جوهر الإنسان.. هل يرتهن بأقداره بالبيئة؟
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
هذا ابن قرية، وهذا ابن مدينة؛ وكلاهما متباينان في السلوك، والمواقف، والحاضنة الاجتماعية، تباينا يشكل فارقا نوعيا في السلوك والتطبيق، وملحظا مهما في الحكم، أو التقييم لأثر بيئة النشأة على كليهما، إلى درجة لا تحتاج إلى التفكير العميق لبيان الفرق، أو الانتماء، وكما يقال: «الإنسان؛ ابن بيئته» وهي المقولة المشهورة عند الحديث عن هذا الجانب، التي لا يزال يتردد صداها؛ حيث تمثل مرتكزا مهما في الحكم على مختلف التصرفات المتباينة بين الشعوب في كل زمان ومكان.
فهل تؤثر البيئة؛ فعلا؛ في مختلف التباينات: اللغوية، المواقف، الثقافة، القيم، العادات، الحاضنة التاريخية، الحاضنة الحضارية، والتركيبة البنيوية للنفس؟ سؤال يبحث عن إجابته الكثيرون، ويذهب الاستفهام أكثر عندما تتدافع التأثيرات على النفس البشرية نتيجة تصادم بيئتين مختلفتين؛ أحدهما الأصل، والأخرى مستضيفة، فتتأثر النفس بالثانية، وتتجاوز الكثير من التأصيل التي حدثت من الأولى؟ وتزداد تعقيدات الأسئلة أكثر عندما تحتفظ النفس بكثير من معززات البيئة الأولى، ولا تستسلم كامل الاستسلام للثانية، وإنما تعيش مرحلة مناورة تستضيف فيها الثانية؛ قد يكون لتحقيق غرض ما؛ فحال المغتربين - على سبيل المثال - يتأثرون؛ بلا شك؛ في البيئة المستضيفة باللغة، وبالعادات، وبالقيم، ويعيشون مرحلة من المحاكاة حتى ولو عمروا طويلا في البيئات المستضيفة، ولكن مع عودتهم الأخيرة إلى البيئة الأصل ينفضون عنهم غبار البيئة المستضيفة، ويعودون من جديد إلى واقعهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، فهذه الـ «بوناراما» في مجملها توجد أسئلة كثيرة عن هذا السر في التبدل، والتغير، ومن ثم العودة من جديد إلى المربع الأول، ومما يمكن أن يلفت الانتباه حوله؛ وهذا أمر مهم، فذلك يحدث عند الجيل الأول، أما الجيل الثاني، فإنه يكون حصيلة البيئة التي ولد فيها، ويعتبرها بيئته الحقيقية، حتى وإن اختلف مع من سبقه، من آبائه وأمهاته، وهذا يعزز؛ بلا شك؛ مقولة: «الإنسان ابن بيئته»والسؤال أيضا: فَأنَّى لهذه البيئة أن تصمد، لتحافظ على جوهر الإنسان، ولا تعيد إنتاجه في كل مرة؟ تحضر حادثة الشاعر علي بن الجهم والتقائه بالخليفة العباسي المتوكل كأهم مقياس لتأثير البيئة على هذا المكون البنيوي «جوهر الإنسان» الذي هو محل مناقشة في هذا الطرح اليوم، فكما يروى - حسب المصدر أن علي بن الجهم وهو شاعر معروف؛ وقد أتى من البادية، أشعث أغبر لا يعرف عن المدينة شيئا، دخل على الخليفة المتوكل فأنشد مادحا: «أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قروع الخطوب! أنت كالدلو لا عدمناك دلوا.. من كبار الدلاء عظيم الذنوب!» وتكملة لهذه الرواية -كما يروى أيضا- فإن الخليفة المتوكل أمر بإنزال الشاعر في أحد قصور بغداد، وبعد فترة من الراحة والاستجمام؛ يقال؛ أن الخليفة استدعى الشاعر الجهم، فأنشده بقصيدة مدح من خلالها الخليفة؛ وقد صدَّرها بالأبيات التالية: «عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري ـ خليلي ما أحلى الهوى وأمره وأعرفني بالحلو منه وبالمر ـ كفى بالهوى شغلًا وبالشيب زاجرًا لو أن الهوى مما ينهنه بالزجرـ بما بيننا من حرمة هل علمتما أرق من الشكوى وأقسى من الهجر» فإذا صدقت هذه الرواية؛ فإن البنيوية الفكرية معرضة للتغيير والتعديل وفق ما هو متاح في أي بيئة يكون فيها الإنسان، وأن كل ما تم بناؤه عبر عمره الممتد، يمكن أن تغطيه عباءة أخرى مستجدة بحكم ظروفه الحالية التي يعيشها في زمنه الحاضر، مع أن هناك شواهد أخرى لا تؤصل هذا التغيير بصورة مطلقة، فكم من أناس انتقلوا من بيئاتهم الأصل إلى بيئات بديلة، وظلوا كما هم لم تغيرهم البيئة الجديدة كثيرا، إلا بقدر الحاجة للتغيير، وذلك لمسايرة الواقع، ظلت حقيقة بيئتهم الأصل مخفية بحكم الظرف الآني الذي هم عليه، وبالتالي فإن هم عادوا إلى حيث الأصل عادوا كما كانوا، وإن ظلوا في بيئتهم الجديدة ماتوا على مواقفهم، وعلى مبادئهم، وعلى قيمهم، وهذه حالة معايشة، ونقرأها في حياة الشعوب في كثير من المواقف.
هل يحضر مفهوم البيئة هنا على المفهوم الظاهري للأجسام؛ أم أن المسألة تذهب بعيدا إلى حيث التكوين البنيوي للإنسان، أي تكون كل تصرفاته، وسلوكياته، وما يظهر عليه من تقسيمات خلقية، ولكنة اللغة، ومجموعة الحوافز المعنوية هي طبقا للبيئة التي أتى منها؟ وكم يستغرق من الزمن لكي تبدأ البيئة الجديدة في تسويق مفرداتها إلى نفسيته، فتستعذبها وتلتحم معها، فتعيد ترتيب الأوراق القديمة، فتطبعها بطابعها الحديث، وفق البيئة البديلة؟ في هذا الجانب تتجذر المسألة في بعديها الظاهر والمخفي، وكلاهما يساند الآخر، وإذا كان الظاهر من السلوك يمكن التحايل عليه، من خلال اتخاذ أسلوب المجاملات اتقاء لنقد الآخر في البيئة المستضيفة، فإن البعد المخفي لا يمكن المناورة عليه، حيث يبقى نقيا، وأصيلا، ولو عمر الإنسان عشرات السنين في البيئات البديلة، فلا يمكن أن ينسى لغته، ولا يمكن أن ينسى قيمه، ولا يمكن أن ينسى ملبسه، ولا يمكن أن يتخلص من لكنته، ولا يمكن أن يمحو ذاكرته لبيئته الأصل، وهي الذاكرة التي تمثل جزءا غير منكور من محتوياته الذهنية. ولذلك نرى في مهرجانات الشعوب الدولية، حيث تعرض كل فئة من شعب آخر، الكثير من مفردات تاريخها في بيئتها الأصل، حتى وإن كانت لا تعيش فيها، وإنما هي ضمن المغتربين، فما الذي حدا بهؤلاء الناس لأن يحتضنوا كثيرا من المفردات التاريخية والتراثية، ويضعوها في المكان الآمن في بيوتهم؛ وهم يبتعدون عن أوطانهم عشرات الآلاف من الكيلو مترات؟ وما الذي يجعلهم يحافظون على لغتهم؛ وإن عطلوا توظيفها في البيئات البديلة لظرف ما؟ وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة؛ وإنا على آثارهم مهتدون) -الآية (22) الزخرف-. هل يقتصر الأمر هنا على البيئة الظاهرة الملموسة؛ الدين، العادات، القيم، مجمل السلوكيات، أم أن المسألة تتعدى إلى التكوين البنيوي للإنسان، بحيث تدخل في تشكيل مواقفه وآرائه انطلاقا من تكوينه النفسي، لا من مكتسب البيئة فقط؟. يقينا؛ أن المسألة تتجاوز بعدها الظاهر في التوظيف، بل تجد في جوهرها الحقيقة الكاملة، لأنها معبرة عن هويتها، وانتماءاتها المختلفة، بل قد تصل القناعة بأن تجاوز هذا الانتماء أو ذاك يصل بالنفس إلى الشعور بالخطيئة، وهذه الخطيئة قد تفسر على أنه ضمن: الكفر؛ أو النكران؛ أو ضعف الأصل؛ أو القطيعة، وهذه كلها لا تقبل تقييمها النفس السوية، وترى في ذلك امتهانا لشخصيتها، واستنقاصا لهيبتها، وهذا مما تأباه الفطرة السليمة، ولا عزاء للفطر المشوهة والممسوخة.
هل هناك مستوى «أعلى» للتشكل البنيوي للذات انطلاقا من حاضنتها البيئية، بحيث لا يمكن التأثير على هذا المستوى؛ وبالتالي لا يحدث التغيير؟ أم أن المسألة تأخذ منحى نسبيا، بمعنى أنه يمكن التأثير على المستوى الذي وصل إليه التأثير البيئي، وبالتالي فهناك قدرة كاملة على التغيير، والتأقلم، دون أن يتعرض التأسيس الأولي للإزالة الكاملة؟. أتصور أن المسألة أقرب إلى صور التراكم؛ ويمكن مقاربتها بــ «كرة الثلج» فلو حدث أن تلوث الثلج في مستوى معين من محيط كرة الثلج، فإن ذلك اللون سيظهر على الصورة الكاملة، ولكن ما تم من تراكم سابق لبياض الثلج، سيظل كما هو، وما سوف يكون في الطبقات التالية سيحافظ على شكله، ولونه، وبالتالي فالنسبية باقية، ولكنها لن تؤثر على الأصل، وإنما ستظهر مجموعة التأثيرات «التشوهات» على امتداد مسيرة الإنسان (الزمنية/ المادية) وبقدر هذا التنوع الذي يحدث؛ يكون المكتسب الأكبر لخبرات الإنسان في الحياة، ولذلك فالذين يتنقلون من بيئة إلى أخرى من بيئات العالم؛ يقينا؛ تكون خبراتهم في الحياة أكبر، وأعمق، بخلاف الذين يقضون كل حياتهم في بيئة واحدة فقط.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ولا یمکن أن
إقرأ أيضاً:
صاروخ روسي وراء تحطم الطائرة الأذربيجانية.. ما الذي حدث؟
الخطوط الجوية الأذربيجانية (مواقع)
شهد يوم الأربعاء الماضي حادثًا مأساويًا تحطمت فيه طائرة ركاب تابعة لشركة أذربيجان إيرلاينز بالقرب من مدينة أكتاو في كازاخستان. وفي تطور صادم للأحداث، كشفت مصادر حكومية أذربيجانية، وفقًا لقناة يورونيوز، عن أن الصاروخ الروسي هو السبب وراء هذه الكارثة الجوية.
اقرأ أيضاً الانتقالي يكشف الأسباب الحقيقية وراء انسحاب الزبيدي من "الرئاسي" 26 ديسمبر، 2024 تعالج الكوليسترول وتحمي القلب.. مكملات غذائية تزيد في العمر أكثر من 4 سنوات 26 ديسمبر، 2024
تفاصيل الحادث:
تشير المعلومات الأولية إلى أن الطائرة، وهي من طراز إمبراير 190، كانت في رحلة من باكو إلى غروزني عندما تعرضت لإطلاق صاروخ أرض-جو روسي من طراز بانتسير-إس. وقد حدث هذا الحادث أثناء نشاط مكثف لطائرات بدون طيار فوق غروزني، حيث كانت القوات الروسية تحاول إسقاط طائرات بدون طيار أوكرانية.
تفيد التقارير بأن الشظايا الناتجة عن انفجار الصارو بالقرب من الطائرة تسببت في أضرار جسيمة بها، مما أدى إلى فقدانها للتحكم وسقوطها. وعلى الرغم من طلبات الطيارين للهبوط اضطرارياً في مطارات روسية، إلا أنه تم رفض طلباتهم وأُمرت الطائرة بالتحليق فوق بحر قزوين باتجاه أكتاو.
التشويش على أنظمة الملاحة:
يزداد غموض الحادث مع ورود معلومات حول تشويش أنظمة الملاحة GPS للطائرة طوال مسار الرحلة فوق البحر. هذا التشويش قد يكون مقصودًا أو نتيجة للظروف التشغيلية المعقدة في المنطقة.
التساؤلات المطروحة:
يثير هذا الحادث العديد من التساؤلات حول المسؤولية عن هذه الكارثة:
خطأ بشري أم عمد؟ هل كان إطلاق الصاروخ خطأ بشريًا أم كان هناك نية متعمدة لاستهداف الطائرة؟
فشل في تحديد الأهداف؟ كيف تم الخلط بين طائرة ركاب مدنية وطائرة بدون طيار؟
مسؤولية السلطات الروسية: هل تتحمل السلطات الروسية مسؤولية هذا الحادث؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذها لمعاقبة المتسببين؟
الآثار المترتبة: ما هي الآثار المترتبة على هذا الحادث على العلاقات بين روسيا وأذربيجان؟ وكيف ستؤثر هذه الحادثة على ثقة المسافرين بالطيران المدني؟.
التحقيقات الجارية:
من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من التطورات في هذا الملف، حيث ستجري تحقيقات شاملة لكشف ملابسات الحادث وتحديد المسؤولين. كما ستعمل السلطات المعنية على تقديم تعويضات لعائلات الضحايا.
أهمية الحقيقة:
يعتبر كشف الحقيقة حول هذا الحادث أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط لتقديم العدالة للضحايا وعائلاتهم، بل أيضًا لضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل. يجب على المجتمع الدولي الضغط من أجل إجراء تحقيق شفاف ومحايد في هذا الحادث.
ختامًا:
تحطم طائرة أذربيجان إيرلاينز يمثل مأساة إنسانية كبيرة، ويطرح تساؤلات جدية حول أسباب الحادث والمسؤولية عنه. من الضروري أن يتم إجراء تحقيق شامل وشفاف في هذا الحادث، وأن يتم محاسبة المسؤولين عن أي إهمال أو خطأ.