حرب العبرية على العربية، انقلاب الصورة في طوفان الأقصى
تاريخ النشر: 24th, December 2023 GMT
حرب العبرية على العربية، انقلاب الصورة في "طوفان الأقصى"
علينا قراءة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته بلغته التي يفهمها ارتباطاً بمركزية قضية فلسطين لتكوين خطابٍ وطنيٍ فعال لا ردود أفعالٍ انفعالية طائشة.
ينظر أغلب الناس إلى لغة المحتل نظرتهم للمحتل، وأن لها من القوة ما له، لكن الفلسطينيين أولوا تعلم اللغة العبرية اهتماماً خاصاً، رغم الجدل حول لك.
اللغة سلاح فعال في أي معركة، وأن لغة الآخر في الحالة الفلسطينية، وفي هذه الحرب بالذات، تجاوزت كونها وسيلة للتخاطب والتواصل وتحولت إلى أداة هامة في الصراع.
إقحام اللغة العبرية في قلب الصراع كأداة لطمس الهوية العربية ورأس حربتها اللغة العربية، لم يفشل فحسب، بل انقلب لسلاحٍ وأداة فاعلة بيد المقاومة تُعمّق خسارة "إسرائيل" وهزائمها.
* * *
دَعَمت الحركة الصهيونية جهود إحياء اللغة العبرية باعتبارها قيمة جامعة، وصلةً تربط اليهود وتوحّدهم، رغم اختلافاتهم الثقافية الكبيرة. تدريجياً، أصبحت اللغة العبرية من أهم مقومات الهوية الصهيونية متقدمةً على الديانة اليهودية، ونقيضاً للغة العربية، لغة "الآخر العدو".
تجاوزت اللغة العبرية، بعد إنشاء "الدولة" مرحلة الإحياء والبعث، إلى السيادة وتعزيز مكانتها، وإعلاء شأنها، وفرض هيمنتها من جهة، وإلى تجاهل العربية وتهميشها وتضييق الخناق عليها وتفريغ مكانتها الرسمية في شتى المجالات. ظلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تهاجم اللغة العربية، وتسعى إلى إلغاء مشروعيتها، استناداً إلى إيمانها بأن "إٍسرائيل دولة يهودية عرقية".
وقد عدّ اليهود اللغة العربية، نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي، لغة الأعداء، التي يجب محاربتها، لأنها تُشكل تهديداً للدولة وهويتها القومية، وجعلوا، في المقابل، قضية تعليم اللغة العبرية مهمة مقدسة، وغاية عليا، وعدّوها رمزاً هاماً لهويتهم القومية الجديدة.
تلعب اللغة دوراً هاماً في تشكيل المجتمعات؛ وتشكل مُركبّاً جوهرياً في الهوية الفردية والجماعية، وتؤدي وظيفة حيويّة في التفاعلات السياسية والثقافية المجتمعية.
يتفاوت اهتمام الشعوب بلغاتها باختلاف الأوضاع والظروف، فتتجاوز عند الشعوب التي تخوض صراعاً ضد الاستعمار والاحتلال والاضطهاد أهميتها باعتبارها وسيلة اتصال ووعاء للفكر والثقافة والأدب، لتغدو جزءاً لا يتجزأ من هذا الصراع، وسلاحاً من أسلحته، ويغدو التمسك بها تمسكاً بالأرض، وتصير كالحدود تفصل بين البشر، وتحدد معنى الانتماء، بل تصبح عنواناً للهوية والانتماء الوطني.
ولا يخفى أن اللغة تتأثر بأحداث التاريخ ومساراته، ويعدّ الاحتلال من أخطر الأحداث التي تؤثر فيها، كما في فلسطين التي تتعرض فيها اللغة العربية إلى تطهير لغوي، لا يقل قسوة عن التطهير العرقي والمادي الذي يمارس على الأرض والإنسان سواءً بسواء، فلقد أقحم العدو منذ بداية المشروع الصهيوني اللغة العبرية في قلب هذا الصراع، حين ربط هويته باللغة العبرية، ورأى أن بداية "الدولة العبرية" تبدأ من الوحدة اللغوية، لخلق هوية جديدة تختلف عن هويات اليهود في الشتات.
تعاني اللغة العربية في فلسطين ظروفاً عصيبة؛ نتيجة الاحتلال، وهي تخوض صراعاً قاسياً في وجه الطغيان العبري الذي يواكب احتلال الأرض، بل لعل غزو اللغة أخطر؛ لأن الكلمة العبرية، من غير ضرورة، تحتل اللسان العربي على نحو أبعد أثراً من احتلال الجندي الأجنبي الأرض. وتدافع العربية عن نفسها أمام مطرقة العبرية في ظل الاحتلال البغيض الذي يحاول طمس كل معالم العروبة.
وفي حين ينظر أغلب الناس إلى لغة المحتل نظرتهم إلى المحتل نفسه، وعلى أن لها من القوة ما له، بيد أن الفلسطينيين أولوا تعلم اللغة العبرية اهتماماً خاصاً، على الرغم من الجدل المتجدد حول تعلّمها، بين من يرى فيها أمراً مرفوضاً وآخر يعدّها ضرورةً وجزءاً هاماً من أوجه الصراع العربي -الإسرائيلي.
في الواقع، يخضعُ هذا المسار "العقلاني" لمبدأ يقول إن العبرية هي العينُ الثالثة التي نُطلّ بها على الآخر، العدو الذي يجب أن نَعرِفه ونفهمه، وهنا تصحُّ بالفعل مقولة "اعرف عدوّك"، للتعرف على المجتمع والحياة الإسرائيلية واتجاهات الرأي العام لديهم، في إطار مبدأ "اعرف الآخر"، إذ إن الجهل بـ "إسرائيل" ومجتمعها من الأسباب الرئيسية للهزيمة أمامها.
ورغم حالة الاستعداء بين اللغتين، في السياق الاستعماري الحالي، فإن توجُّهَنا كعرب وكفلسطينيين، على وجه التحديد، إلى تعلّم اللغة العبرية يعدّ استراتيجية وأسلوب مقاومةٍ مهماً جداً في إدارة جوهر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني طويل الأمد، لا من جانب أمني عسكري فحسب، بل من جوانب ثقافية ومجتمعية وتاريخية.
إذ من الضروري فهم لغة خصمنا الذي يقرأ لغتنا جيداً ويوجه إلينا رسائله بالعربية للتأثير في الرأي العام العربي والإسلامي، خاصة في أوج هذه الحرب الطاحنة التي يخوضها ضدنا.
فنحن، في المقابل، علينا قراءة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته بلغته التي يفهمها ارتباطاً بمركزية قضية فلسطين لتكوين خطابٍ وطنيٍ فعلي لا ردود أفعالٍ انفعالية طائشة.
وكما فعلت المقاومة في جنوب لبنان في توظيف اللغة العبرية واستخدامها في إطار "الاستراتيجية النفسية" التي تُعبّر عن عقيدتها في ما يتعلق "بالإعلام" وأهمية الجوانب المعرفية والنفسية للصراع بين المقاومة و"إسرائيل"، كذلك فعلت المقاومة الفلسطينية في إطار المواجهة الحالية الدائرة مع العدو، إذ بدا أن اتقان المقاومة للغة العبرية يتجاوز وصفها كأداة للاتصال والتواصل، بل يأتي في سياقها الثقافي المعرفي كأداة لفهم الآخر وطرائق تفكيره.
فالفيديوهات والترجمات المصاحبة والاقتباسات المختلفة من التوراة، كما في المقولة التي رددها الأسرى الإسرائيليون الثلاثة لدى المقاومة: "لا تتركونا نشيخ" وهي مقطع من أغنية تقول بالعبرية "لا تتركني في زمن شيخوختي.. لا تتركني عند فناء قوتي"، مقتبسٌ من ترتيل ديني يهودي يُستخدم لوصف طلب عدم التنازل عن المسؤولية تجاه المتقدمين في السن في المجتمع اليهودي، وذلك عندما تنتهي الحاجة إليهم.
كان لبثها مساهمته الهامة، في مواجهة الخطاب التضليلي الصهيوني الواسع النطاق والذي وُظّفَ جزء منه باللغة العربية، عبر اليهود الناطقين بالعربية، أو من خلال عرب مأجورين مسترزقين على أعتاب الفُتات الإسرائيلي، وأسهمت في تعاظم الحراك الإسرائيلي الداخلي الضاغط على الحكومة الإسرائيلية لتصعيب مهمتها في حربها المستعرة ضد غزة.
تدرك المقاومة اليوم أن النصر يتحقق، ليس بالقتال في ساحة المعركة على الأرض فحسب، بل في ساحة المعركة "الإعلامية والنفسية"، فالدعاية في "معركة الوعي" هي التي تصنع الانتصار، ولأنها كذلك يجب أن تُدار بطريقة ذكية لتثمر أفضل النتائج.
في هذا السياق، تشكّل معرفة لغة العدو عوناً كبيراً على فهمه والتعرّف إلى نقاط ضعفه أو قوته، بما يُمَكّنُ من ممارسة الضغط عليه بشدة، من خلال وسائل الإعلام والخطابات العامة التي لها وقعها على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه، وبلغته وثقافته التي يفهمها ويعرف أثرها السلبي عليه. تستند المقاومة في سلوكها هذا إلى الممازجة بين النشاط العسكري وحرب الوعي.
فبالتوازي مع استخدام الوسائل العسكرية القتالية، تُظهر يومياً مهنية عالية وثقة متزايدة بنفسها تتجلى في الحملة "النفسية" التي تقودها ضد "إسرائيل"، والتي تأتي داعماً قتالياً للقوة العسكرية ضد "إسرائيل" بهدف صناعة النصر.
ويبدو أن المقاومة ومن خلال معرفتها بلغة العدو تتابع بشكل حثيث الإعلام والمجتمع الإسرائيلي، وتفحص بانتظام نقاط ضعفه، ويمكن بكل سهولة أن نقرأ ذلك في خطاباتها، التي يُترجم جزءٌ منها إلى العبرية، والتي تتناول فيها تطورات الحالة الداخلية الإسرائيلية وتلعب على تناقضاتها.
تؤكد المقاومة أهمية "الوسيلة المرئية"، التي تبثها، والتي تؤثر في آلاف الإسرائيليين، لذلك تحرص على تصوير أفعالها وبثّها في جميع وسائل الإعلام المتاحة، مصحوبة بالترجمة العبرية أو موسيقى النصر أو التعليقات المؤثّرة الموجّهة.
فمشاهد استهداف جنود العدو وآلياته، وصور وفيديوهات الأسرى، التي تستمرّ المقاومة في بثّها بالتوازي مع تطورات المشهد الإسرائيلي الداخلي، لها أهمية نفسية توازي "الإنجاز القتالي".
وكذلك الحال في استمرار بثّ الخطابات الموجهة، في جزء منها، إلى الداخل الإسرائيلي المصحوبة بالترجمة العبرية بشكل ممنهج لتظهير تناقضاته واستثمارها.
بات من البديهي القول إن اللغة سلاح فعال في أي معركة، وأن لغة الآخر في الحالة الفلسطينية، وفي هذه الحرب بالذات، تجاوزت كونها وسيلة للتخاطب والتواصل وتحولت إلى أداة هامة في الصراع، وبدا واضحاً أن إقحام اللغة العبرية في قلب هذا الصراع كأداة لطمس الهوية العربية ورأس حربتها اللغة العربية، لم يفشل فحسب، بل انقلب إلى سلاحٍ وأداة فاعلة في يد المقاومة تُعمّق خسارة "إسرائيل" وهزائمها.
*د. محمد هلسة كاتب وباحث في الشؤون الإسرائيلية
المصدر | الميادين نتالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين اللغة العربية اللغة العبرية طوفان الأقصى الحرب على غزة الصراع العربي الإسرائيلي اللغة العبریة اللغة العربیة العبریة فی التی ت
إقرأ أيضاً:
"طوفان الأقصى" تعصف باستقرار المستوطنين وتدفعهم للهجرة
الضفة الغربية - خاص صفا
عقب عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023، دخلت "إسرائيل" منعطفاً لم تسلكه منذ عام 1948، وباتت الدولة التي كان يروج ساستها أنها المكان الأكثر أماناً، تحت نار صواريخ المقاومة وضغط الحرب.
وأفادت تقارير بمغادرة نحو نصف مليون "إسرائيلي" بعد بدء الحرب على قطاع غزة، وتجاوز عدد "الإسرائيليين" الذين قرروا العيش خارج حدود دولة الاحتلال أعداد العائدين بنسبة 44%.
وأظهرت البيانات انخفاضاً بنسبة 7% في عدد العائدين إلى "إسرائيل" بعد العيش في الخارج، حيث عاد 11 ألفاً و300 إسرائيلي فقط خلال عام 2023، مقارنة بمتوسط 12 ألفاً و214 في العقد الماضي.
وتتصاعد الهجرة العكسية في "إسرائيل" لأسباب أمنية واقتصادية، ما يضع الاحتلال أمام انعطافة ديموغرافية تهدد مستقل الدولة اليهودية.
وأفاد المختص في الشأن الإسرائيلي نهاد أبو غوش، بأن اتجاهات الهجرة بدأت ترتفع مع وجود حكومة اليمين ومحاولات تغيير النظام السياسي "الإسرائيلي" من خلال مشروع الانقلاب القضائي.
وقال في حديثه لوكالة "صفا"، إن ارتفاع مؤشرات الهجرة بشكل ملحوظ بعد طوفان الأقصى، يأتي بسبب زعزعت فكرة الوطن القومي الآمن لليهود، التي كان يروج لها الاحتلال على مدار عقود لاستقطاب يهود العالم.
أن صواريخ ومسيرات المقاومة وصلت كافة الأراضي المحتلة، وخلقت واقعاً يتنافى مع العقيدة الأمنية للاحتلال، التي ترتكز على تحقيق الأمن والاستقرار للمستوطنين.
وأشار أبو غوش إلى أن الأزمة الاقتصادية والخسائر التي يتكبدها الاحتلال في انفاقه على الحرب، والضغط على جنود الاحتياط واستمرار خدمتهم لفترات طويلة، فضلاً عن تغلغل اليمين المتطرف في مفاصل الحكومة، عوامل ساهمت مجتمعة في تشجيع الهجرة العكسية لليهود.
وبيّن أن الهجرة الداخلية من القدس إلى تل أبيب، كانت دائماً موجودة من قبل الفئات الليبرالية بسبب القيود التي يفرضها اليهود المتدينين "الحريديم" على الحياة اليومية.
وتتركز الهجرة في أوساط الليبراليين العلمانيين، والمهنيين الذين يديرون عجلة اقتصاد الاحتلال، بحسب أبو غوش، مرجحاً الأسباب إلى اتساع سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة، وكلفة الحرب وتبيعاتها الاقتصادية التي يدفع فاتورتها المستوطنين.
وأكد على أن الهجرة العكسية هي الكابوس الأكبر الذي من شأنه أن ينهي حلم الدولة للكيان الصهيوني، إذ تتحول "إسرائيل" تدريجياً إلى دولة متطرفة لا ديموقراطية فيها، بعدما كان نظامها الليبرالي الديموقراطي أبرز عناصر قوتها وجذبها ليهود العالم.
وأضاف "إن هيمنة اليهود المتدينين وتغلغلهم في الحكم، وهم فئة غير منتجة ومساهمتها صفرية في الاقتصاد، إلى جانب رفضها الانضمام إلى الجيش، ستحول إسرائيل إلى دولة عالم ثالث تعتمد على المساعدات".
وهدمت الحرب أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأظهرت ضعف "إسرائيل" واعتمادها التام على الدعم الأمريكي، وكشفت حقيقة الاحتلال المجرم للعالم، وفق أبو غوش، مبيّناً أن كل هذه العوامل أسقطت ثقة المستوطنين في حكومتهم ودفعتهم إلى الهجرة إلى أماكن أكثر أماناً واستقراراً.
ويتكتم الاحتلال على حقيقة الأرقام المتعلقة بالهجرة العكسية أو عودة اليهود إلى أوطانهم الحقيقية، إلا أن الأرقام التي تتضح في مفاصل أخرى للدولة مثل مؤسسات التأمين الصحي تظهر عزوفاً وتراجعاً في الرغبة بالعيش داخل "إسرائيل".
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 10 آلاف "إسرائيلي" هاجروا إلى كندا هذا العام، في حين حصل حوالي 8 آلاف إسرائيلي على تأشيرات عمل، وهي زيادة كبيرة عن أعداد العام الماضي، كما تقدم أكثر من 18000 "إسرائيلي" بطلب جنسية ألمانية في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024.
وأفاد تقرير لـ "هآرتس" بأن من يغادرون هم رأس مال بشري نوعي، ومغادرتهم تعرض استمرار النمو الاقتصادي في "إسرائيل" للخطر، إذ بلغت الزيادة في نسبة الأثرياء الباحثين عن الهجرة نحو 250%، ليتراجع أعداد أصحاب الملايين في "إسرائيل" من 11 ألف إلى 200 مليونير فقط.