النفاق المناخي.. استهداف المنشآت البيئية في غزة
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
بينما كان قادة العالم يجتمعون في مؤتمر "كوب 28" (قمّة المناخ) في دبي يُناقشون كيف يُمكن تقليل انبعاثات الكربون وبصمتنا البيئية على الكوكب، كان الجيش الإسرائيلي مشغولا بتحويل غزّة إلى مكان غير قابل للحياة، ليس باستهدافه المدنيين الأبرياء وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم فقط، وإنما من خلال استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت الطاقة المتجددة ومنشآت تحلية مياه البحر والآبار ومحطات معالجة الصرف الصحي، يقصف ويدمر هذه المنشآت ضاربا بعرض الحائط كل "القيم البيئية" التي تُنادي بها "البعثة الإسرائيلية" إلى مؤتمر المناخ.
في هذه الحرب كان للمستشفيات حضور بارز، فاستهداف المستشفيات كان هدفا مُعلنا وواضحا، وبالتالي كان كل ما يعزز صمود هذه المستشفيات مستهدفا مثل لوحات الطاقة الشمسية فوق أسطح المستشفيات، بغض النظر عن أثرها في تقليل الانبعاث الكربونية التي تنعقد من أجلها مؤتمرات المناخ.
والطاقة الشمسية في هذه الحرب كانت مستهدفة بشكل أساسي ومقصود، فمع الحصار على غزة (منذ 2007) ثم مع تشديده بشكل خانق مع بدء حرب طوفان الأقصى، كان الاعتماد على الطاقة الشمسية يتعاظم بشكل لافت، فبين العامين 2015 و2017 ارتفع عدد المواقع التي تنتج الطاقة الشمسية من 591 موقعا إلى 3456، كما يؤكد الخبير البيئي جورج كرزم في مقالته التي كتبها في يونيو/حزيران 2022 وجعل عنوانها "الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء في غزة وتتحدى النفاق المُناخي الإسرائيلي"[1].
ووفقا لدراسة حديثة من معهد "سي إس آي إس" (CSIS) عن الطاقة الشمسية في وقت الحرب، فإن استغلال الطاقة الشمسية في قطاع غزّة حقق أرقاما لافتة قبل الحرب، فقد وصل عدد مواقع إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية إلى 8760 في عام 2019، وقُدّر العدد قبل حرب عام 2023 بنحو 12400 سطح مُنتج للكهرباء من الطاقة الشمسية، ووفقًا للتقدير فإن ثُلث المواطنين الغزيين ونحو 50% من أصحاب المصالح التجارية يعتمدون على الطاقة الشمسية[2].
وفي الحرب ومع انعقاد قمة المناخ أصبح النفاق المناخي الإسرائيلي واضحا وضوح الشمس، فكثيرة هي الصور التي انتشرت لاستهداف ألواح الطاقة الشمسية، وأكدت ذلك تحليلات لصور الأقمار الصناعية من تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لفحص وضع أكبر 29 سطحا لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، فقد اتضح أنه استُهدف 17 منها (60% منها) ودُمرت بشكل جزئي أو كلي بحجة أنها تنتج طاقة لأهداف عسكرية[3]، بينما هي في الواقع موجودة في منشآت مدنية مثل المستفشيات، وتساهم في تعزيز صمود الغزيين ورفضهم لمخططات التهجير القسري، والأكيد أنه مع انتهاء الحرب يُمكن فقط أن نعلم حجم الدمار الذي لحق بنظم الطاقة الشمسية في غزة.
محطات التحلية وشبكات المياهلم يقتصر الدمار على الطاقة الخضراء، فحتى المياه التي هي حق أساسي لكل إنسان كانت سلاحا هذه المرة مثل غيرها من المرات، فقصف المنشآت المائية واستهدافها ليس جديدا على جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ففي كل عدوان على غزّة كان يتم استهداف المنشآت المائية وبشكل "مقصود"، بل حتى قبل حرب 2008 وتحديدا في 4 ديسمبر/كانون الأول 2008 نشر معهد جنيف للسلام بأن "الماء تحول إلى سلاح في صراع الشرق الأوسط[4]"، ومع اندلاع حرب 2008 تفاقم الوضع أكثر مما جعل الوضع مع نهاية الحرب كارثيا بما يتعلق بعملية التخلص من المياه العادمة في قطاع غزة، والإمداد بمياه الشرب[5].
كما كان استهداف المنشآت المائية حاضرا في عدوان 2012 و2014 و2021 بشكل لافت، ففي 2012 قُصفت 12 بئرا من آبار المياه[6]، وفي 2014 دُمر خلال العدوان 9 آبار مياه وعشرات الخطوط وشبكات المياه في المنطقة الشرقية من المدينة. وأكدت بلدية غزة حينها بأنه كان استهداف مُتعمدا[7]، كما أشار د. أمل صرصور في دراسة عن الآثار البيئية للعدوان بأن 70% من المنشآت المائية تضررت[8]. وفي عدوان 2021 نشرت منظمة يونيسيف تقريرا يُفيد بأن 50% من شبكة المياه تضررت خلال العدوان وأن نحو 800 ألف شخص لم يكن بمقدورهم الحصول على المياه من الشبكة بسبب الأضرار الكبيرة التي لحقت بالآبار والخزانات الجوفية ومحطات تحلية المياه[9].
وقبل حرب 2023 بُذلت جهود دولية وفلسطينية كثيرة من أجل إصلاح وتحسين الوضع المائي في غزّة، حتى أقيمت محطات تحلية مياه البحر مثل محطة التحلية في خان يونس التي كانت من الأهداف الأساسية للتدمير إلى جانب تدمير 50% من الآبار الصالحة للاستخدام مثل بئر أبو حصيرة وبئر سيفة وبئر غبن ومعظم آبار منطقة جباليا، كما دُمر خزّان المياه في تل الزعتر ودُمر 30 كيلومترا طوليا من شبكات المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى محطة عامر للضخ ومنشآت كثيرة أخرى ما زالت تُدمّر في ظل هذه الحرب المستمرة.
وللتعبير عن حجم المأساة في قطاع المياه، يكفينا أن نَذكر ونُذكّر بأن حصة الفرد من المياه للفرد في غزة وصلت إلى ما بين 2 و3 لترات يوميا، علما بأن النسبة الموصى بها عالميا هي 100 لتر يوميا، وربما أكثر القراء يستهكلون أكثر من ذلك، والمصيبة أن 97% من المياه ملوثة[10].
استهداف التُربةلا يقل استهداف التربة خطورة عن استهداف الطاقة والمياه في غزة، فالتربة بالنسبة للمزارعين الغزيين هي مصدر المعيشة والرزق وهي دون شك مصدر الغذاء، وكل دمار في التربة هو دمار في إنتاج الأرض.
كما أن الفوسفور الأبيض المحرم دوليا الذي يستخدمه الجيش الإسرائيلي في غزة وفقا لمنظمات حقوق دولية -مثل هيومان رايتس ووتش- يساهم في دمار التربة والبيئة بشكل كبير، ويؤدي إلى حروق للبشر. وليس الفوسفور الأبيض وحده، فمع الحرب والقصف المهول الذي يتعرض له قطاع غزة، هناك عناصر كيميائية تتسرب إلى التربة الزراعية مثل "التنغستن" و"الزئبق". ووفقا لدراسة نشرتها مجموعة أبحاث الأسلحة الجديدة (NWRC) أجريت على التربة في منطقة بيت حانون عام 2009، وُجد أن عنصر التنغستن يوجد بأكثر من 20 ضعفا من المستوى المتوقع في التربة، كما أن نسبة الزئبق كانت موجودة بأكثر من 8 أضعاف المستوى المتوقع[11].
ويُعد "الصرف الصحي" أحد أكبر الملوثات للتربة والمياه والبيئة، فبعد قطع الوقود عن مرافق معالجة الصرف الصحي واستهداف خطوط الصرف الصحي، فإن هذه المياه الملوثة بكل ما فيها من جراثيم وميكروبات تساهم في نشر الأمراض والأوبئة، وهو ما قد يُضاعف من حجم آثار الكارثة البيئية، فحتى نتنياهو نفسه حين وجد معارضة شديدة عندما سمح بإدخال كمية من الوقود إلى غزة، قال إنه يخشى من إمكانية انتشار الأوبئة[12]، ودون شك كان يقصد إصابة جنوده بهذه الأوبئة أو أن تصل إلى المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال.
الحقيقة التي يتناساها كثير من "الخبراء الإسرائيليين" الذي يُغمضون أعينهم عن هذا الدمار، وربما يُباركونه، أن هذا الدمار لا يلبث كثيرا حتى تصل آثاره إلى خارج حدود "المعارك"، فالبيئة لا تعرف الحدود السياسية والعسكرية، وعندما تُدمر البنى التحتية للصرف الصحي في غزّة وفي مستشفياتها، فإن الصرف الصحي سيتسرب مع مياه الأمطار والفيضانات إلى الوديان وصولا إلى البحر، ومن هناك ستجد كُل الملوثات والجراثيم وحتى النفايات طريقها إلى الشواطئ الإسرائيلية التي كانت تعاني أصلا من التلوث (مثل شاطئ زيكيم) قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول[13]، فكيف به بعد تدمير منشآت الصرف الصحي؟
هذا الكلام يؤكد أن الذي يُحاول تدمير "البيئة" في غزّة، فإن آثار الدمار ستصله عاجلا أم آجلا، ومن تجوّل على شواطئ حيفا الجنوبيّة بعد العواصف التي كانت خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني لا بُد وأنه شاهد بعض "النفايات" التي وصلت من غزة، وهذه دليل آخر على أن "التلوث" لا يعرف الحدود، سواء أكنا نراه ونلاحظه أم لم يكن مرئيا وملحوظا.
الأكيد أنه وحتى الآن، لا يُمكن أن نقدر حجم الضرر البيئي لهذه الحرب التي دُمر فيها كُل شيء في مُحاولة لجعل أرض غزة غير قابلة للحياة. فبالتوازي مع استهداف البشر واستشهاد أكثر من 20 ألفا وجرح أكثر من 50 ألفا، فإن كل ما يمكن أن يعزز صمود الغزيين في أرضهم استُهدف.
إن استهداف المنشآت البيئية مثل منشآت المياه والطاقة وحتى تدمير التربة لم يكن عشوائيا وعارضا، بل مقصودا ومتعمدا، وهذه جريمة حرب ليس بحق أهل غزة وفلسطين فحسب، بل بحق البيئة والمناخ. وكان الأحرى بقمّة المناخ (كوب 28) أن تُكرس من وقتها لهذه الجرائم البيئية عوضا عن الشعارات البيئية الفارغة. وكما تقول الناشطة البيئية غريتا تونبيرغ "لا عدالة مناخية في أرض محتلة".
______________________________
المصادر:
كرزم، جورج 2022: رغم الحصار الخلايا الشمسية تنتج ربع الكهرباء في غزة وتتحدى النفاق المناخي تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime تودمان، ويل 2023 وزملاؤه: Gaza’s Solar Power in Wartime موقع swissinfo.ch: "الماء تحول إلى سلاح في صراع الشرق الأوسط" نُشر بتاريخ 4 ديسمبر 2008 موقع دويتشة فيله: قطاع غزة.. تلوث في مياه الشرب ونقض في الموارد المائية نُشر بتاريخ 28/8/2009 موقع أونروا – غزة مكان ملائم للعيش 2020 ؟ : نُشر بتاريخ 28.8.2012 موقع دنيا الوطن – بلدية غزة: الاحتلال استهدف مصادر المياه في غزة بشكل متعمد: نُشر بتاريخ 5/8/2014 صرصور، أمل 2014: Impact of the last Israeli Military Operation on the Vital Environmental Sectors in Gaza Governorates, 2014 يونيسيف: تقرير منشور بتاريخ 21.5.2021 هيئة ACAPS، تقرير عن المياه في غزة خلال الحرب نُشر بتاريخ 13/12/2023 هيئة NWRC في تقرير عن تلوث التربة في غزة – نُشر 17/12/2009 موقع والّا الإسرائيلي: تقرير "نتنياهو يرفض الادعاءات عن إدخال الوقود إلى غزة: "بدونه سيكون من الصعب مواصلة القتال" منشور بتاريخ 17.11.2023 موقع زمان الإسرائيلي: تقرير بعنوان "كارثة بيئية في ظل الحرب: مياه الصرف الصحي تتدفق مرة أخرى من غزة إلى شواطئ إسرائيل" نُشر بتاريخ 16/10/2023المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الطاقة الشمسیة فی استهداف المنشآت المنشآت المائیة الصرف الصحی هذه الحرب المیاه فی قطاع غزة قطاع غز أکثر من فی قطاع الذی ی فی غزة
إقرأ أيضاً:
واقع مرير خلَّفته الحرب في كهرباء السودان
الخرطوم- كان يوما عصيبا وشاقا على عبد الله محمد فضل المولى من قرية "طليحة الحامداب" في ريف القطينة بولاية النيل الأبيض (جنوب)، عندما اضطر هو وكل أهالي قريته للنزوح سيرا على الأقدام لمدة 13 ساعة هربا من مليشيا قوات الدعم السريع التي اقتحمت قريتهم.
وبعد شهرين، عاد فضل المولى والسكان إلى قريتهم، ليكتشفوا أن محولات الكهرباء التي كانوا يشغلون بها الآبار لسحب مياه الشرب قد نُهبت، مما عرَّضهم للعطش، وكادوا ينزحون ثانية لولا أن اهتدوا إلى بديل آخر يكمن في شراء منظومة للطاقة الشمسية لتشغيل الآبار، ومن ثم توجهوا للبحث عن هذا البديل في أم درمان، حيث التقتهم الجزيرة نت.
يقول المواطن عصام الدين الإمام للجزيرة نت "بعد أن فقدنا محولاتنا الكهربائية، جئنا من ولاية النيل الأبيض إلى أم درمان لشراء منظومة الطاقة الشمسية، وعرفنا من بعض الذين جربوا أنها نجحت".
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي محمد الناير -للجزيرة نت- أن التدمير الذي حدث في قطاع الكهرباء كبير جدا، مؤكدا أن "قيمة النحاس الذي يباع بعد سرقته من شبكات الكهرباء لا تعادل 10-15% من تكلفة إعادة هذا القطاع وإعادة المحولات والكوابل إلى ما كانت عليه قبل الحرب".
أما مازن محمد عثمان، صاحب محل لبيع منظومات الطاقة، فيقول إن مستوى الإقبال جيد على اقتناء هذه المنظومات، وربما يصل إلى 40 زبونا في اليوم الواحد رغم ظروف الحرب، ومعظمهم من الخرطوم والخرطوم بحري، وذلك بسبب الدمار في شبكات الكهرباء بالمدينتين.
إعلانويؤكد المهندس في منظومات الطاقة الشمسية، أبو الدرداء جبريل، أن السبب في توجه المواطنين إلى الطاقة الشمسية هو ضرب مُسيَّرات قوات الدعم السريع محطات الكهرباء، خاصة محطة سد مروي.
إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بشبكات الكهرباء في الخرطوم والخرطوم بحري جراء خلعها وتخريبها بغرض سرقة النحاس الموجود داخلها، مما جعل المواطنين يقبلون على منظومات الطاقة الشمسية لتكون بديلا.
وبرز استهداف البنية التحتية لقطاع الكهرباء كوجه آخر من أوجه الأزمة في السودان، مما جعلها واحدة من أكثر الأوجاع التي يعاني منها السودانيون جراء الحرب بالبلاد.
سرقة وتخريبويعتمد السودان في توليد الكهرباء على المحطات الكهربائية والمائية، لكن معظم هذه المحطات تدمَّرت في الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين.
ولم يقتصر الأمر على التدمير الذي لحق بقطاع الكهرباء وعديد من المنشآت على الخرطوم فقط، بل شمل كل الولايات المتأثرة بالحرب، وتعدى الدمار إلى سرقات واسعة النطاق في الشبكات الناقلة للكهرباء بهدف الوصول إلى النحاس.
وشهدت ولاية الجزيرة خسائر كبيرة في قطاع الكهرباء، تمثلت في حريق كامل للمحطات إضافة إلى سرقة النحاس من محولات كبيرة بالولاية.
ووصلت الخسائر -حسب مدير الشركة السودانية لتوزيع الكهرباء في الولاية، مصعب عبد القادر- إلى 180 تريليون جنيه سوداني (الدولار يساوي 600 جنيه سوداني) في تكلفة مبدئية.
وأشار الناير إلى أنه سبق أن طالب قبل الحرب بأن تتجه الدولة إلى فتح باب التمويل الأصغر، لكي تمتلك كل أسرة وحدة خلايا شمسية، شريطة أن تتولى الدولة إعفاء مواد هذه الخلايا من الرسوم والجمارك إعفاء تاما.
ودعا للاستفادة من مصنع لتجميع الخلايا في مدينة سوبا (شرق) به معدات جيدة إن لم يتعرض للنهب أو التخريب.
إعلان