فى عيدها العالمى.. لغة الضاد.. بحر يتلألأ بالدر
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
«إن الذى ملأ اللغات محاسنا جعل الجمال وسره فى الضاد».. قالها يوما أحمد شوقى ليوجز بها وصفًا بليغًا للغتنا العربية، تلك اللغة التى تعد سجلًا للتاريخ والفنون والآداب ومجمعًا للبلاغة، واختيار الله لتكون كلمته على أرضه، تصدح الألسنة وتتبتل إلى الخالق بحروفها التى شرفت بحمل كتابه للعالمين.. إنها اللغة العربية، أقدم اللغات السامية، بحر يتلألأ الدر كامنًا فى أحشائه فلا يصل إليه إلا كل غواص عليم.
يقول جورج سارتون، فى حق العربية: «لقد حقق العرب عباقرة الشرق أعظم المآثر فى القرون الوسطى فكتبوا أعظم المؤلفات قيمة وأكثرها نفعًا باللغة العربية التى كانت فى منتصف القرن الثامن لغة العلم الراقي»
لأن الإلمــام باللغة العربية يساعـد أبناءنا على الاستمتاع بما تصفه من روائع وكنوز فى تراثهـا القديم.
* دور العربية فى عصر النهضة
ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التى تبيّن الصلات الكثيرة والوثيقة التى تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزاً لإنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا فى عصر النهضة. وأتاحت اللغة العربية إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الأفريقى.
* لغة الخطاب السياسي
ولأن اللغة أساس الهوية؛ لذلك كانت اللغة العربية صلب الهوية المصرية وأساسها، فاللغة العربية لها مكانتها العالمية المُعتَرَف بها فى المحافل الدولية، وفى هيئات الأمم المتحدة، فقد كان أول خطاب سياسى أُلقِى باللغة العربية فى الأمم المتحدة هو خطاب الرئيس المصرى جمال عبد الناصر فى أكتوبر عام 1960م، ثم تلته خطابات السادة رؤساء الدول العربية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مستخدمة اللغة العربية الفصحى، ومن ذلك: كلمة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى باللغة العربية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 سبتمبر 2019م.
* اليوم العالمى للغة العربية
ولهذا كله، ولأنها تُعدّ ركناً من أركان التنوع الثقافى للبشرية، وإحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً فى العالم، إذ يتحدث بها يومياً ٤٥٠ مليون نسمة من سكان المعمورة؛ لذا فقد خصص يوم للاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وهو الثامن عشر من ديسمبر من كل عام.
وقد وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذى اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 1973 قرارها التاريخى بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة فى المنظمة، ومنذها والعالم يحتفل بلغة الضاد بشكل دورى.
* لغة إعلامية
تعد العربية الفصحى اللغة الرسمية للخطاب الإعلامى فى البلاد، سواءً فى القنوات الإعلامية المكتوبة أم المسموعة أم المرئية، ذلك أنها تتوفر بها خصائص اللغة الإعلامية بأبنيتها وتراكيبها اللغوية التى تسهم بنصيب كبير فى التأثير على المتلقي، سواءً أكان قارئًا أم مشاهدًا؛ لذا يحرص الإعلاميون على السلامة اللغوية، وضبط الخطاب الإعلامي، مما يساعد فى صنع منتج إعلامى متميز فى بناء مادته اللغوية ومحتواه الفني، لا سيما مع تقدم التقنيات التكنولوجية التى أتاحت الوصول إلى المحتوى الرقمى للخطاب الإعلامى فى أى وقت، فاللغة العربية الفصحى التى تحملها أجهزة الإعلام هى التى يفهمها من يتكلمون العربية على كافة الأصعدة وفى مختلف المستويات وبين الشعوب العربية، فاللغة العربية الفصحى هى اللغة الوحيدة التى يلتقى عندها أهل العربية فى جميع أقطارهم يتكلمون ويكتبون بها.
وتعتمد البرامج التلفزيونية على فن الحوار القائم على جماليات اللغة، وتداولية استعمال الجمل والعبارات من قِبَل المتحاورين، وكذلك النشرات الإخبارية تهتم فى المقام الأول بإذاعة الأخبار السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية التى تنهض فى بنائها اللغوى على الأساليب الخبرية، وتعتمد فى المقام الأول على بلاغة الكلمة وفصاحتها، وعلى جماليات فن الإلقاء من قِبَل المذيعين؛ مما يُعَبر عن حضور اللغة العربية وهيمنتها على لغة الخطاب الإعلامي، سواءً المسموع أو المرئي، فاللغة (بألفاظها وتراكيبها) هى الوسيلة الأولى فى الوسائل الإعلامية للتأثير على المتلقي؛ ولذلك باتت العربية الفصحى هى الأكثر تداولًا والأشهر رواجًا فى وسائل الإعلام؛ لاعتمادها على قوة الكلمة، وتأثيرها فى نفوس المستمعين؛ ولذلك نلحظ اهتمام بعض الإعلاميين بانتقاء اللفظ الذى يتسم بالفصاحة والبلاغة وقوة التأثير لجذب انتباه المتلقى.
* ضعف الأداء.. الازوداجية.. أهم المشكلات
وتعد ظاهرة ضعف الأداء اللغوى وشيوع الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية واللجوء إلى العامية وعدم سلامة النطق وازدواجية اللغة وشيوع ما يسمى بالفرانكواراب بين الشباب، من أهم المشكلات التى تواجه الخطاب الإعلامى المعاصر، لذا فإنه يجب قصر اللغة الإعلامية على الفصيح من الأساليب العربية، من أجل الحفاظ على الهوية الحضارية للدولة المصرية، والتأكيد على عربيتها، والحد من الغزو اللغوى الذى يهيمن على معظم الوسائل الإعلامية، فعلى الرغم من حرص معظم الإعلاميين فى قنوات الخطاب الإعلامى المختلفة على التحدث بالعربية الفصحى (فى كثير من الأحيان)، فإننا نجد مستوى لغويًّا مغايرًا تمامًا للفصحى، يتسم بالمزج بين معيارى الفصحى والعامية؛ مما يبرز التداخل بينهما فى لغة الخطاب الإعلامي، ومن هنا تقع على مؤسسات الدولة -خاصة مجمع اللغة العربية- مسؤولية مراقبة اللغة الإعلامية فى وسائلها المختلفة بالتنسيق مع المجلس الأعلى للإعلام.
ذلك أن فصاحة الاستعمال اللغوى فى وسائل الإعلام -سواءً المقروء أو المسموع– تساعد فى تيسير دخول الفصحى إلى كثير من المنازل بكل سهولة ويسر؛ ومن ناحية أخرى فإن وسائل الإعلام تُسهِم بنصيب كبير فى نشر الفصحى من خلال إعداد الكوادر الإعلامية، وتدريبها على التحدث بالفصحى، وتشجيعها على استعمال الفصيح من الأبنية والتراكيب اللغوية فى خطابها الإعلامى الذى يصل إلى كثير من البيوت دون استئذان.
* دور الجامعات فى الحفاظ على اللغة
تضطلع كليات الإعلام وأقسام الإعلام بكليات الآداب فى الجامعات المصرية المختلفة بدور مهم فى تدريس مقررات اللغة العربية، نحوًا وصرفًا وبلاغةً ونقدًا، ضمن برامجها الدراسية، واشتراط جودة التحدث بالعربية الفصحى ضمن شروط القبول بها، وأن يكون الإعلامى الذى يتصدر المشهد الإعلامى متحدثًا جيدًا باللغة العربية الصحيحة فى بنائها وأسلوبها اللغوى. كذلك يجب الاهتمام بالبرامج اللغوية ضمن مخرجات أقسام الإعلام؛ لضمان جودة الخطاب الإعلامي، ووضع ميثاق شرف لغوي، وأن يكون فى كل برنامج مجموعة من الإعلاميين الأكفاء الماهرين فى قواعد اللغة العربية؛ لتصحيح الأخطاء اللغوية الشائعة أولًا بأول، والحد من استعمال اللغات الأجنبية فى البرامج الإعلامية الوطنية.
* دور المؤسسات الأخرى
ولا يقتصر الأمر على دور المؤسسات الإعلامية الفاعل فى الحفاظ على اللغة، بل إن للبيت دورا مهما فى تعليم الأطفال قبل سن الدراسة أهمية الفصحى والحفاظ عليها، من خلال إكسابهم مهارات القراءة والاطلاع، مما يجعل اللغة يسيرة جارية على ألسنتهم منذ الصغر، ثم يحين دور المدرسة والمناهج الدراسية التى يجب انتقاؤها بعناية، وغربلتها من الحشو والتلقين، واستخدام وسائل تكنولوجية متطورة فى تدريسها، حتى يصبح تعليم اللغة محفزا لا منفرا، وحتى نعيد للفصحى مجدها الذى نبتغيه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: عصر النهضة الخطاب الإعلامی العربیة الفصحى باللغة العربیة وسائل الإعلام اللغة العربیة العربیة فى العربیة ا
إقرأ أيضاً:
«إيلون ماسك».. من أغنى رجل في العالم إلى «صداع مزمن»
كيف تتحول إلى صداع مزمن فى رأس العالم كله؟
الإجابة بسيطة: عليك ألا تكف عن الكلام! عليك أن تتدخل فى كل شىء وتُبدى رأيك فى كل موضوع (كأنك التجسيد البشرى لمنصة «إكس»). عليك أن تتدخل فى شئون الدول وتحاول إثارة الرأى العام الداخلى فيها. عليك أن تحاول التأثير فى نتائج انتخابات بلاد تبعد عنك آلاف الأميال، وليس الدولة التى تحمل جنسيتها وحسب.
عليك أن تفتح ملفات قديمة تُثير الضغائن والأحقاد فى المجتمع لكى تحولها إلى ضربات ضد السياسيين الذين لا يسيرون على هواك. وعليك، قبل أى شىء، ألا تخشى من، بل تسعى إلى، إثارة الجدل فى كل ما تفعله.
عليك أن تجعل من «تجاوز الحدود» شعاراً وسياسة. وأن تطالب بالإفراج عن المتهمين الذين يبثون أخباراً كاذبة، حتى لو تسبّبت فى إشعال أعمال عنف وشغب تُهدّد سلامة الناس، بحجة «حرية التعبير» ورفع سقف الحريات، وأن تقوم بنفسك بإعادة نشر هذه الأخبار الكاذبة (حتى مع علمك التام بعدم صحتها) لكى يُردّدها من ورائك ملايين المتابعين (حتى مع جهلهم التام بما تتحدث عنه).
عليك أن تدعم رئيس أقوى دولة فى العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، وتضخ ملايين الدولارات قبل وبعد وأثناء حملته الانتخابية، وأن تتحول إلى ظله الذى لا يفارقه، وأن تجعل اسمك مرتبطاً باسمه، فيخشى الناس أن يهاجموك حتى لا يبدو أنهم يهاجمون سياسات الرئيس الأمريكى، فيعملون لك حساباً كما يعملون له ألف حساب.
ولا مانع، بالإضافة إلى ما سبق، أن تجعل اسمك يتردّد بين مشجعى كرة القدم العالمية، فتُلمح إلى رغبتك فى شراء نادى «مانشستر يونايتد» الإنجليزى، أو تغير رأيك وتضع عينك على نادى «ليفربول» الذى يلعب فيه «محمد صلاح». ثم تظهر لتثير عاصفة من الجنون فى عالم ألعاب الفيديو، معلناً أنك ضمن قائمة أفضل ٢٠ ممن يلعبون لعبة «ديابلو (أو الشيطان!)» التى لها ملايين المتحمسين حول العالم، والذين يعتبرون إنجازك فيها ضرباً من الخيال أو الجنون، فلا يكفون عن الحديث عنك فى منتدياتهم ودردشاتهم، كما لا يكف السياسيون وصُناع القرار عن الحديث عنك فى نقاشاتهم وجلساتهم.
«الجارديان»: الملياردير الأمريكى يلتقط عبارة من مصدر مشكوك فيه ثم يشاركها عبر حسابه دون فحص أو نقد ثم يعيد بثها تحت اسمهافعل أى شىء أياً ما كان.. المهم أن يظل اسمك يتردّد على لسان أى مهتم بأى مجال فى أى مكان!
لكن قبل ذلك كله، عليك أن تترأس ست شركات من أكبر وأهم شركات العالم، وأن تتربّع على عرش صناعة السيارات الكهربائية (شركة تسلا)، وتمتلك شركة وُلدت كبيرة فى عالم الذكاء الاصطناعى (إكس إيه آى)، وشركة ثالثة تتجاوز حدود الأرض إلى عالم الفضاء والصواريخ (سبيس إكس)، ومنصة عملاقة فى عالم التواصل الاجتماعى (منصة «إكس»، التى كانت تُعرف من قبل باسم «تويتر»)، وشركة ناشئة متخصّصة فى مجال الكمبيوتر والدماغ البشرى (هى شركة «نيورالينك»)، التى تتلاعب (حرفياً) بالدماغ البشرى، وتخترع شرائح تُزرع فيه وتقرأ إشاراته العصبية والكيماوية، بشكل قد يذيب الحدود بين الإنسان والآلة فى المستقبل غير البعيد، لتشعر العالم (ولو على سبيل الوهم) بأنك تمتلك المستقبل كله بين يديك.
ولن يضر طبعاً أن يكون لديك ما يزيد على ٢٨٠ مليون متابع على منصة «إكس» التى تمتلكها بعد صفقة خرافية بلغت ٤٤ مليار دولار.
لكن عليك أولاً، وقبل كل شىء، أن تكون أغنى رجل فى العالم، وأن يكون اسمك هو «إيلون ماسك»، الذى قام بالفعل بكل ما سبق!
مجرد الحديث عن الملياردير الأمريكى الشهير «إيلون ماسك» قد يصيب المتحدّث والمستمع بصداع. الكل يلهث فى محاولة تتبّع أخباره والوقوف على آخر تطورات اشتباكاته المتناثرة فى كل الاتجاهات وعبر كل الحدود. يثير ضجة جديدة فى مكان جديد قبل أن تخمد نيران الضجة الأولى التى أثارها، وقبل أن يستوعب خصومه الضربة التى وجّهها إليهم يكون قد وجّه ضربة أخرى إلى خصم جديد، أو حليف قديم لم يكن يتوقع منه الغدر. كل ذلك دون أن يبدو «ماسك» نفسه مُجهداً ولا متوتراً، كأنه يتغذّى وينتعش ويستمد طاقته وحيويته من إصابة الآخرين بالدوار.
حتى «مارك زوكربرج»، المدير التنفيذى لشركة «ميتا» المالكة لمنصات عملاقة للتواصل الاجتماعى مثل «فيس بوك» وإنستجرام» و«واتس آب»، والذى كان البعض يتوقع أن يكون هو المعادل المقابل، والقوة التى يمكن أن تُشكل توازناً فى مواجهة «ماسك» ونفوذه، بدا وكأنه قد سقط أرضاً أمامه، وتبنى سياسات مشابهة لسياساته تدعو إلى رفع القيود بشكل مطلق عن وسائل التواصل الاجتماعى، كما لو كان ما زال مجرد طالب جامعى يهوى التكنولوجيا والبرمجة، و«يتهاوى» عند المواجهة الفعلية أمام «الكبار».
مؤخراً، أعلن «زوكربرج» أن منصاته لن تمارس تدقيقاً أو رقابة على المحتوى الموجود فيها كما كان يحدث من قبل، بشكل يجعلها أقرب إلى منصة «إكس» التى تكتفى بتعليقات وملاحظات الموجودين فيها على المنشورات. وهو توجّه يتفق مع ما يدعو إليه «ماسك» من رفع كل رقابة وكل قيود على كل شىء وترك العنان لكل من يريد أن يقول شيئاً لأن يقوله. وبدا الأمر لآخرين على أنه خطوة من «زوكربرج» للتقارب مع الرئيس الأمريكى المنتخب «دونالد ترامب»، الذى أبدى ترحيبه بقرار رفع الرقابة عن محتوى «فيس بوك»، الذى أغلق حسابات الرئيس الأمريكى السابق والمنتخب من جديد بعد هجوم أنصاره على مبنى «الكابيتول» إثر إعلان خسارته للانتخابات فى يناير ٢٠٢١.
بريطانيا تتهمه بترويج الأكاذيب و«فيس بوك الحائر» يسير على خُطاه ويلغى الرقابة على المحتوىهى خطوة تُظهر مدى تخبّط وحيرة «فيس بوك» ومديره التنفيذى الذى لا يعرف هل يُرضى الليبراليين ممن يريدون الدفاع عن حريات الأقليات والتعددية ومنع «المحافظين» (من أنصار «ترامب») من الهجوم عليهم، أم يترك اليمين المحافظ (وحتى المتطرف) يهاجم من يريد ويعبّر عن نفسه كما يشاء؟ الملاحظ أن المحافظين اعتبروا خطوة «زوكربرج» انتصاراً لهم، لأن أصحاب القيم الليبرالية، فى مفارقة ساخرة، كانوا يقيّدون حرية معارضيهم بأدوات الرقابة على المحتوى. وربما كان «زوكربرج» نفسه، مثله مثل باقى عمالقة شركات التكنولوجيا فى العالم، قد وجد أن أسرع طريق للتقارب مع الرئيس الأمريكى المنتخب (المعادى للقيم الليبرالية) هو اتباع خطوات «ماسك» بعد أن أصبح مستشار «ترامب» المقرّب منه إثر دعمه لحملته الانتخابية بأكثر من ربع مليار دولار.
إلا أن الواقع يؤكد أن كثيرين من أنصار «ترامب» أنفسهم، من اليمينيين المحافظين، لا يحبون «إيلون ماسك»!
لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية النظر إلى أن ملف الهجرة أحدث انقساماً مبكراً بين أنصار «ترامب»، بين اليمينيين المتشدّدين الذين يؤيدون سياسات الرئيس المنتخب فى ترحيل المهاجرين من أمريكا، والمليارديرات»، وعلى رأسهم «ماسك» من أصحاب شركات التكنولوجيا العملاقة الذين يدافعون عن نظام تأشيرة العمل، الذى تمنحه الولايات المتحدة للعمالة الموهوبة من الدول الأخرى، والذى يُعد خطوة أولى للمهاجرين الذين تحتاجهم سوق العمل الأمريكية للإقامة الدائمة فى البلاد. يتحدث «ماسك» عن عدم وجود مواهب كافية فى سوق العمل الأمريكية لسد حاجات شركات التكنولوجيا كسبب لاستمرار فتح باب الهجرة «الضرورية» إلى أمريكا، بينما يعارض أنصار «ترامب» المتطرّفون نظام تأشيرة العمل ويصفونه بأنه «غزو العالم الثالث» لأمريكا.
إحدى مناصرات «ترامب» قالت إن «ماسك» ليس من أتباع حركة «ماجا» (اختصار جملة «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً» شعار حملة «ترامب»)، ولا يشاركهم قيمهم حول سياسات الهجرة، وبدأت تنشر كلامها عبر حسابها على منصة «إكس» التى يمتلكها «ماسك» وفقاً لـ«نيويورك تايمز»، فما كان من الملياردير الأمريكى، الذى يملأ الدنيا ضجيجاً حول الحريات، وضرورة عدم مصادرة الآراء، إلا أن رفع شارة التوثيق الزرقاء من على حسابها على «إكس»، حتى يمنعها من توليد عائد مادى منه لفترة!
لكنه لم يتردّد فى دعم اليمين المتطرف فى أوروبا، خاصة فى ما يتعلق بسياساته المعادية للمهاجرين.
قراءة التحركات الأولى التى قام بها «ماسك» فى دوره الجديد كمستشار مقرّب من الرئيس الأمريكى المنتخب، أثارت اضطرابات جديدة فى العلاقات الأمريكية مع حلفائها التقليديين فى أوروبا. لقد كانت أوروبا تستيقظ قلقة فى فترة «ترامب» الرئاسية الأولى على تغريدات الرئيس الأمريكى السابق والمنتخب من جديد على منصة «تويتر» (إكس حالياً)، والتى كان يحلو له أن يطلقها فى ساعات متأخرة من الليل ليُربك بها حسابات أوروبا وثوابت علاقاتها مع أمريكا. أما الآن، فإن منشورات «ماسك» التى لا تهدأ تكاد تطير النوم من عينيها من الأساس!
قال إن على أمريكا «أن تُحرّر البريطانيين من حكومتهم المستبدة».. ووصف حزب اليمين المتطرف الألمانى بأنه «بارقة الأمل الأخيرة لألمانيا»راح الملياردير الأمريكى يُطلق منشورات تُظهر تأييده لوجوه بارزة فى اليمين المتطرف الأوروبى، منها مثلاً «أليسا فايدل»، مرشحة حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليمينى لمنصب مستشار ألمانيا فى الانتخابات المقبلة. وأعلن «ماسك» أنه سوف يستضيف «فايدل» فى لقاء عبر منصة «إكس»، وكتب افتتاحية فى صحيفة ألمانية كبرى يصف فيها حزبها بأنه «بارقة الأمل الأخيرة بالنسبة لألمانيا»، فى الوقت الذى وجّه فيه إهانات بالغة للمستشار الألمانى الحالى «أولاف شولتز»، قائلاً إنه «لن يربح الانتخابات المقبلة» فى فبراير المقبل. الأمر الذى جعل «فريدريك ميرز»، مرشح الحزب الديمقراطى المسيحى الأوفر حظاً للفوز بمنصب المستشار الألمانى يقول إنه لم يشهد من قبل حالة تدخّل فى انتخابات دولة «صديقة» بالشكل الذى يفعله «ماسك».
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قالت إن «ماسك» يرمى قنابل يدوية (وليس مجرد منشورات) على سياسات أوروبا فى الهجرة وحرية التعبير وغيرها، وإن منشورات الرجل الأغنى فى العالم قد أصبحت تُشكل «صداعاً دبلوماسياً» للمسئولين الأوروبيين الذين لا يعرفون كيفية الاستجابة الصحيحة لما يفعله مستشار «ترامب»، خاصة مع اقتراب لحظة تنصيب الرئيس الأمريكى، وقلقهم من أن يتحول وقوفهم فى وجه «ماسك» إلى إهانة بالنسبة لـ«ترامب».
لكن السياسيين الأوروبيين الذين تتراجع شعبية كثيرين منهم فى بلادهم، لا يمكنهم تجاهل الرسائل التى يوجّهها «ماسك» لمتابعيه على منصة «إكس»، محاولاً فرض أجندة جديدة على سياسات أوروبا، وإجبار قادتها على التحدّث فقط فى ما يريده هو، ومحولاً منصته فى الوقت نفسه، إلى أداة لحشد وتحريك الناخبين لتأييد وجوه اليمين المتطرّف، خاصة بعد أن فقدوا ثقتهم فى حكومات دولهم وسياساتها مع ضعف معدلات النمو الاقتصادى فيها.
الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» لخّص الموقف، قائلاً: «لو أن أحداً قال لنا قبل عشر سنوات مضت، إن صاحب إحدى أكبر منصات التواصل الاجتماعى سوف يتدخّل مباشرة فى الانتخابات لم نكن نصدقه، من كان يمكنه أن يتخيل ذلك؟». كان الرئيس الفرنسى يشير إلى مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعى فى الناخبين، والذى أصبح السياسيون فى أوروبا يخشونه اليوم أكثر من قلقهم من أساليب السياسة التقليدية. يروى «خوزيه إجناسيو توريبلانكا»، أحد الخبراء فى المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية، أن أحد مستشارى «ترامب» فى فترته الرئاسية السابقة، هو «ستيف بانون»، حاول أن يبنى شبكة من الأحزاب اليمينية المتطرّفة على امتداد أوروبا قبل انتخابات البرلمان الأوروبى فى ٢٠١٩، دون أن يُحقّق نجاحاً يُذكر. أما «إيلون ماسك» فيبدو أنه سيكون أوفر حظاً منه بفضل منصة «إكس». ويتابع الخبير الأوروبى: «إن ماسك يرى نفسه مُنقذاً للديمقراطية الأمريكية من أصحاب النزعات التقدمية (أو الليبراليين)، ويرى أن ذلك لا بد أن يمتد إلى أوروبا».
حرص «ماسك» على «إنقاذ أوروبا»، كما يرى، لا يعنى أن الناخبين الأوروبيين أنفسهم يرحبون بتدخلاته فى بلادهم، بل على العكس، قد يخسر متابعيه على «إكس» بدلاً من أن يربح أصواتهم لصالح أصدقائه فى الانتخابات. لقد تهاوى عدد مستخدمى منصة «إكس» فى الاتحاد الأوروبى، لتفقد خمسة ملايين متابع فى الفترة بين أكتوبر ٢٠٢٣ حتى صيف ٢٠٢٤. وفى بريطانيا، هبط عدد مستخدمى «إكس» من ١٠٫٣ مليون مستخدم يومياً فى مايو ٢٠٢٢، إلى ٨٫٦ مليون مستخدم يومياً فى مايو ٢٠٢٤، وهى الفترة التى شهدت استحواذ «ماسك» على «تويتر»، الذى أصبح «إكس». أما على مستوى استطلاعات الرأى، فإن ٢٦٪ فقط من البريطانيين ينظرون إلى «ماسك» بصورة إيجابية.
ربما لأن «ماسك» أشعل حرباً كلامية على «إكس» مع الديمقراطية البريطانية العتيدة بشكل لم يتسامح معه الإنجليز. لقد قرّر الملياردير الأمريكى، دون سابق إنذار، أن يفتح الدفاتر القديمة لرئيس الوزراء البريطانى «كير ستارمر»، متهماً إياه بالتقصير فى أداء واجبه عندما كان مدّعياً عاماً فى بدايات الألفية، وعدم القيام بما يكفى لحماية فتيات بريطانيا الصغيرات من التعرّض لاعتداءات جنسية متكرّرة على يد عصابات من الرجال قيل إن معظمهم من أصول باكستانية. ووصل الحد بـ«ماسك» إلى أن يصف «ستارمر» بأنه «شارك فى اغتصاب بريطانيا».
هى قصة وقضية متفجّرة ظلت تضغط على أعصاب الإنجليز لفترة طويلة: الاعتداءات استمرت عدة سنوات، وامتدت فى عدة مناطق من بريطانيا، خاصة المناطق الفقيرة. كثير من الفتيات الضحايا كن فى دور رعاية الأيتام ولا يحظين بحماية مجتمعية كافية، والعصابات التى كانت تعتدى عليهن كانت فى أغلبها، وليس كلها، تضم رجالاً من أصول باكستانية، وهو ما جعل هناك نوعاً من الحساسية فى تعامل السلطات المختصة مع التحقيق، حتى لا يتحول الأمر إلى مشاعر عدائية ضد المهاجرين أو المواطنين من ذوى الأصول الآسيوية فى بريطانيا، بشكل يخدم أجندة اليمين المتطرّف فيها، والذى يتبنى العداء العلنى للمهاجرين بشكل عام.
لكن ولأن «ماسك» يريد تحديداً إثارة المشاعر العدائية ضد المهاجرين، فقد أعاد على منصته نشر تفاصيل القضية التى أُغلق التحقيق فيها منذ سنوات كثيرة، بشكل ملىء بالشائعات والمعلومات المغلوطة التى لا تهدف إلا إلى إحداث البلبلة واللغط. قال مثلاً إن عدد الضحايا من الفتيات البريطانيات الصغيرات زاد على ربع مليون ضحية، وهو رقم لم يتم توثيقه فى التحقيقات البريطانية قط، ويُعد مجرد استنتاج أطلقه أحد المتعصّبين اليمينيين فى بريطانيا. وأعاد «ماسك» نشر وترويج فيديوهات ومنشورات لأصوات من متطرفى اليمين فى بريطانيا على حسابه الشخصى، ليزيد انتشارها، ثم طالب صراحة بالإفراج عن شخص يُدعى «تومى روبنسون» من السجون البريطانية، وهو يمينى متطرف نشر معلومات مضللة وكاذبة عن أن مهاجراً سورياً قام بالاعتداء على ثلاث فتيات بريطانيات، وهو ما تسبّب فى اندلاع أعمال شغب واسعة فى بريطانيا وتصاعد مشاعر العداء للمسلمين والمهاجرين فيها. وبعد أن رفع الفتى السورى قضية تشهير ضد «روبنسون» وربحها، تعرّض الأخير لعقوبة الحبس بتهمة ازدراء المحكمة.
هذا البريطانى الكاذب والمتطرف والمحرض على الكراهية والتخريب، أراد «ماسك» أن يحوله إلى بطل، فاعتبر أن كل ما فعله «روبنسون» مجرد تعبير حر عن الآراء (الذى يعتبر «ماسك» نفسه رائداً فى الدفاع عنها)، وأن الحكومة البريطانية تحبس الناس الذين يعبّرون عن آرائهم فى المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعى وتترك «المغتصبين»، الذين اعتدوا على الفتيات الصغيرات أحراراً فى الشوارع. ووصل حتى إلى القول بأن «على أمريكا أن تسعى لتحرير البريطانيين من حكومتهم المستبدة!».
لكنه فى الوقت نفسه، لم يسمح لحليفه البريطانى «نيل فاراج» بأن يعبّر عن معارضته له دون أن يعاقبه!
لوهلة قصيرة، بدا الأمر وكأن «إيلون ماسك» يدعم السياسى البريطانى «نيل فاراج» المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة ضمن من يدعمهم من السياسيين اليمينيين فى أوروبا. قيل حتى إن «ماسك» سوف يقدّم دعماً قدره مائة مليون جنيه إسترلينى لحزب «الإصلاح» الذى يتزعمه «فاراج»، وانتشرت صورة للاثنين معاً وهما يقفان تحت صورة كبيرة لـ«ترامب» فى قصره بـ«مارالاجو» على نحو يُظهر التفاهم الجيد بينهما.
لكن عندما طالب «ماسك» بالإفراج عن مثير الشغب «تومى روبنسون»، تجرّأ «فاراج» وقال إنه «لا يوافق» على ذلك، رغم شدة احترامه لـ«ماسك» الذى يعتبره «بطلاً، وشخصاً استثنائياً».
كانت النتيجة أن «ماسك» قد تحول تماماً ليُصبح ضد «فاراج»! هاجم حليفه السابق قائلاً عنه إنه «لا يملك ما يكفى ولا يصلح لقيادة حزب الإصلاح البريطانى»، واقترح حتى اسم البديل له، فى تدخّل سافر إضافى فى السياسة الداخلية البريطانية، مما دفع ذلك البديل «روبرت لوى» إلى أن يعلن عبر منصة «إكس» نفسها وقوفه وتأييده لزعيم حزبه، وأنه لا ينوى الترشّح ضده.
تزايد توجس بريطانيا من تدخّلات «ماسك» وتقلباته، ولم يعد السياسيون الذين كانوا يلقون بثقلهم وراءه يعرفون كيف يمكن التنبؤ بتصرفاته. لكن الأهم أن وسائل الإعلام البريطانية صارت تقف له بالمرصاد.
لا أحد يستطيع أن يغلب الإنجليز عندما يصل الأمر إلى حرب المعلومات المضللة، لأنهم هم الذين اخترعوا اللعبة! لذلك تولت صحيفة «الجارديان» البريطانية تحليل أسلوب «ماسك» فى نشر المعلومات المغلوطة لإثارة البلبلة عبر منصة «إكس» فقالت: «يلتقط «ماسك» عبارة ما من مصدر مشكوك فيه، ثم يشاركها عبر حسابه الشخصى دون فحص أو نقد، ثم يعيد بث الكلام نفسه تحت اسمه هو، وبذلك يقوم بعملية «غسيل الكلمات» ويعيد إطلاقها وسط الناس».
بعبارة أخرى فإن «ماسك» يقوم بعملية «غسيل أكاذيب» اليمين المتطرف البريطانى على طريقة «غسيل الأموال»، بحيث يمنح اسمه وشهرته مصداقية لـ«تخاريف» المتطرفين التى لا تستند إلى أى أساس.
إلا أن الأمر، كما أظهرت «الجارديان» لا علاقة له بالدفاع عن الحريات، كما يريد «ماسك» أن يُصور للناس، لكنه نوع من «تصفية الحسابات» مع الحكومة البريطانية التى تستعد لتطبيق قانون يسمح للمشرّع البريطانى بفرض غرامات على شركات التواصل الاجتماعى (مثل منصة «إكس»)، قد تصل إلى ١٠٪ من قيمة أرباحها العالمية، لو سمحت بأن يتم تداول محتوى غير قانونى على منصاتها، مثل المنشورات التى تُحرّض على العنف والانتهاكات العنصرية الجسيمة والخطيرة التى تُهدّد النظام العام. وهى الانتهاكات نفسها التى طالب «ماسك» بالإفراج عن أصحابها فى بريطانيا.
«إيلون ماسك» إذن ينتشر ويتوغل ويكبر ويحاول أن يبسط نفوذه على كل شىء «مهم» فى حياة الناس حول العالم. لكن هل يقدر أغنى رجل فى العالم على أن يدفع ثمن التدخل فى كل شىء؟
هل يكلفه الدخول فى دوامات السياسة كل ما ربح؟.. أم أن سياساته هى التى ستدفع العالم كله إلى الخراب؟
الإجابة لا يملكها إلا الزمن.. الذى لن يقدر عليه «إيلون ماسك»!