النفاق المناخي.. استهداف المنشآت البيئية في غزة
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
بينما كان قادة العالم يجتمعون في مؤتمر "كوب 28" (قمّة المناخ) في دبي يُناقشون كيف يُمكن تقليل انبعاثات الكربون وبصمتنا البيئية على الكوكب، كان الجيش الإسرائيلي مشغولا بتحويل غزّة إلى مكان غير قابل للحياة، ليس باستهدافه المدنيين الأبرياء وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم فقط، وإنما من خلال استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت الطاقة المتجددة ومنشآت تحلية مياه البحر والآبار ومحطات معالجة الصرف الصحي، يقصف ويدمر هذه المنشآت ضاربا بعرض الحائط كل "القيم البيئية" التي تُنادي بها "البعثة الإسرائيلية" إلى مؤتمر المناخ.
في هذه الحرب كان للمستشفيات حضور بارز، فاستهداف المستشفيات كان هدفا مُعلنا وواضحا، وبالتالي كان كل ما يعزز صمود هذه المستشفيات مستهدفا مثل لوحات الطاقة الشمسية فوق أسطح المستشفيات، بغض النظر عن أثرها في تقليل الانبعاث الكربونية التي تنعقد من أجلها مؤتمرات المناخ.
والطاقة الشمسية في هذه الحرب كانت مستهدفة بشكل أساسي ومقصود، فمع الحصار على غزة (منذ 2007) ثم مع تشديده بشكل خانق مع بدء حرب طوفان الأقصى، كان الاعتماد على الطاقة الشمسية يتعاظم بشكل لافت، فبين العامين 2015 و2017 ارتفع عدد المواقع التي تنتج الطاقة الشمسية من 591 موقعا إلى 3456، كما يؤكد الخبير البيئي جورج كرزم في مقالته التي كتبها في يونيو/حزيران 2022 وجعل عنوانها "الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء في غزة وتتحدى النفاق المُناخي الإسرائيلي"[1].
ووفقا لدراسة حديثة من معهد "سي إس آي إس" (CSIS) عن الطاقة الشمسية في وقت الحرب، فإن استغلال الطاقة الشمسية في قطاع غزّة حقق أرقاما لافتة قبل الحرب، فقد وصل عدد مواقع إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية إلى 8760 في عام 2019، وقُدّر العدد قبل حرب عام 2023 بنحو 12400 سطح مُنتج للكهرباء من الطاقة الشمسية، ووفقًا للتقدير فإن ثُلث المواطنين الغزيين ونحو 50% من أصحاب المصالح التجارية يعتمدون على الطاقة الشمسية[2].
وفي الحرب ومع انعقاد قمة المناخ أصبح النفاق المناخي الإسرائيلي واضحا وضوح الشمس، فكثيرة هي الصور التي انتشرت لاستهداف ألواح الطاقة الشمسية، وأكدت ذلك تحليلات لصور الأقمار الصناعية من تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لفحص وضع أكبر 29 سطحا لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، فقد اتضح أنه استُهدف 17 منها (60% منها) ودُمرت بشكل جزئي أو كلي بحجة أنها تنتج طاقة لأهداف عسكرية[3]، بينما هي في الواقع موجودة في منشآت مدنية مثل المستفشيات، وتساهم في تعزيز صمود الغزيين ورفضهم لمخططات التهجير القسري، والأكيد أنه مع انتهاء الحرب يُمكن فقط أن نعلم حجم الدمار الذي لحق بنظم الطاقة الشمسية في غزة.
محطات التحلية وشبكات المياهلم يقتصر الدمار على الطاقة الخضراء، فحتى المياه التي هي حق أساسي لكل إنسان كانت سلاحا هذه المرة مثل غيرها من المرات، فقصف المنشآت المائية واستهدافها ليس جديدا على جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ففي كل عدوان على غزّة كان يتم استهداف المنشآت المائية وبشكل "مقصود"، بل حتى قبل حرب 2008 وتحديدا في 4 ديسمبر/كانون الأول 2008 نشر معهد جنيف للسلام بأن "الماء تحول إلى سلاح في صراع الشرق الأوسط[4]"، ومع اندلاع حرب 2008 تفاقم الوضع أكثر مما جعل الوضع مع نهاية الحرب كارثيا بما يتعلق بعملية التخلص من المياه العادمة في قطاع غزة، والإمداد بمياه الشرب[5].
كما كان استهداف المنشآت المائية حاضرا في عدوان 2012 و2014 و2021 بشكل لافت، ففي 2012 قُصفت 12 بئرا من آبار المياه[6]، وفي 2014 دُمر خلال العدوان 9 آبار مياه وعشرات الخطوط وشبكات المياه في المنطقة الشرقية من المدينة. وأكدت بلدية غزة حينها بأنه كان استهداف مُتعمدا[7]، كما أشار د. أمل صرصور في دراسة عن الآثار البيئية للعدوان بأن 70% من المنشآت المائية تضررت[8]. وفي عدوان 2021 نشرت منظمة يونيسيف تقريرا يُفيد بأن 50% من شبكة المياه تضررت خلال العدوان وأن نحو 800 ألف شخص لم يكن بمقدورهم الحصول على المياه من الشبكة بسبب الأضرار الكبيرة التي لحقت بالآبار والخزانات الجوفية ومحطات تحلية المياه[9].
وقبل حرب 2023 بُذلت جهود دولية وفلسطينية كثيرة من أجل إصلاح وتحسين الوضع المائي في غزّة، حتى أقيمت محطات تحلية مياه البحر مثل محطة التحلية في خان يونس التي كانت من الأهداف الأساسية للتدمير إلى جانب تدمير 50% من الآبار الصالحة للاستخدام مثل بئر أبو حصيرة وبئر سيفة وبئر غبن ومعظم آبار منطقة جباليا، كما دُمر خزّان المياه في تل الزعتر ودُمر 30 كيلومترا طوليا من شبكات المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى محطة عامر للضخ ومنشآت كثيرة أخرى ما زالت تُدمّر في ظل هذه الحرب المستمرة.
وللتعبير عن حجم المأساة في قطاع المياه، يكفينا أن نَذكر ونُذكّر بأن حصة الفرد من المياه للفرد في غزة وصلت إلى ما بين 2 و3 لترات يوميا، علما بأن النسبة الموصى بها عالميا هي 100 لتر يوميا، وربما أكثر القراء يستهكلون أكثر من ذلك، والمصيبة أن 97% من المياه ملوثة[10].
استهداف التُربةلا يقل استهداف التربة خطورة عن استهداف الطاقة والمياه في غزة، فالتربة بالنسبة للمزارعين الغزيين هي مصدر المعيشة والرزق وهي دون شك مصدر الغذاء، وكل دمار في التربة هو دمار في إنتاج الأرض.
كما أن الفوسفور الأبيض المحرم دوليا الذي يستخدمه الجيش الإسرائيلي في غزة وفقا لمنظمات حقوق دولية -مثل هيومان رايتس ووتش- يساهم في دمار التربة والبيئة بشكل كبير، ويؤدي إلى حروق للبشر. وليس الفوسفور الأبيض وحده، فمع الحرب والقصف المهول الذي يتعرض له قطاع غزة، هناك عناصر كيميائية تتسرب إلى التربة الزراعية مثل "التنغستن" و"الزئبق". ووفقا لدراسة نشرتها مجموعة أبحاث الأسلحة الجديدة (NWRC) أجريت على التربة في منطقة بيت حانون عام 2009، وُجد أن عنصر التنغستن يوجد بأكثر من 20 ضعفا من المستوى المتوقع في التربة، كما أن نسبة الزئبق كانت موجودة بأكثر من 8 أضعاف المستوى المتوقع[11].
ويُعد "الصرف الصحي" أحد أكبر الملوثات للتربة والمياه والبيئة، فبعد قطع الوقود عن مرافق معالجة الصرف الصحي واستهداف خطوط الصرف الصحي، فإن هذه المياه الملوثة بكل ما فيها من جراثيم وميكروبات تساهم في نشر الأمراض والأوبئة، وهو ما قد يُضاعف من حجم آثار الكارثة البيئية، فحتى نتنياهو نفسه حين وجد معارضة شديدة عندما سمح بإدخال كمية من الوقود إلى غزة، قال إنه يخشى من إمكانية انتشار الأوبئة[12]، ودون شك كان يقصد إصابة جنوده بهذه الأوبئة أو أن تصل إلى المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال.
الحقيقة التي يتناساها كثير من "الخبراء الإسرائيليين" الذي يُغمضون أعينهم عن هذا الدمار، وربما يُباركونه، أن هذا الدمار لا يلبث كثيرا حتى تصل آثاره إلى خارج حدود "المعارك"، فالبيئة لا تعرف الحدود السياسية والعسكرية، وعندما تُدمر البنى التحتية للصرف الصحي في غزّة وفي مستشفياتها، فإن الصرف الصحي سيتسرب مع مياه الأمطار والفيضانات إلى الوديان وصولا إلى البحر، ومن هناك ستجد كُل الملوثات والجراثيم وحتى النفايات طريقها إلى الشواطئ الإسرائيلية التي كانت تعاني أصلا من التلوث (مثل شاطئ زيكيم) قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول[13]، فكيف به بعد تدمير منشآت الصرف الصحي؟
هذا الكلام يؤكد أن الذي يُحاول تدمير "البيئة" في غزّة، فإن آثار الدمار ستصله عاجلا أم آجلا، ومن تجوّل على شواطئ حيفا الجنوبيّة بعد العواصف التي كانت خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني لا بُد وأنه شاهد بعض "النفايات" التي وصلت من غزة، وهذه دليل آخر على أن "التلوث" لا يعرف الحدود، سواء أكنا نراه ونلاحظه أم لم يكن مرئيا وملحوظا.
الأكيد أنه وحتى الآن، لا يُمكن أن نقدر حجم الضرر البيئي لهذه الحرب التي دُمر فيها كُل شيء في مُحاولة لجعل أرض غزة غير قابلة للحياة. فبالتوازي مع استهداف البشر واستشهاد أكثر من 20 ألفا وجرح أكثر من 50 ألفا، فإن كل ما يمكن أن يعزز صمود الغزيين في أرضهم استُهدف.
إن استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت المياه والطاقة وحتى تدمير التربة لم يكن عشوائيا وعارضا، بل مقصودا ومتعمدا، وهذه جريمة حرب ليس بحق أهل غزة وفلسطين فحسب، بل بحق البيئة والمناخ. وكان الأحرى بقمّة المناخ (كوب 28) أن تُكرس من وقتها لهذه الجرائم البيئية عوضا عن الشعارات البيئية الفارغة. وكما تقول الناشطة البيئية غريتا تونبيرغ "لا عدالة مناخية في أرض محتلة".
______________________________
المصادر:
كرزم، جورج 2022: رغم الحصار الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء في غزة وتتحدى النفاق المناخي تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime موقع swissinfo.ch: "الماء تحول إلى سلاح في صراع الشرق الأوسط" نُشر بتاريخ 4 ديسمبر 2008 موقع دويتشة فيله: قطاع غزة.. تلوث في مياه الشرب ونقض في الموارد المائية نُشر بتاريخ 28/8/2009 موقع أونروا – غزة مكان ملائم للعيش 2020 ؟ : نُشر بتاريخ 28.8.2012 موقع دنيا الوطن – بلدية غزة: الاحتلال استهدف مصادر المياه في غزة بشكل متعمد: نُشر بتاريخ 5/8/2014 صرصور، أمل 2014: Impact of the last Israeli Military Operation on the Vital Environmental Sectors in Gaza Governorates, 2014 يونيسيف: تقرير منشور بتاريخ 21.5.2021 هيئة ACAPS، تقرير عن المياه في غزة خلال الحرب نُشر بتاريخ 13/12/2023 هيئة NWRC في تقرير عن تلوث التربة في غزة – نُشر 17/12/2009 موقع والّا الإسرائيلي: تقرير "نتنياهو يرفض الادعاءات عن إدخال الوقود إلى غزة: "بدونه سيكون من الصعب مواصلة القتال" منشور بتاريخ 17.11.2023 موقع زمان الإسرائيلي: تقرير بعنوان "كارثة بيئية في ظل الحرب: مياه الصرف الصحي تتدفق مرة أخرى من غزة إلى شواطئ إسرائيل" نُشر بتاريخ 16/10/2023المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الطاقة الشمسیة فی استهداف المنشآت المنشآت المائیة الصرف الصحی هذه الحرب المیاه فی قطاع غزة قطاع غز أکثر من فی قطاع الذی ی فی غزة
إقرأ أيضاً:
في روايته الفائزة بكتارا.. الرقيمي يحكي عن الحرب التي تئد الحب وتعبّد الطريق للمنافي
ينصرف الروائي اليمني حميد الرقيمي عن استحضار زمن يمني غابر، تاركا خلفه حنينا غامضا إلى "يمن سعيد"، لا ينشغل بالبكاء على الأطلال، ويطلق شخصياته في رحلة بحث عن الخلاص، إذ تفر من الموت في البر لتلقاه في البحر.
وفي روايته "عمى الذاكرة" الفائزة بجائزة كتارا للأعمال المنشورة يستعيد الرقيمي ما ألفه من عمله مراسلا حربيا، فيقدم صور الحرب وأهوالها عبر سرد يتقطع حينا ويتصل حينا آخر، تتداخل فيه الأصوات وتتشابك المصائر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"أنجز حرٌّ ما وعد".. العهد في وجدان العربي القديم بين ميثاق المروءة وصوت الشعر الجاهليlist 2 of 2الشرق والغرب وسؤال الاستقلال الأدبي.. آرثر سي شاعر الولايات المتحدة ذو الأصول الصينيةend of listبين جثتين يبصر "بدر" أو "يحيى" الحياة، وباسمين يعيش، إذ يُنسب إلى والدين: أحدهما بيولوجي، والآخر راع ومرب ومعيل، جده هو ذاكرة البلاد، ذاك الذي يروي للكاتب التاريخ ويستشرف له زمنا أشد حلكة مما عاشه.
يفتتح الراوي الحكاية بمشهد سينمائي مكثف يُطارَد فيه البطل من قبل قاتل مجهول أثناء هروبه من صنعاء تحت وابل من الرصاص، لكن الظلام يحميه في رحلته.
ويختتم الرواية بمشهد سينمائي آخر يُلقى فيه البطل على أسطوانة في عرض البحر مغشيا عليه، قبل أن يُنقَذ على يد بحارة يأخذونه إلى جزيرة لامبيدوزا حيث مخيمات اللجوء.
في البدء كانت الحربوما بين البدء والختام تمتد حكاية الحرب، إذ "الموت معلق على نوافذ المدينة، وتخرج الظلمة لمواجهة فجر جديد، وعلى ثوبها دم مسفوح بلا هوية، أطفال تناثرت ملامحهم على الغيوم، وصار من المخيف أن تبحث عن طفلك المفقود".
ويرسم الرقيمي لوحة أخرى للحرب "عندما سقطت القذيفة أمامك لم تستوعب الأمر، لم تكن تدري أن الحرب على الأبواب، وأن جماعة خبيثة قادمة للنيل منك، كنت في طريقك إلى البيت تحمل على كتفيك حقيبة حلمك، سقط الموت على مقربة منك، خفت، أخذتك دوخة غريبة، كنت على الأرض، عيناك بالكاد تُفتحان، حولك جثث مرمية وأناس يتعلق سوادهم بأعمدة من لهب، وأنت وحدك الشاهد الذي لن يدلي بشهادته حتى الرمق الأخير".
ويتابع "حينما سمعت أحدهم يطلب ماء لم تقدر على الحركة، كان ينازع الموت، أشار لك بالماء بعد أن فقد صوته، كان يُخرج لسانه والدم يسبق ريقه، أراد أن يحرك يده من أجل أن يلمس لسانه الأحمر، لكنه مات أمامك".
إعلانلا تقول الرواية من يقتل من، ولا يُعنى الراوي بتجريم القاتل، بل يمضي في رحلة إلى دواخل الضحايا، إذ تشطرهم الحرب وتصادر آدميتهم وتتركهم للفراغ ورحلات عبث إلى المنفى، يترك وراءه جدل السياسة ومقولات الأيديولوجيا.
View this post on InstagramA post shared by Katara Cultural Village كتارا (@kataraqatar)
من يقتل من؟بين جيلين يوزع الرقيمي شخصياته، فالجد أحمد يمثل الجيل القديم وحكمة البلاد، وإن شطرته حرب أولى وتركت حكمته، ورؤيته للخلاص هي ترك البلاد.
"كان جدي يقول وأنا على حجره مسندا رأسي: إن الإنسان الذي يخرج عن طوره في لحظة الرفض حقيقي وصادق، وإن الحرب التي لا تغير آدمية البشر حرب سهلة وعابرة، وإن علي أن أهرب من المكان الذي تقوم عليه الحرب، وإن كانت حربك فهي لن تعيدك إنسانا طبيعيا ولن تمنحك نصرا عظيما".
أما الجيل التالي فيمثله سالم خال الراوي، والذي قام مقام الأب، رجل شطرته الحرب أيضا، إذ تقتل زوجته ليعيش بعدها حياة عبثية، وينشأ تنافر بينه وبين الراوي، وكأن الرواية تقول إن الصفاء والحنان يجدهما الجيل الجديد عند الجيل القديم، في صورة الجد الذي يحن إليه دائما.
في المقابل، يرسم الرقيمي للجيل الجديد صورة لا تليق إلا بما تفعله الحرب الضروس بالبلاد والعباد، شخصيات مشظاة منشطرة بين حلمها بالحياة -حتى في أبسط تجلياتها كمشاهدة مباراة كرة قدم- وبين موت حاضر ودائم، يمكن حتى أن "يخرج من حروف كتاب".
يعيش الراوي بين اسمين، بدر قبل وصوله إلى صنعاء قادما لها من الريف، ويحيى ما بعد إقامته في العاصمة، تنمو الشخصية وتتحول، تعيش ضياع الهوية واضطرابات النفس حتى حد التبول على الفراش، لكن الروائي يفك عقدة الشخصية عبر إقامتها على رافعتين: الحب والمعرفة.
الحرب تئد الحبيلتقي عبده حمادي (إحدى شخصيات الرواية) -وهو تاجر متجول عركته الحياة- بيحيى الذي يشاركه تجارته، يتولى عبده التجارة ويتفرغ يحيى للدراسة الجامعية، ويمثل عبده شخصية مثقفة واسعة الاطلاع يفتح ليحيى أبواب المعرفة والعلم.
أما الرافعة التي حلت إشكال يحيى مع هويته فهي الحب، إذ يتعرف على "يافا"، فتاة يمنية شغف حب فلسطين والدها فسماها باسم المدينة الفلسطينية العريقة، وتحمل القصة في طياتها إحالة رمزية إلى التعلق الوجداني العميق بين اليمنيين وفلسطين.
تنفك عقدة لسان يحيى الريفي الصامت، فيغدو متكلما وشاعريا، على أن الحرب تئد هذا الحب، إذ قُتلت يافا في أتونها، في حين يُقتل عبده حمادي أثناء ذهابه مع يحيى لإنقاذها.
يتسع الفضاء المكاني في رواية "عمى الذاكرة" ليشمل رحلة الراوي الممتدة من الريف اليمني إلى صنعاء "مدينة الحلم ولوثة العاشق التي ما إن تصيب أحدا حتى تبقيه على قلبها"، ثم إلى عدن التي تغدو محطة أولى في رحلة الموت نحو أوروبا، مرورا بمصر والسودان وليبيا، وصولا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
View this post on InstagramA post shared by Katara Cultural Village كتارا (@kataraqatar)
صورة أكثر ألماوإذا كانت صور الموت والحرب مألوفة في المأساة اليمنية كما بثتها الشاشات عبر السنوات فإن الرقيمي في روايته يقدم صورة أشد إيلاما عن رحلة الموت التي يختارها شباب يمنيون، رحلة ينتهي بهم المطاف فيها غرقى في البحر، ومنهم من لفظ أنفاسه الأخيرة في الصحراء، عدا عن القسوة في أماكن اللجوء.
إعلانفي لغته، يقتصد الرقيمي حين تقتضي البساطة، ويبذخ متى كانت الحاجة، مستندا إلى شاعرية عالية ومرجعية ثقافية أفصح عنها في استهلاله الرواية بمقطع للشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح.
ويستفيد صاحب روايات "حنين مبعثر" (2021)، و"الظل المنسي" (2022)، و"عمى الذاكرة" (2024) من الموروث الأدبي اليمني الضارب بأصالته، ومن تجربته الصحفية القادر فيها على إبداع نص يقارب الصورة ليحاكيها، ويلمح إلى ما وراءها.
وعن فوزه بجائزة كتارا في دورتها الجديدة وروايته "عمى الذاكرة" كان للجزيرة نت معه هذا الحوار:
لا تترك ذاكرة بطل الرواية شيئا وهي تعاين مصائر وحيوات شخصياتها في الفضاء اليمني، فأين عميت الذاكرة؟ وأين أبصرت؟عميت الذاكرة حين واجه البطل الحرب الأولى التي شوهت ملامح الطفولة والمدينة، فلم يعد قادرا على التمييز بين الحياة والموت، وأبصرت حين اندلعت حرب أخرى وكأن الحروب وحدها من كانت تحدد مصيره وخارطة وجوده، فكانت الكتابة هي الإبصار الوحيد في مواجهة العمى، إذ تحولت إلى فعل مقاومة ضد الفوضى والنسيان.
رغم أن الرواية تعاين حربين ومصائر أكثر من مؤلمة عاشهما اليمن فإنك "عميت" عما هو أيديولوجي، ما دواعي هذا الهروب؟الهروب من الأيديولوجيا كان مقصودا، لأن الرواية تبحث في الإنسان قبل أي شيء آخر، فالحرب ليست قضية سياسية بقدر ما هي مأساة إنسانية يعيشها الجميع، الابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي منح النص صدقه وعمقه، لأنه كُتب من موقع الضحية وحده.
في انشطار بطلك إلى يحيى وبدر يبدو انشطارا إنسانيا بين مرحلتين، إلى أي مدى هو ملمح إلى انشطار الهوية اليمنية؟انشطار البطل بين يحيى وبدر هو تجسيد لانقسام الإنسان اليمني بين ماض مثخن بالجراح وحاضر مضطرب ومستقبل غارق في الدماء، وهو انشطار إنساني أكثر منه رمزي، ومع ذلك أفضّل أن يترك الروائي تأويل نصه لقرائه، فهم شركاؤه في الاكتشاف.
ما الذي أخذته من سيرتك الذاتية للرواية؟ وماذا تركت؟أخذت من سيرتي تفاصيل التجربة الإنسانية: الحرب، الغربة، الفقد، والحنين، وتركت ما هو شخصي وخاص حتى لا تتقاطع ذاتي مع شخوص الرواية الذين يمثل كل منهم جزءا من أي مجتمع وتجربته ونضاله وخيبته.
في سيرتك وينابيعك الإبداعية إلى ما تحيلنا؟ أعني ما مراجع تكوينك الثقافي؟تكويني الإبداعي بدأ من الذاكرة الشعبية اليمنية وحكايات الجد، وامتد إلى أدب المقاومة العربية، تأثرت بلغة الشعر الحديث، خاصة عبد العزيز المقالح كما يظهر في الإهداء والاقتباس الافتتاحي، جذبتني النصوص التي تمزج بين الذات والتاريخ، فجمعت رؤيتي بين الأدب الواقعي والتأمل الفلسفي في مواجهة العدم.
توحي الرواية وأنت تتركها مفتوحة النهايات وكأنها الجزء الأول من تغريبة يمنية؟النهاية المفتوحة مقصودة، لأنها تشبه الواقع اليمني الذي لم يبلغ خلاصه بعد، ليست تغريبة فردية، بل مأساة وطن يعيش التيه والبحث عن المعنى، تركت الباب مفتوحا لأن الحكاية اليمنية لم تُكتب بعد حتى نهايتها، وربما تتواصل في نصوص أخرى.
يموت أبطالك جميعا والنهايات مفزعة، هل ثمة تشاؤم لديك حيال اليمن؟الموت في الرواية ليس تشاؤما بل احتجاج، أردت أن أقول إن الحرب تقتل حتى من يظلون أحياء، وإن الخلاص لا يتحقق إلا بالوعي والذاكرة، النهايات المفزعة تعبر عن واقع مظلم، لكنها أيضا نداء للحياة، لأن الكتابة نفسها فعل مقاومة وفعل نجاة.
ماذا عن شواغل الرواية اليمنية الآن؟الرواية اليمنية منشغلة اليوم بإعادة كتابة الذاكرة الجمعية وبسؤال الحرب والهوية والمنفى، هناك انتقال ملحوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الوجودية التي تبحث في معنى الإنسان اليمني بعد الانهيارات، إلى جانب تنام واضح في وعي اللغة وتعدد الأصوات السردية.
إعلان جائزة كتارا اعتراف نقدي بالعمل الإبداعي وصاحبه، ماذا تعني لك؟جائزة كتارا بالنسبة لي هي تكريم للأدب اليمني أكثر مما هي تكريم شخصي، إنها تأكيد على أن الصوت اليمني حاضر ومبدع رغم كل التحديات، كما أنها تمنحني مسؤولية مضاعفة للاستمرار في الكتابة.
ولعل في الألم جمالا تمنحه اللغة والبوح، والصور التي على ألمها تحيل إلى روائي متمكن من أدواته، ومن مخيلته التي يبدع فيها وصفه ويغالي بعيدا في دواخل شخصياته.