حرب العبرية على العربية، انقلاب الصورة في "طوفان الأقصى"

علينا قراءة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته بلغته التي يفهمها ارتباطاً بمركزية قضية فلسطين لتكوين خطابٍ وطنيٍ فعال لا ردود أفعالٍ انفعالية طائشة.

ينظر أغلب الناس إلى لغة المحتل نظرتهم للمحتل، وأن لها من القوة ما له، لكن الفلسطينيين أولوا تعلم اللغة العبرية اهتماماً خاصاً، رغم الجدل حول لك.

اللغة سلاح فعال في أي معركة، وأن لغة الآخر في الحالة الفلسطينية، وفي هذه الحرب بالذات، تجاوزت كونها وسيلة للتخاطب والتواصل وتحولت إلى أداة هامة في الصراع.

إقحام اللغة العبرية في قلب الصراع كأداة لطمس الهوية العربية ورأس حربتها اللغة العربية، لم يفشل فحسب، بل انقلب لسلاحٍ وأداة فاعلة بيد المقاومة تُعمّق خسارة "إسرائيل" وهزائمها.

* * *

دَعَمت الحركة الصهيونية جهود إحياء اللغة العبرية باعتبارها قيمة جامعة، وصلةً تربط اليهود وتوحّدهم، رغم اختلافاتهم الثقافية الكبيرة. تدريجياً، أصبحت اللغة العبرية من أهم مقومات الهوية الصهيونية متقدمةً على الديانة اليهودية، ونقيضاً للغة العربية، لغة "الآخر العدو".

تجاوزت اللغة العبرية، بعد إنشاء "الدولة" مرحلة الإحياء والبعث، إلى السيادة وتعزيز مكانتها، وإعلاء شأنها، وفرض هيمنتها من جهة، وإلى تجاهل العربية وتهميشها وتضييق الخناق عليها وتفريغ مكانتها الرسمية في شتى المجالات. ظلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تهاجم اللغة العربية، وتسعى إلى إلغاء مشروعيتها، استناداً إلى إيمانها بأن "إٍسرائيل دولة يهودية عرقية".

وقد عدّ اليهود اللغة العربية، نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي، لغة الأعداء، التي يجب محاربتها، لأنها تُشكل تهديداً للدولة وهويتها القومية، وجعلوا، في المقابل، قضية تعليم اللغة العبرية مهمة مقدسة، وغاية عليا، وعدّوها رمزاً هاماً لهويتهم القومية الجديدة.

تلعب اللغة دوراً هاماً في تشكيل المجتمعات؛ وتشكل مُركبّاً جوهرياً في الهوية الفردية والجماعية، وتؤدي وظيفة حيويّة في التفاعلات السياسية والثقافية المجتمعية.

يتفاوت اهتمام الشعوب بلغاتها باختلاف الأوضاع والظروف، فتتجاوز عند الشعوب التي تخوض صراعاً ضد الاستعمار والاحتلال والاضطهاد أهميتها باعتبارها وسيلة اتصال ووعاء للفكر والثقافة والأدب، لتغدو جزءاً لا يتجزأ من هذا الصراع، وسلاحاً من أسلحته، ويغدو التمسك بها تمسكاً بالأرض، وتصير كالحدود تفصل بين البشر، وتحدد معنى الانتماء، بل تصبح عنواناً للهوية والانتماء الوطني.

ولا يخفى أن اللغة تتأثر بأحداث التاريخ ومساراته، ويعدّ الاحتلال من أخطر الأحداث التي تؤثر فيها، كما في فلسطين التي تتعرض فيها اللغة العربية إلى تطهير لغوي، لا يقل قسوة عن التطهير العرقي والمادي الذي يمارس على الأرض والإنسان سواءً بسواء، فلقد أقحم العدو منذ بداية المشروع الصهيوني اللغة العبرية في قلب هذا الصراع، حين ربط هويته باللغة العبرية، ورأى أن بداية "الدولة العبرية" تبدأ من الوحدة اللغوية، لخلق هوية جديدة تختلف عن هويات اليهود في الشتات.

تعاني اللغة العربية في فلسطين ظروفاً عصيبة؛ نتيجة الاحتلال، وهي تخوض صراعاً قاسياً في وجه الطغيان العبري الذي يواكب احتلال الأرض، بل لعل غزو اللغة أخطر؛ لأن الكلمة العبرية، من غير ضرورة، تحتل اللسان العربي على نحو أبعد أثراً من احتلال الجندي الأجنبي الأرض. وتدافع العربية عن نفسها أمام مطرقة العبرية في ظل الاحتلال البغيض الذي يحاول طمس كل معالم العروبة.

وفي حين ينظر أغلب الناس إلى لغة المحتل نظرتهم إلى المحتل نفسه، وعلى أن لها من القوة ما له، بيد أن الفلسطينيين أولوا تعلم اللغة العبرية اهتماماً خاصاً، على الرغم من الجدل المتجدد حول تعلّمها، بين من يرى فيها أمراً مرفوضاً وآخر يعدّها ضرورةً وجزءاً هاماً من أوجه الصراع العربي -الإسرائيلي.

في الواقع، يخضعُ هذا المسار "العقلاني" لمبدأ يقول إن العبرية هي العينُ الثالثة التي نُطلّ بها على الآخر، العدو الذي يجب أن نَعرِفه ونفهمه، وهنا تصحُّ بالفعل مقولة "اعرف عدوّك"، للتعرف على المجتمع والحياة الإسرائيلية واتجاهات الرأي العام لديهم، في إطار مبدأ "اعرف الآخر"، إذ إن الجهل بـ "إسرائيل" ومجتمعها من الأسباب الرئيسية للهزيمة أمامها.

ورغم حالة الاستعداء بين اللغتين، في السياق الاستعماري الحالي، فإن توجُّهَنا كعرب وكفلسطينيين، على وجه التحديد، إلى تعلّم اللغة العبرية يعدّ استراتيجية وأسلوب مقاومةٍ مهماً جداً في إدارة جوهر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني طويل الأمد، لا من جانب أمني عسكري فحسب، بل من جوانب ثقافية ومجتمعية وتاريخية.

إذ من الضروري فهم لغة خصمنا الذي يقرأ لغتنا جيداً ويوجه إلينا رسائله بالعربية للتأثير في الرأي العام العربي والإسلامي، خاصة في أوج هذه الحرب الطاحنة التي يخوضها ضدنا.

فنحن، في المقابل، علينا قراءة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته بلغته التي يفهمها ارتباطاً بمركزية قضية فلسطين لتكوين خطابٍ وطنيٍ فعلي لا ردود أفعالٍ انفعالية طائشة.

وكما فعلت المقاومة في جنوب لبنان في توظيف اللغة العبرية واستخدامها في إطار "الاستراتيجية النفسية" التي تُعبّر عن عقيدتها في ما يتعلق "بالإعلام" وأهمية الجوانب المعرفية والنفسية للصراع بين المقاومة و"إسرائيل"، كذلك فعلت المقاومة الفلسطينية في إطار المواجهة الحالية الدائرة مع العدو، إذ بدا أن اتقان المقاومة للغة العبرية يتجاوز وصفها كأداة للاتصال والتواصل، بل يأتي في سياقها الثقافي المعرفي كأداة لفهم الآخر وطرائق تفكيره.

فالفيديوهات والترجمات المصاحبة والاقتباسات المختلفة من التوراة، كما في المقولة التي رددها الأسرى الإسرائيليون الثلاثة لدى المقاومة: "لا تتركونا نشيخ" وهي مقطع من أغنية تقول بالعبرية "لا تتركني في زمن شيخوختي.. لا تتركني عند فناء قوتي"، مقتبسٌ من ترتيل ديني يهودي يُستخدم لوصف طلب عدم التنازل عن المسؤولية تجاه المتقدمين في السن في المجتمع اليهودي، وذلك عندما تنتهي الحاجة إليهم.

كان لبثها مساهمته الهامة، في مواجهة الخطاب التضليلي الصهيوني الواسع النطاق والذي وُظّفَ جزء منه باللغة العربية، عبر اليهود الناطقين بالعربية، أو من خلال عرب مأجورين مسترزقين على أعتاب الفُتات الإسرائيلي، وأسهمت في تعاظم الحراك الإسرائيلي الداخلي الضاغط على الحكومة الإسرائيلية لتصعيب مهمتها في حربها المستعرة ضد غزة.

تدرك المقاومة اليوم أن النصر يتحقق، ليس بالقتال في ساحة المعركة على الأرض فحسب، بل في ساحة المعركة "الإعلامية والنفسية"، فالدعاية في "معركة الوعي" هي التي تصنع الانتصار، ولأنها كذلك يجب أن تُدار بطريقة ذكية لتثمر أفضل النتائج.

في هذا السياق، تشكّل معرفة لغة العدو عوناً كبيراً على فهمه والتعرّف إلى نقاط ضعفه أو قوته، بما يُمَكّنُ من ممارسة الضغط عليه بشدة، من خلال وسائل الإعلام والخطابات العامة التي لها وقعها على الجمهور الإسرائيلي وإعلامه، وبلغته وثقافته التي يفهمها ويعرف أثرها السلبي عليه. تستند المقاومة في سلوكها هذا إلى الممازجة بين النشاط العسكري وحرب الوعي.

فبالتوازي مع استخدام الوسائل العسكرية القتالية، تُظهر يومياً مهنية عالية وثقة متزايدة بنفسها تتجلى في الحملة "النفسية" التي تقودها ضد "إسرائيل"، والتي تأتي داعماً قتالياً للقوة العسكرية ضد "إسرائيل" بهدف صناعة النصر.

ويبدو أن المقاومة ومن خلال معرفتها بلغة العدو تتابع بشكل حثيث الإعلام والمجتمع الإسرائيلي، وتفحص بانتظام نقاط ضعفه، ويمكن بكل سهولة أن نقرأ ذلك في خطاباتها، التي يُترجم جزءٌ منها إلى العبرية، والتي تتناول فيها تطورات الحالة الداخلية الإسرائيلية وتلعب على تناقضاتها.

تؤكد المقاومة أهمية "الوسيلة المرئية"، التي تبثها، والتي تؤثر في آلاف الإسرائيليين، لذلك تحرص على تصوير أفعالها وبثّها في جميع وسائل الإعلام المتاحة، مصحوبة بالترجمة العبرية أو موسيقى النصر أو التعليقات المؤثّرة الموجّهة.

فمشاهد استهداف جنود العدو وآلياته، وصور وفيديوهات الأسرى، التي تستمرّ المقاومة في بثّها بالتوازي مع تطورات المشهد الإسرائيلي الداخلي، لها أهمية نفسية توازي "الإنجاز القتالي".

وكذلك الحال في استمرار بثّ الخطابات الموجهة، في جزء منها، إلى الداخل الإسرائيلي المصحوبة بالترجمة العبرية بشكل ممنهج لتظهير تناقضاته واستثمارها.

بات من البديهي القول إن اللغة سلاح فعال في أي معركة، وأن لغة الآخر في الحالة الفلسطينية، وفي هذه الحرب بالذات، تجاوزت كونها وسيلة للتخاطب والتواصل وتحولت إلى أداة هامة في الصراع، وبدا واضحاً أن إقحام اللغة العبرية في قلب هذا الصراع كأداة لطمس الهوية العربية ورأس حربتها اللغة العربية، لم يفشل فحسب، بل انقلب إلى سلاحٍ وأداة فاعلة في يد المقاومة تُعمّق خسارة "إسرائيل" وهزائمها.

*د. محمد هلسة كاتب وباحث في الشؤون الإسرائيلية

المصدر | الميادين نت

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: فلسطين اللغة العربية اللغة العبرية طوفان الأقصى الحرب على غزة الصراع العربي الإسرائيلي اللغة العبریة اللغة العربیة العبریة فی التی ت

إقرأ أيضاً:

ما هو سلاح المقاومة الذي يريد الاحتلال الإسرائيلي نزعه من غزة؟

يتبين للمتابع منذ عودة حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة في 18 آذار/ مارس الماضي أنها حرب فوق كل الأهداف المعلنة المزعومة لها، وعودتها خارج كل المبررات المساقة من الإسرائيليين، وجاءت بعد اختبارهم الناجح للعالم وللإدارة الأمريكية الجديدة عبر انتهاك الاتفاق عشرات وربما مئات المرات أمام ترامب، فكانت نتيجة طبيعية للشعور المفرط بقوة الدعم الأمريكي لكل ذلك. وفي الواقع كانت بقرار وأمر أمريكي يدعو بنيامين نتنياهو لذلك أو يحركه بهذا المسار لينوب عن واشنطن في إبادة أهل غزة؛ لدوافع سياسية اقتصادية كشف عنها ترامب نفسه من خلال صفقته المضخمة حول غزة مع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق الذي دمرته إسرائيل، وهو ما شكل حجر الأساس الأمريكي لتدمير الاتفاق وبما يتماشى مع رغبات نتنياهو الشخصية والسياسية بمواصلة حرب ضد شعب فلسطيني أعزل، بهدف دفعه نحو التهجير القسري وتفريغ غزة وسرقتها.

وتشير المعطيات منذ استئناف الإبادة إلى أن معركة وجودية لم يعد يخوضها الاحتلال ضد المقاومة المقاتلة ككيان عسكري في قطاع غزة، بل إنها معركة وجودية بالنسبة إليه ضد كل الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، وانتقل الحديث المعلن المكشوف لدى كثير من قادته ووسائل إعلامه باعتبار المدنيين أضرارا

جانبية إلى جعلهم هدفا معلنا، وهو أوقح أنماط الإصرار على الإبادة، فما يحدث في غزة الآن حرفيا هو إبادة فقط وإبادة للسكان الأصليين بدون الحد الأدنى من المقاومة المعتادة المعهودة، أو على الأقل الظاهرة بتكتيك المعارك الثابتة والتصدي المباشر.

إنها حرب يشنها جيش منظم على عظام المدنيين وخيام النازحين دون مقدمات أو مبررات، فحتى مبرر هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قد بطل كليا من النواحي السياسية والعسكرية والشعبية التي تحركها دوافع الانتقام نفسها والرغبة بالتدمير العسكري للمقاومة الفلسطينية نفسها وتحرير الأسرى، هذا إن افترضنا بشكل حيادي للحظات أنها معركة لفعل ذلك، فكل ذلك لم يعد مبررا بالمرة ولم يعد أحد يمكنه تصديق كل ذلك، حتى من كثير من الجنود وضباط الجيش والمخابرات في دولة الاحتلال وكثير من حلفاء إسرائيل والمؤيدين لإبادة غزة، فانتقلت إسرائيل بكل وقاحة لمرحلة الإفصاح عن الهدف المباشر، وهو القتل الجماعي بهدف القتل الجماعي الذي يؤدي لتهجير السكان أو دفعهم للهجرة بعد قتل نسبة كبيرة منهم. حتى الجولة الأولى من الإبادة قبل الاستئناف الأخير في 18 آذار/ مارس الماضي لم يكن شكلها بهذا الشكل.

وهذا الكلام ليس للوم المقاومين، فهم بذلوا كل ما يملكون وما يمكنهم سواء أكانوا يحاولون الحفاظ على بعض مقدراتهم المحلية أو ضرب العدو بذكاء وبشكل نوعي محقق ليظهر بمظهر الإرهابي أكثر وأن يسوؤوا وجهه أكثر سياسيا وحقوقيا وعسكريا من خلال عدم الرد أو التعامل معه عسكريا بنفس الطريقة السابقة قبل استئناف الإبادة، أو ربما بسبب أنه لم يعد لديهم مقدرات كافية لفعل ذات الأمر. وأتحدث هنا بتجرد تام وحيادية مؤقتة.

وفي سياق المقترح المقدم لاتفاق جديد مؤخرا فهناك نقطتان خطيرتان في المقترح الجديد الذي مررته مصر لحركة حماس من الاحتلال والذي قالت حركة حماس إنها تدرسه، وهما: تضمنه شرطا ابتزازيا بالتفاوض على نزع سلاح المقاومة بغزة كشرط أساسي لأي اتفاق لوقف إطلاق النار وفقا لما تم نشره وتداوله، وهو أمر رفضته حماس كليا وقطعيا، وثانيا فكرة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فقط مقابل أسرى فلسطينيين، والتزامات تترتب على الاحتلال وضمن فترات زمنية. وهذا يسهل على إسرائيل التنصل لاحقا والعودة للإبادة التي ترغب بها، فهي فعلت شيئا مشابها وتنصلت من التزاماتها في الاتفاق الأخير ومنعت الانتقال للمرحلة الثانية رغم أن الإفراج كان يتم على دفعات صغيرة، فإن تم تعجيل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فهذا يعني تعجيل تمكن الاحتلال من التنصل منه في حال لم تكن هناك ضمانات أقوى ضد إسرائيل؛ من خلال ابتزازها بأوراق من المقاومة داخليا أو بقوة ردع من المجتمع الدولي.

وبالعودة لمسألة حرب الإبادة وقدرات المقاومة، فربما يرجح أن المقاومة تركت الجيش الإسرائيلي يقاتل دون إشعارها له بوجود عمليات مقاومة ثابتة متكررة الضربات ومتوقعة التكتيكات، وهو ما يربك الاحتلال ويعزز عنصر المفاجأة لدى المقاومة والخوف لدى الجنود الإسرائيليين المتوغلين، كما يعزز من استراتيجية اقتصاد القدرات لديها، ومن ناحية أخرى يثبت أو يتقارب مع نظريات عسكرية تحدث عنها جنرالات أمريكيون متقاعدون من أن المقاومة (بشكل عام وليست الفلسطينية فقط، بل من حيث المبدأ لدى المقاومات) تعمل أحيانا بتكتيكات تحاول إبراز الجانب الإجرامي والدموي الوحشي غير المبرر للاحتلال ضد السكان، من خلال كشف معركته الحقيقية التي هي ضد كل السكان الأصليين وليس ضد حَمَلة السلاح والمقاتلين، وهذا بحد ذاته يضعفه ويضعف روايته ويربكه أمام مجتمعه وأمام العالم وأمام المقاومين أنفسهم.

والمحتل في كل الأحوال يرتكب الجرائم وسيتم الرد عليه مهما اختلف التكتيك في القتال، لكن هذه الأساليب ترفع من أسهم المقاومة والرأي العام الداعم لها وللشعب الفلسطيني، وتحسن الحالة النفسية للمقاومين وتحسن الاستثمار الوطني والنتائج الممكنة بالتضحيات الكبيرة وفقا لوجهات نظر، كما تُشعر الجندي الإسرائيلي بأنه يقاتل بشكل عبثي ودون وجهة أو هدف واضحين، كما ينزع هذا الأسلوب وفقا لمقالة للمحلل في قناة الجزيرة سعيد زياد؛ الشرعية عن حرب الاحتلال داخليا أمام جمهور الإسرائيليين ويظهرها بمظهر الحرب العبثية التي تشن لأهداف شخصية لدى نتنياهو واليمين الإسرائيلي.

وعلى الرغم من كل ذلك تبقى حقيقة أن المقاومة هي بإمكانيات محدودة عسكريا من الناحية العملية، وموضوعيا إن أردنا مناقشة الأمر المتعلق بالشرط الإسرائيلي بنزع سلاح المقاومة بواقعية عسكرية وسياسية، فهدف إضعاف المقاومة عسكريا قد تحقق إسرائيليا وإن نسبيا، فيستحيل أن تكون المقاومة لم تفقد كثيرا من قوتها مقارنة بما قبل هذه الحرب الوحشية، وهذا لا يعني أنها غير قادرة على الردع والصمود والثبات.

وفكرة نزع سلاح المقاومة هي فكرة غير قابلة للتنفيذ بتاتا؛ ليس لأنه أمر غير قابل للمساومة والنقاش أو لأنه من ثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة للدفاع عن بقائه على قيد الحياة ومواجهة الاحتلال دون شطب كامل له ولهويته، فالفلسطينيون صنعوا سلاحهم محليا ويمكنهم صناعة مثله من أبسط الإمكانيات دائما، ولكن لأنه لا يوجد سلاح للنزع أصلا، بل هي محاولات فلسطينية لإيجاد سلاح وردع والحفاظ على البقاء، وليس سلاحا بالمعنى الحقيقي للسلاح الذي يمكن نزعه.

وفكرة استمرار القصف الإسرائيلي على غزة والتدمير والقتل حتى اللحظة دون مواجهة عسكرية شاملة في كل زقاق وشارع وحي كالسابق؛ من منظور عسكري غير مبررة عند الإسرائيليين، فالمقاومة حاليا شبه منزوعة السلاح وإن نظريا وصوريا أو إن كانت تفعل ذلك كخدعة، لكن هذا ما يظهر واستنفدت كثيرا من إمكانياتها في مراحل مضت من محاولة التصدي لجرائم الإبادة، بل إن أسلحتها من الأساس دفاعية خفيفة يمكنها إن استخدمت بذكاء واقتصاد ومرونة كما أن تحدث إصابات مؤكدة لكنها ليست حاسمة، ولا يمكن غالبا من تكرار طوفان الأقصى كل عدة سنوات مثلا، فعن أي نزع سلاح يتحدث الإسرائيليون إذا؟!

أنا لا أتحدث هنا عن رؤية كل منا للطريقة الأفضل التي يمكن أن تدار بها معركة أو نهج قتالي من مقاومة شعبية ضد احتلال، فهذه معركة طويلة ولها رؤى عديدة كلها تحمل في طياتها الإيجابي والسلبي، وليس الحديث أيضا عن خلافات أيديولوجية أو خصومات سياسية أو توافق مع حركة المقاومة الأبرز حاليا، أو حول سؤال كيف نفكر باليوم التالي، فالأمر تجاوز ذلك منذ وقت طويل من عمر هذه المجزرة المتواصلة، وكل تلك القضايا نوقشت وقيل فيها كل شيء، بل إن اليوم التالي الفلسطيني نوقش مرارا وتكرارا بين الفلسطينيين بمن فيهم الفرقاء وتم التوصل لحالة يمكن تطبيقها كتشكيل حكومة وحدة وطنية أو لجان إسناد تدير القطاع مثلا. حتى مسألة إن كانت المقاومة قد فكرت مليا بنتائج الطوفان أم لا نوقشت، ولم تعد هذه المسألة هي الفكرة الرئيسية اليوم ولم يعد النقد الداخلي هو أساس الحل أو المشكلة، رغم أهميته، وذلك بصرف النظر عن كل الرؤى؛ من أكثرها تمسكا بالمقاومة المسلحة إلى الأبعد عنها أو حتى من يجاهر بالعداء معها. تجاوزت الأمور مسألة كيف يمكن للشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم دعم غزة وفلسطين في ظل حرب الإبادة المستمرة، كما تجاوز الأمر كل مراحل خذلان المدنيين والمقاتلين في قطاع غزة الذين خفت ذخيرتهم وجفف عنهم الطعام والدواء والماء وكل شيء، هذا عدا عن القتل الجماعي الذي لا يتوقف للحظة.

 لكن بالفعل، ماذا يعني طلب نزع سلاح المقاومة في ضوء كل ذلك؟ وماذا تعني فكرة نزع سلاح كان بالأصل سلاحا دفاعيا مصنعا محليا خفيفا لم يعد موجودا منه الكثير، وحتى إن كان بالأصل موجودا فهو لا يعادل سلاح كتيبة شرطية في أصغر دولة في العالم؟ ماذا يعني نزعه كشرط لوقف المقتلة؟ وهل هذا يعني شيئا سوى تأكيد أن إسرائيل خائفة من أبسط أداة يمكن أن يقاتل بها الفلسطينيون للبقاء وتأكيد على استمرار المقتلة والإبادة أطول وقت ممكن؟

ما يعنيه ذلك باختصار هو أن السلاح الذي تتحدث إسرائيل عن ضرورة نزعه من غزة هو الشعب، نعم الشعب الفلسطيني، فإما نزع الشعب وتهجيره واقتلاعه أو الإبادة، أو ربما كلاهما معا، لأن السلاح العسكري الحقيقي بالأساس هو سلاح مقاومة قدراتها محدودة مصدرها الشعب نفسه، والتسليح كنظرية فعلية بسيط جدا وسطحي ومحدود في كل من تخشاهم إسرائيل عسكريا مقارنة بها، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ نشوئها إلى اليوم وليس فقط خلال حرب الإبادة الأخيرة، ولا ترقى الأمور لفكرة النزع فهو سلاح متواضع خفيف بسيط محلي الصنع.

الشعب الفلسطيني في غزة ككتلة بشرية كبيرة هو السلاح المراد نزعه هذه المرة -على الأقل في غزة- لأنه سيقاوم دائما بمجرد بقائه في أرضه، وهو من يقاوم، وهو السلاح حتى لو امتلك حجرا أو قلما أو رصاصة. لو كان هناك سلاح عسكري حقيقي لدى الفلسطينيين لما استمر الشيء المدعو "إسرائيل" حتى اللحظة أصلا، باعتبار المعركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي المعركة الوجودية الصفرية الأشد بين الكيان والسكان الأصليين، ورفض نزع سلاح الفلسطينيين يعني رفض انتزاعهم من أرضهم بكل بساطة.

مقالات مشابهة

  • ناطق باللغات الإنجليزية والفرنسية والأفريقية.. بدء تصوير مسلسل لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها
  • وزير حرب الاحتلال: مصر هي التي اشترطت نزع سلاح حماس وغزة
  • «حماية اللغة العربية» تبحث تطوير أنشطتها وبرامجها
  • بدء تصوير مسلسل لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها
  • ما هو سلاح المقاومة الذي يريد الاحتلال الإسرائيلي نزعه من غزة؟
  • المعجزة والكرامة والإهانة
  • ياسر برهامي يكشف سبب تغير موقف الدعوة السلفية من عملية طوفان الأقصى - فيديو
  • معهد تعليم اللغة العربية يستقبل دفعة جديدة من الدارسين
  • طوفان الأقصى.. مفاجأة كبرى تعيد تشكيل قواعد الاشتباك.. تحول استراتيجي
  • تكريم داعمي بطولة «طوفان الأقصى» لكرة القدم بعمران