لا مقاعد شاغرة في الغد المزدحم بالأقوياء والمنتصرين كي نذهب معهم إلى هناك لنلتقي بأنفسنا غدا، كي نحلم معا أو على حدة، لنشرع من بعدها في الخصام -إن كان لابدَّ- كأنداد متكافئين وبحرية أكبر حول آلية الانتقال من الحلم إلى موضع القدم الأول على أرض المستقبل المشترك. لكنهم لا يريدوننا معهم. فأينما تلفتنا من حولنا كان الغد محجوزا باسمهم أو باسم الغيب.
لا بيت لنا إذا، نحن المهزومين، سوى في الأمس المشاع، الماضي الذي لا سلطان عليه، حتى لو بات هذا الماضي نفسه «بلدًا أجنبيًا» كما كتب الروائي البريطاني ليسلي بولز هارتلي. ربما نحن أكثر سعادة في الماضي، ربما نحن أكثر انتشاءً واحتفاءً بالكسل الجميل من غيرنا؛ لأن مقياس الزمن في مناخنا الحزين يبدو أكثر تراخيًا مما هو عليه في تلك البلاد التي تطبع العملة وتبيعنا إياها. لا بأس، فلعلنا بذلك قد نجد الفسحة الكافية من الوقت لنتفرَّغ لكتابة الشعر، الشعر الذي يثير غيرة المنتصر من قدرتنا على إبداعه وتوليده من أعماق الهزيمة فينا، حتى لو كان لا يفهمه أو لا يجد وقتًا لقراءته.
إن إقامتنا في الماضي تمنحنا امتيازًا آخر يحسدنا عليه المنتصرون الأشقياء، ففي وسعنا أن نستريح من هوس الانتباه الدائم، بينما لا يستطيع المنتصر أن يغفل عن شاشات الرادار وكاميرات المراقبة لثانية واحدة، يخاف من أن يتمادى مع غفوة صغيرة أثناء نوبة الحراسة، وإلا فالنتيجة ستكون فقدان السيطرة والموت، أو الفضيحة على الأقل. وفي إسرائيل، بعد صبيحة السابع من أكتوبر الماضي، عبرة للمنتصرين المهووسين بالعقلية الأمنية، فضيحة تذكر بما حدث قبلها في صبيحة السادس من سبتمبر عام 2021 عندما اخترق ستة سجناء فلسطينيين بملاعق الطعام أكثر السجون الإسرائيلية تحصينا.
فبخلاف من يهربون إلى المستقبل خوفا من الماضي، هنا نحن في ماضينا، حيث يمكننا أن نتخفف من دروع الوقاية ومن هواجس الاغتيال والتربص، نحيا أقلَّ تحفظًا ضد زمننا الدائري السخي، الزمن الزائد أبدا عن حاجة الحالمين الذين يولدون في الماضي، ويكبرون في الماضي، ويحلمون في الماضي بحقهم في الحلم. فما أكثر الماضي إذا! ما أكثر الماضي الذي جربناه دون أن نشعر بأنه يدور علينا ويستدير.. ما أكثر الماضي الذي ما زال في وسعنا أن نكتشف مناجمه وأن نحمله معنا خردةً وخامًا طيعًا إلى مَخادع الأحلام!
الآن يحدث الماضي لنا ولهم، في سياقين منفصلين قد يتقاطعان عند مفرق ما من التاريخ، يحدث ببطء أخطر من الزلزال، ويتراكم كطبقات الجيولوجيا في ذاكرة البشر والشجر والحجر. أما الزمن فيتدفق مع نبضات القلب نهرا محايدا لا يجري لمصلحة أحد، ولا يعمل إلا موظفا منتظما ودؤوبا في خدمة الفناء، فناؤنا كلنا... وما التاريخ سوى موجز أنباء سريع لفعل الماضي المضارع.
هكذا يبدو لي أن لدى بعض الدول الصناعية المهيمنة، ذات الماضي الاستعماري الدموي، مشكلة أزلية في علاقتها بماضيها، أشبه بوسواس قهري تحاربه بالمهدئات المؤقتة. إنها «الدول الكبرى التي تفسد حديقة الشاعر» على حد تعبير هنري ميلر، والتي يتضح اضطرابها عندما تقع بين ثنائية الماضي والمستقبل، كأمريكا على سبيل المثال، الدولة التي تطور واقعها المادي عملا بعقلية ضمنية تقوم على استراتيجية الهرب إلى المستقبل من شبح الماضي النائم في كل شبر من جغرافيا ذاكرة المكان والسكَّان، وكأنها دولة محكوم عليها تاريخيا، بخلاف الأمم والشعوب «الحزينة» التي لم يكن ماضيها جميلا بالضرورة، إلا أنها تتفاءل عبر العودة إلى الماضي، بل تعيش وتقاوم وتحلم من خلال تصعيد الحنين واستثماره كطاقة روحية لا تنضب.
وأنا أحب الشاعرة الصينية الأمريكية، مارلين تشين، حينما تكتب بالنيابة عني، وعن كل «المهزومين» هذا الشعر مثلا:
«بالرغم من أن البلد قد فُقد
الأنهار والجبال ستبقى...
وسوف نحيا دائما
في هذا الشِّعر الذي نحبه،
من أجل أمي».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الماضی
إقرأ أيضاً:
22 فبراير| تعامد الشمس على معبد أبو سمبل.. معجزة فلكية تتحدى الزمن
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في قلب الصحراء النوبية، حيث تلتقي روائع الهندسة المصرية القديمة بعظمة الطبيعة، يشهد معبد أبو سمبل واحدة من أكثر الظواهر الفلكية إبهارًا في العالم: تعامد الشمس على قدس الأقداس.
هذه الظاهرة الاستثنائية تحدث مرتين كل عام، في 22 فبراير و22 أكتوبر، عندما تخترق أشعة الشمس المعبد لتضيء ثلاثة تماثيل من أصل أربعة داخل الحجرة المقدسة، تاركةً تمثال بتاح، إله العالم السفلي، في ظلامه الأبدي.
يعتقد المؤرخون أن هذين التاريخين يرمزان إلى مناسبتين عظيمتين في حياة الملك رمسيس الثاني: ذكرى جلوسه على العرش في فبراير، وميلاده في أكتوبر. هذه الدقة المذهلة في تحديد التوقيت، والتي تم تحقيقها قبل أكثر من 3200 عام، تعكس التفوق الفلكي والهندسي للحضارة المصرية القديمة.
لكن المعجزة لم تتوقف عند الفراعنة، فبعد بناء السد العالي، كان المعبد مهددًا بالغرق في مياه بحيرة ناصر. في واحدة من أعظم عمليات إنقاذ التراث العالمي، تم تفكيك المعبد إلى أكثر من ألف قطعة، ونُقل إلى موقعه الحالي على ارتفاع 65 مترًا بنفس الزوايا والتصميم، ليحافظ على الظاهرة الفلكية كما كانت.
اليوم، يجتذب الحدث آلاف الزوار من جميع أنحاء العالم، حيث يجتمع السائحون والمصريون فجرًا لمشاهدة لحظة التقاء أشعة الشمس مع الماضي، في مشهد يُجسد عبقرية المصريين القدماء وروحهم الخالدة.