رحيل البابطين وذكرى تكريمه لعبدالله الخليلي
تاريخ النشر: 23rd, December 2023 GMT
لم تكرِّم مؤسسة جائزة البابطين شاعرًا عمانيًا، على عادتها في تكريم الشعراء، عدا شاعر عمان الكبير: الشيخ عبدالله بن علي الخليلي (ت: 2000م)، وكان ذلك بعد وفاة الشاعر بخمسة عشر عامًا، في الموسم الثامن لدورة «مهرجان ربيع الشعر العربي»، الذي أقيم على مسرح «مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي» بالكويت، خلال الفترة من 29 إلى 31 مارس 2015م، وهو تكريم يصفه البعض أنه «نصف تكريم»، لأن المهرجان لم يختص بالشاعر الخليلي وحده، بل بمشاركة شاعر من الكويت وهو: راشد السيف (ت: 1972م)، وغير نصف التكريم هذا لم تنظم مؤسسة البابطين للإبداع الشعري دورة خاصة بشاعر عماني، طيلة اشتغالها بإقامة المهرجانات، وتكريمها لكبار الشعراء، الممتدة نحو ثلاثة عقود، أقيمت في مختلف عواصم العالم، منذ انطلاقتها في القاهرة عام 1989م.
خلال أعوام التسعينيات، كانت تصلنا في «جريدة عُمان»، أخبار عن دورات ومهرجانات مؤسسة البابطين، التي تقام كل سنتين، وكنا ننشر تغطيات صحفية عنها، بعضها بمشاركة صحفية من الجريدة، حيث تستضيف المؤسسة أحد الزملاء لتغطية الحدث، وصرت أقرأ أخبار الدورات الشعرية كلما أقيمت، ولكن لم تتيسَّر لي فرصة المشاركة بتغطية صحفية في أي منها، حتى جاء عام 2015م، وأعلنت مؤسسة البابطين تكريم الشاعر عبدالله بن علي الخليلي، ومن حسن حظي أن تمت دعوتي ضمن وفد ثقافي عماني، وشاركتُ مع الوفد في أيام عُرفت باسم «مهرجان ربيع الشعر العربي»، التي أقيمت حينها في الكويت.
في ذلك الموسم من المهرجان، التقيت بالشاعر ورجل الأعمال عبدالعزيز البابطين وجالسته، وتعرفت عليه عن كثب أكثر، ورأيت فيه دماثة ولطفًا، يحمل بين جنبيه محبة كبيرة للشعر والشعراء ولعمان كذلك، ولا أنسى يوم اللقاء به في ديوانيته الكبيرة، بحضور شعراء ونقاد من مختلف الدول العربية، من بينهم الشاعر المصري فاروق شوشة، الذي كان بيننا، واستفدت من بقاء «شوشة» في فندق الإقامة بإجراء حوار صحفي معه، حول تجربته الشعرية، وأول زيارته لعُمان، وما تبقى منها في نفسه، نشرته بعد ذلك في ملحق شرفات.
كما لا أنسى جولتنا في مكتبة البابطين الشعرية الفخمة، التي تضم آلاف الدواوين الشعرية لمعظم شعراء العربية، ورأيت بين أروقتها لوحات تشكيلية، لوجوه مجموعة كبيرة من الشعراء، كانت موزعة بين أجنحتها وأقسامها، وكأن البابطين أراد بالمكتبة أن تكون ديوانية أخرى لهؤلاء الشعراء الكبار، فقد فنت أعمارهم، وغابت أجسامهم، وبقيت إبداعاتهم الشعرية في دواوينهم، ولوحات من ملامح وجوههم، التي عرفوا بها في الحياة، كانت المكتبة ديوانية للشعراء، يشعر فيها الزائر وكأنه يلتقي بهم وجهًا لوجه، ويدخل في حوار روحي معهم لا ينقطع، ويتعرف على أسماء جديدة، إذ ما أكثر الشعراء الذي نسمع بهم ولم نرهم، وما أكثر من لم نقرأ لهم، وقد كتبوا قصائدهم بحبر مشاعرهم، وكأنه يخرج من بين الأفئدة والأكباد.
كان البابطين يأمل بطباعة كل أعمال عبدالله الخليلي الشعرية، ولكن لعل لأسرة الشاعر رأيًا آخر، فاكتفت مؤسسته بنشر كتابين عن الشيخ عبدالله، تم توزيعهما على المشاركين خلال أيام الاحتفال، الأول أعده الدكتور أحمد درويش بعنوان: «عبدالله الخليلي شيخ شعراء عُمان»، يتضمن تقديمًا للدكتور، مع مقالتين للأديب أحمد بن عبدالله الفلاحي، الأولى بعنوان: «صورة من قريب وشهادة من مريد»، والثانية كتبها حول الطبعة الجديدة لديوان «وحي العبقرية»، وضمَّن الكتاب مختارات شعرية من دواوين الخليلي.
أما الكتاب الثاني فأعده الشاعر سعيد الصقلاوي، بعنوان: «الشيخ عبدالله بن علي الخليلي كلاسيكية متجددة»، وهذا الكتاب برأيي أكثر ثراءً في المادة لتنوع فصوله، أهمها فصل «البيان الأدبي للشاعر الخليلي»، وفيه أسهمت بعض الأقلام العمانية بالكتابة عن تجاربهم وذكرياتهم وخواطرهم عن الشيخ الخليلي، وكنت من بين الأقلام التي شاركت في هذا الكتاب، بمقالة عنوانها: «عبدالله الخليلي شيخ القصيدة العمانية»، وأقلام عمانية أخرى كتبت عن الشاعر، كل بحسب تجربته ومعرفته وقراءته في شعره.
في أيام ذلك المهرجان، لا أنسى المشاركة العمانية فيه، لا أنسى قصيدة الشاعر هشام الصقري الرائقة، وقصيدة الشاعر غصن بن هلال العبري التي أثنى فيها على الكويت، وحضور الشيخ الشاعر محمد بن عبدالله الخليلي وريث الشعر، وكأن والده المحتفى به حاضر بيننا، ولا أنسى الزميل المحب سعيد بن سالم النعماني، محقق «الموسوعة الشعرية لأمير البيان»، التي صدرت عام 2018م في تسعة أجزاء، والدكتور عبدالله بن مبارك العبري، وصالح الحميدي، والدكتور محمد الذهب، وغيرهم من المشاركين العمانيين، ومن الكويت الدكتورة نورية الرومي، التي زارت عُمان أواخر السبعينيات، ونزلت ضيفة على أسرة الشيخ الخليلي، لتنجز بحثها عن «الظواهر الفنية في غزل الخليلي»، نشرته ضمن دراستها «الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطوير»، وجمعني اللقاء بالكاتبة أمل عبدالله، وقد أهدتني نسخة من كتابها الحواري «حروف الأثير»، ضمنته مجموعة من حواراتها الإذاعية مع الشعراء والأدباء، من بينها حوار نادر مع الشيخ عبدالله الخليلي.
وكانت دعوتي في احتفالية تكريم الخليلي فرصة لي أن أزور «مكتبة البابطين المركزية»، واللقاء بمؤسسها ومجالسته، والاستماع إليه وهو يتحدث مع الشعراء وعن الشعراء، وقد كانت الأحاديث موصولة بخيوط رقيقة من مودة لا تنقطع.
لقد استطاع البابطين أن يخدم الأدب والحركة الشعرية، ولعله من القلائل الذين عرفناهم، ينفق أمواله بسخاء لخدمة الشعر العربي، بإقامة المهرجانات، وعملت مؤسسته على تأليف معجم كبير جمع فيه شعراء العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مع نماذج من نصوصهم، فما أحوجنا إلى معجم حديث بمادة جديدة كهذا، بديل عن الجاهزة والمستهلكة.
وحيث إن الذكريات أشبه بمثار النقع فوق الرؤوس، أستعير الصورة من بيت بشَّار بن برد الشهير، فإنه في يوم من الأيام، جاءني اتصال من صديق، يبلغني أنه رشَّحني لكتابة مداخل عن شعراء عمانيين، وأننا سنلتقي في مسقط بضيف قادم من الكويت، وهو الكاتب عدنان فرزات، شقيق فنان الكاريكاتير الشهير علي فرزات، وذهبنا إليه في الموعد المحدد، وعرض عليَّ فكرة كتابة مداخل عن شعراء عمانيين، لنشرها في معجم سيصدر في موسوعة كبيرة، لكني اعتذرت له، إذ لم تكن مكنتي الثقافية تسمح لي أن أبحث في هذا المجال، وخشيت أن لا أستطيع أن أوفي بوعدي، غير أن الأيام علّمتني أنه بمجرد الإقدام والمبادرة تتحقق الأماني، وفي أيام تكريم الشيخ عبدالله، التقيت بالكاتب عدنان فرزات من جديد، وذكّرته باللقاء الذي جمعنا في مسقط، وأهداني روايته «تحت المعطف»، وبقي فرزات وفيًا لعمله في مؤسسة البابطين، حتى وفاته عام 2020م.
وغني عن البيان، أن أذكر أن مؤسسة البابطين حاولت أن تقيم دورة شعرية في مسقط، خاصة بالشاعر أبي مسلم البهلاني (ت: 1920م)، وعلمت من بعض المثقفين، أن المؤسسة تواصلت مع إحدى المؤسسات الثقافية في عُمان، لكن لم يصدر منها رد، فصرفت مؤسسة البابطين النظر عن إقامة تلك الدورة، وبذلك فات علينا في مسقط أن نشهد إحدى دورات مهرجان البابطين.
قبل أيام توفي الشاعر عبدالعزيز البابطين، وأصبح ضمن الشعراء الذين جمعهم في مكتبته، وأصبحت دواوينه بين دواوين أولئك الشعراء، الذي لا يعرفون بعضهم البعض، ولكن يتعارفون بالشعر والقصائد، هم أسرة شعرية واحدة، تتناسل أجيالهم وتتعاقب، وينقضون واحدًا تلو الآخر، وكان البابطين آخر الراحلين قريبًا، وستأتي أجيال قادمة، تتساءل: من صاحب المكتبة بدواوينه الشعرية الثلاثة: «بوح البوادي»، و«مسافر في القفار»، و«أغنيات الفيافي»، وستأتي الإجابة: إنه شاعر كان يعيش هنا في هذا المكان، ثم سافر بأحلامه إلى قفار بعيدة ولم يعُدْ، وبقيت دواوينه تذكِّر به، كلحن حزين ينسل بخفة من ناي القصيدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مؤسسة البابطین الشیخ عبدالله عبدالله بن فی مسقط من بین شاعر ا
إقرأ أيضاً:
إطلاق الفيلم الوثائقي “إرثٌ لن يُنسى.. عبدالعزيز سعود البابطين” تكريمًا لرجل القرن
في خطوة لتخليد ذكرى أحد أعظم رموز الشعر والثقافة في الوطن العربي، تم إنتاج فيلم وثائقي فريد عن حياة الشاعر الراحل عبدالعزيز سعود البابطين، و يعكس الفيلم الجوانب الإنسانية والصفات الفريدة للراحل، مسلطًا الضوء على إرثه الثقافي ودوره البارز في دعم الشعر والثقافة العربية على مدى عقود.
شهادات حية عن “رجل القرن”
يُبرز الفيلم شهادات حية لشخصيات بارزة من الدبلوماسيين والأدباء والمثقفين والسياسين ورجال الفكر و روؤساء دول سابقين الذين عاصروا الراحل، حيث سلطوا الضوء على تواضعه الكبير وكرمه اللامحدود، إلى جانب إيمانه العميق بدور الثقافة والشعر في بناء مجتمعات أكثر وعيًا وإنسانية. وأجمع الجميع في شهاداتهم على وصفه بأنه “رجل القرن”، نظرًا لما تركه من بصمات لا تُمحى في دعم الشعراء والمثقفين العرب.
إنتاج فيلم وثائقي عن معصرة الحج يونس والمسجد العمري بقوصفكرة الفيلم وفريق العمل
الفيلم الوثائقي من إنتاج فريق عمل متكامل فريق قناة البوادي الذي بذل جهودًا مخلصة لإبراز إرث الراحل بالشكل الذي يليق بمكانته.
التعليق الصوتي: بصوت الإعلامي المتميز يوسف جوهر، الذي أضاف عمقًا شعوريًا للكلمات والمعاني.
فيلم أبو زعبل يحصد جائزة أفضل فيلم وثائقي بختام القاهرة السينمائي
رسالة الفيلم
يُعد “إرثٌ لن يُنسى” ليس فقط تأريخًا لمسيرة الشاعر الكبير، بل أيضًا شهادة على دوره البارز في دعم الثقافة العربية وتعزيز الهوية الأدبية. يجسد الفيلم دعوة للاستلهام من قيم التواضع والكرم والإبداع التي عاشها الراحل وترجمها إلى أعمال خالدة.
الفيلم هو تكريم لذكرى عبدالعزيز سعود البابطين، وسيبقى شاهدًا على إرثه الثقافي والإنساني الذي لن يُنسى.