شفق نيوز/ تستمر السلطات الأمنية التركية منذ يومين باحتجاز رجل تركي اتُهِم بدفع صديقته من أعلى قمة منحدر في منطقة سياحية داخل البلاد، عندما رفضت قبول عرضه بالزواج منها، فهل أقدم نظام الدين غورسو بالفعل على دفع صديقته يشيم دمير من قمة منحدر عالٍ؟

فبحسب الأنباء الأولية، كان الرجل التركي الذي لم تكشف وسائل الإعلام المحلية عن عمره، يخطط للزواج من دمير التي تعمل مصممة غرافيك وتبلغ من العمر 39 عاماً، لكنها رفضت الارتباط به عندما طلب منها الزواج على قمة منحدرٍ عالٍ، فأقدم إثرها على دفعها من تلك المنطقة، لتفارق الحياة لاحقاً رغم أنه طلب الإسعاف وحاول الأطباء إنقاذ حياتها.

لكن لدى الرجل التركي رواية أخرى، فقد أخبر الشرطة أنهما كانا في حالة سكر بعد تناول الكحول احتفالاً بقبول الضحية الزواج منه عقب ارتدائها خاتم الخطوبة، لكنه سمع صراخها أثناء توجهها للسيارة لجلب المزيد من الكحول.

ووفق رواية غورسو، فقد سقطت دمير من قمة منحدر عالٍ بعدما فقدت توازنها بفعل الكحول في منطقة بولينتي كيب عند غروب الشمس قبل يومين.

وكان الثنائي يقضي عطلة نهاية الأسبوع معا في تلك المنطقة. وتعمل الضحية مصممة غرافيك في وكالة إعلاناتٍ يقع مقرها الرئيسي في اسطنبول، وقد تعرّفت إلى غورسو قبل نحو عامٍ في مدينة ساكاريا.

وبعد وقوعها من منحدرٍ يبلغ ارتفاعه 30 متراً، اتصل الرجل التركي بالفرق الطبية وقوات الدرك وحاول إنقاذها، لتتوجه الطواقم الطبية إلى مكان الحادث، لكن دمير فارقت الحياة رغم محاولات إنقاذها التي دامت لمدّة 45 دقيقة.

وقال غورسو في إفادته للشرطة: "لقد اخترنا هذا المكان لنقضي لحظة رومانسية بعد طلب الزواج. شربنا بعض الكحول. حدث كل شيء دفعة واحدة. لقد فقدت توازنها وسقطت أرضاً".

وبينما تواصل الشرطة التحقيقات مع غورسو، تمّ نقل أصدقاء دمير إلى قيادة الدرك في منطقة بوزكادا لأخذ أقوالهم.

وقال أصدقاؤها إن البلدية تتحمل مسؤولية ما جرى، فالطرق في المكان الذي يأتي إليه الناس لمشاهدة الغروب "سيئة" ولا يوجد سياج لمنع سقوطهم إلى الهاوية.

المصدر: شفق نيوز

كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي تركيا زواج جريمة

إقرأ أيضاً:

جماليات الوصف وتعطيل السرد.. حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة أنموذجا

تتنوع الجماليات الروائية من عمل لآخر، وبإتقان الكاتب/المبدع واجتهاده في تشييد معمار روايته تكون لمساته أوضح وتأثيره أقوى. في الوقت ذاته، فإن إصرار المبدع على تجويد عمله ربما يدخله في عباءة عبيد الكتابة، على غرار تسمية الأصمعي ”عبيد الشعر“، التي أطلقها على زهير بن أبي سلمى والحطيئة من لف لفهم ولفيفهم من الشعراء. هنا يجد المرء نفسه بين أمرين، إما سماحة الطبع وسلاسة التعبير، وإما الصنعة محكمة التوليف قوية السبك والحبك، وأحيانا تتلبس المرء حالة من النشوة وهو يقرأ عملا يجمع بينهما، كالعمل الذي ندوزن على وتره في الأسطر اللاحقة.

تبتلع المرء حالة من الدهشة حين يجد هذا الإتقان وهذه السلاسة في العمل الروائي الأول، إذ إن كثيرين ممن يخبطون ويخلطون لا يعولون على جودة العمل، يراهنون على الدعاية في تسويغ أعمالهم وتسويقها، فتجد فقاعات روائية تطفو على السطح طفو أعمال فرانسواز ساغان، وسرعان ما تصبح أثرا بعد عين.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الشعر النَّبطي.. حكاية الأصل والبداياتlist 2 of 2محمد جبريل.. ختام 6 عقود من التجريب والإبداعend of list

رواية (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة) أولى روايات إيناس حليم، تتأسس على قصة واقعية لفتاة اختفت في أحد شوارع مدينة الإسكندرية المصرية، ما أدى إلى اختلاق رواية رسمية وروايات موازية، جنح بعضها إلى الخيال وربما الأسطورة. تتلمّس بطلة الرواية هذا الخيط بحثا عن ملابسات اختفاء ميرفت أحمد شحاتة، وخلال هذا البحث تكتشف نفسها ومحيطها، وتتشابك الأحداث وتتعالق القصص لتخلق عالما روائيا مركبا ومعقدا.

إعلان

(حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة) تقع في 313 صفحة من القطع المتوسط، تنقسم إلى مدخل واثنى عشر فصلًا، على النحو التالي: (البداية، البوابتان، غرفة الأسرار، الحميميات القديمة، طرق سرية، الميلاد/الموت، بحر آخر، العتمة/النور، اللغز، العنف/اللامبالاة، أسئلة إلى الله، الحكاية علامة شفاء الراوي)، متبوعة بالنهاية. طبعت الرواية مرتين، عام 2023، وفي العام التالي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة كتارا للرواية العربية.

تقدم إيناس حليم من خلال روايتها موازاة إبداعية تخييلية لحدث واقعي، فهذه موازاة فنية فاعلة، بمعنى أنها لا تقتصر على التسجيل أو التوثيق لحدث تاريخي، إنما تمتد إلى خلق عالم متواشج الصلة بين الواقع والخيال والأمس واليوم والغد، بتفاصيل ثرية ومعبرة.

قبل الخوض في غمار الرواية راودني سؤال غريب: ما الفرق بين شادن وصديق طفولة إمبرتو إيكو؟ وشادن -وأستبق طرفا من الأحداث- بطلة العمل، تسوق لنا حملة من القصص المنسوجة بإحكام على طريقة السجاد الإيراني، هذه الفتاة التي تحضّها والدتها الكاتبة العظيمة -الأكاديمية، أستاذة الميثولوجيا (علم الأساطير) بكلية الآداب- وتحرّضها على كتابة قصة (السيدة التي سقطت في الحفرة)، وكذلك فعلت راوية -صديقة والدتها- وفعلت جدتها ولو بصورة غير مباشرة؛ فكأنما تواطأ محيطها القريب والبعيد على إغرائها بكتابة هذه الحكاية، في حين أن إيكو لمّا كتب عن شيء حكاه له صديق طفولته، جاءته رسالة، ولكن عزيزي القارئ: هل تأذن لي في شيء؟ هل يمكن أن ينقل لك إيكو نص الرسالة بكلماته؟ لا أظنك تبخل عليه بهذه الفرصة، ولك الشكر سلفا.

يقول إيكو ”بعد أن نشرت روايتي (بندول فوكو)، كتب لي أحد أصدقاء الطفولة -كنت افتقدته منذ سنوات- قائلا: عزيزي إمبرتو! لا أعتقد أنني حكيت لك قصة خالي وخالتي المرضية لتستعملها كما تشاء، لذلك فمن غير اللائق أن توظّفها في روايتك“. عزيزي القارئ! وددت لو أطلعتك على رد إيكو، لكنني تناولت قبل ثوان علاجا يمنعني من إغراء الاستطرادات الجاحظية، فلعلي أخبرك برد صاحبنا بعد حين، لعلي!

إعلان

ونعود إلى ما كنا بصدده، فقولنا إن الرواية تعالج حدثا تاريخيا يدخلنا في ثنائية التاريخ والتخييل، وإن كان التاريخ -على سبيل التوسع والتجوّز- ضرب من الرواية، وهي مسألة عالجها كاتب هذه السطور في (رسالة الإمام.. التاريخ والدراما في منصات التواصل)، وعالجها كثر ضمن مناقشة اختلاف منهجية المؤرخ عن أسلوب الروائي، وبتعبير قاسم عبده قاسم ”إذا كان المؤرخ يقدم لنا (جثّة) التاريخ ويحاول تشريحها وفهمها، فإن الروائي هو الذي يجعل هذه الجثة تتحرك وتجري الدماء في عروقها، في عمل فني يعيش بين الناس ويتفاعلون معه… فضلًا عن أن الروائي يستخدم خياله بطريقة إبداعية حرة للوصول إلى ما يسميه النقاد (الصدق الفني)، أما المؤرخ فلا يمكنه أن يستخدم خياله إلا في إطار الاستنتاج والاستنباط والمقارنة التي تستند إلى حقائق تاريخية موضوعية لا يد له في صنعها“.

فضلًا عن التقنيات السردية المتنوعة التي توسلت بها كاتبة الرواية، بما في ذلك استدعاء التراث العربي والأساطير اليونانية، فإن هذا العمل شديد الاحتفاء بالوصف، من ثم أفردنا له مساحة أوسع من هذه الدراسة. ونظرا لصعوبة الإلمام -في سطور معدودات- بالتفاصيل السردية، فإننا سنركز على تقنية تعطيل السرد وتمثلاتها في رواية (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة)، ربما نتطرق لأشياء ذات صلة، سنرى.

(الجزيرة) تعطيل السرد

يعد تعطيل إيقاع/وتيرة السرد تقنية من تقنيات كتابة الرواية، وبالأساس يرتبط السرد بالزمن، ولفهم إيقاع السرد من حيث الإبطاء والإسراع يتعين معرفة الفرق بين زمن القصة وزمن السرد.

زمن القصة (الحكاية) هو زمن المادة الحكائية قبل تشكيلها الفني، المادة الخام التي قامت عليها الرواية، أو بكلمات أخرى التي أثارت فضول الكاتب ليكتب هذا العمل، فمثلا نجد ميلان كونديرا انشغل بفكرة ”العود الأبدي“ التي تحدث عنها الفيلسوف فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche، فكان ذلك سببا في ظهور رواية (كائن لا تحتمل خفته)، يقول كونديرا في الجملة الافتتاحية بهذه الرواية ”العود الأبدي فكرة يكتنفها الغموض، وبها أربك نيتشه الكثير من الفلاسفة“. وفكرة العودة الأبدية أو الدائمة ليست من كيس نيتشه، فهو مسبوق إليها، سبقه بها الفيلسوف اليوناني بيثاغورس/فيثاغورس Pythagoras، وليس هاهنا موضع مناقشتها.

(الجزيرة)

في رواية (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة)، نجد أن إيناس حليم استفزّتها مقولة لاكتها الألسن، مقولة تزعم أن ”شارع النبي دانيال يبتلع الفتيات“، وعليه عادت إيناس إلى الأرشيف الصحفي وتوصلت إلى تفاصيل أوردتها في الرواية، من ذلك قول الشخصية الساردة ”سلسلة التحقيقات عن لغز عروس الإسكندرية قد صدرت على مدار شهرين تقريبا، بين كل واحد منها والآخر أسبوع… ثمانية وعشرون عاما بالضبط هو الزمن الذي يفصل بين يوم اختفاء ميرفت واليوم الذي اختفت فيه عمتي ياقوتة، حيث اختفت الأولى في 26 مارس 1973، بينما اختفت الثانية في 26 مارس 2001“.

إعلان

وعليه فإن زمن القصة في (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة) يعود إلى 26 مارس 1973، وهو وهو توقيت اختفاء ميرفت أحمد شحاتة في حفرة بشارع النبي دانيال في الإسكندرية. وكما يتضح، فإن زمن القصة يقصد به زمن وقوع الأحداث المروية في العمل؛ فلكل قصة بداية ونهاية، ويخضع زمن القصة بالضرورة للترتيب المنطقي للأحداث، ويقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام والأشهر والسنوات.

أما زمن السرد (الخطاب) فيقصد به الزمن الذي يقدم السارد من خلاله القصة، ويكون بالضرورة مطابقا لزمن القصة، أو أنه الزمن الذي يستغرقه تقديم الجزء المسرود، ويتصرف السارد في زمن السرد وفق ما يحلو له، فلا يتقيّد بالترتيب المنطقي للأحداث، ولا يتحرك وفق الزمن الواقعي، أو ما يعرف بالخط الطبيعي للزمن. ولغة الرواية هي الأداة الوحيدة التي تصنع زمن السرد، فلا وجود لهذا الزمن خارج الرواية، لكونه ملتصقا بعمل تخييلي مادته الأساس هي اللغة، وكما أن الحكم هو الميقاتي الوحيد في المباراة، فإن السارد/الراوي هو الميقاتي الوحيد لزمن السرد.

في الزمن السردي، يعمل السارد على تسريع وتيرة/إيقاع السرد تارة، أو يعطّل السرد تارة أخرى، وربما يجنح إلى المفارقات/القفزات الزمنية للوراء أو ما يعرف بالاسترجاع، ولعله يستشرف المستقبل أو يتنبأ ببعض أحداثه -ربما تقع وربما لا- وهذا ما يسمى بالاستباق، في حين أن زمن القراءة ذلك الذي يصاحب القارئ وهو يقرأ العمل السردي.

وزمن السرد يُحدّ ويحدد بأول كلمة في الرواية وبها يبدأ زمن السرد، من ثم فإن زمن السرد في رواية (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة) يبدأ في 17 يوليو/تموز 2002، وهو وقت اختارته الشخصية الساردة ليكون البداية، أعلنت عن ذلك بكلمات في الفصل الأول من العمل، قالت ”الفصل الأول، البداية، الإسكندرية، 17 يوليو 2002، غرفتي“، بينما ينتهي زمن السرد بعد عام بالتمام والكمال، إذ اختارت الشخصية الساردة أن تنهي عملها في 17 يوليو/تموز 2003، وذلك بقولها في ختام العمل ”النهاية، الإسكندرية، 17 يوليو 2003، غرفتي“.

كذلك نميز طول النص من خلال عدد الأسطر والصفحات والفقرات والجمل التي يشغلها، لأنها تتعلق بالمدة الزمنية التي يستغرقها وقوع الحدث، وفي (تقنيات السرد في ضوء المنهج البنيوي) تقول يمنى العيد إن ”نعني بالمدة سرعة القص، ونحددها بالنظر في العلاقة بين مدة الوقائع، أو الوقت الذي تستغرقه، وطول النص قياسا لعدد أسطره أو صفحاته“، وفي (بنية النص السردي) يضيف حميد لحميداني ”من خلال استقصاء التفاوت النسبي ما بين زمن القصة وزمن السرد“. مع ذلك، فإن جيرار جينيت دعا إلى الإقرار بصعوبة مقارنة مدة حكاية ما بمدة القصة التي ترويها، ولن نتطرق هنا إلى ومن الكتابة وزمن القراءة تفاديا للإطالة.

إعلان

يتيح إبطاء الإيقاع للسارد/الراوي أن يقدم مشهدا حواريا أو وقفة/استراحة تأملية أو وصفية، ففي المشهد الحواري يكون زمن السرد وزمن القصة متساويان، وفي الوقفة يكون زمن السرد أطول من زمن القصة. تسريع السرد نقيض إبطاء السرد، ففي تسريع السرد يكون زمن القصة أكبر من زمن السرد، ويتحقق تسريع السرد من خلال التلخيص/الخلاصة والقفز/الحذف -عبر القفز على الفترات الميتة في القصة- بأنواعه المعلن منها أو الافتراضي أو الضمني، وهذا الأخير لا يخلو منه عمل روائي. أحيانا يستعمل تعبير تجميد الزمن مؤقتا مرادفا لإبطاء الإيقاع، لكن تجميد الزمن محل خلاف بين المنظّرين، ولذلك يكون إبطاء الإيقاع أنسب.

(الجزيرة)

نشير على جناح السرعة إلى أن بعض المتخصصين يستعمل كلمة الوقف بدلًا من الوقفة، من هؤلاء محمد القاضي في (تحليل النص السردي)، وسعيد يقطين في (تحليل الخطاب الروائي)، وغيرهما، بينما الوقفة نجدها عند سيزا قاسم في (بناء الرواية)، وإبراهيم خليل في (بنية النص الروائي)، وانفردت يمنى العيد باستعمال لفظة الاستراحة، وكلها في سياق ترجمة كلمة Pause من الإنجليزية، ويميز جيرار جينيت بين الوقفة الوصفية والوصف، فيرى أن الوصف لا يؤدي بالضرورة إلى وقفة، أما الوقفة الوصفية ففيها يتضخم النص ويغيّب الحكاية غيابا كليا وينعدم الزمن.

نعيد التأكيد على الفرق بين المشهد والوصف؛ ففي المشهد الحواري يتساوى زمن القصة مع زمن السرد، أما في الوصف فإن زمن السرد أكبر من زمن القصة.

ديمومة السرد أو مدة السرد تنقسم إلى قسمين؛ تسريع السرد وتبطيء السرد، فمثلا بعض اللحظات يستغرق استعراضها صفحات في حين أن أياما أو أعواما تذكر إجمالا في كلمات قلائل؛ فيكون إبطاء السرد من خلال المشهد الحواري أو الوقفة وصفية كانت أو تأملية، ويكون تسريع السرد عبر الخلاصة أو الحذف، وللحذف -في الكتب المتخصصة- مرادفات أخرى مثل القفز/الثغرة/الإضمار/القطع.

(الجزيرة) الوصف

في (مقاييس اللغة)، قال ابن فارس (ت 395هـ) ”الواو والصاد والفاء أصل واحد هو تحلية الشيء، ووصفته أصفه وصفا، والصفة الأمارة اللازمة للشيء، كما يقال وزنته وزنا، والزِّنة قدْر الشيء، ويقال اتصف الشيء في عين الناظر: احتمل أن يوصف“، وفي (لسان العرب)، قال ابن منظور (ت 711هـ) ”وصف الشيء له وعليه وصفا وصفة: حلّاه، والوصف وصفك الشيء بحِليته ونعته، واستوصفه الشيء: سأله أن يصفه له“، يفهم من ذلك أن الوصف يحمل البعد التداولي للكشف والإيضاح، فضلا عن الإخبار عن الموصوف وإبانته بصفات مخصوصة تميزه من غيره.

في (نقد الشعر)، يعرف قدامة بن جعفر (ت 337هـ) الوصف بصورة لا لبس فيها، ”أقول: الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات“، وعند ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) أن ”أحسن الوصف ما يُنعت به الشيء حتي يكاد يمثّله عِيانا للسامع… وقال بعض المتأخرين: أحسن الوصف ما قلب السمع بصرا“.

إعلان

الوصف كان لافتا في الرواية الفرنسية خلال القرن التاسع عشر، وتأخر اهتمام النقاد به كثيرا، فإن جيرار جينيت مثلًا تحدث عنه سنة 1966، ولم يتوسع في ذلك المقال، مما يحيلك على الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) في استعمال لفظة المغالطة، دون إفساح مجال للتعريف بها على غير مألوف عادته. عام 1972، تحدث جينيت مرة أخرى عن الوصف، وأضاف إليه التبئير ومشتملاته من المبئر والمبأر.

ويكاد يجمع البلاغيون الغربيون على تدني قيمة الوصف مقارنة بالسرد، من هؤلاء لوكاتش Lukacs وبول فاليري Paul Valery ومارسيل بروست Marcel Prost وأندري بروتون Andre Breton فالسرد عندهم عمدة والوصف فضلة! لكن جينيت يصل إلى نتيجة مفادها أن ”الوصف أكثر ضرورة للنص السردي من السرد، إذ ما أيسر أن تصف دون أن تسرد، لكن ما أعسر أن نحكي دون أن نصف“. على النقيض، احتفل الروائيون الواقعيون الغربيون بالوصف، بالغ فيه بعضهم حد الاستقصاء والإسهاب، وسيأتي تفصيل هذه الجزئية بعد قليل.

(الجزيرة)

أما في الاصطلاح الروائي، فإن الوقفة الوصفية تكون عندما يقطع السارد السيرورة الزمنية للأحداث وينشعل بالوصف، وقد تشهد الوقفة تجميد الزمن أو لا؛ فوفق جيرالد برنس Gerald Prince -في (المصطلح السردي)- الوقفة في العمل الروائي يراد منها الوصف أو التعليقات الهامشية، يقول ”الوقفة الوصفية توقف يفرضه الوصف“، ويقول أيضا ”ليست كل الوقفات وقفات وصفية، وبعضها يكون نتيجة للتعليق، وفضلا عن ذلك فليس كل وصف يفرض وقفة في السرد“، فإذا لم يحدث تغير في الزمن أو تغير في عالم الرواية خلال ذلك الوصف؛ فهذه وقفة وصفية.

وفي (معجم السرديات)، يقول محمد القاضي ”يعد الوقف أحد أكثر الحركات السردية إبطاء، وفيه يتعطل السرد وتعلّق الحكاية، ليفسح في المجال للوصف أو التعليق أو التأمل أو غير ذلك من الاستطرادات التي تدرج ضمن ما يسمى بـتدخلات المؤلف“.

إعلان

وحين وقف كاتب هذه السطور على جماليات الوصف في الرواية محل الدراسة، لاح له من بعيد ربّ السيف والقلم -لله دره- مترنما (إِذَا تَلَفَّتُّ لَمْ أُبْصِرْ سِوَى صُوَرٍ/ فِي الذِّهْنِ يَرْسُمُهَا نَقَّاشُ آمَالِي). على أنه من الغبن حصر جماليات هذا العمل في الوصف، فإن لأغلب التقنيات السردية حضورا لافتا بين دفتيه.

المقطع الوصفي

للمقطع الوصفي بداية ونهاية، أي أن يبدأ المقطع الوصفي بتمهيد ما، ينبه المتلقي إلى أنه أمام وصف ما لبعض الموصوفات (شخصيات، أمكنة، أشياء، أزمنة). التمهيد للمقطع الوصفي تستعمل فيه ”الملفوظات شبه السردية“ بتعبير فيليب هامون Philippe Hamon، وقد يكون ذلك عبر انتقال الشخصية بين الأمكنة المختلفة، من أمثلة تلك الملفوظات شبه السردية (فتحت لنا الباب، …)، وقد لا يُمهّد للمقطع الوصفي، ويبقى مستقلا بذاته طال أم قصر.

في الرواية محل الدراسة، تنقل لنا شادن/الذات الواصفة عالمها المرئي إلى مكتوب، لتدخلنا ذلك العالم ونشاركها فرادة تجربتها؛ فتقول ”غرفتي في الطابق الثاني داخل شقة من مستويين، في بناية كبيرة قائمة على أحد جانبي شارع الإسكندر إبراهيم، حيث تواجه نافذتي على الجانب الآخر مقهى النورس بواجهة مفتوحة على الشارع تطل على المارين بلا نوافذ. يجاوره دكان يبيع السجائر، بقالة يجلس صاحبها أمامها ليل نهار، وكشك يبيع الجرائد والمجلات، يعلقهم بالمشابك على حبل غسيل مثبت من طرفيه بمسمارين مدقوقين على واجهة الكشك. أمامه طاولة مستطيلة ومنخفضة رتبت فوقها روايات نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، أنيس منصور، يوسف السباعي وغيرهم بشكل عمودي لكل رواية، تكون أول نسخة منها في الغالب متربة وأحيانا ممزقة الحواف، تحمل معظم أغلفتها الرسومات الدرامية لدار الهلال، مطبوعات أخبار اليوم، ودار مكتبة مصر. تزاحمها فوق الطاولة نفسها سلاسل روايات الجيب، بينما ترقد فوق الصناديق الخشبية التي وضعها صاحب الكشك أمام الطاولة امتدادا لها مجموعة من كتب التنمية البشرية، كتب نصائح ليلة الزفاف والعديد من كتيبات وأشرطة الوعظ الديني“، ص15-16.

إعلان

المقطع السابق يدخلنا إلى مكان مخصوص، نتلمس تفاصيله ونشعر بمكوناته التي نستدعيها من الذاكرة، لنعيش مع الذات الواصفة هذه الأجواء، ويوحي بالانسجام بين الذات الواصفة والبيئة التي تحتويها، وبتعبير فيليب هامون فإن ”البيئة الموصوفة تؤثر في الشخصية وتحفزها على القيام بالأحداث، وتدفع بها إلى الفعل، حتى يمكن القول إن وصف البيئة وصف لمستقبل الشخصية“.

بالحديث عن فيليب هامون، فإننا نعرض -على عجالة- عناصر الوصف التي حددها، وهي (الرائي، أو السارد، أو الراوي، أو الذات الساردة، أو شخصية من شخصيات الرواية/ وسط شفاف/ فعل دال على الرؤية/ الموصوف/ المسافة/ الضوء).

إذا طبّقنا هذا النموذج على المثال السابق ”تواجه نافذتي على الجانب الآخر مقهى النورس بواجهة مفتوحة على الشارع تطل على المارين بلا نوافذ“، فإن الذات الساردة هي نفسها بطلة العمل أو الشخصية الرئيسية، والنافذة وسط شفاف، وتأتي أهمية النافذة في كونها تتيح للسارد/الراوي رصد المشهد في سكونه وحركته، مع إمكانية إيجاد المعادل المجازي الذي يرسمه الشكل البلاغي من خلال تقنية النافذة. والحال هذه، هل أغري القارئ العزيز أو أحثه ليقرأ كتاب (من النافذة) لعمنا إبراهيم عبد القادر المازني؟ لعلي أفعل ذلك لاحقا، لعلي!

(الجزيرة)

أما الفعل الدال على الرؤية/الملفوظ شبه السردي في المثال السابق فهو (تواجه، تطل)، والموصوف الجهة المقابلة لغرفة الشخصية الساردة، والمسافة قريبة إلى متوسطة تمكنّها من الوصف الدقيق ورصد تفاصيل الموصوف وجزئياته، إذ إن ”المشاهد لا تكون واضحة إلا بتقلص المسافة بين الواصف والموصوف إلى حدها المعقول الذي ينتج الرؤية الطبيعية والضرورية للأشياء“، والضوء طبيعي، وهذا الضوء قوي أيضا لأنه مشهد نهاري والشمس في كبد سماء يوم صيفي.

وتواصل شادن المقطع الوصفي بالحديث عن نافذتها وما تطل عليه، قائلة ”ترى نافدتي أيضا البحر من زاوية واسعة تضم الكورنيش والشاطئ ومظلات الشمس المتراصة على مساحتة الرملية في النهار، كأنها سقف واحد بلونين الأبيض والأزرق، شرائط طولية تلتقي عند نقطة واحدة في رأس المظلة“، ص16. وهنا نواصل مع الذات الساردة/الرواي، والنافذة نفسها الوسط الشفاف، والفعل الدال على الرؤية (ترى)، والموصوف الكورنيش وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، والمسافة قريبة إلى متوسطة، والضوء طبيعي قوي.

بعد التصوير الخارجي للغرفة، تعود الذات الواصفة إلى داخل بيتها، تقول ”جدران غرفتي -المتآكلة بفعل رطوبة البحر- تواردت عليها خلال الأعوام أشكال عدة من ورق الحائط، وملصقات بأحجام مختلفة بعضها يحمل صورا لأطفال عارين إلا من سراويل ملونة يرتدونها فوق حفاضاتهم، وبعضها الآخر يحمل صورا لفرق غنائية أجنبية مثل سبايس جيرلز، باك ستريت بويز، ملصقات للمغنية ماريا كاري، سيلين ديون، وأخرى لحميد الشاعري. آخرها كان ملصقا لمشهد رقصة التانجو بين بطلي فيلم السلم والثعبان، كنت قد اشتريته من رجل يمتلك فرشة لبيع الملصقات داخل النفق الذي نعبر خلاله من شارع الإسكندر إلى كورنيش البحر. كما اشتريت معه شريط كاسيت يحمل الموسيقى الخلفية لمشاهد الفيلم، ذلك الشريط الذي لم يغادر باب الووكمان لفترة لا بأس بها“، ص16-17.

هنا ما زلنا مع الشخصية الساردة ذاتها، والموصوف غرفة الشخصية الساردة، وفعل الرؤية (أشاهد، أرى)، المسافة قريبة، والضوء اصطناعي قوي.

إعلان

يندرج المقطع أعلاه تحت آلية الاستقصاء، فنجد السارد/الراوي يعمد يفكّك الشيء الموصوف إلى مكوناته، ويتحرك بنا في مسار أفقي ليتقصى محتويات المكان أو الشيء الموصوف، من ثم يتأسس الاستقصاء على تناول أكبر عدد ممكن من تفاصيل الموصوف، لذلك تطول المقاطع الوصفية وتتفرع. في مثل هذه المقاطع تقدم لنا الشخصية الواصفة ما يشبه التوثيق الفوتوغرافي أو الفيديوغرافي Videography لما تراه، فتضع بين يدي المتلقي رؤية بصرية تعتمد على الإدراك الحسي، دون تحوير للواقع أو إضفاء صفات غير مألوفة (غرائبية). هذا العرض الفيديوغرافي -إن صحّت التسمية- له دور في تقنيات تقديم المكان عبر الوصف؛ الرؤية المسحية، الرؤية العمودية، الرؤية التصاعدية، وسنتحدث عنها في مقال مستقل.

والاستقصاء في الوصف ليس جديدا على عالم الرواية، إذ نجد اللوحات الوصفية حاضرة في أعمال رواد الواقعية في الأدب الفرنسي أمثال أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac، غوستاف فلوبير Gustave Flaubert، بول بورجيه Paul Bourget. بعض كتّاب الرواية الجديدة من الفرنسيين -في طليعتهم آلان روب غرييه Alain Robb-Grillet- جعل الوصف أداة فنية مهمة، تعاملوا معها بما يمكنهم من الإبداع الروائي وتجاوز القص الواقعي الكلاسيكي، حتى أطلقوا عليه تسمية ”الوصف الخلاق“، وقدّم روب غرييه في أعماله استقصاءات عدة.

(الجزيرة)

في عالمنا العربي، احتفظ الاستقصاء لنفسه بحضور لافت، لعل من أشهر أمثلته ما نجده عند نجيب محفوظ في الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السّكرية)، فبلغ بالاستقصاء ما يكاد يدخل في عداد الوثائق الاجتماعية والتقارير الإحصائية أو كتابات الرصد الاجتماعي وتقارير المعاينة. هنا تكمن مشكلة الاستقصاء، أنه ربما يصيب المتلقي بالملل ويشلّ انسيابية السرد، من ثم يجب التعامل معه بحذر.

توجد تقسيمات متعددة للوصف، فالسرد المقيد بالوصف ينقسم إلى السرد الوصفي والوصف الموجه من السرد (بسيط، مركب، انتشاري)، والوصف الحر ينقسم إلى ثلاثة أنواع؛ الوصف الدال على انفعال داخلي، والوصف الممهد للحدث، والوصف الدال على الحدث. أما الوصف التصنيفي والوصف التعبيري فيتفقان في تقسيمهما إلى أربعة أنواع؛ وصف الشخصية، وصف الحدث، وصف المكان، وصف الشيء. ودفعًا للإطالة، سنكتفي في السطور التالية باستعراض أنواع الوصف الموجه من السرد.

إعلان الوصف الموجه من السرد

يتألف الوصف من ثلاثة أنواع؛ بسيط، مركب، انتشاري.

الوصف البسيط

يكون في صورة جملة وصفية مهيمنة وقصيرة تشتمل على تراكيب وصفية صغرى، يعد وسيلة للإثارة إذ يسعى للمحافظة على وضع غامض أو سردي بصرف النظر عن أوصاف أخرى للشخصية. لا يستطيع هذا النمط الوصفي مجاوزة دلالته التي يؤطرها السرد،

من أمثلته في الرواية قول شادن ”… هكذا وصفته أمي وهي تدخل غرفتي بجسدها الضئيل مثل عصا، ووجهها الشاحب مثل غيمة توشك على الإمطار“، وفي موضع آخر تتحدث عن نفسها وأمها ”وقفنا متواجهتين للحظات، جسد ضئيل أمام جسد ضئيل، وعينان متحديتان أمام عينين متحديتين.. زمنان مختلفان وجديلة ذكريات“، وكذلك ”أبي لم يكن صاحب مزاج يحتمل “، وفي موضع غيره ”حاملا حقيبته، ومتأبطا ذراع المرأة التي أحبها“.

ومن أمثلة الوصف البسيط ما تخبرنا به الذات الساردة عن طفلة التقتها على ناصية أحد الشوارع الجانبية لمحرم بك، تقول ”كان لها عينان بنيتان ذابلتان، وشعر معقوص في ضفيرتين سميكتين إحداهما تبدأ من أعلى رأسها لتمنحه مظهر بصلة، بينما تخرج الأخرى من تحت الضفيرة الأولى لتصل إلى ياقة زيها المدرسي المجعد مثني الأكمام والمفتوح من عند الصدر“، وعن عمتها ياقوتة تقول ”قابلتْ عدنان الشاب الوسيم ذا البشرة البيضاء المائلة إلى الشحوب، الوجه الذي يحمل ملامح محارب، العينين المتقدتين الخضراوين مثل غابة، والذقن الملساء مثل قعر صحن، الذقن التي كان يحك فراغها كل دقيقتين وهو يحكي كيف بدأ رحلته من الصفر حتى كبرت تجارته“.

الوصف المركب/المعقّد/التشجيري

يعتمد على التفريع المعقد، ينصب على شيء موصوف ينتمي إلى السرد، شريطة كون هذا المقطع معقدا، إما عبر الانتقال من الموصوف إلى أجزائه أو مكوناته، أو بالانتقال من المحيط إلى الموصوف، ومن ثم تتكثف أكثر من وحدة وصفية داخل المقطع الوصفي الواحد. يتحقق هذا الوصف من خلال أفعال السرد، والانتقال من وصف الشخصية إلى الأشياء وجمعها بمحيط واحد يحتاج مهارة إيداعية عالية.

إعلان

من ذلك مثلا أن الذات الساردة ”مررت من أمام وجهها مباشرة وابتسمت، لم تبتسم. انحنيت لأسألها عن الطريق الذي عليّ أن أسلكه للوصول إلى مكتبة البلدية؟ نظرت إليّ بعينيها الكسولتين لثانية أو أكثر، ثم أدارت وجهها إلى صبي مر من أمامنا في تلك اللحظة قائدا دراجة هوائية، وما أن اقترب منها حتى شدت قماش زيها المدرسي إلى أسفل لتفرد تجاعيده فوق جسدها الذي بلا طيات، ثم عدلت من وضع أكمامها المثنية وهي تتبعه بنظرة ساهمة حتى مضى إلى آخر الشارع واختفى“.

هنا نجد عددا من الأفعال السردية (مررت، ابتسمت، لم تبتسم، انحنيت، نظرت، أدارت، مرّ، اقترب، شدّت، تفرد، عدلت، تتبعه، مضى)، وكلها أفعال حركة تواطأت على رسم صورة وصفية معبرة، صورة جمعت بين شخصية الطفلة والفضاء (أحد الشوارع الجانبية لمحرم بك)، بما فيه من حياة وديناميكية، والانتقال من الشخصية (الطفلة) إلى أجزاء منها، تمثلث في شدها الزي المدرسي إلى الأسفل، وحرصها على فرد التجاعيد، وتعديل الكمين المنثنيين.

في المقطع اللاحق تقول ”عضت الفتاة على شفتيها المغمورتين حتى آخرهما بالحليب والشوكولاتة، ناولتها منديلا ورقيا لتمسحهما، ثم فتحت كفها ووضعت فيه جنيها يكفي لشراء (كيمو كونو) آخر، ما جعلها تبتسم لتظهر سنتيها الأماميتين منمنمتين ومتسختين. رفعت إصبعها السبابة ذا الظافر المتآكل لتشير به إلى جانب من سور مدرسة تظلله شجرة كبيرة من أشجار ذقن الباشا، وقالت: من هناك“.

نلاحظ أن الأفعال السردية في المقطع أعلاه (عضت، ناولتها، تمسحهما، فتحت، وضعت، تبتسم، رفعت، تشير، تظلل) تنتقل شيئا فشيئا من الشخصية إلى المحيط، والأفعال السردية تحمل طابع الوصف. تتابع مثل هذه المقاطع المركبة يخلق نوعا أرقى على درجات سلم الوصف، وهو نوع يكاد يقترب من السرد ويقترن به.

وفي مقطع آخر تقول الشخصية الواصفة ”فتح جدي البوابة ببطء كأنه يفتح باب مغارة، وقف لثوان ينظر إلى مؤشر عداد الكهرباء فوق الحائط المجاور للباب، ثم مشى أمامي في الممر المربع، وصعد درجات السلم حتى الطابق الأخير. أخرجت الطنجرة من الكيس البلاستيكي ووضعتها فوق طاولة المطبخ، طويت الكيس ثم وضعته داخل كيس آخر -مخزن الأكياس- خلف الباب.

كانت يدا جدي ترتعشان وهو يسكب مرق الفاصولياء من الطنجرة إلى داخل الصحن العميق، يومها جلسنا متجاورين فوق الأريكة الخشبية في صالة شقة الطابق العلوي، وضع الصحن مع رغيف خبر وثلاث حبات من الزيتون المخلل فوق صينية سوداء مزخرفة من الأطراف، مرسوم عليها باللونين الذهبي والأبيض سيدة ترتدي زيا يابانيا، تجلس فوق صخرة وسط بحيرة وتعزف على آلة موسيقية تشبه العود. وضع الصينية فوق طاولة جانبية كان مفرشها (التريكوه) مبقّعا بالصلصة، وكانت قصيرة بحيث يحتاج إلى الانحناء بجذعه كلما مد يده ليتناول لقمة جديدة“.

إعلان الوصف الانتشاري

أكثر تعقيدا من الوصف المركب، وفي الوقت ذاته يعد أعلى درجات اقتراب الوصف من السرد. يتخذ الوصف الانتشاري محورا في نقطة ما تسمح بمراقبة الأشياء والمشاهد واللوحات عبر صيغ سردية، وقد يتحول الوصف المركب يتحول إلى وصف انتشاري إذا انتقلنا من الموصوف إلى أجزائه وعرضنا تلك الأجزاء في هيئة جملة من المشاهد المتراكبة على نحو متسلسل.

تنقل لنا شادن هذا الموقف ”تأملتها بينما تمرر لسانها بشكل دائري حول الخط الفاصل بين البسكويتة وكرة الفانيليا، ليصنع طرفه المدبب منحنى أبيض في منتصفه خطان متوازيان على شكل طريق. تحاول أن تلعق الحليب الذي انزلق من كل الجوانب بفعل حرارة الجو، ثم تأكل ما تبقى من الكرة المثلجة قبل أن تذوب“، فنلاحظ وجود الأفعال السردية (تأملتها، تمرر، يصنع، تحاول، تلعق، انزلق، تأكل، تبقّى، تذوب)، مع عدد من النعوت (دائري، الفاصل، المدبب، متوازيان، المثلجة)، وكلها ترسم لوحة وصفية بإيقاع شعري، لوحة وإن ضُمّنت أفعالا سردية وحركة غير أنها لا تدفع بالأحداث إلى الأمام، إذ الغرض هنا الإيهام بالواقع، أو الصدق الفني في نقل المشهد.

فإن قال قائل إن هذا المثال داخل في عباءة الوصف المركب، قلنا إن الوصف الانتشاري يتألف من مشاهد متراكبة، من ثم يمكن أن يندغم هذا المقطع مع الذي يليه لتشكيل وصف انتشاري. المشهد الموالي على هذا النحو ”راقبتها حتى أنهت المخروط بالكامل، بعد أن خلعت الجزء الأخير من الغلاف المفضض المرسوم عليه دب أزرق يلمع رأسه تحت شعاع الشمس، ورمته تحتها ليستقر فوق غطاء بالوعة دائري منقوش، ثم رأيتها تقضم الجزء السفلي من البسكويتة وتمتص بشفتيها المضمومتين الشوكولاتة السائلة في قعرها بانتشاء“.

والحال هذه، فإن تراكب المشهدين الوصفيين بهذه الصورة ينتج وصفا انتشاريا أقرب ما يكون إلى السرد، إذ يحمل عددا وافرا من الأفعال (راقبتها، أنهت، خلعت، يلمع، رمته، يستقر، رأيتها، تمتص)، والنعوت (المفضض المرسوم عليه، أزرق، دائري منقوش، السفلي، المضمومتين، السائلة).

إعلان

ونجد مثالا آخر أطول وأوسع للوصف الانتشاري -أو جملة من الأمثلة المتلاحقة- بين صفحات الرواية، تحديدا في الفصل الأول، فنتعرف على صندوقين، نعرف محتوى الأول منهما، ثم نرى بالعين الساردة محتويات الصندوق الآخر، الذي يحوي هدايا عيد ميلادها الحادي والعشرين، وعدد هم سبع هدايا، تصفهم الذات الساردة وصفا شعريا تفصيليا لكل تلك الهدايا.

يقدم الدكتور عبد المالك مرتاض ما يستأهل الوقوف عنده بخصوص ”حدود التداخل بين الوصف والسرد في الرواية“، ودفعا للإطالة نحيل عليه ولا نستطرد فيه، فليرجع إليه من شاء ضمن كتاب (في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد) (الجزيرة)

يبدأ الوصف الانتشاري بهذا المشهد الوصفي المتمثل في تعريف المتلقي على هدايا عيد ميلاد بطلة العمل، إذ تحدثنا عما دار بينها وبين والدتها ”بنبرة حازمة طلبت مني أن أعتدل وأقف على الأرض كي أساعدها في حمل الصندوقين اللذين حملتهما بشكل رأسي فوق ذراعيها الممدودتين“، وكأن كل هدية مثل لوحة فنية، تعرض لنا مكوناتها بدقة وشعرية، فتقول ”لم يكن لغطاء الصندوق شريطة من القماش أو السلوفان، كان يدوي الصنع على نحو مؤثر، وكانت الهدايا موضوعة داخله بشكل عشوائي بحيث تختفي ملامحها تحت تلك القصاصات، حتى تلك اللحظة التي سوف تمتد إليها يد كي تلتقطها“.

وتنتقل من الموصوف (الصندوق الثاني) إلى أجزائه وتفصيل دقيق أو ميكروسكوبي؛ فتقول ”الهدية الأولى: ورقة مقطوعة من صفحة صفراء لجريدة قديمة، تتصدرها صورة لمبنى يمتلك واجهة رومانية الطراز ولافتة مثبتة تحت إحدى نوافذ ذلك المبنى، مرسوم عليها ثلاثة أهرامات تشير إلى مقر المؤسسة الصحفية بالداخل. أمام المبنى في الصورة حفرة كبيرة محاطة بسور حديدي قصير. كان عنوان الخبر مكتوبا بخط بارز أعلى الصفحة بصيغة سؤال: أين اختقت عروس الإسكندرية؟!“.

إعلان

فكأن هذه اللوحة بمنزلة مشهد وصفي، تتبعه بآخر ”الهدية الثانية: ساعة رملية، كرتان من الزجاج كأنهما حجرتان متصلتان بفتحة ضيقة“. قد يتسرب الملل إلى نفس القارئ حين يقرأ الآن أن هذا الوصف الانتشاري تمدد على مساحة 14 صفحة، لكنه حين يقرأ تلك الصفحات سيحدث غير ذلك، لماذا؟ لأن السارد/الراوي تفطّن إلى الأمر فعمل على تشظي الوصف وتجزئته، ليدخل بشيء من السرد، وربما اعتمد على تقنية المفارقات الزمنية، لتشويق المتلقي أو فتح أفق جديد، أو إضاءة ملمح ذي مغزى، كل ذلك يسهم في اجتذاب مشاعر المتلقي ويغريه بمواصلة القراءة ومعرفة مآلات الأحداث.

هنا يتجلى أمر على درجة من الأهمية، إذ إن الفصل المطلق بين السرد والوصف لا وجود له، كما أن الوصف التام بين الزمان والمكان مستحيل، قد يبدو ذلك ممكنا على المستوى الإجرائي، لكنه لن يتحقق على مستوى التطبيق، من ثم فلا استقلالية للسرد عن الوصف، ولا استقلالية للزمان على المكان، ولعل ذلك هو الذي أوحى للناقد الروسي ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin أن يجترح مفهوم الكرونوتوب Chronotope ويمثل مجموع خصائص الزمان والفضاء داخل كل جنس أدبي.

ويقدم الدكتور عبد المالك مرتاض ما يستأهل الوقوف عنده بخصوص ”حدود التداخل بين الوصف والسرد في الرواية“، ودفعا للإطالة نحيل عليه ولا نستطرد فيه، فليرجع إليه من شاء ضمن كتاب (في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد).

وظائف الوصف

عند النقاد المحدثين قيمتان للوصف؛ فنية ونقدية، ويرى جيرار جينيت أن للوصف وظيفتين أساسيتين؛ إحداهما زخرفية والأخرى رمزية وتفسيرية في آن واحد، أما فيليب هامون فيشير إلى خمس وظائف ينهض بها الوصف؛ أولا وظيفة الفصل التي تبرز مفاصل السرد، ثانيا الوظيفة الإرجائية أو التأجيلية وذلك بأن يؤخر الوصف نهاية انفراج مرتقب، ثالثا الوظيفة الزخرفية بما يدرج الوصف في نظام جمالي بلاغي، رابعا الوظيفة التنظيمية بتأمين التسلسل المنطقي لأحداث القصة ووضوحها وإمكانية توقعها، خامسا الوظيفة المبئرة حيث يُزوّد المتلقي بكم من المعلومات عن شخصية ما، غالبا ما تكون شخصية بطل الرواية.

إعلان

ويحدد منظّرو الواقعية ثلاث وظائف للوصف؛ الإيهام بالواقع مع تعميق الإحساس بالفضاء الروائي، وتأدية المعنى، ونشر المعرفة، وارتأوا أن الوصف يندرج ضمن أربعة أصناف؛ التزييني، التعبيري، التصويري أو التمثيلي، المنتج. يضيف غيرهم وظائف أخرى، فعلى سبيل الذكر يقول فيليب هامون ”يظل الوصف يظل إقناعيا وتأثيريا وحجاجيا، فالملفوظات الوصفية تشبه إلى حد ما القياس المنطقي“.

الوصف الزخرفي/التزييني/الجمالي

يمثل هذا اللون من الوصف لوحة جمالية للشخوص أو الأمكنة، بما في ذلك من تفاصيل جزئية مرتبطة بالموصوف، فيستقصي السارد الملامح الخارجية للموصوف مثل الشكل أو الهيئة والحجم واللون وما شابه ذلك. يملا الوصف التزييني فجوات/ثغرات النص، ويسمح للمتلقي بأن يلتقط أنفاسه من تتابع الأحداث، كأنما يؤهله أو يشوقه لما سيأتي من باقي الأحداث السردية.

يستلزم الوصف التزييني بالضرورة توقف سيرورة الزمن، وربما يعمد السارد من خلاله إلى تقديم صورة واقعية أمينة لما يراه، لتحقيق وظيفة أخرى وهي الإيهام بالواقع، فيضع الملتقي في قلب المكان أو أمام الشخصية التي يصورها بقلمه، وإن كان بعض النقاد يرى أن هذا النوع يمثل ”الوصف من أجل الوصف“.

هاهي الذات الساردة تصف لنا كأننا نبصر بعينها، أو نرى جماليات ما تصفه حسب تعريف ابن رشيق، تقول ”كنت قد نسيت في هذه اللحظة عطشي وجفاف حلقي، جلست لنصف ساعة على أحد كراسي الغرفة، كرسي ذهبي الحواف جلسته مبطنة بقماش أرجواني من القطيفة. تأملت أيضا دولاب الأطباق الذي يحوي تماثيل صغيرة من الكريستال، طقم لأكواب عصير وآخر للخشاف، طقم صحون لومينارك فرنسي، أطقم من الخزف الصيني معظمها منقوش بزهور، يضيء في وسطها طقم آخر يضم فناحين شاي بيضاء رُسم على سطحها الخارجي صورة لروميو وجولييت يرقصان في حديقة، وعلى الحافة العلوية للفناجين وبراد الشاي ودورق الحليب زخرفات ذهبية دقيقة“.

وتضيف في الفقرة التالية ”أضبطني أحيانا مستدعية لذكرى بعيدة، صورة لأمي وهي تصب لأبي الشاي والحليب في تلك الفناجين، ثم تضع شريحة من الكعك في فمه، قبل أن تبتسم له وتقبله.. أعتقد أنني لا يجب أن أذكر في أوراقي ذلك المشهد، بل مشهد آخر البحر هو خلفيته الرئيسة، حيث الكاتبة العظيمة تقف أمامه بقدمين حافيتين مغروستين داخل رمال شاطئ عايدة، ترتدي فستانا أصفر وتمنحه جانبا من وجهها ونصف ابتسامتها. وأنا على مقربة منهما، أحفر بألعاب الرمل كي أبني قلعة، وأشاهد أبي يقف خلف حامل اللوحات يرسمها ويعدل مرارا من وضعيه ذقنها“.

تلفت سيزا قاسم إلى أنه كلما ”دقت التفاصيل ازداد توهم القارئ بواقعية النص“، من ثم تنتقي الذات الساردة ما تصفه لنا، تصف بدقة ورشاقة وشعرية، وربما تصف بعض الأشياء أو الشخصيات على عجالة، ما يسمى -ضمن برنامج الوصف السردي- بالوصف الأولي أو الثانوي، ففي السجل المدني تصف أحد الموظفين بشكل عابر، تقول ”عندما سألني الموظف ذو الشارب الكثيف والرأس الصلعاء عن علاقتي بالمتوفاة لم أستطع الإجابة“، وقد سبقت الإشارة إلى أن الرأس في اللغة مذكر، ونضيف أن الكتف مؤنثة تأنيثا سماعيا، والبئر في العربية مؤثنة.

إعلان

هذا الوصف المتباين من التفصيل الحافل إلى الإجمال المتعالي ليس بجديد على الرواية العربية، امتلك روائيون كثر ناصية شعرية التفاصيل، من بينهم إدوارد الخراط وصنع الله إبراهيم وسليم بركات، لم أذكر يحيى حقي وإبراهيم عبد القادر المازني مع اقتدارهما لأنهما لم ينجزا روايات في شكلها المتعارف عليه، وتقتضي الأمانة أن نشير بتقدير إلى أن إيناس حليم تقدم هذه السيمفونية الوصفية في عملها الأول، وليس هذا في مقدور كل أحد.

آلية الانتقاء تأتي على نقيض الاستقصاء، ففيها إجمال وتلخيص لأهم ما يراه السارد مناسبا، فهو ينتقي شيئا بعينه يصفه لنا، وما يسرده يحقق تقدما على مستوى ما في العمل، ربما يتجلى مقصوده سريعا أو مع اكتمال الحبكة.

الوصف التعبيري/التفسيري/التأويلي

إذا كان الوصف التزييني يقدم صورة واقعية، فإن الوصف التعبيري يقدم صورة تشكيلية محملة بالدلالات، تشي ولو من طرف خفي بالأبعاد النفسية للشخوص الحكائية/الورقية، وتفسير سلوكها ومواقفها المختلفة في المتن الحكائي. يدندن الوصف التعبيري على وتر وقع الأشياء والأحداث في نفس المتلقي، والأحاسيس التي تتعلق بها وتنبعث منها، يتعلق هذا النوع بالعلاقات المنطقية من السبب والنتيجة، ولارتكازه على الإيحاء والتلميح فإنه يسمى كذلك بالوصف الإجمالي أو الانتقائي.

هنا أيضا يمتزج الوصف بالسرد، لينشأ ما يسمى بـ”الوصف السردي“، الذي يتميز بأنه لا يفرمل عجلة الزمن، لا يجمد الزمن أو يكبح حركته مثلما يحدث في الوصف التزييني، بل يسهم في تطور الأحداث ونموها وإن بوتيرة أقل من السرد الخالص.

من أمثلة الوقفة التأملية ما تسوقه الذات الوصفة ”وقفت ضائعة على ناصية أحد الشوارع الجانبية لـ(محرم بك)، أقاوم حرارة الشمس التي صنعت بركة ماء صغيرة بين نهدي تحت القميص القطني، وأقاوم معها حساسيتي تجاه السير في الطرقات التي لم أمش فيها من قبل. أفكر في مواجهة النزعة التي رافقتني منذ طفولتي كأنها نمت معي؛ نزعة تقبل الخسارات قبل أن تحدث، وكيف أنني قضيت حياتي أحفظ شوارع بعينها تؤدي إلى أماكن بعينها دون أن تواتيني الجرأة كي أنعطف إلى مسارات جديدة.. أنجز مشاويري مع الأشخاص أنفسهم، أجلس في المقاهي ذاتها، وأشتري ملابسي من محال محددة قادني إليها من قبل أقرباء أو أصدقاء“.

إعلان

في مقطع ثان تقول ”توقفت أمام المكان الذي رأيت فيه الفتاة بجوار المبنى القديم فلم أجدها، كان مكانها فارغا إلا من غلاف مخروط الآيس كريم الملقى على الأرض. وقفت أمام ذلك الفراغ أقاوم المشاعر التي استيقظت بداخلي مرة أخرى، ذلك الشعور بالتدني وتلك النزعة بتقبل الخسارات قبل أن تحدث، ورغبتي الصادقة في ألا تحدث. رغبتي في معرفة الحقيقة، كل الحقائق“.

من باب المصادفة أن المقطعين أعلاه يشتملان على لفظة (وقفت)، إذ يمكن استنتاج الوقفة التأملية دون تمهيد، لكن اللفظة جاءت في سياق الأحداث، فلا هي إلزامية في الجملة، ولا هي مقحمة في هذا السياق، إذ إن الذات الساردة كانت خارجة من المكتبة تقول ”خرجت من بوابة المكتبة وسرت عائدة من الطريق نفسه. كان جسدي قد جف من العرق تماما. توقفت أمام المكان الذي رأيت فيه الفتاة بجوار المبنى… إلخ“.

أسلفنا القول إن الذات الساردة قدمت لنا مسرح الأحداث -الفضاء المرجعي والفضاء التخييلي- بعدسة تصويرية، وقد يسأل سائل: ما الفرق بين التصوير الفوتوغرافي/الفيديوغرافي لمحيط بطلة الرواية والتصوير اللغوي الذي تقدمه المقاطع الوصفية؟ تتطوّع سيزا قاسم بالإجابة عن هذا السؤال، فتقول في (بناء الرواية) ما نصه ”نستطيع أن نفكر في التصوير اللغوي على أنه إيحاء لا نهائي يتجاوز الصور المرئية، ولذلك يجب أن ننظر إلى الصورة الروائية -أي تجسيد المكان- لا على أنها تشكيل للأشكال والألوان فحسب، ولكن على أنها تشكيل يجمع مظاهر المحسوسات من أصوات وروائح وألوان وأشكال وظلال وملموسات… إلخ“.

الرائحة وعبق الذكريات

”الحواس جسور“ بتعبير صاحب (الحكاية وما فيها)، لذلك أردفها بنصيحته ”وإذا كنا انطلقنا من فعل النظر وتحويله إلى فعل كتابة، يمكننا الآن توسيع مفهوم اختلاس الصور من العالم إلى سطور النص، بحيث نضمّ للبصر أشقاءه من حواس أخرى، هي الجسور الممتدة بيننا وبين كل ما يحيط بنا، وهي أيضا الجسور التي يمدها الكاتب ما بين قارئه والعالم الذي يسعى لتقديمه له، بكل ما يحتويه من صور وأصوات وروائح وطُعوم وملامس وغير ذلك“.

إعلان

لعل ذلك مما يميز الرواية عن السينما، فبوسع السينما أن تنقل لنا الأصوات والموسيقى وغيرها بطريقة تضاهي ما نقلته الذات الساردة ”أتذكر ذلك اليوم جيدا، وقفت أمام نافذة غرفتي أراقب الباعةرالجائلين في الأسفل، أتابع نغمات نداءاتهم أميل برأسي معها. أقلدهم وهم يمطون الواو واللام في (لاااااموووون)، أو يأكلون جزءا من حرف العين في (نعناع نعناع)، أو يختصرون أجهزة التلفاز والراديو والكتب والأواني المنزلية القديمة في كلمة (بيكيا).. طرقات بائعي الأنابيب، أسبتة المانجو الكبيرة التي يحملها رجال بجلاليب صفراء فوق رؤوسهم، ينادون على أسمائها كأنهم يُطلعون سكان الشارع على أنواعها التي كانوا يعرفونها بالفعل! أتأمل أداءهم، عرباتهم الخشبية الصغيرة“.

يسهل على السينما أن تضعنا في أجواء الأصوات، لكن من للسينما بنقل سحر الرائحة؟! هل عجز السينما عن ذلك كان من أسباب إصرار ماركيز على عدم تجسيد (مئة عام من العزلة)؟ لقد أطبق ماركيز جفنيه للأبد، ولن يعلم إلى يوم الدين أن والده وافق على تجسيد العمل، ولن يطرق مسمعه أن العمل أبصر النور في 2024، وأن نتفلكس بذلت جهدا كبيرا لتقترب من النص وتظل وفية لتفاصيله.

في الرواية محل الدراسة نجد حضورا لافتا للرائحة، بما يعزز الإيهام بالواقع ويورط المتلقي في عالم النص. تقدم لنا شادن بوصفها السارد/الراوي تعبيرات لغوية مركبة في صيغة الإضافة، مثل (رائحة الحزن، رائحة الشمعة)، أو في جمل أطول، من ذلك مثلا (كانت رائحتها تصل إلى أعمق نقطة في رئتيّ وتستقر فيهما لتصاحب أية روائح أخرى، رائحة جسد تشبه رائحة شجرة الياسمين، رائحة فشار جوجو مختلطة بروائح ساندوتشات الشاورما ورائحة زيت قلي البطاطس تنساب جميعها عبر شباك المطعم الصغير وتنفذ إلى أنفي، فأكتفي بها عن الوقوف في الصف الطويل، رائحة المخبز الإفرنجي المجاور، بدت بحرا له الزرقة نفسها، لكنه يحمل رائحة لا تشبه أبدا رائحة بحر الإسكندرية).

وكذلك نجد قولها (كلما تسللت رائحة الجوافة الناضجة إلى مجالسهم الليلية، يتمدد فوق السرير المنخفض الذي ما زالت تفوح منه رائحة بودرة التلك، تضع أيضا صحن بليلة رائحتها لا تشبة رائحة بليلة جدتي، تعريشة العنب المختلطة رائحتها برائحة عفونة قادمة من تركة بعيدة، في البيت الكبير الذي لم يكن قد شم قبلها أي رائحة لطفل، ستظل تلك الرائحة تلون ذاكرة الحي والميت -إذا كان للميت ذاكرة- لوقت طويل، حاولت مقاومة رائحة اليود القوية التي اخترقت أنفي فجأة، تفوح من بابها رائحة نفاذة ومدوّخة تشبه رائحة اليانسون، غرفة الدروس ذات الطلاء المقشر المعبأة برائحة تبغ رديء، مياه رائحتها كرائحة بول القطط، تتسلل من نافذتها إلى نافذته روائح طبيخها مع صوت محمد فوزي، كي تجذب رائحتها عددا هائلا من النمل، مالئا أنفي بقميصه الذي تفوح منه رائحة القرفة مختلطة برائحة أحلام مجهضة).

إعلان

وتحشد لنا جملة من الأماكن والأشياء التي تعبق بالرائحة، وإن لم تقل ذلك صراحة، فإنها تستدعي بالضرورة روائحها الملازمة لها، من ذلك (محمصة تسالي عرض البحر، أسبتة المانجو، كولونيا خمس خمسات، رائحة شجرة ياسمين، البطاطا المشوية، التين الشوكي، الطماطم، البطيخ، آيس كريم كيمو كونو، كرة الفانيليا، بسكويت الشمعدان، شكولاتة كوفرتينا، أطباق البليلة الساخنة، أطباق البيض بالعجوة، ساندوتش الفول أبو شطة، أم الخلول، دهانات الزيت، المقهى، السجائر، القهوة، الشاي، النعناع، عصير الليمون، الفرارجي، كشري التحرير، محل برنيس للحلويات، مربى خرز البقر، مولتو كرواسون، زجاجة من عطر كاشيت)، وذلك بالإضافة إلى عطور وأنواع الصابون في حمّام العمة ياقوتة.

(الجزيرة)

يغلب على ظني أن (حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة) لو أتيحت للدكتور رضا الأبيض، لضمّنها كتابه الرائق (الرائحة في نماذج من الرواية العربية)، وقد أهدتنيه الزميلة العزيزة والروائية العراقية القديرة ميسلون فاخر، ويدور في فلك رصد الرائحة وتأثيرها في عشر روايات عربية؛ (تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، (رائحة الصابون) لإلياس خوري، (رائحة الأنثى) لأمين الزاوي، (فخاخ الرائحة) ليوسف المحيميد، (رائحة القرفة) لسمر يزبك، (روائح ماري كلير) للحبيب السالمي، (روائح المدينة) لحسين الواد، (رائحة الجنة) لشعيب حليفي، (زرايب العبيد) لنجوى بن شتوان، (رائحة الكافور) لميسلون فاخر. الكتاب يقع في 294 صفحة من القطع المتوسط، صادر عام 2020، عن دار زينب للنشر، تونس.

أعود إلى ما استطردت عنه وأنقل قول شادن ”كل حدث يرتبط براحة فيبقى، كل الروائح التي يمكن أن يتخيلها شخص“. هل أذكّر شادن بأن الأنف في اللغة مذكر؟ هل أعاتبها على قولها ”أنفه الطويلة مثل طريق، ص73“؟ لعلي أفعل ذلك إن لقيتها يوما ما، وسمعتها تقول ”يسقط منها في بئر كبير، ص224“، فهل أطلب منها أن تخلع على البئر والكتف صفة التأنيث؟ ربما أفعل ذلك إن حادثتها يوما ما. كلمة عنوة مفتوحة الأول، ومعنى عَنوة الذّلّة خضوع والقسر والقهر، في حين أن (عُنوة) خطأ شائع، كذلك فإن كلمة جعبة مفتوحة الأول، والجَعبة وعاء مستدير على فمه طبق كان يتخذ لجمع السهام، ثم توسع استعماله، والضم (جُعبة) خطأ شائع، من ثم فإن ترك الضبط بالتشكيل أولى إذا خفي على المرء الصواب، لئلا يختلط الحابل بالنابل، ويُتوهم أن الشائع بالضرورة هو الفصيح أو حتى الصحيح!

إعلان علاقة الشخصية بالفضاء الروائي

من خلال ما تقدم، وبإيجاز، نقف على أن العلاقة بين الشخصية الرئيسية والمكان علاقة انتماء، فبينهما انسجام يكاد يصل درجة التماهي، اتضح ذلك على أصعدة عدة، فإن الرائحة قادرة على استعادة الذكريات، والذكريات ترتبط بزمان ومكان كما ترتبط بشخصيات وأحدث، ويظل الانتماء إلى الفضاء المحدد من أهم الروابط التي تصل الشخصية بفضائها المرجعي أو التخييلي.

تصحبنا شادن في الإسكندرية بوصفها الفضاء المرجعي للرواية، ونتابع تنقلها بين أحيائها (ميامي، محطة الرمل، شاطئ ستانلي، نوادي الأطباء والصيادلة والمهندسين والتجاريين، ملهى أرسطو، كازينو الشاطئ) وشوارعها (شارع النبي دانيال، شارع الإسكندر إبراهيم، شارع محرم بك، شارع العطارين، ناصية شارع فؤاد، شارع صفية زغلول، ساحة ميدان منطقة الرمل، مدخل شارع خالد بن الوليد، شارع السلطان حسين، سينما ريالتو، أمام مبنى وكالة صحيفة الأهرام، مئذنة مسجد القائد إبراهيم، مقهى السكرية).

كما تسوق الشخصية الرئيسية ذكرياتها الرقيقة وملامح حبها الأول، وزياراتها إلى مكتبة البلدية والسجب المدني والنزهة بالحنطور (عربات الأحصنة) …إلخ. تطلعنا على هذه البقع الضوئية في عالمها الخاص بحضور لساني/لغوي ينم على الإعجاب بالمكان والامتنان، بما يخلق لدى المتلقي حنينا إلى تلك الأيام الخوالي.

على النقيض، نجد علاقة التنافر بين ياقوتة -عمّة البطلة- التي اختفت فجأة، فهي امرأة شعرت بغربة نفسية بعد أزمة طلاقها، حاولت على مدار عامين أن تتكيف مع الواقع، فلما أن ضاقت بها الحيل قررت الاختفاء. يبدو أن والد شادن لم يقو على مجاراة الأحداث، فاختفى من حياة زوجه الكاتبة العظيمة،

عاشت الخالة نبيلة الشعور ذاته، فتنقل لنا شادن/الذات الساردة عنها بعد غرق وحيدها كارم ”تعاملت مع الموقف بملامح ساكنة كأنها كانت تتوقعه من سنين، كأن خسارة ابنها النهاية الأكثر منطقية لحكاية حياتها المخطط لها بصورة سيئة أصلا من البداية! واستكمالا لرحلة خساراتها التي بدأت بزوج قضى معها سنة واحدة فقط قبل أن يهاجر إلى كندا للأبد، ويترك (كارم) قطعة لحم حمراء تتمدد على ذراع أمه دون أن يسأل عنه أو أن يعرف عن أخباره شيئا… كانت خالتي نبيلة تربي ابنها بروح تعرف أنها تربي خسارة وتكبرها كي تأكلها هي نفسها في النهاية! تراقبه وهو يبكي… وكأنها تراقب دجاجة تعرف أنها ستذبح يوما ما“.

إعلان

يحيى الذي انفصل والداه فاختار أن ”يتقمص دور شخص لا يأبه بأي شيء في العالم، لا يكترث بانفصال والديه، ولا بتأخره في الدراسة في قسم إدارة الأعمال بمعهد الكينج مريوط، ولا حتى بسقوط البرجين في أمريكا“. الحالة النفسية لهؤلاء الأشخاص توحي للمتلقي بكيفية تعاملهم مع الفضاء/المكان، إذ تسيطر عليهم روح الهزيمة جراء الفشل أو الإحباط أو خيبة الأمل، فعمدوا إلى عدم التماهي مع المحيط، أو في أحسن الأحوال تعاملوا معه بشكل حيادي. من قبلهم نجد القصة التي تأـسست عليها الرواية تشي بعلاقة تنافر بين ميرفت أحمد شحاتة والمكان، وبعد اختفائها أحس زوجها بالضيق النفسي، فغادر الإسكندرية إلى ألمانيا بدعوى العلاج، إن صدقا وإن كذبا!

المشهد الحواري

الحوار من العناصر السردية الأساسية، وفي الاصطلاح السردي يقدم المؤلف الحوار على لسان شخصية من شخوص العمل الروائي، فيكون الحوار داخليا، أو أن يقدم الحوار بين شخصيتين أو أكثر، فيكون الحوار خارجيا. من البديهي أن يُخضع المؤلف شخوص عمله لمستوياتها الثقافية والفكرية والأيديولوجية والاجتماعية، فيتكلم كل منهم بلسانه وبما يتساوق مع فكره وثقافته وانتمائه.

أولًا: الحوار الذاتي (المونولوج)

ينقسم إلى الحوار مع الذات (مونولوج)، والحوار مع الآخر (ديالوج). الحوار مع الذات نوع من الخطاب يعرض ملفوظات الشخصية وأفكارها، وهو يقدم المحتوى النفسي للشخصية، وتسمية (المونولوج الداخلي) من مسكوكات الأديب الفرنسي إدوارد دو جردان Édouard Dujardin، وفي (المصطلح السردي) يعرّفه جيرالد برنس بأنه ”حوار طويل تفضي به شخصية واحدة، وليس موجها لأشخاص آخرين، وإذا كان الحوار غير منطوق -أي مؤلفا من التفكير ذي الصوت العالي للشخصية- فإنه يشكل مونولوجا داخليا، وإذا كان منطوقا فإنه يسمى مونولوجا خارجيا أو مناجاة للنفس“.

تقول الشخصية الساردة بضمير المتكلم ”أفكر في الزمن الذي تحدث عنه شكسبير… أتفرج عليه وهو يحول علاقات الحب البسيطة إلى معقدة، وكيف تتحول معه مشاعر الارتباك إلى يقين، ومشاعر اليقين إلى ارتباك! وكيف تتغير معه الأحكام وتتكشف معه الحقائق أمام أنفسنا وأمام الآخرين“. هذا مثال للمونولج الداخلي أو حديث النفس، وقد أضفى السرد بضمير المتكلم نوعا من الكيمياء أو الانسجام والتوافق والتواطؤ بين الأنا الساردة والأنا القارئة، إذ يصبح القارئ داخل حدود النص، يضحي شاهدا على تلك الأحداث، يمسي متماهيا مع تفاصيلها وتعقيداتها، يبيت مقبلا على متابعة القراءة بالاهتمام والفضول اللذين بدأ بهما رحلة القراءة.

إعلان

وكذلك ما نقف عليه في موضع آخر، إذ تقول ”اعتدت أن أتأمل مساحة التفاهم وهي تتقلص بينهما، وتذوب مثلما يذوب الثلج قبل تحوله إلى ماء، واليوم أفكر في السبب الذي جعل لا منهما يلقي بنفسه في حياة الآخر لأصبح أنا وليدة لحظة اللقاء تلك، لحظة الحب التي لم تكن على الأرجح لحظة حقيقية“. سيجد المتلقي نفسه مكان بطلة العمل، يشاركها مساحة التأمل والتساؤل، يفكر في تحولات العلاقات الإنسانية وتبدلها من حين لآخر، وتنثال على ذاكرته بطريقة التداعي الحر ما يعزز الأواصر والوشائج بينه وبين الذات الساردة.

يوجد نوع ثالث من المونولوج يعرف بالحوار الأحادي المسرود أو ”المونولوج المسرود“، ويعرفه برنس بأنه ”الخطاب الحر غير المباشر في سياق سرد الشخص الثالث، وفي المونولوج المسرود -كنقيض للسرد النفسي- فإن الخطاب المروري للشخصية يتمثل في كلمات يمكن التعرف على انتمائها إليه“. قول جيرالد برنس ”سرد الشخص الثالث“ يحيل إلى ضمير الغائب، ولعل القارئ العزيز يجد ما يشفي الغليل بهذا الخصوص في مادة (بين البنيوية الشكلية والتداولية.. دراسة تحليلية للإشاريات اللغوية في السياقين النحوي والتداولي)، وقول برنس ”سرد الشخص الثالث“ يحيل إلى المعرفة الكلية التي تتصف بها الشخصية الساردة؛ فيكون السرد بضمير الغائب وفق وجهة نظر السارد/الراوي.

ولا يمانع المتلقي في ارتضاء وساطة السارد، لأنه يود الوقوف على مضمرات القول واستبطان مشاعر الشخصيات الأخرى في العمل، ولن يتسنى له ذلك دون تلك الوساطة، ولأنه تماهى مع ضمير المتكلم آنفا وانعقدت بينهما وشائج الألفة، فإن تسويغ الوساطة يكون أسلس وسرع قَبولا، تأسيسا على قالة أبي الطيب (إِنَّ المَعَارِفَ فِي أَهْلِ النُّهَى ذِمَمُ).

والحال هذه، نجد في الرواية محل الدراسة صورا شتى لسرد الشخص الثالث، فكل ما نقلته شادن عن أمها/الكاتبة العظيمة، -أبيها/الفنان الكبير، عن جدّيْها وجدّتيْها، عن عمتها ياقوتة، عن خالتها نبيلة وابنها كارم، عن راوية/صديقة أمها وابنتها هند، عن مفيد فوزي في تحقيقه الصحفي، وعن باقي شخوص العمل إلى آخر هذه العنعنات- داخل تحت عباءة سرد الشخص الثالث، وهاك بعض الأمثلة.

إعلان

تقول شادن ”عمتي ياقوتة… عادت إلى الإسكندرية تحمل معها همها، وتضعه لنا كل يوم في الأطباق، تعلقه على الجدران، أو تسد به مجارير المياه، لتذكر كل شخص تحت سقف هذا البيت بحزنه، وبهشاشته.. حتى أنا“. نتعرف إلى الموصوف (ياقوتة) من خلال توسط الذات الساردة بيننا وبينها، وهاهي تخبرنا عن راوية ”فتحت لي هند الباب كعادتها بفتور، أجلستني في الصالون ودخلت المطبخ لتخبر راوية بأنني أنتظرها“.

وتخبرنا الذات الساردة عن الكاتبة العظيمة ”يومها غضبت بشدة، وتحول غضبها لأول مرة إلى صيحة عالية في وجه أبي على مسمع من أخته… ولأن أبي لم يكن صاحب مزاج يحتمل تذمر من يعيش معه ولو لساعة واحدة، فقد فعل ما تريده أمي، في الليلة نفسها“.

ثانيا: الحوار مع الآخر (الديالوج)

الحوار مع الآخر أسلوب أساسي في بناء الرواية، تتنوع أساليبه في استحضار كلام شخوص العمل، ويشمل الحوار المنقول/المعروض، والحوار المسرود. الحوار المنقول يتفرع إلى قسمين: مباشر/حر، وغير مباشر. لعل من المفيد للقارئ الكريم أن يقف على أهمية الحوار وارتباطه بتعدد الأصوات في عالم الرواية، وقد يساعده على ذلك مطالعة مادة (الحوارية وتعدد الأصوات.. ثورة ميخائيل باختين في عالم الرواية).

أولًا: الحوار المنقول الحوار المنقول المباشر: في الحوار المنقول المباشر يتساوى زمن السرد مع زمن القصة، وهذا مفاده أن مدة الحوار المشهدي في القصة تساوي مسافته في الكتابة. من أمثلة هذا النوع في الرواية، ما دار بين شادن/الشخصية الرئيسية وراوية صديقة والدتها، وجاء الحوار على النحو التالي: ”سألتني: بتكتبي رواية عن إيه؟! ”عن البنت اللي وقعت في الحفرة من سنين“، قلت. اندهشت أو ربما اصطنعت ذلك. ”ماكانتش بنت.. أنتِ عارفة، كانت متجوزة؟“ قالتها وصمتت للحظة.. ثم تابعت ”بس ليه اخترتِ تكتبي عن الحكاية ذي بالذات؟“. ماخترتهاش.. ماما اللي اختارتها. ”هتكتبيها عشان ماما اللي اختارتها؟!“ قالتها بتهكم. لأ. أومال هتكتبيها ليه؟ ”عشان نفسي أعرف الحقيقة“. في الرواية محل الدراسة نجد ثلاثة مقاطع حوارية أخرى قريبة الطول من المثال أعلاه، تنتمي جميعها للحوار المنقول المباشر، مع وجود حوارات أخرى موجزة. الحوار المنقول غير المباشر: في الحوار المنقول غير المباشر يترك السارد/الراوي لشخوص عمله عِنان الحكي، فيتحدثون بألسنتهم، ويستخدم كل منهم الضمير الذي يناسبه، ولا يتدخل السارد في كلام الشخصية بالإضافة أو الحذف، ينقل هذا النوع بطريقتين: إعلان الطريقة الأولى: أن يستخدم السارد صيغة فعلية تشير إلى الشخصية، مثل (قال، أعلنت، نادى، سمعت، صرخ)، أو غيرها من الأفعال التي تمثل معلنات القول، ويضعها السارد قبل كلام شخوصه الروائية. على سبيل المثال، سألت شادن جدتها عن اسم البنت التي سقطت في الحفرة، فحدثتها جدتها عن الأشباح ”قالت إن تلك الأشباح على نحو آخر لا تمنح حق ظهورها للجميع، تختار أشخاصا بعينهم كي يشعروا بتلك الأشياء وكي يرن في أذنهم صدى تلك الضحكات“. وفي موضع آخر نقلا عن أحمد إبراهيم بائع السمك شاهد عِيان واقعة اختفاء ميرفت أحمد شحاتة ”قال: شفت أوتومبيل رصاصي جاي بشويش وقرّب من واحدة ست تخينة، نزل منه شخصين حطوا على بقها منديل كبير زي الفوطة وزقوها في العربية… وبعدها سمعت الناس وهي بتقول واحدة ست وقعت هنا“. بالطبع لم يقل بائع السمك ذلك بلسانه لأنه أبكم، إنما هذه كلمات الدكتور عزيز المنوم المعناطيسي خبير في إشارات الصم والبكم، الذي ترجم بلغة الإشارة. الطريقة الثانية: ينقل السارد الحوار مستخدما معلنات القول، واصفا حالة القائل، مفسرا -في الوقت عينه- الحالة النفسية للشخصية القائلة، وبذلك يكون تدخل السارد تدخلا جزئيا يسبق كلام الشخصية الحكائية، ولا يلغي استقلالية كلامها وخصوصيته، من منطلق أن الكلمات التي يستعملها قبل كلام الشخوص لا تخرج الكلام من حالة المطابقة بين زمني القصة والسرد. تقول شادن/الشخصية الواصفة ”سألت جدتي فضحكت.. ضحكة عالية رن صداها بين جدران الغرفة ذات النافذة البحرية. ضحكة تعني أن ذلك حقيقي، لكنها لم تؤكد ذلك المعنى أبدا. والحقيقة أن جدتي لم تكن تؤكد أي معنى لأي حكاية! كانت تترك لنا مساحة لتخمين المعاني والدروس المصاحبة لحكاياتها، بالقدر نفسه الذي تترك فيه مساحة للشك في أن نهايات القصص التي حكتها هي ما قد حدث بالفعل!“. إعلان

 

ثانيًا: الحوار المسرود

في هذا النوع، لا يمنح السارد/الراوي الحرية لشخوصه للتعبير عن آرائها بنفسها، إنما يتدخل ويسرد كلام تلك الشخوص ضمن كلامه، فيفقد الشخصية الحكائية فرادتها ونبرتها التعبيرية والتأثيرية.

هذا المقطع ”التصقت بي أكثر وهي تهمس في أذني بأن أنزل من بيتها وأنتظرها عند مسجد النبي دانيال، مؤكدة أنها ستقابلني أمامه بعد عشر دقائق على الأكثر لتأخذني معها إلى مشوار. سألتها: مشوار على فين؟ فقالت: لمكان بيروح له كل اللي عايز يكشف المستور“.

ونجد كذلك ما تسوقة بطلة الرواية في مكتبة البلدية ”كنت أنقر بأصابعي المتعرقة على مجلد (البوابتان) حين سمعت السيدة صاحبة العلكة تقول إن الأطراف البرتقالية لورقة الصحيفة قد أكلت تاريخ الخبر. قالتها كأنها تصف نمرا يقطع بأسنانه جسد فريسة، مستطردة بأن ذلك التآكل لم يترك منه سوى تاريخ السنة (1973)، وأنها تحتاج إلى أن أحدد تاريخ اليوم والشهر بالضبط كي تستطيع مساعدتي!“.

في المشهد الحواري -كما أسلفنا القول- يتساوى زمن القصة مع زمن السرد، أما في الحوار المسرود فباستطاعة الراوي أن يسوق كما هائلا من المعلومات في إيجاز وتكثيف وإجمال، لأنه يقدم للمتلقي ما قالته الشخصية بكلماته الخاصة، وليس على لسان الشخصية نفسها، فيتصرف في ذلك كما يحلو له، أي أن زمن السرد يكون أقل من زمن القصة في الحوار المسرود.

وظيفة الحوار

الوظيفة الرئيسية لحوار الشخوص الروائية يتمثل في إثراء الحدث وتطوره ودفعه للأمام، ويكشف في الوقت ذاته عن مستوى وعي الشخصيات وتوجهاتها وانتماءاتها الفكرية والأيديولوجية ومعرفة حالاتها السيكولوجية، وكذلك الأحاسيس والمشاعر والعواطف، والعلاقات التي تربط الشخصيات بعضها ببعض داخل العالم الورقي/الروائي، فضلًا عن الإيهام بواقعية الأشخاص والأحداث، إذ المتلقي يجد نفسه مع هذه الشخوص الروائية وجها لوجه، فيسعى إلى فهم ما يعتمل في صدورهم بعيدا عن سلطة الراوي.

إعلان تسريع السرد

كنت عقدت العزم على تخصيص هذا المقال لتقنية تعطيل السرد في الرواية، ولا يفوت القارئ الألمعي أن كاتب هذه السطور أثبت في العنوان ”الوصف وتعطيل السرد“؛ مقدّما الخاص على العام للعناية من جانب، ولأن الأدلة قامت في نفسه على فسح مجال أوسع للوصف مقارنة بالحوار والسرد وغيرهما، فلم يعرّف -في مقالته- لغة واصطلاحا -وبتوسع- سوى الوصف، فلما أن كاد يختم مقالته، تراءت أمامه أبّهة المقابلة، وزين له شيطانه أن يعرض لشيء -ولو على جناح السرعة- من تسريع السرد.

وإمعانا في تزيين الأمر، همس له قرينة بكلمات دوقلة المنبجي (فَالوَجْهُ مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌ/ وَالشَّعْرُ مِثْلُ اللَّيْلِ مُسْوَدُّ/ ضِدَّان لَمَّا اسْتُجْمِعَا حَسُنَا/ وَالضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ)، وفي بعض الروايات (ضِدَّان لَمَّا اسْتُجْمِعَا حُسْنًا). والحال هذه، وبعيدا عن أن المنبجي من الشعراء الذين ضربت ألسنتهم أعناقهم، فلا بأس أن نذكر طرفا من تسريع السرد، وينقسم إلى نوعين التلخيص والحذف.

أولا: التلخيص/الخلاصة

يعمد السارد إلى تلخيص بعض الأحداث في كلمات قلائل، فكأنما يطوي الأحداث دون القفز عليها، وهذا يختلف عن الحذف. تقول شادن ”غاب الشاب لأسبوعين [أسبوعين] ثم عاد واعتذر منها“، وفي موضع آخر ”بعد أربع ساعات كاملة قضيتها في البحث بين صفحات تلك الجرائد لم أجد شيئا مهما.. ولا أي خبر على الإطلاق يخص عروس الإسكندرية“، وبخصوص محتويات صندوق جدتها تخبرنا الشخصية الساردة ”عرفت بأمر ذلك الصندوق بعد وفاة صاحبته بأربعة أشهر“، وكذلك نجد ”ثمانية وعشرون عاما بالضبط هو الزمن الذي يفصل بين يوم اختفاء ميرفت واليوم الذي اختفت فيه عمتي ياقوتة، حيث اختفت الأولى في 26 مارس 1973، بينما اختفت الثانية في 26 مارس 2001“.

ومن التلخيص في الرواية نجد: بعد أربع ساعات كاملة قضيتها في البحث بين صفحات تلك الجرائد لم أجد شيئا مهما.. ولا أي خبر على الإطلاق يخص عروس الإسكندرية، قطعت أمي علاقتها براوية منذ سنوات بعد أن شاع في الشارع خبر علاقتها الخاصة بفريد، كان فريد قد انتقل قبل سنوات طويلة من القاهرة إلى الإسكندرية، ماري في أيام شبابها كانت تحب شرب الشاي مخلوطا ببعض القهوة، بعد سنوات فسرت الحلم لنفسي، في أيامها الأخيرة كانت تشرب الماء في برطمانات المربى الزجاجية الفارغة، ستظل الكاتبة العظيمة ترى تلك النظرة بعد ذلك لسنوات كثيرة، ظل صالون الحلاقة للسيدات الذي كانت تمتلكه عائلة ماري… مغلقا لفترة من الزمن، اكتشفت مع مرور السنوات أن علاقتي براوية كانت أعمق بكثير من علاقتي بهند رغم فرق العمر الكبير، بعد سبعة أيام طرق أحد الرجال باب البيت الكبير طالبا خطبة خالتي العليلة، قبل ذلك بسنوات كان سطح البيت كله ملعبا لنا، كانت أمي خلال سنوات مراهقتي بارعة في الذوبان.

إعلان ثانيا: الحذف

يلجأ السارد إلى القفز على أحداث عدة في الحكاية دون الإشارة إليها، فيُسقط من حساباته زمنا طويلا أو قصيرا بما يتناغم مع مقصوده. قد يكون الحذف محددا أو غير محدد، فمن الحذف المحدد نجد قول الشخصية الساردة ”مرت السنوات، مضت الأيام، بعد أيام“، ومن الحذف غير المحدد ”منذ أن اختفت عمتي ياقوتة“.

يميّز جيرار جينت Gérard Genette بين الحذف الصريح والحذف الضمني؛ فالحذف الصريح يكون مصحوبا بإشارة زمنية مثل (ساعة، يوم، أسبوع، شهر، سنة… إلخ)، والحذف الضمني يدركه القارئ فقط بمقارنة الأحداث بقرائن الحكي نفسه.

ووفق ما تقدم، فإن الفرق الجوهري بين التلخيص والحذف أن الخلاصة تتضمن ذكر الأحداث إجمالا من دون تفاصيل، أما الحذف فترد فيه الإشارة إلى المدة الزمنية -المحددة أو غير المحددة- ولا تذكر فيه الأحداث.

عزيزي القارئ الكريم الصبور! هل أطلت عليك؟! سامحني، وددت لو حدثتك عن التقنيات السردية الأخرى بما في ذلك عتبات النص، دلالات ضمير السرد، القفزات الزمنية، وجهة النظر والتبئير، التناص بأنواعه، الإحالات في الرواية، التخييل الأدبي ودلالات الحكايات الشعبية والأساطير، غير أن النّعاس يخطب إلى عينيّ حاجته، فأعتذر عن متابعة الحديث، وإلى لقاء، والقول أنُف!

مقالات مشابهة

  • مصرع سيدة سقطت من الطابق الرابع بالشرقية
  • جماليات الوصف وتعطيل السرد.. حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة أنموذجا
  • آية عادل.. قصة مصرية بالأردن سقطت من شرفة منزلها وزوجها متهم
  • سقطت من قطار.. بتر قدم سيدة بإحدى قرى الدقهلية
  • مدان في قضية الإستيلاء على عقار الغير بالناظور يدعي النفوذ في القضاء ويهدد الصحافيين بالسجن
  • أثناء نشر الغسيل.. دفن جثة طالبة سقطت من الطابق الرابع بالطالبية
  • ياسمين عز: السعادة الحقيقية تكمن في الاستقلالية وتحقيق الذات
  • مصرع طالبة سقطت من الطابق الرابع في الطالبية
  • سقطت من الطابق السابع.. اتهام مصري بقتل زوجته في الأردن
  • انقاذ خيالي لشاب مصري سقط من قمة جبل بمنحدر قاتل