أنسنة قضية فلسطين .. ضرورة الفرار من القفص الإسرائيلي
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
في اليوم التالي للعدوان الإسرائيليّ على قطاع غزة كتبتُ أقول: "موقفي من القضية الفلسطينية إنساني، فلو أنّ أناسًا في أقصى الأرض، ينتمون إلى أعراق لا يجمعها بعرقنا أحدٌ، ويعتنقون عقيدة لا تمتّ بصلة لرسالات السماء، لكنّهم يتعرضون لظلم قاهر – أو يقعون تحت احتلال يسرق أرضهم، ويستعلي عليهم، ويجلد ظهورَهم – فإنني لا يمكن أن أقول أو أفعل إلا ما يؤيد حقّهم في الحرية والعدل والسكينة والكفاية، وهذا مبدأ لا يتجزأ، ولا ينحرف لعصبية أو مصلحة أو هوى.
كثيرون تفهّموا ما قلته وقتها، لكن عارضته فئتان: الأولى؛ تقابل تديين أغلب النخبة السياسية والفكرية في إسرائيل للصراع مع الفلسطينيين، بتديين مضاد. وتغوص هذه الفئة في التاريخ والنصوص الإسلامية لتبني رؤيتها، كما يفعل إسرائيليون في عودتهم إلى الكتب اليهودية.
ويدفع أصحاب هذا الاتجاه بحجّة تقول: إنّ إسرائيل أعلنت- صراحة- أنها دولة لليهود، وهي لا تخفي ما تتبناه، بل تدافع عنه، وتراه سببًا لوجودها، وتحقيق تماسكها، ولذا يجب على المسلمين، في المقابل، ألا يخجلوا من الإحالة إلى عقيدتهم لتكون حاضرةً بقوة في هذا الصراع.
وترى الفئة الثانية؛ أن الجسم الرئيس للمقاومة- التي تتصدى للعدوان- يعتمد على أصحاب الاتجاه الإسلامي، سواء كانوا ممثلين في "حركة حماس"، أو في "الجهاد"، وهؤلاء ممتلئون بعقيدة دينية تمنحهم صبرًا على كل المكاره، وصمودًا في وجه محاولات الاقتلاع والإزاحة، وتدفعهم للعمل ليل نهار في سبيل استعادة الحق السليب، وتجعلهم يتقبلون الأثمان الباهظة التي يدفعونها، والتضحيات الكبرى التي يبذلونها، عن طيب خاطر.
خطيئة سياسيةلكن جرت في النهر مياهٌ كثيرة، جعلت كثيرين- من أصحاب هذين الاتجاهين- يعيدون النظر في مواقفهم، ولو جزئيًا، فما إن توحّش العدوان على المدنيين في غزة، حتى انجلت ضمائر في شتى أرجاء الأرض، وفزعت للدم والنار والخراب، فخرج أصحابها إلى الشوارع غاضبين، يطالبون بوقف القتال، ومحاسبة مرتكبي هذه الجرائم المتواصلة.
وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يُضمّن خطابه السياسي بعض نصوص التوراة- وكذلك يفعل سياسيو اليمين المتطرف، وبعض الإعلاميين والمحللين السياسيين في الإذاعات ومحطات التلفزة العبرية- كانت "ناطوري كارتا"- وهي حركة يهودية تعارض الصهيونية، وترفض وجود إسرائيل وتراها خطيئة دينية وسياسية- تتظاهر في الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية.
وكان هناك يهود يحتلون باحة "الكونغرس"، مطالبين إياه بالتدخّل لمنع إسرائيل من قتل الأطفال والنساء، رافعين لافتة: "ليس باسمنا"، في تنصل واضح من أن يكون ما تفعله إسرائيل، دفاعًا عن اليهود، أو تنفيذًا لتعاليم اليهودية.
وبات واضحًا- أمام أفهام مجموعات معتبرة- ما سبقَ أن أتى على ذكره وتحليله د. عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة حين فرق بين "اليهود" و"اليهودية" "والصهيونية" و"إسرائيل"، حيث لا يتطابق بالضرورة في أذهان كل الأشخاص، وفي كل الأحوال، الدين مع تاريخ معتنقيه، ومدى ترجمتهم له بشكل أمين وصادق في الواقع المعيش، فيما يختلف الاثنان عن الأيديولوجية أو الفكرة السياسية، والكيان الاجتماعي- السياسي الذي قام على أساسِها.
تعاطف واحتشادعلى التوازي لم يكفّ ملايين المسيحيين في الغرب عن الاحتشاد في الشوارع؛ تعبيرًا عن رفضهم العدوان، وتعاطفهم القوي مع الشعب الفلسطيني، وفعل هذا، أيضًا، معتنقو أديان أخرى، ولادينيون، وملحدون، ممن لم يتوقفوا عند الهُوية الدينية للمقاومة الفلسطينية، إنما اهتموا بعدالة قضيتهم، وضرورة مساندتهم في كفاحهم من أجل الحرية، وتقرير المصير.
لا يمكن في هذا المقام أن ننكر عدم اقتصار المقاومة- التي تقاتل في غزة وتواجه في الضفة الغربية- على أصحاب النزوع الديني الإسلامي، إنما هناك ذوو السمت اليساري، والقومي، والوطني من الناحية الأيديولوجية. في الوقت نفسه يقف مسيحيو فلسطين جنبًا إلى جنب مع المسلمين في مقاومة العدوان، الذي يسلب أرواحهم، ويدمر بيوتهم وكنائسهم أيضًا، ويجبرهم على النزوح.
إن المحاربين يحتاجون إلى الاتكاء على معتقد ديني، يدفعهم إلى محبة الجهاد والاستشهاد، ولا ضير في هذا، لكن هناك أيضًا الدوافع الوطنية، وإيمان أي فرد بعدالة قضيته، ورفضه الإذلال والإهانة والإكراه، مستعدًا أن يقاتل بلا توقف في سبيل العزة والكرامة والحرية.
أمّا ما هو خارج أيام القتال، فمن المفضل أن تأخذ القضية الفلسطينية سمتًا إنسانيًا، لاسيما أنها غنية به دون شك، فهذا من شأنه أن يوسع دائرة التعاطف معها، والاقتناع بها، ويجنبها تحمل أوزار الأخطاء التي ترتكب في لحظة جراء الصراعات الدينية، أو العنف والإرهاب الذي يحدث أحيانًا على يد تنظيمات تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، ولا تقاتل في سبيل الحرية والعدل، إنما خضوعًا لرغبة في الانتقام، أو سعيًا لتحصيل السلطة والثروة والمكانة.
استعطاف الغربإنّ الناس في مشارق الأرض ومغاربها تعاطفوا مع الفيتناميين في قتالهم المرير ضد الاحتلال الأميركي لبلادهم، ومع السود في سعيهم لإنهاء نظام الفصل العنصري البغيض في جنوب أفريقيا. ولم يكن المعتقد الديني للمناضل تشي جيفارا هو الباعث للتعاطف معه، والإعجاب به، والانجذاب إليه، وكذلك قادة حركات التحرير في النضال ضد الاستعمار.
ولا تعد أنسنة الصراع ضعفًا أو هروبًا من واقع أو حقيقة، إنما هي ضرورة لتفويت الفرصة على إسرائيل التي تبدو طوال الوقت راغبة في تديينه؛ لأن هذا يصب في مصلحتها، بشكل مباشر. فابتداء توسلت مجموعة من العلمانيين- كان بينهم لادينيون وملحدون- بالنزعة الدينية في تأسيس إسرائيل اتكاء على فكرة "أرض الميعاد"، وثانيًا لأنّ الدين اليهودي هو القاسم المشترك، أو العامل الجامع، بين مواطني إٍسرائيل، من غير سكانها العرب الأصليين المهمشين، وهم فلسطينيو 48.
فيهود إسرائيل أتوا من كل مكان، وينتمون إلى أعراق ولغات وثقافات وطبقات متنوعة. وقد يقال إن كل الدول تضم متنوعين من خلفيات عدة، لكن الحالة في إسرائيل غاية في التوزع والتنوع بل التشرذم؛ نظرًا لأن اليهود وُجدوا- تاريخيًا- في بلاد شتى، ولا يجمع بينهم سوى الدين عامة، حتى وإن كانوا يتوزعون فيه على طوائف عدة، كعادة الأديان والمعتقدات عمومًا.
لهذا، فإن من مصلحة الذين يحكمون في تل أبيب أن يستدعوا النزعة أو البعد الديني بشكل دائم، وفي الحرب خصوصًا، كي يوحدوا سكان إسرائيل ومكوني جيشها من العاملين والاحتياطي من جهة، ويستعطفوا الغرب المسيحي، لاسيما الإنجيلي في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، من جهة ثانية، لاسيما مع ظهور ما تسمى : "المسيحية الصهيونية"، التي يؤمن أتباعها بالكثير مما ورد في "العهد القديم"، بخصوص تمكين اليهود من الأرض التي وُلد فيها المسيح عليه السلام، بما يعجل بعودته.
دعاية ومزاعموسوَّقت الدعاية الإسرائيلية- على مدار سنوات طويلة- مزاعم حول موقف المسلمين من اليهود، ووضعت إطارًا لحركات المقاومة- لاسيما في العقدَين الأخيرين- على أنها تنظيمات إسلامية مسلحة، شأنها شأن غيرها ممن يواجهها الغرب على أرض العرب والمسلمين، وتمد يدها أحيانًا لتؤذيه في عقر داره، مثل: "القاعدة" و "داعش".
لهذا لم أتعجب من أن يسارع نتنياهو في أول تعليق له على ما حدث في السابع من أكتوبر 2023 إلى سحب الصورة الذهنية الغارقة في السلبية لداعش على حماس.
وفي سبيل الخروج من هذا القفص الحديدي الإسرائيلي، يجب أن تعي الحركات الفلسطينية المقاومة أو المناضلة أن أنسنة القضية ستعطيها أفقًا أبعد، وزخمًا أكثر، يمكنانها من جذب كثيرين حول العالم إليها، ممن يؤمنون بالقيم العامة التي لها من يدافع عنها في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن الدين أو الثقافة، مثل: الحق في الحياة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسكينة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی سبیل
إقرأ أيضاً:
قائد الثورة: الأمريكي شريك أساسي مع العدو الإسرائيلي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن
يمانيون/ خاص
أكد السيد القائد أن الأمريكي شريك أساسي مع المجرم الصهيوني الإسرائيلي اليهودي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر.
وقال السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في كلمة له، اليوم الخميس، حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية، أن بريطانيا وفرنسا شاركت الأمريكي في استقدام العصابات الصهيونية اليهودية إلى فلسطين وتجنيدها وتسليحها وتمكينها.
وأضاف السيد أن الرئيس الفرنسي الحالي ومن قبله جعلوا من أنفسهم الفداء للصهاينة اليهود، وأن ألمانيا تقدم الكثير من قذائف السلاح والدعم السياسي والإعلامي.. مؤكداً أن قوى الشر المنضوية تحت لواء الصهيونية اتجاهها الإجرامي الوحشي ضد أمتنا الإسلامية من منطلق عقائدي ورؤية وتوجه
ولفت قائد الثورة إلى أنه من المدهش أن بعض السياسيين والإعلاميين العرب ممن يتحدثون عن المجاهدين في فلسطين ولبنان يتحدثون عنهم وكأنهم هم من استفز العدو الإسرائيلي والأمريكي.
وأوضح السيد أن الأمريكي والبريطاني والأوروبي اتجهوا لدعم الصهيونية كمشروع يؤمنون به لتدمير أمتنا الإسلامية.. لافتاً إلى أن الحديث الصهيوني المتكرر عن فلسطين وبقية الشام ومصر وأجزاء من السعودية والعراق بهدف السيطرة والاحتلال المباشر.
وأشار السيد القائد إلى أن ما يعبّر عنه الأمريكي والإسرائيلي بتغيير وجه الشرق الأوسط يعني التحكم بالجميع بما يخدم المصلحة الأمريكية والإسرائيلية.. مضيفاً أن عدوانية أمريكا و”إسرائيل” ليست ردة فعل من استفزاز بل هم من ابتدأ العدوان على امتنا باحتلال الأوطان واستهداف الشعوب.
ونوه السيد إلى أن العدو لديه توجه إجرامي مفسد، يستهدف الناس لإفساد حياتهم على المستوى الأخلاقي، ولإفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن توجه العدو ظلامي بكل ما تعنيه الكلمة في رؤيته وتوجهه وفكره.