- 1 -

أذكر جيدا ونحن طلاب صغار بالجامعة في نهايات القرن الماضي ومطالع القرن الجديد -ندرس مادة الأدب الشعبي، وكان بمثابة الكنز الذي نكتشفه، وندرس الأدب العربي القديم والحديث، والفنون والأنواع الأدبية الحديثة على اختلافها- أننا وقفنا وقفات متأنية ومطولة أمام مسألة الإبداع واستلهام التراث، أو "التراث" وموقعه من الأنواع الأدبية الحديثة.

وأذكر جيدا أننا قرأنا عشرات الفصول والكتب والمقالات التي عالجت هذا الموضوع من شتى جوانبه؛ بل قتلته بحثا فيما استوقفني أنا شخصيا، وأنا في تلك السن المبكرة، ما اصطلح على تسميته بـ"استلهام التراث" سواء في الأدب العربي المعاصر، والإبداع السردي والشعري على السواء أو الإفادة من معطيات التراث الشعبي عمومًا، والأدب الشعبي خصوصًا في الإبداع والابتكار والوصول إلى حلم "إبداع عربي" ذي خصوصية، وذي فرادة، يتمايز عن الإبداعات الأخرى من العالم وفي العالم تمايز التواصل لا الانقطاع؛ وتمايز الخصوصية لا الانعزال وتمايز الإضافة لا تمايز الانتقاص!

- 2 -

في تلك الفترة أذكر أنني وقعت على كتاب «العناصر التراثية في الرواية العربية في مصر ـ دراسة نقدية (1914-1986)» الصادر عن دار المعارف (أظن سنة 1991) وقد صحبت هذا الكتاب سنوات وسنوات، وكنت قد اقتنيته قبل دخولي الكلية؛ أحببت هذا الكتاب ومؤلفه؛ وقلت إن المجهود المبذول في هذه الرسالة (وهي في الأصل على ما أذكر أطروحة دكتوراه محترمة) يليق بباحث حقيقي وأستاذ جاد ورصين. وكان من آثار ولعي بهذا الكتاب أنني سعيت إلى الحصول على كل الروايات التي حللها مؤلف الكتاب واقتنيتها وقرأتها بكاملها، كانت قائمة المصادر التي أوردها في نهاية الكتاب بالعشرات ومعظمها نصوص روائية تغطي مساحة زمنية كبيرة قد تمتد لما يزيد على العقود السبعة،

وأذكر جيدا أنه عالج روايات لمحفوظ، ومعظم إنتاج جيل الستينيات، وقدم ربما أول محاولة تصنيفية للروايات التي استلهمت التراث، بكل تنويعاته وعناصره؛ التراث التاريخي، والصوفي، والشعبي والأسطوري... معالجًا طبيعة النصوص ذاتها من حيث الحركية والسكون، والشخصية، والشكل التراثي الجمالي الذي حدده في ثلاثة (التراث التاريخي، والتراث الشعبي، والتراث الأسطوري)، كما لفتني كذلك اهتمامه بتحليل أشكال وأنماط اللغة التراثية التي قسمها إلى أنماط ثلاثة بدورها؛ اللغة التاريخية، واللغة الشعبية، واللغة الأسطورية، وتوقف وقفات مطولة أمام روايات تعد الآن من عيون وكنوز الرواية العربية الحديثة؛ ومنها على سبيل المثال «الزيني بركات» للغيطاني، و«أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، و«رامة والتنين» لإدوار الخراط، و«تغريبة بني حتحوت» لمجيد طوبيا.. إلخ.

- 3 -

وهكذا وجدتني أتتبع بشغف عظيم، وهوس أعظم، كل الكتب والدراسات النقدية التي تبحث عن "توظيف التراث" و"استلهامه"، في الشعر والرواية والقصة والمسرحية، وكان المحصول وافرا وعظيما ومستفيضا!

وقد تأكد لي، بعد هذه الرحلة الطويلة، المرهقة نعم، الممتعة بكل تأكيد، أن طريق البحث عن الفرادة والخصوصية والابتكار والإسهام في المشهد العالمي يبدأ من هذه النقطة، يبدأ من هذا النبع "التراث"، وبالتأكيد لا أقصد هنا التراث على إطلاقه، بل التراث الذي نشتغل في البحث فيه وعنه، منذ سنوات وسنوات، تراث الأصالة والبقاء والاستمرارية، تراث الخصوصية والحافز على الانطلاق والابتكار إلى آفاق لا تحد!

فإذا كان الأوروبيون قد استلهموا في نهضتهم، وعصور أنوارهم، وما صاحب ذلك من ثورة علمية هائلة قد استند في أساسه وفي صميمه على الموروث الإغريقي والروماني، فإنني أيضا على قناعة بأن نهضتنا المرجوة والتي نبحث عنها منذ قرنين من الزمان تستند في صميمها وفي مقومات حركيتها على عناصر تراثنا العربي الأصيلة والجوهرية؛ وعلى نظرتنا النقدية لهذا التراث والوعي به، والانطلاق منه، وتجاوزه أيضًا (لا محوه ولا نفيه ولا الانقطاع ولا عزله... إلخ تلك الدعوات التي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنها فاشلة، ولا مكان لها في واقعنا المعاصر).

وأنا ممن يعي جيدا ضرورة النظر إلى التراث من منظور نقدي منتج للمعرفة، وليس من منظور تقديسي كما يؤمن بذلك البعض، فإذا ظللنا نمجد التراث بكل ما فيه من دون نظر وتأمل وقراءة وتحليل ونقد، فلا أمل في التقدم أو الخروج من المأزق الذي نحن فيه، ولعل من بين أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها المؤسسات الأكاديمية والعلمية المعنية بهذا التراث هو هذا الدور، دور الدرس والقراءة والتحليل، بعد الحصر والإحصاء والجمع والعمل على صونه وحمايته وحفظه.

- 4 -

ولعلي أؤكد على ما سبق لأستاذي الراحل الجليل الدكتور جابر عصفور -الذي انطلق من الوعي بالتراث وجوانبه الإيجابية إلى المعاصرة والوعي بالحداثة والتطور، دونما أي تناقض أو حدية أو صراع كما يتوهم البعض- أقول لعلي أؤكد مثله على أن الجانب الإبداعي الأصيل من التراث هو الجانب الذي يغوص في أعمق أعماق زمنه الخاص، فيصل إلى الجذر الإنساني الذي يجعله قادرًا على إثارة كل الأزمنة الإنسانية في كل مكان، يعرف معاني الحق والخير والجمال. ولذلك فبقدر ما يتحدث نقاد الغرب عن «شكسبير معاصرنا» وعن "هوميروس" الذي تتجدد معاني «إلياذته» و«أوديسته» في كل العصور، بالرغم من اختلاف آليات تلقيها في كل زمن أو بيئة أو لغة، فإننا بالقدر نفسه، يمكن أن نتحدث عن العام الذي نجده في الأصيل من الخاص في التراث الأدبي، أو في القيمة الإنسانية التي نجدها في الإبداع المحلي لهذا الشاعر الجاهلي أو ذاك، أو هذا الناثر العباسي أو غيره من أهل المنثور أو المنظوم.

ولهذا فالأبعاد الوجودية على سبيل المثال التي نجدها في شعر طرفة بن العبد أو في شعر الصعاليك في العصر الجاهلي تتجاوب مع أبعاد مشابهة عند شعراء عصور لاحقة، إلى أن نصل إلى أبي العلاء المعري في القرن الخامس الهجري الذي كتب ضده المتزمتون وضيقوا العقول الذين هاجموه، وناصبوه العداء، ولم يكفوا عن اتهامه بالكفر، فرد عليهم بكتابه الذي يعرفه محبو التراث وعشاقه والباحثون عن نوادره جيدا «زجر النابح»!

والأمر نفسه ينطبق على روائع المنظوم الموازية إلى جانب روائع المنثور، سواء كنا نتحدث عن تراثنا "الصوفي" أو "العقلاني" الكلامي، أو الفلسفي الخالص، أو غير ذلك من تيارات التراث التي تختلف وتتعارض أو تتناقض أو حتى تتصارع من منظور رؤى العالم، لكنها تتجاوب فيما تحت السطح الخارجي في جذر القيمة الجمالية التي تنطوي بالضرورة على أبعادٍ أخلاقية وسياسية واجتماعية، هي أوجه متعددة لجوهر التجربة أو التجارب الإنسانية المختلفة في المظهر، لكن المؤتلفة في أصل الجوهر.

- 5 -

وأخيرًا فإن هذا التراث الإبداعي الذي يباعد ما بيننا وبينه الزمن، فضلا على تغير آليات التلقي وتقنياته، هجره القراء المعاصرون وانصرفوا عنه إلى ما يرتبط بحياتهم النفعية والعملية، خصوصًا في عصر من التقدم العلمي المذهل وثورة كونية من الاتصالات أحالت العالم إلى قرية كونية صغيرة، وبالرغم من أن محبي التراث حاولوا استخدام هذه الثورة غير المسبوقة لصالح الحفاظ على التراث بعامة، والأدبي بخاصة، فأنشأوا مواقع له على شبكة النت، لعلها تغري بالاطلاع عليه، فتزيد من عدد المحبين له، لكن التراث الأدبي لم يعد بالقدر نفسه، قادرًا على جذب مستخدمي الإنترنت، قياسًا على مباهج ومغريات مواقع «النت» الأخرى والعديدة...

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مدحت العدل: الاستسهال آفة المجتمع ولابد من الجهد والإبداع للنجاح.. فيديو

أكد السيناريست مدحت العدل أن المجتمع أصبح يعاني من جمود في مشاعره وعقله، خاصة فيما يتعلق بالفن، موضحًا أن هناك العديد من المواقف السلبية تجاه الفن والفنانين بناء على أفكار تم نشرها وبناءها على يد جماعات متطرفة.

وفي لقائه مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج "نظرة" على قناة صدى البلد، أشار مدحت العدل إلى أن من حقه أن يشكك في قناعاته ويسائل نفسه حول أصول هذه القناعات، مضيفًا: "لا أؤمن بفكرة الدروشة أو أن أحدًا يفرض علي طريقة معينة للوصول إلى هدف معين".

وأكد: "كل شخص يجب أن يعمل بالطريقة التي يراها مناسبة، لكن لا يمكنني أن أكون مجبرًا على اتباع مسار معين".

وتابع مدحت العدل قائلاً: "أنا إنسان عادي، وأشعر دائمًا أنني بحاجة إلى بذل جهد أكبر، ليس لأنني أفضل من الآخرين، ولكن لكي أتميز وأحقق النجاح، يجب أن أعمل بجد وأظهر بإبداع".

وأضاف مدحت العدل، أنه يرفض التقديم لبرامج دينية أو تقليدية، مشددًا على أن "الاستسهال أصبح آفة في مجتمعنا، فكل شخص الآن يسعى لتقديم عمل سطحي وسهل. أنا أرفض هذا الاستسهال، ولا بد من الجهد والإبداع لتحقيق النجاح والظهور بطريقة مميزة".

وأعرب مدحت العدل عن استيائه من هجوم المجتمع على رموزه، موضحًا أن كل شخص يقيم الرموز بناء على مستواه العقلي والفكري، مؤكدًا: "لكي ترفع من شأن الأقزام، يجب أن تهمش العظماء".

وتابع: "نحن نعيش في مجتمع لا يقدر قيمة رموزه، على سبيل المثال، اللاعب محمد صلاح يعتبر من أعظم اللاعبين، لكننا لا نقدر هذا الإنجاز كما يجب".

مقالات مشابهة

  • "قهوة على الفحم بعجلة متنقلة... رحلة شغف نحو النجاح والإبداع"
  • الرياض تجمع الموهوبين من أنحاء العالم
  • تحركات إقليمية جديدة بحثا عن التوافق بين فرقاء السودان
  • رؤية معاصرة لفهم الإسرائيليات في الإسلام ودورها في تشكيل العقل العربي والمسلم
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • مدحت العدل: الاستسهال آفة المجتمع ولابد من الجهد والإبداع للنجاح.. فيديو
  • البيت الأبيض: بايدن وماكرون بحثا الجهود الرامية إلى وقف النار في لبنان
  • بايدن وماكرون بحثا الجهود الرامية إلى وقف الحرب في لبنان
  • أحمد داش وياسمينا العبد.. شباب مصر الفنانين يتألقون في قائمة فوربس
  • 3 أبراج فضولية وتطفل على خصوصية الآخرين..«بيحشروا نفسهم دايما»