الجزيرة:
2024-10-04@23:44:52 GMT

إسرائيل على خطى الاستعمار في أفريقيا

تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT

إسرائيل على خطى الاستعمار في أفريقيا

على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تمارس إسرائيل أبشع مجازر القرن في قطاع غزة دون حسيب، ضاربةً بكل قيم الإنسانية عرض الحائط.

ومن المخزي والمؤسف أن دول الغرب – بكل تبجّحها بحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية، التي تضعها دومًا خنجرًا في خاصرة دول العالم الثالث- لم تحرك ساكنًا تجاه إسرائيل، بل تتحدّث بكل وقاحة عن حق إسرائيل -وهي قوة احتلال- في الدفاع عن النفس.

ومنها من يحث إسرائيل علنًا ودون حياء على إكمال مهمتها في الذبح والتهجير.

هذا الموقف غير الأخلاقي -الذي كشف الوجه الحقيقي للنخبة الحاكمة في الغرب- يمكن فهمُه بسهولة، إذا أجرينا مراجعة تاريخية سريعة لمُمارسات الدول الاستعمارية الغربية في العالم الثالث عامة، وفي القارة الأفريقية خاصة. عندها سنرى وجه الغرب الكالح الوالغ في دماء الأبرياء حتى الثمالة، وتسقط دعاوى وشعارات حقوق الإنسان والحريات العامة ومبادئ الإنسانية.

إن الذي ينبُش في التاريخ الدموي واللا أخلاقي للاستعمار الغربي في أفريقيا، يدرك بسهولة لماذا يخرس القادة الغربيون عما يدور من مذابح وانتهاكات جسيمة في غزة، ويدرك أيضًا أن القيم والمبادئ الإنسانية عند معظم القادة الغربيين ليست غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لإخضاع الآخرين. ولأن القادة المجرمين في إسرائيل يعرفون ذلك، فإنهم لا يترددون أن يقولوا لكل من يذكرهم بقيم ومبادئ حقوق الإنسان: من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر.

في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد

ألمانيا.. أول مجازر القرن العشرين

استعمرت ألمانيا عدة دول أفريقية، أهمها ناميبيا وتنجانيقا، واعتبرت هذه الدول أرضًا منحها لها الربّ مباشرةً بسبب عِرقهم الفريد. وبهذا الفهم العنصري، مارس المستعمر الألماني حملة تطهير عرقي شاملة، كانت هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين. استهدفت الإبادة عرقيتَي الهيريرو والناما في ناميبيا، في أسوأ مجزرة سجلها التاريخ الأفريقي. بدأت هذه المجزرة في العام 1904، ويطلق عليها المؤرخون "الإبادة الجماعية المنسية".

تولّى الحاكم الألماني فون تروتا تنفيذ المذابح التي لم تستثنِ أحدًا. أصدر أوامره بإطلاق النار على كل شخص من شعب الهيريرو أو الناما دون تمييز، سواء حمل السلاح أم لم يحمله، رجلاً كان أو امرأة أو طفلًا، تمامًا كما تفعل إسرائيل في غزة اليوم.

أدّت هذه الحملات المسعورة إلى إبادة 65 ألفًا من الهيريرو، ونصف عرقية الناما. والبقية تم تهجيرهم إلى الصحراء، وخصصت لهم محميات لا تتوفر فيها مقومات الحياة، ففتكت بهم الأمراض والمجاعة.

وفي تنجانيقا، قُدر ضحايا حملات الإبادة الألمانية المنظمة بأكثر من 100 ألف من السكان الأصليين. خرّبت هذه الحملات منازلهم ومزارعهم وقتلت حيواناتهم بشكل همجي. والأنكى من ذلك أن أعدادًا كبيرة من السكّان الأصليين استخدموا كتجارب علمية في المختبرات لإثبات تفوق العِرق الألماني.

بلجيكا وقطع الأيدي

استعمرت بلجيكا أكبر دولة في وسط أفريقيا وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومارست أسوأ أنواع الاضطهاد والتمييز بحقّ السكان الأصليين. والغريب أن الملك ليوبولد الثاني شخصيًا (1885)،  اعتبر أن أرض الكونغو ومَن عليها من بشر وحجر ووبر، ملكٌ له شخصيًا، يتصرف فيها كما يشاء.

وبموجِب ذلك، تم إجبار كل شعب الكونغو على العمل دون مقابل، وبكل همة ونشاط في مزارع الملك في بلدهم، وفي حالة التقاعس- عن العمل في مزارع الملك- تقطع أيدي المتقاعسين، ويمثل بهم. وبسبب هذه السياسة المتوحشة أصبحت الكونغو تضم أكبر عدد من مقطوعي الأيدي في القارة الأفريقية.

مارست بلجيكا حملة إبادة ممنهجة في الكونغو، شملت المذابح الوحشية، والتجويع، ونشر الأمراض المعدية، وبلغ إجمالي ضحايا هذه الجرائم ضد الإنسانية عشرة ملايين كونغولي. وقد أطلق الكاتب البريطاني آرثر كونان دويل على هذه المذابح: "أعظم جريمة سجلت في تاريخ البشرية."

لقد علِقت هذه المجازر في الذاكرة الجماعية للشعب الكونغولي، وظل يطارد بها بلجيكا حتى اضطر الملك الحالي فيليب ليوبولد الثاني إلى زيارة الكونغو والاعتذار لشعبها، وأكد في اعتذاره "أن الحكم الاستعماري قام على الاستغلال والسيطرة، وهي فترة اتسمت بالأبوية والتمييز والعنصرية، وبالتالي أدّى ذلك كله إلى الوحشية والإذلال."

فرنسا.. إطلاق نار حر

لم يكن الاستعمار الفرنسي أقل وحشية، ولا سيما أنه امتد ليشمل ثلث القارة الأفريقية تقريبًا. سفك الاستعمار الفرنسي، الدماءَ بوحشية من الجزائر إلى رواندا، مرورًا بغرب ووسط أفريقيا. وقد واجه مقاومة جادة في الغرب الأفريقي قادها زعماء وشيوخ مسلمون، وربما منذ تلك المرحلة بدأ رهاب الإسلام يقلق القادة الفرنسيين، حتى بلغ أوَجه في العهد الماكروني الحالي.

في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد.

ومن أجل إخماد هذه الثورة، دعا الحاكم الفرنسي 400 عالم وشيخ مسلم؛ بغرض التشاور معهم حول إدارة البلاد، وشرح نوايا فرنسا الطيبة في مساعدة تشاد، ولكنه غدر بهم وقتلهم جميعًا بدم بارد، في يوم واحد، وتم دفنهم في مقبرة جماعية بالقرب من منطقة أم كامل. وبعدها بدأت فرنسا في إخضاع تشاد بالحديد والنار.

أما في الجزائر، فإن مجازر فرنسا تعد ولا تحصى، فقد استحقت الجزائر بسببها تسمية بلد المليون شهيد. استخدمت فرنسا كل وسائل القتل والعنف النفسي؛ لكسر إرادة الشعب الجزائري، ولكنها لم تفلح، وخرجت خائبة من الجزائر. يكفي أن نشير فقط إلى ثورة سطيف ومجزرة مايو 1945، حيث دمر الجيش الفرنسي أكثر من مائة قرية، وكانت حصيلتها أكثر من 70 ألف شهيد، واعتقال عشرات الآلاف، الذين أعدموا بعد ذلك.

لم تتوقف مخازي فرنسا في التاريخ المعاصر، حيث دعمت الحكومة الاشتراكية في باريس في العام 1994 نظام الهوتو الدكتاتوري في رواندا، وزودته بالسلاح، وغضت الطرف عن حملاته الشرسة ضد التوتسي، والتي انتهت بمذبحة التوتسي في رواندا، التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف قتيل. وقائمة مذابح الاستعمار الفرنسي في أفريقيا طويلة، من المغرب إلى مدغشقر، والسنغال، وغينيا، وهذا غيض من فيض.

بريطانيا.. الإخضاع بالمدافع

تمدّدت الإمبراطورية البريطانية حول العالم، وملكت مُلكًا عظيمًا. حتى إن الملك جورج سار على نهج الخليفة الرشيد في بغداد، وخاطب السحاب: "أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك". ولكن بريطانيا جعلت ساحة المستعمرات كلها ساحة إطلاق نار حر.

لقد سفكت الإمبراطورية الدماء كثيرًا في أفريقيا ظلمًا وجورًا، واستعبدت أهلها، وجعلت أعزة قومها أذلة. ومجازر بريطانيا في أفريقيا تحتاج أسفارًا تنوء بها العصبة أولو القوة. فقط نذكر بمجزرتَين عظيمتَين في القارة الأفريقية: أولًا: قمع ثورة الماو ماو (جيش الحرية والأرض) في كينيا، والتي استمرت حوالي عشر سنوات، وانتهت في العام 1960. كانت الماو ماو حركة تحرير لاسترداد أراضي السكان الأصليين التي صادرتها بريطانيا، وجعلت أهل الأرض عبيدًا للسخرة. شاركت في هذه الحركة عدة قبائل، كلها تضررت من سياسة مصادرة الأرض جورًا. ولكن رد الفعل الاستعماري كان قاسيًا ووحشيًا، فقد جرى قمعُ الثورة بقوة البارود، وقتل خلال هذه الثورة حوالي 90 ألف قتيل، واعتقل أكثر من 100 ألف آخرين.

أما في السودان، فقد كانت معركة "كرري" في أم درمان نموذجًا آخر للسعار البريطاني، وسفك الدماء من أجل السيطرة على الأرض والثروات. في هذه المعركة استخدمت بريطانيا- لأول مرة في تاريخ أفريقيا- المدافع الآلية في القتال. وقتلت في ساعتين فقط أكثر من عشرين ألف شهيد، وجرحت أكثر من 30 ألفًا من جيش المهدية الذي قاتل باستبسال.

لقد كانت سياسةُ الأرض المحروقة، والتشفي، والمجازر، والولوغ في دماء الأبرياء، نهجًا ثابتًا للاستعمار الغربي في أفريقيا. سارت على هذا النهج أيضًا إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وهولندا، مما يضيق المجال لسرده. ولا يتطرق هذا المقال إلى الجرائم ضد الإنسان والإنسانية التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، فهي أكبر قوة ارتكبت مذابح، وسفكت دماء الأبرياء في التاريخ المعاصر.

فلسفة استعمارية خاطئة

انطلقَ الاستعمار الغربي من فلسفة عمياء تقوم على أن أفضل وسيلة لإخضاع الشعوب والتحكم فيها وفي أراضيها ومواردها، هو العنف والقهر، حيث يؤدي ذلك إلى الانهيار النفسي أمام القوة القاهرة والاستسلام. وربما أفلحت هذه السياسة في تدجين بعض الشعوب، فخضعت للمستعمر، وأسلمت له أمرها رغبًا أو رهبًا.

هذه السياسة الدموية البلهاء ينتهجها الآن قادة إسرائيل ونخبها، لذلك نرى أنهم يستخدمون القوّة المفرطة في حربهم القذرة على غزة، ويدعمهم القادة الغربيون؛ لأنهم يؤمنون بالسياسة ذاتها التي مارسوها في المستعمرات من قبل. ولكن الذي يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أن هذه السياسة لن تفلح لدى الشعوب المسلمة، بل تؤدي إلى مفعول عكسي تمامًا، فهي تذكي روح الجهاد والاستشهاد وتبقي القضية حية من جيل إلى جيل.

لنتذكر فقط نموذجًا واحدًا في التاريخ المعاصر، وهو أفغانستان. لقد استخدمت أميركا القوة المفرطة والمميتة ضد الشعب الأفغاني، وسعت بكل الوسائل الوحشية لكسر إرادته للاستسلام. ولكن رغم عشرين عامًا من القهر المطلق، لم ينكسر هذا الشعب، بل انتفض بإباء وشموخ، انكسرت أمامه شوكة أميركا؛ فخرجت خائبة تجر أذيال الهزيمة.

ولتعلم إسرائيل أن الشباب الذي يقاتل الآن بعزة وشجاعة في غزة هم أبناء وأحفاد أولئك الذين هجروا من أرضهم ظلمًا وجورًا في نكبة 1948. وسيبقى زخم هذه القضية حيًا من جيل إلى جيل حتى النصر.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القارة الأفریقیة هذه السیاسة فی أفریقیا فی التاریخ فی العام أکثر من

إقرأ أيضاً:

إحتفالات 26 سبتمبر المفاصلة الإجتماعية الهوياتية , الدولة العميقة ومخلفات الإستعمار البريطاني

زرياب عوض الكريم

[الدولة العميقة او صراع علاقات التابعية tributary -المواطنة و تراتبية الامتيازات في دولة 1956]

المفاصلة الاجتماعية هي شكل من اشكال الانتقال المتعثر او المتعسر (من امثال اثنيات العطاوة Pan Attawism ان يد الحرب عسراء) - Troubled transition. او شكل من اشكال نقل الصراع الاجتماعي من درجة الي اخرى من مكان الى اخر.

ولاننا لا نريد ان نقول عن دعاة الكراهية العرقية المتوحدين مع جيش الدولة العميقة في حربه القذرة 15 ابريل انهم مناضلين من اجل العبودية (عبيد منازل demostic slaves) بل توصيف علاقات التابعية tributary.

تاريخ 26 سبتمبر 2024 في حي فيصل بالقاهرة المنفى السياسي للطبقة المخملية من القومية الشمالية او حي غبيرا - السعودية المنفى الاختياري للطبقة البروليتارية منها , كتظاهرة اجتماعية مختزنة لطبقات من الوعي الباطن الرافض للتحول السياسي والتغيير والتسوية الاجتماعية مع القوميات الاخرى. الرافض لنقل السلطة المحتكرة والمتمركزة (الميراث الكولونيالي) colonial legacy او تفويضها.

- مجتمعات الوعي (العنفي) الذي ينتخب الديكتاتورية والشمولية والحكم العسكري للدفاع عن مصالحه غير المشروعة ويرى في وجودها ضمانة سياسية (أمننة إثنية) securitization.

- مجتمعات الوعي التبريري الذي يدافع عن جرائم دولة 1956 ويمارس الانكار لفظائعها 70 عاما من الانكار وتشوهاتها 200 عام من الفظائع و التفاوتات الهيكلية منذ حملات الاسترقاق في القرن التاسع عشر التي تمت لمصلحة مجتمعات الجغرافيا المفيدة ورخاءها وصولا الى صور الاستغلال الحديثة في القرن العشرين التي من بينها ظاهرة الكنابي (نمط الانتاج العبودي الموريتاني (القنانة)) وظاهرة عمالة (الالتة) الذين يحملون النفايات البشرية من اثنيات جبال النوبا (كرنقو) krongu الخ.

- مجتمعات تبرئة المجرمين الشماليين او الفخر بهم حينا اخر كأبطال إثنيين (النموذج البدئي للجلابي كمجرم قومي national criminal) identification with the aggressor او نموذج التوحد مع المجرم الجاني (نموذج التكتل) كواحد من ميكانيزمات وحيل الدفاع الذاتي.

مثلا الدفاع عن مجرم مثل القاتل (طه كمال) احد اعضاء مليشيات الموت المجتمعية الشمالية وتسمى كتيبة البراء بن مالك الذي سبق له اخذ صور فوتوغرافية وهو يدوس على جمجمة مقاتل من قوة الدعم السريع بقدمه , وحصد موته تعاطف طيف واسع من الشماليين كجمهور وكنخبة حتى انه شاع مساومتهم على استرداد جثته.

** مجتمعات تدافع عن دولة 1956 رغم وعيها باشكالية تاريخ الاستقلال المزيف وصوريته وتدافع عن مجازر جيش هذه الدولة البريتوريانية.

* مجتمعات ترفض خوض التجربة الاولى وهي تجربة الخضوع للحكم او بالضبط حكم القوميات الاخرى اي ان تكون محكومة.

*مجتمعات تملك وعيها الباطني حول مركزية العنف وسياسة الجدار الحديدي في دولة 1956 غير الوطنية وتملك وعيها الباطني ان الخرطوم او الكارتيل اللصوصي للنخبة الشمالية هي (سبارطا) سوداء sparta عاجزة عن اثبات وجودها من غير حروب ضد القوميات الاخرى عاجزة عن تحقيق رخاء اقتصادي من غير نهب واستغلال للشعوب الوطنية الاخر وانها لم تكن يوما (اثينا) كما انتهى الى ذلك جعفر محمد علي بخيت 1969.

تلك السمات الثلاثة هي سمات لمجتمعات سلوك جنائي criminal behavior متنافرة ادراكيا.

مجتمعات ليست مدمنة على الكراهية فقط بل متواطئة بوعيها المجرد نحو عدم القبول بالاخر او التسامح معه و مع جريمة جماعية ومنظمة او سلسلة من الجرائم الاجتماعية مثل الاستغلال والاستعمار الداخلي والاستعباد.

ذلك التاريخ الذي هو تاريخ مفاصلة اجتماعية وهوياتية رمزية يشبه كثيرا احداث انقلاب النيجر العسكري (المسكون بوعي الثورة المضادة) في 25 يوليو 2023 ضد الرئيس المدني المنتخب والاقتصادي محمد بازوم حين قامت اثنيات قومية الهوسا داخل وخارج النيجر في الدول المجاورة لها بالاصطفاف خلف الانقلابيين والنظام الفاسد لنخب اثنيات الهوسا المهيمنة على مفاصل الدولة منذ الستينيات والمعيقة لتطورها الطبيعي وضد التدخل الاقليمي والخارجي لاسترداد الديمقراطية.

كان لدى اثنيات الهوسا قناعة اكيدة ومتجذرة ان النظام الفاسد الذي تمثله عصابة العسكري الصفوفي محدود التعليم عبدالرحمن تشياني والسياسي الفاسد (يوسفو) يحمي وجودهم وان محاسبته او التدخل الخارجي لازالة الدولة العميقة للمافيا الاثنية من نخبتهم يعني محاسبتهم او استهداف وجودهم او تهميشهم ، رغم أن حجمهم الديمغرافي يجعل هذا الهاجس بعيدا.

خرج فقراء الهوسا للدفاع عن فاسديهم ومجرميهم السياسيين وعن جنودهم سيئي السمعة في الجيش في مظاهرات استمرت فعالياتها لشهور طويلة انقذت الانقلاب من مأزقه. مارسوا خلالها الكثير من التحدي الاثني وتخويف الغرب من التدخل بل قامت نخبتهم في نيجيريا باثناء الرئيس النيجيري قائد الايكواس الدوري عن التدخل و الاصرار علي ارسال قوات كانت قادرة على تحرير الرئيس المختطف حتى اللحظة والذي هددت عصابة نخبة الهوسا الفاسدة في النيجر بقتله حال اي انزال بري او جوي.

حينها احجمت الاثنيات الاخرى عن الدفاع عن النظام الديمقراطي لانها كانت تعرف حجم العنف والعسف الذي ستتعرض له.

اعتبرت اثنيات الهوسا المهيمنة في النيجر منذ الاستقلال (الانتقال النيوكولونيالي) ان نقل السلطة الى الرئيس بازوم هو نقل لها من اثنيتهم الي تحالف السونغاي والطوارق الذين يمثلهم بازوم. وان الاصلاحات التي اعتزمها بازوم هي مهدد ستراتيجي لوجودهم في مؤسسة الدولة ومصالحهم غير المشروعة.

ماحصل في 26 سبتمبر و مظاهرات المجتمعات الشمالية في الداخل والخارج لابراز كراهيتهم لقوة الدعم السريع بذريعة انتهاكات حقوقية ظلوا يدافعون عنها في حق الاثنيات الاخرى منذ قرن من الزمن .

كمحاولة مجتمعية لابراز توحدهم مع جيش الابادة الجماعية الذي اقترف فعلا قتل ثلاثة ملايين جنوبي لحمايتهم من القوميات الاخرى منذ 1955 هو ثورة مضادة counter change يتدثر اصحابه او يتقمصون النزعة التصحيحية political correctness لكنها لا تخرج عن سيناريو 25 اكتوبر 2021.

المشكلة الاساسية التي تواجه هذا النوع من الانقسام الاجتماعي حول التغيير هي تفاوت الوعي الادراكي بين اطراف الصراع war parties.

1.النموذج البدئي صراع أسلاف الاستعمار وأحفاد الاستعمار

أحفاد الإستعمار colonial descendants أو مخلفاته ظاهرة إجتماعية مرتبطة بتلاشي الانظمة الاجتماعية (نمط الانتاج) او بعثها.

مقابل ان ظاهرة أسلاف الاستعمار colonial ancestors هي ظاهرة تاريخية مرتبطة بالتأسيس الاستعماري واستئناف ذلك التأسيس.

يمكن القول ان تاريخ مابعد الحرب العالمية الأولى وصولا إلى عام 1925 هو تاريخ تاسيس السودان المفيد او الجغرافيا المفيدة Useful geography لدولة 1956 التي لم تكن موجودة في القرن التاسع عشر (التركومصري). كقاعدة اجتماعية ولائية (زبونية) وتجسيد سياسي اجتماعي لنفوذ احفاد الاستعمار.

في دولة 1956 تمثل الفترة من 1898 حتى 1938 التاريخ الاصلي لظاهرة اسلاف الاستعمار او العائلات الكولونيالية التي إرتبطت بتاسيس هربرت كتشنر - وينجت باشا. مثل عائلات المهدي و الميرغني والهندي في الحقل السياسي الى جانب عائلات اقطاعية اخرى مهمة في الحقل الاقتصادي. الي جانب عائلات الاقطاع الهامشي او الريفي peripheral feudalism عائلات الإدارة الاهلية (بضع وثلاثين ادارة) و البيوتات الدينية التاريخية المعترف بها إجتماعيا (بضعة عشر عائلة دينية) clergy houses.

منذ 1938 التأسيس الوجودي لظاهرة أحفاد الإستعمار من خلال ماسمي مؤتمر الخريجين المستنسخ عن النموذج الهندي (حزب المؤتمر الهندي) او التنظيم البرجوازي للقومية الشمالية( جمعيتي الهاشماب و أبي روف ) ، وتعزيزه بعملية صناعة النخبة النيوكولونيالية 1945 (بعثة حنتوب التي افرزت النخب المدنية - بعثة وادي سيدنا التي افرزت النخب العسكرية - بعثة خور طقت الهامشية والاخيرة لم تنتج نخبة حكم) التي كانت بداية للتنظيم البروليتاري للقومية الشمالية (يسار ماركسي ويمين ديني).

أحفاد الاستعمار هم ساكنة مدن وكيبوتزات السودان المفيد او الجغرافيا المفيدة المسماة مجازا مثلث حمدي 2008 . الذين صودرت كما وظفت موارد الهامش الريفي العقارية - الاقتصادية وفائض انتاج المهمشين والمضطهدين من الاقنان (دارفور - كردفانيا) وغيرهم من الفلاحين peasantry (اقليم برثا -انقسنا) والرعاة pastoral (من اثنيات رفاعة) لخدمة رخائهم واستيطانهم. حتى ولو كان ذلك الرخاء هامشيا لراسمالية هامشية او طرفية.

ايضا في عالم مابعد الاستعمار مقارنا يمكن الوقوف طويلا عند مخلفات الانظمة الاجتماعية المنحلة السابقة (الرق المشاعية الاقطاع الخ ) واللاحقة حتى على مستوى التركة الثقافية والذاكرة الاجتماعية الاستعماريتين من الاسماء الى النعوت الي اللغة نفسها الي العادات الخ.

مثلما ان هناك انثربولوجيا مابعد استعمارية تناقش هذه المخلفات , هناك ادب مابعد استعماري يناقش فيه المرتبطون بتجربة الاستعمار من داخلها وليس من خارجها اي اولئك الذين كانوا معزولين عنها او استبعدوا منها (الاثنيات الوطنية- القبيلة titular citizenship في حالة السودان التركو مصري 1820) يناقشون ذاكرتهم و تجربتهم مع وضعية الاستعمار كخلاسيين mestizos كما هو في حالة ليلى ابوالعلا , كأقنان ( كنابي cannabi) - خلاسيين سود (black or mestizo) في حالة عبد العزيز بركة ساكن , او كريول(ملكية) Creole حالة إستيلا قايتانو Stella Gaitano وإسحاق أحمد فضل الله.

اثنية (طبقة) الجلابة /الموندكورو/ البلويت في الترمنولوجيات المحلية او الكمبرادور comprador - القومية الشمالية لاحقا (بعد التأسيس السياسي 1898) رغم دورها التاريخي في منظومة الاستعمار لم يتعدى وعيها بالتركة الكولونيالية الازدواج السيسو اقتصادي الى وعي اجتماعي (خالص) او ادبي كما هو في حالة ليلى ابوالعلا مثلا والدكتورة خديجة صفوت (كلاهما من الخلاسيين أو أولاد ريف).

يمثل الطيب صالح (او من يمكن ان نطلق عليه جوزيف كونراد معكوسا) الصوت الوحيد الذي عبر عن وعي الكمبرادور او الجلابة في كتاباته الكسولة وغير المتحفزة لغويا وذهنيا انطلاقا من موسم الهجرة إلى الشمال وليس نهاية دومة ود حامد (الطيب صالح نسي الاشارة الى رمزية - العركوكباي في تمثلات ثقافة بدويت الجنوب /تقريت Tigre/ الذين تفترض إثنيته ثقافتها التاريخية من ثقافتهم الام).

رواية الطيب صالح (صوت مؤسسة الكمبرادور - الجلابة الذي لم يتكرر) تحمل كل اشارات الاقتراض الثقافي والالسني من هوية البدويت beja الي الطوطمية الافريقية للهوية الجذر ( cushitic) الي الهوية التركية المتاخرة.
تحمل ايضا في ثناياها الدالة كل اصوات الانا والعقدة المازوخية للكمبرادوري او الشمالي (التركي الاسود ثم الانكليزي الاسود) كما تراميز وتمثلات الاستعلاء والهيمنة و الازدراء المركب في داخل غضاريف النصوص (إثنية العاهرة الجنسانية بت محجوب x , الاشارة الي اثنيات دار الريح الكبابيش ودار حامد بنساءهم المتسولات العاهرات).

بايجاز غير مخل مثلت تلك الطبقات السابقة في نظام الاقطاع الاوربي (التركومصري) الاثنيات اللاحقة في ما يمكنني وصفه نظام الاستبدال البريطاني British Metalepsis . مثلت طبقات الاستعمار التي يشملها تكوين الادب مابعد الاستعماري.

ينسى الكثيرون ايضا ان القومية (السودانية) نفسها واحدة من مخلفات الإستعمار البريطاني (الأنغلو مصري) colonial vestiges التي تجاوزت فيها الفلسفة الإستشراقية الكولونيالية نظام الإستبدال الى الإحتجاب (اللاطبيعي) خلف طبقة الحكم النيوكولونيالية المعدة للاستبدال.

2.من النموذج البدئي الى مفاصلة الهويات

تلعب التمثلات الاجتماعية دورا مهما في صوغ الوعي بالذات و بتحفيز ميكانيزمات مفاصلة الهوية كالمسكوت عنه unspoken / الغبن (المظلومية المضادة) / المكبوت Repression او التكوين العكسي Reaction formation / التواطؤ او التكتلidentification.

لكن اللاتعقل (اللامعقول) كهروب عكسي هو ايضا واحدا من تلك الميكانيزمات واذا اعتبرنا ان تاريخ دولة 1956 هو سبعين عاما من التحولات الخاطئة والتعسفية وان انقلاب 30 يونيو 1989 العسكري الذي انتخبته القوى اليمينية و الاقطاعية في القومية الشمالية كقومية دولتية مصنوعة لكنها تعبر عن مصالح مجتمعات ليست زبونية بل ريعية هاجرت من جغرافيا طاردة الى جغرافية السودان المفيد وترفض تقاسم السلطة او التركة الاستعمارية مع القوميات الاخرى ، فان تاريخ 26 سبتمبر هو ايضا تاريخ هروب للامام وانتاج لمجموعة من مزاعم وبراديغمات الهروب يؤسس لمفاصلة اجتماعية هوياتية partition.

3.بدلا عن مفاصلة الهويات إعادة هيكلة تركة ومخلفات الاستعمار

في المقالة السابقة عن ضرورة هيكلة دولة 1956 بوصفها واحدة من مخلفات الاستعمار الي جانب القومية السودانية والدولة البريتوريانية (مركزية الجيش في السياسة) التي حولت دولة مابعد الاستعمار الي دولة يمتلكها جيش بالتعبير الاسرائيلي والباكستاني والمصري والتايلندي وبورما ميانمار.

هيكلة القومية (السودانية) المختلقة فلسفيا كهوية تكتيكية لا تاريخية للقومية الاقليمية الشمالية الي سبعة قوميات اقليمية Regional nationalism تقع تحتها 32 اثنين وثلاثين قومية ثقافية cultural nationalism . وهيكلة الدولة البريتوريانية بتوزيع فائض القوة العسكرية وفدرلتها نحو جيش فدرالي وتفويض الحماية الذاتية او الدفاع الذاتي self defense forces وصولا الى قومية اقتصادية Economic Nationalism اسوة بجنوب أفريقيا ونيجيريا مابعد المصالحة والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا .. وحتى ماليزيا التي هي الان تمثل وحدة قومية اقتصادية لثلاثة قوميات هي الملايو والصينيين والهنود السيخ ، يقتضي الاعتراف بالاخر وبضرورة تحديث البنى الاجتماعية الي نموذج ويستفاليا 1648 - (الاعتراف بسيادة القوميات على اراضيها ومواردها وفصل الدين عن الدولة فصلا غير يعقوبي كما هو في المثال الفرنسي). وللحديث هنا تتمة.  

مقالات مشابهة

  • وول ستريت جورنال: الضربة الإيرانية على إسرائيل الأكبر في التاريخ
  • وزير الخارجية الفرنسي يصل إلى الشرق الأوسط ويزور إسرائيل
  • صحف عالمية: التاريخ يوحي بأن إسرائيل ربما تتورط في لبنان
  • عام على الإبادة الجماعية.. أبرز 11 مجزرة اقترفتها إسرائيل بغزة
  • إحتفالات 26 سبتمبر المفاصلة الإجتماعية الهوياتية , الدولة العميقة ومخلفات الإستعمار البريطاني
  • أوتشا:أكثر من 5 ملايين شخص في غرب ووسط أفريقيا تضرروا من الفيضانات
  • الحكومة: آن الأوان لوضع حد لجرائم إسرائيل والتي لم يشهد لها التاريخ مثيلا
  • “أوتشا”:أكثر من 5 ملايين شخص في غرب ووسط أفريقيا تضرروا من الفيضانات
  • إسرائيل غُده سرطانية لخدمة مصالح الاستعمار
  • هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟