مع اقتراب الحرب على غزة من يومها الثمانين، بات من الواضح أن الأمور أعقد مما ظن جنرالات الاحتلال حين قرروا شن حربهم، والواقع أن قادة الحرب الإسرائيليين كانوا قد أعلنوا عن صدمتهم في أكثر من مرة حيال ما يحدث، وأعادوا تكييف خططهم العسكرية في أكثر من مناسبة، لأن دولة الاحتلال ببساطة تحاول تحقيق أهداف متناقضة، على رأسها تدمير المقاومة وحركة حماس وفي الوقت نفسه الحفاظ على حياة الأسرى، وهو أمر يبدو مستحيلا من الناحية العملياتية البحتة.

 

القتال داخل غزة

لنبدأ من غزة نفسها، والملاحظة الأولى المثيرة للانتباه هي أنه رغم تعدد جبهات القتال داخل غزة، فإن المقاومة كانت قادرة على الصد بذكاء وثبات في كل جبهة، ما يعني وفرة في العتاد وعدد الجنود، أضف إلى ذلك أن المقاومة ما زالت قادرة على استهداف مناطق خارج غزة بضربات صاروخية من حين إلى آخر، وهي إشارة مهمة إلى أن المقاومة ما زالت تحتفظ بلياقتها بعد كل تلك الفترة، بل يبدو أنها باتت أقوى وأكثر احترافية في التعامل مع قوات الاحتلال، واكتسبت دفعة معنوية عالية.

(الجزيرة)

الأهم من ذلك أن المقاومة باتت تمتلك القدرة على أداء عمليات أكثر تعقيدا من ذي قبل، وربما سمعت مؤخرا عن تعدد الكمائن داخل غزة وقدرتها على استهداف أعداد أكبر من الجنود الإسرائيليين، ذلك لأن المقاومة باتت قادرة على نصب كمائن معقدة متعددة المهام، وهي أصعب أنواع الكمائن، وفيها تستخدم زوايا إطلاق نار متعددة وأسلحة متنوعة لإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف العدو على مستوى الجنود والمعدات.

أضف إلى ذلك نقطة أخرى مهمة، وهي أن قدرات المقاومة على استهداف آليات العدو باتت أدق، وازدادت خبرات الجنود فباتوا أكثر قدرة على ضرب دبابات الميركافا مثلا أو مدرعات نمر من مسافات وزوايا مضبوطة ترفع نسبة اختراق الدبابة أو المدرعة.

يدفعنا ذلك إلى القول إن الحرب الحالية لم تعد تبدو مجرد حرب غير متكافئة بين جيش نظامي وحركة مقاومة مسلحة بالمعنى المفهوم، بل إنها صارت أكثر تعقيدا بحيث تشبه قتالا بين جيشين، نعم هناك عدم تكافؤ في العتاد والعدد، وتلجأ المقاومة إلى تكتيكات الحرب غير النظامية في القتال، لكن ذلك ليس ما يصنع "هوية الجيش"، بل ما يصنعه هو قدر التعقد في العمليات القتالية التي يُجريها بالتنسيق بين قوات من نوعيات مختلفة، وهذا هو ما يُمثِّل مفاجأة المقاومة الأساسية بالنسبة للاحتلال (1).

 

الضفة الغربية

لا يقف الأمر عند حدود غزة، رغم أنها تظل بالطبع الجبهة الأكثر اشتعالا في الحرب، ففي الضفة الغربية يشتبك مقاتلون فلسطينيون مع القوات الإسرائيلية في مواقع عدة يوميا، وعبر آليات متعددة، فمثلا في 20 ديسمبر/كانون الأول الحالي، فُجِّرت عبوات ناسفة استهدفت القوات الإسرائيلية في أربع بلدات شمال الضفة الغربية ووسطها، إلى جانب الهجمات شبه اليومية بالأسلحة الخفيفة، التي كان آخرها إطلاق النار على قوات إسرائيلية متمركزة عند حاجز شمال نابلس. في السياق ذاته، استهدفت المقاومة قوات إسرائيلية في منطقة المرج بقلقيلية، وألقى مقاتلوها متفجرات محلية الصنع على قوة عسكرية على أبواب مستوطنة بيتار عيليت، غرب بيت لحم.

(الجزيرة)

وفي 22 ديسمبر/كانون الأول خاصة، كان هناك 10 مواقع للتصادم بين جنود الاحتلال والفلسطينيين، سواء عبر قتال مباشر أو تفجيرات، مقارنة بمتوسط يومي يبلغ نحو ثمانية اشتباكات. كل هذا ولم نتحدث بعد عن عدد متزايد من التظاهرات التي خرجت من أماكن عدة للتنديد بما يحدث في غزة.

 

جبهة حزب الله

على جانب آخر، فإن حزب الله من الشمال والشرق يقوم بتصعيد العمليات بدوره يوما بعد يوم، وخلال أسبوع واحد فقط قام جنوده بتنفيذ عشرات العمليات ضد أهداف إسرائيلية على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية أسفرت عن سقوط عدد من الجنود الإسرائيليين، الأمر الذي يُمثِّل ربما فصلا جديدا في المعركة الدائرة حاليا.

(الجزيرة)

خلال أسبوع واحد فقط (2)، ومنذ 16 وحتى 22 ديسمبر/كانون الأول، نفَّذ حزب الله ما مجموعه نحو 65 هجوما على أهداف إسرائيلية، تميزت العمليات بالتنوع في طبيعتها وأهدافها، في 16 ديسمبر/كانون الأول مثلا نفَّذ حزب الله ست هجمات عبر الحدود، واحدة منها كانت عبر مسيّرتين انتحاريتين، ضربت إحداهما القوات الإسرائيلية بالقرب من مارجاليوت، فأصابت مجموعة من الجنود وقتلت واحدا وأصابت اثنين، بينما اعترض جيش الاحتلال الإسرائيلي المسيّرة الأخرى.

وفي 18 ديسمبر/كانون الأول، أعلن حزب الله مسؤوليته عن هجوم على نظام القبة الحديدية للدفاع الجوي التابع للجيش الإسرائيلي بالقرب من حنيتا، وهي المرة الأولى التي تُستهدف فيها منظومة القبة الحديدية من قِبَل حزب الله في هذه الحرب.

إلى جانب ذلك، كانت هناك هجمات بصواريخ أرض جو استهدفت مروحيات جيش الاحتلال العاملة فوق شوميرة وإيفين مناحيم وشتولا شمال الأراضي المحتلة، مع استهداف صاروخي لمواقع للجيش الإسرائيلي بالقرب من دوفيف وخربة معار وشتولا وكريات شمونة وهونين.

 

اليمن في الجنوب

خلال شهر واحد فقط (3) تقريبا، في الفترة من 19 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 23 ديسمبر/كانون الأول، وقعت قرابة 40 حادثة تتعلق بسفن الشحن تركَّز معظمها بالقرب من مضيق باب المندب، قامت بها جميعا جماعة الحوثي في اليمن، التي أعلنت في أكثر من مرة عن استهدافها للسفن الإسرائيلية أو تلك التي تخدم إسرائيل حتى يتوقف العدوان على غزة.

(الجزيرة)

في هذا السياق تجدر الإشارة إلى عملية جديدة جاءت بعيدة عن المنطقة المفضلة لعمليات الحوثيين، حيث ضُربت سفينة تحمل مواد كيميائية وترفع علم ليبيريا ولكنها مرتبطة بإسرائيل بمسيرة انتحارية يوم السبت 23 ديسمبر/كانون الأول، تسبب ذلك في تعطل السفينة على إثر حرائق اشتعلت بها مع عدم سقوط ضحايا، المثير للانتباه أن السفينة ضُربت على مسافة 200 كيلومتر جنوب غربي سواحل الهند في بحر العرب. لم تُعلن أية جهة بعد عن مسؤوليتها، لكن تزامنا مع الهجوم هدد الحرس الثوري الإيراني بإغلاق ممرات مائية إذا استمرت الحرب في غزة.

بدأت جماعة الحوثي مشاركتها في "طوفان الأقصى" عبر عدة ضربات استهدفت إسرائيل باستخدام الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والمسيرات، وصلت صواريخ ومسيرات الحوثيين إلى جنوبي الأراضي المحتلة، تحديدا في ميناء إيلات، وهو ما أثار انتباه المخططين العسكريين والسياسيين في الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، حيث يتطلب استهداف تلك المنطقة أن تسافر الصواريخ قرابة 1800 كيلومتر شمالا من اليمن على طول البحر الأحمر، تزيد أو تنقص بحسب جهة الضرب.

 

ضربات ضد الولايات المتحدة

أضف إلى ما سبق أن هناك جبهة أخرى في الحرب تستهدف القواعد الأميركية في الشرق الأوسط عموما ردا على الدعم غير المشروط من قِبَل الولايات المتحدة لإسرائيل منذ بداية الحرب. بدأت الضربات ضد القواعد العسكرية الأميركية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي (4)، وتصدَّت لها بشكل رئيسي ما تُسمى بـ"المقاومة الإسلامية في العراق" التي نشرت مقاطع فيديو على تطبيق تلغرام لمسيرات تصعد من أرض صحراوية مع نصوص تهدد بمزيد من الضربات وتحذر العراقيين من الابتعاد عن القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا، إلى الآن تلقَّت القواعد الأميركية في تلك المناطق أكثر من 120 هجوما بمختلف الأسلحة.

(الجزيرة)

جدير بالذكر أن المقاومة الإسلامية في العراق وسَّعت من عملياتها في المنطقة مؤخرا، حيث أعلنت خلال الأيام القليلة الماضية أنها استهدفت أم الرشراش (إيلات) عبر استخدام "أسلحة مناسبة"، بحسب تصريحها، كما استهدفت كذلك منصة حقل غاز إسرائيلي في البحر المتوسط.

إلى الآن، تظل أشرس المعارك هي تلك التي تدور داخل غزة يوميا، أما الجبهات الأخرى فهي تتوسع يوما بعد يوم ولكنها لم تصل إلى الآن لنقطة الاشتعال. لكن ما يحدث يفتح الباب لاحتمالات واسعة، أقربها حرب متعددة الجبهات على حدود دولة الاحتلال المختلفة، وهي حرب لا نظن أن إسرائيل، مع الخسائر التي منيت بها في غزة، سوف تكون قادرة على تحمُّل تبعاتها.

——————————————————–

مصادر: بشكل أساسي اعتمد الكاتب على قراءة تحليلية للتقارير اليومية الصادرة من معهد دراسة الحرب The Institute for the Study of War. المصدر السابق Houthi shipping vessel attacks What to Know About the Attacks on U.S. Military Bases in the Middle East

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دیسمبر کانون الأول أن المقاومة قادرة على بالقرب من حزب الله داخل غزة أکثر من

إقرأ أيضاً:

عودة “إسرائيل” لعدوانها على غزة… تدوير للفشل أم أهداف سياسية جديدة؟

#سواليف

يواصل #الاحتلال الإسرائيلي مماطلته في بدء المرحلة الثانية من #مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع #غزة، رغم أنه كان من المفترض أن تبدأ في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، التي انتهت في الأول من شباط/فبراير الجاري. ويأتي ذلك وسط #تهديدات إسرائيلية بالعودة إلى العدوان على القطاع حتى “القضاء على حركة #حماس”، وفقًا لتصريحات قادة الاحتلال.

#فشل_استراتيجي وأهداف غير محققة
يرى المحلل السياسي الأردني حازم عيّاد، أن الاحتلال الإسرائيلي “فشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية أو السياسية المعلنة، سواء استعادة الأسرى، أو القضاء على المقاومة في قطاع غزة، أو إنهاء سيطرة حركة حماس على القطاع”. ويؤكد أن “كل ما خلفه الاحتلال حتى الآن هو دمار هائل في البنية التحتية والعمرانية للقطاع، إلى جانب أكثر من 50 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال”.

ويحذر عيّاد من أن “استئناف العدوان الإسرائيلي على #غزة سيؤدي إلى انهيار على المستوى الإقليمي، وتصعيد المواجهة في البحر الأحمر من قِبل اليمن، فضلًا عن توتر الأوضاع على الحدود اللبنانية، واحتمالية تحريك الجبهة السورية”.

مقالات ذات صلة 35 شهيدا وصلوا إلى مستشفيات القطاع خلال الساعات الـ24 الماضية 2025/03/05

#نتنياهو والحرب كخيار سياسي
ويضيف أن شنّ عدوان جديد على غزة “ليس خيارًا استراتيجيًا عقلانيًا بالنسبة للاحتلال، بل هو خيار سياسي لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم، الذي يرى في الحرب ضرورة أيديولوجية”.

ويشير إلى أن “نتنياهو يسعى لاستخدام الحرب كوسيلة للبقاء في السلطة، وتجنب المساءلة السياسية الداخلية، لا سيما بعد استكمال جزء كبير من التحقيقات المتعلقة بأحداث السابع من أكتوبر”. ويضيف: “نتنياهو يراهن على الحرب للاحتفاظ بأوراق ضغط تجعله فاعلًا سياسيًا على المستويين الإقليمي والدولي”.

فشل #خطة_التهجير وأزمة القرار الإسرائيلي
من جانبه، يرى المحلل العسكري ونائب رئيس هيئة الأركان السابق في الجيش الأردني، الفريق الركن قاصد محمود، أن “الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية لم ينجحا حتى الآن في تنفيذ خطة التهجير التي يسعيان إليها في قطاع غزة، في ظل غياب أي أفق حقيقي لنجاحها، ما يجعل أهداف الاحتلال من العودة إلى الحرب ذات دوافع سياسية داخلية بحتة”.

ويضيف محمود، أن “قرار العودة إلى الحرب يهدف إلى الحفاظ على تماسك الحكومة الإسرائيلية، ومنع تفككها، خصوصًا في ظل نفوذ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يمتلك صلاحية إقصاء الحكومة نهائيًا بموجب قانون الموازنة العامة”.

ويؤكد أن “المشروع الاستيطاني الإسرائيلي لا يقتصر على غزة، بل يهدف إلى تهويد كامل فلسطين”، مشيرًا إلى أن الاحتلال يسعى لتنفيذ خطط توسعية طويلة الأمد.

هل تمثل العروض العسكرية فرصة لتجديد بنك الأهداف؟
ويشير الفريق الركن محمود إلى أن العروض العسكرية التي نفذتها كتائب القسام في غزة أثناء عمليات تسليم الأسرى الإسرائيليين “ربما جددت بعض الأهداف العسكرية لدى الاحتلال”. لكنه يستدرك قائلًا: “حتى لو كان ذلك صحيحًا، فإن أي عدوان إسرائيلي جديد على غزة لن يسفر إلا عن مزيد من الدمار في القطاع، دون تحقيق مكاسب استراتيجية حقيقية”.

استبعاد العودة إلى الحرب الشاملة
ويضيف محمود أن “المشكلة الأساسية التي تواجه الاحتلال في العودة إلى الحرب على القطاع هي تحقيق أهداف عسكرية واضحة دون تكبد خسائر سياسية وأمنية كبيرة”. ويؤكد أن “المشهدين الإقليمي والدولي لا يتحملان تصعيدًا جديدًا في غزة”.

ويستبعد محمود اندلاع حرب واسعة النطاق على القطاع، لكنه لا يستبعد استمرار الاحتلال في تنفيذ عمليات قصف محدودة هنا وهناك، كما يحدث في الوقت الحالي.

مقالات مشابهة

  • عودة إلى المربع الأول.. إسرائيل تحاصر غزة.. وتنتظر استسلامها
  • عودة “إسرائيل” لعدوانها على غزة… تدوير للفشل أم أهداف سياسية جديدة؟
  • رئيس أركان الإحتلال الجديد يتعهد بمواصلة الحرب على غزة
  • رئيس أركان الاحتلال يعتزم تعيين قائد جديد للواء الشمالي في فرقة غزة
  • رجل إسرائيل القوي.. إيال زمير رئيسًا جديدًا لأركان جيش الاحتلال
  • كاتس: القدرة على الدفاع عن أمن إسرائيل تتطلب الكثير
  • نتنياهو: غيرنا وجه الشرق الأوسط وسنعيد باقي المختطفين إلى إسرائيل
  • إيكونوميست: إسرائيل أفشلت كل اتفاقيات الهدنة وتواصل قضم أراضي الدول العربية
  • باحث: تمديد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في مصلحة إسرائيل
  • تهديدات باستئناف القتال.. إسرائيل تدق طبول الحرب قبل القمة العربية الطارئة