متاحة بكل أشكالها وأحجامها وأيضاً بتعدد ألوانها، وتزامن ذلك مع مولد أبنائي، فوجدتها سبيلي لأصنع لهم حقيبة ذكرياتي الخاصة التي سأتركها لهم يوماً، ليبحثوا عني فيها دوماً، عندما يحل ذلك العام الذي ستكون فيه الشجرة حاضرة.. أما أنا فلا..

لذا كانت العادة تزيين الشجرة من نصف ديسمبر بسعادة، في اليوم الأخير من امتحانات نصف العام نبدأ الاحتفال ونقضي ساعات وساعات نتشارك ونتعارك حول ترتيب الكور وتنظيم الألوان ومواضع القطن وخط سير حبل النور، ومع كل زينة تمتد بها أيادينا كنت أسألهم الدعاء لرب السماء أن يكون عاماً مليئاً بالستر والحب والرخاء، وأن نستودع الله العام الذي يمضي ونسأل الله برحمته أن يستودعنا للعام القادم فلا نخرج منه خائبين أو محرومين ولا مجروحين.

ولكن عندما كبر الصغار وأنشغل كل منهم بالحياة، وبدأت تسرقهم دوامات المسئوليات، ولم يعد لديهم من الوقت متسع من الساعات لنلتقي حول الشجرة وننثر الأمنيات، صدقاً أصابني الفزع فكيف للشجرة إن لم تتزين  أن تحمل الأمنيات للعام القادم لعله يكون عام تحقيق الأحلام وإن بدا الأمر كله مجرد تخاريف وأوهام، فهي عادة ولحظات سعادة نقضيها في الدعاء واليقين وكليهما عبادة.

بدأت كتابة سطور هذا المقال كمنشور حزين كنت أنتوى نشره على أحد مواقع التواصل الاجتماعي لأشارك أصدقائي لحظات الحنين والأنين، ولكن تزاحمت الكلمات وطالت السطور والقصاصات ولم أشعر بالوقت ولا الزمن في صخب الذكريات ومن وسط صور الأمس الذي فات، إلا وابني أمامي يحمل سلة الزينة والكور ويستدعيني أنا وأخته لنقوم بتزيين الشجرة، ونتقاتل على ترتيبها، ونتسابق في تخيل أحلامنا وكأنها حقيقة ونرفع دعواتنا لله بكل الرجاء لجل المدد ما ينهمر من السماء.

ستظل الذكريات المعطرة بالحنين والأمنيات المحملة باليقين، وحضن دافئ من ابنائي الغاليين عشية رأس السنة التي نتشاركها مهما كانوا منشغلين، برفقة التكنولوجيا التي تجمع شمل المسافرين والغائبين، نتشارك الليلة على ضوء الشجرة التي في نهاية الأمر سيكون نورها هو حلقة الوصل بين عام مضى وآخر آت..

وليبدل الله أحوالنا بفرح وطمأنينة على قدر قدرِه وبعظيم جبره، وبثقة فيما تذللنا له طوال العام من دعوات أن يجعله عام تتحقق فيه تلك الأمنيات التي انهكت في سبيلها قلباً وأزهقت خلفها سنوات مضت من العمر سهواً..

وكل عام ونحن ومن نحب طيبين، وهؤلاء القاسية قلوبهم قادر الله أن يجعلهم لينين ويهدي الظلمة لما فيه الخير للبشر آجمعين، ويحقن الدماء والدموع في كل أرجاء الأرض رددوا معي آمين.. 
وبحوله وقوته ينام الكوكب الحزين ليصحو على موكب من الأفراح وبلا أتراح ويصبح مكاناً لائقاً لكل من يرجو الله أن يمضي على الأرض بعض وقت يكون فيه المرء مرتاح، وتصدح أجراس السلام في نفوس تاقت للعدل الذي غاب عن الأنام وأن يكون العام القادم عنوانه الأمان وأحلامنا وآمالنا يأذن لها الله بأن تمضي للأمام، وإذا كان مامضى عنوانه الصبر فيا الله أجعل ما يأتي اسمه الجبر.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: أن تکون

إقرأ أيضاً:

جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فرنسا لأجل فلسطين

عندما كانت إسرائيل تغزو بيروت عام 1982، تابعت المجموعات الثورية الفلسطينية والعربية نهجها في ملاحقة العدو خارج حدود المواجهة، ناقلة المعركة إلى قلب أوروبا. من بين تلك العمليات، اغتيل "رجل موساد ودبلوماسي" أميركي في باريس، ووُجّهت أصابع الاتهام إلى اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، الذي يقبع في السجون الفرنسية منذ 4 عقود بتهمة قيادة الفصائل الثورية اللبنانية المدافعة عن فلسطين، وبذلك يكون أقدم سجين سياسي في أوروبا.

كانت العملية امتدادا لمرحلة "وراء العدو في كل مكان" التي اختصرتها روايات الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (عكا 1936، بيروت 1972) وجسّدتها المجموعات الثورية بقيادة المناضل وديع حداد (صفد 1927، ألمانيا الشرقية 1978)، فحوّلت العالم إلى ميدان مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، واستقطبت مقاتلين عربا، ورفاقا من اليابان وأوروبا وأميركا اللاتينية، واضعة فلسطين على خريطة النضال الأممي.

"مناضل ولست مجرما"

وعادت قضية المناضل الأممي جورج عبد الله إلى الواجهة مجددا مثلما كانت عام 2013، مع توالي الأخبار عن قرب الإفراج عنه بعد قرار محكمة فرنسية بذلك. إلا أن الادعاء الفرنسي، أعلن قبل أيام عزمه استئناف القرار. وفي حال أفرج عنه، يكون عبد الله قد أمضى أكثر من 20 عاما في السجون الفرنسية بعد انتهاء محكوميته، وسط رفض السلطات القضائية المتكرر إخلاء سبيله.

وأمام القضاة، وقف الرجل ذو اللحية الكثّة والنظرة الواثقة مطالبا بحريته للمرة الـ11، قائلا بثبات: "أنا مناضل ولست مجرما"، مؤكدا أن اختياره هذا الطريق كان "ردا على انتهاك حقوق الإنسان في فلسطين"، وبأن ما فعله: مقاومة.

فهو المولود في الثاني من أبريل/نيسان 1951 في قرية القبيات شمال لبنان لعائلة مسيحية مارونية، وقد شهد في مطلع شبابه "نكسة" 1967، حيث ساهمت "هزيمة حزيران" في تشكيل وعي جيل بأكمله تجاه قضايا التحرر والمقاومة.

عبد الله اشتهر بعبارة "أنا مناضل ولست مجرما" وأكمل عقوبة السجن المؤبد عام 1999 (غيتي)

وفي سن مبكرة، انضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، واختار طريق النضال والمقاومة. وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن (1970)، أصبحت بيروت معقلا للثوار والمقاومين، فكانت نقطة تحول حاسمة في مسار حياته، حيث كانت العاصمة اللبنانية مركزا يعجّ بالحركات الثورية، مما كان له الأثر الكبير في تشكيل قناعاته السياسية.

انضم عبد الله لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش، بعد إصابته في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978 (عملية الليطاني). ومع أفراد من عائلته ورفاقه، أسس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وبين عامي 1981 و1982، نفذت المجموعة هجمات في أوروبا، أسفرت بعضها عن سقوط قتلى في فرنسا، في إطار دعم القضية الفلسطينية والكفاح ضد الاحتلال.

موت المعلم وولادة المقاتل

وبدأ جورج حياته المهنية معلما في مدرسة بمنطقة أكروم بعكار، وفي مقالة وردت بموقع يتبع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، تروي بدايات جورج وتكشف عن ارتباطه المبكر بالفدائيين الفلسطينيين، يقول كاتبها إن "ابن القبيات" كان يعرّف نفسه بأنه "كادح وليس من البَكَوات"، مستنكرا الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.

وتستعرض المقالة المراحل الأولى لجورج عبد الله ضمن الثورة الفلسطينية، مبينة تأثره بحياة "المخيمات" في لبنان، وكيف كان يجول أزقة مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، مستخدما دراجته النارية، ليوزع مجلة "الآداب" على المهتمين.

وبعد إنهائه الدورات التثقيفية، انضم عبد الله إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رسميا، ثم انتقل من الشمال إلى منطقة "الجبل" في "مهمة جهادية"، وكان من المفترض أن يعود بعد شهر إلى الشمال، لكنه اختار البقاء، معلنا بذلك نهاية مرحلة "جورج المعلم" وولادة "جورج المقاتل". ومن ثم، أصبح جزءا من الجناح العسكري للجبهة الشعبية، لتصبح الأراضي اللبنانية كلها ساحة قتاله.

جورج عبد الله أمام المحكمة الفرنسية عام 1986 (غيتي)

وخدم عبد الله في الجنوب، والبقاع، والجبل، وبيروت -بحسب المقالة- لكن بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي قبيل اجتياح بيروت عام 1982، انفصل عبد الله عن الجبهة، رافضا التهدئة مع العدو، واتخذ مسارا خاصا به، متأثرا بوديع حداد، وخصوصا بمقولته الشهيرة "وراء العدو في كل مكان"، وانقطعت أخباره إلى حين سماع خبر اعتقاله في فرنسا.

جوازات سفر واعتقال

يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 1984، دخل جورج عبد لله مركزا للشرطة في ليون الفرنسية، طالبا الحماية من ملاحقة الموساد الإسرائيلي له. حينها كان يحمل جواز سفر جزائري، بعد أن استخدم جوازات سفر أخرى من مالطا والمغرب واليمن للعبور إلى يوغوسلافيا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وقبرص.

لكن الأجهزة الأمنية الفرنسية سرعان ما أدركت أن الرجل الذي يجيد اللغة الفرنسية ليس سائحا وإنما هو عبد القادر السعدي، وهو الاسم الحركي لجورج عبد الله.

وعثر في إحدى شققه في باريس على أسلحة بينها بنادق رشاشة وأجهزة إرسال واستقبال.

وافقت محكمة فرنسية الأسبوع الماضي على طلب الإفراج عن جورج عبد الله (غيتي)

وفي حوار مع صحيفة "لاديباش" الفرنسية، تحدث إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي، عن تفاصيل اعتقال جورج إبراهيم عبد الله عام 1984، قائلا: "لم نكن نعلم هويته"، وخلال التحقيق "زعم انتماءه إلى جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية ووجّه تهديدات للمحققين".

وأضاف بوني أنه لجأ إلى الإسرائيليين للحصول على المساعدة، مما قاد إلى اكتشاف هوية قائد الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي مجموعة ماركسية مدافعة عن فلسطين. ومع ذلك، أكد بوني أن الأدلة ضد عبد الله لم تكن قوية، إذ اقتصرت تهم بتزوير الوثائق وحيازة أسلحة ومواد متفجرة.

كان جورج على صلة بسوريا آنذاك، بحسب التحقيق، كذلك على تواصل مع حركات وشخصيات صُنّفت "إرهابية"، مثل تنظيم "العمل المباشر" في فرنسا، و"الألوية الحمراء" في إيطاليا، إضافة إلى علاقته بكارلوس الفنزويلي وفصيل الجيش الأحمر في ألمانيا.

مقاتل عربي لا يندم

في عام 1986، أصدرت محكمة ليون حكما بالسجن لمدة 4 سنوات على جورج عبد الله بتهم "التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومواد متفجرة". وفي العام التالي، مثل أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس، إذ وُجهت إليه تهم بالتواطؤ في اغتيال الأميركي تشارلز راي "ورجل الموساد" ياكوف بارسيمينتوف في 1982، بالإضافة إلى محاولة اغتيال ثالثة في 1984.

وبينما تمسك عبد الله بنفي التهم، قال إنه "مجرد مقاتل عربي"، أصدر القضاء حكما بالسجن المؤبد رغم أن النائب العام كان قد طالب بعقوبة أقل، تصل إلى 10 سنوات.

عبد الله اتهم بقيادة "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" المناصرة لفلسطين (الفرنسية)

في مذكراته، أشار المحامي جورج كيجمان إلى أن عبد الله "أهان الجميع" في المحكمة، ووصفهم بـ"الخنازير والإمبرياليين القذرين"، مما استدعى طرده من القاعة. ورأى محاميه السابق جاك فيرجيس في الحكم "إعلان حرب"، مما دفع إلى تشكيل لجنة دعم فورية تطالب بالإفراج عنه فورا.

ومنذ عام 1999، عندما أصبح مؤهلا لإطلاق سراحه، وتم رفض جميع طلبات عبد الله للإفراج عنه، باستثناء طلب واحد، كان مشروطا بترحيله، وهو ما لم ينفذه وزير الفرنسي الداخلية آنذاك، مانويل فالس.

في عام 2022، قال محاميه جان لويس شالانسيه في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: "إنه في حالة فكرية جيدة. لا يزال متمسكا بمواقفه، ويواصل القراءة بشكل مكثف، ويبقى مطلعا على الأحداث في الشرق الأوسط".

ويرى محامو ومؤيدو جورج عبد الله أن استمرار احتجازه هو نتيجة لتأثيرات سياسية ودولية خارجية. في عام 2013، صادقت المحكمة الفرنسية على إطلاق سراحه بشروط، كان من بينها ترحيله إلى لبنان. لكن، رغم هذا القرار، "تدخلت سفارتا الولايات المتحدة وإسرائيل في مجريات القضية"، مما أثّر بشكل كبير على سير المحاكمة وأدى إلى تراجع السلطات الفرنسية عن قرارها. هذه التدخلات، وفقا لمحاميه، تُعتبر جزءا من حملة سياسية منسقة تهدف إلى إبقاء عبد الله في السجون الفرنسية.

أنصار جورج عبد الله يتظاهرون خارج سجن لانيميزان الفرنسي  (الفرنسية) خيانة فرنسية

ردت الفصائل الثورية اللبنانية على اعتقال جورج عبد الله بخطف مدير المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس، جيل سيدني بيرول، مطالبة بصفقة تبادل، وتم التوصل إلى اتفاق لتحرير بيرول وعبد الله، إلا أن فرنسا أخلفت وعدها وأبقته في السجن.

يروي إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي لصحيفة "لا ديباش" تلك اللحظة، قائلا: "كنت خارج البلاد حين طلبت باريس مني العودة بسرعة للتفاوض على تبادل الأسرى. في ذلك الوقت، كان عبد الله متهما بمخالفات بسيطة، ولم يكن هناك ما يثبت تورطه في أي جريمة كبيرة. فوافقت على الصفقة دون أي اعتراض من وزارة الداخلية".

جورج عبد الله أمضى 15 عاما من حياته في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون الفرنسية دفاعا عن فلسطين (رويترز)

يضيف بوني، "ما لبثت الأمور أن تغيرت فجأة. ففي الوقت الذي تم فيه تحرير بيرول، أخبروني أنهم اكتشفوا في أحد مخابئ الفصائل الثورية اللبنانية السلاح الذي استخدم في قتل تشارلز راي وياكوف بارسيمينتوف. هذا الاكتشاف غيّر مسار القضية تماما، وتجاهلت العدالة الاتفاق الذي أبرمته. قالوا لي ببساطة: حكمه قد صدر".

ويختتم بوني حديثه: "شعرت بخيبة أمل شديدة. لقد قدمت وعدا إلى الذين بذلوا جهودا في هذه القضية، ولكن السلطات السياسية تركتني أواجه الموقف وحدي".

غزة لن ترفع راية الاستسلام

"لن تحمل غزة أبدا راية الاستسلام… ولن تتمكن الصهيونية أو أي قوة إجرامية أخرى من كسر إرادة المقاومة فيها"، بهذه الكلمات عبر المعتقل جورج عبد الله في رسالته التضامنية مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب إبادة في غزة والضفة الغربية. البيان أُلقي خلال مظاهرة نظمت في مرسيليا الفرنسية بتاريخ 25 فبراير/شباط الماضي، حيث عبّر المحتجون عن دعمهم لصمود الفلسطينيين في وجه الاحتلال.

وأشار عبد الله في رسالته إلى أنه "لا ينبغي أن ننسى أبدا أن جذور النضال الفلسطيني انبثقت من أعماق مخيمات اللاجئين في غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان.. هذه المقاومة تحمل وعد التحرر وتصون إرث الفدائيين".

يرى أنصاره في العالم أنه رمز حي للنضال والمقاومة، فهو الذي اعتبرته الكاتبة الفرنسية آني إرنو، الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2022، "ضحية قضاء الدولة الذي يلحق العار بفرنسا". كما يعتقد إيف بوني أن الاستمرار باعتقاله يعد "انتقاما سياسيا"، وأنه قد يكون له الحق في اعتبار ما فعلته الفصائل الثورية اللبنانية "مقاومة"، لأنها جاءت في أعقاب مجزرة صبرا وشتيلا، داعيا إلى إنصافه.

جورج لا يزال في سجون فرنسا رغم مرور 20 عاما على انتهاء مدة محكوميته (وسائل التواصل)

خلال 73 عاما من حياته، أمضى جورج عبد الله 15 عاما في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون، ثابتا على قناعاته. وفي زنزانته، يعلّق صورة مكتوب عليها "اقترب اللقاء يا فلسطين"، متمسكا بالقضية التي كانت وستظل بوصلة نضاله دون اعتذار أو ندم، بل ويرى أن إطلاق سراحه "أمام الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون والأميركيون" في غزة، "مجرد تفصيل".

تجسد قضية جورج عبد الله الذي حمل رقم (N° 2388/A221) في سجن لانيميزان رمزا لظلم فرنسا ضد مناضل تعتقله منذ 40 عاما، وقد يبقى حتى وفاته ما لم يطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول المقبل كما أمرت المحكمة، رغم استحقاقه الحرية منذ عام 1999.

مقالات مشابهة

  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • بعد استشهاد علام وقطايا.. بيان من حزب الله
  • «التعليم» تكشف حقيقة تأجيل امتحانات شهر نوفمبر إلى أول ديسمبر لصفوف النقل
  • مقتل مدير مستشفى في غارة إسرائيلية شرقي لبنان
  • جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فرنسا لأجل فلسطين
  • دبي تستضيف معرض “ميبا” خلال ديسمبر
  • رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
  • كارول سماحة تتألق في تورنتو: “هذه الذكريات قريبة من قلبي”
  • شجرة «عيد الميلاد» تثير موجة احتجاج في الفاتيكان
  • من الذي يعذب يوم القيامة الروح أم النفس.. الإفتاء تجيب