ما زال كثير من مثقفي العالم العربي ومفكريه يرددون -باختلاف الصياغات- دعوى محمد عابد الجابري الزاعمة بأن "الأعرابي صانع العالم" أي أن العقل العربي الذي أنتج لنا الأدبيات العربية القديمة في جميع عصورها والتي أثرت على العقل العربي المعاصر ما هو إلا نتاج للبيئة والثقافة البدويتين ويحلو لهؤلاء اختزال الثقافة العربية الممتدة لأكثر من ألفي سنة في ذلك الجزء الضئيل منها أعني الجزء الذي أنتجته الجماعات البدوية، هذا ما جال بفكري حين استمعت لأحد ضيوف فعالية ثقافية كبرى أقيمت مؤخرا على المستوى المحلي حيث قال: إن تعريف الأدب تابع ونابع من متطلبات المؤسسة المنتمي إليها، وأنه تبعا لهذه المقدمة فإن الأدب العربي حسب التعريف القديم -أي الجاهلي والإسلامي- كان قد تشكل وفقا لنظرة الأعرابي التائه في الصحراء، إن هذه النظرة الهوليودية الضيقة إلى الثقافة العربية باعتبارها ثقافة بدوية هي نظرة يصعب أن يهضمها عقل العربي الذي نشأ وتربى في عمان وفي أقطار عربية أخرى لا يشكل المكون البدوي في ثقافتها سوى جزء صغير إن لم يكن هامشيا وحيث عاش الجزء الأكبر من أهلها منذ الآف السنين في المناطق الحضرية.

قد يعرف القارئ المطلع على كتابات "الجابري" أنه يستدل بما يشاع عن رواد النحاة والمعجميين الأوائل الذين كانوا يعدون الأعراب أفصح لسانا ومرجعا فيما أشكل عليهم من علوم اللغة، ومن هذه المقدمة ينطلق الجابري إلى نتيجة مفادها أن الأعرابي هو صانع العالم العربي أي صائغ النظرة العامة وفلسفة الحياة لدى العرب، وههنا لا بد لنا من التوقف والتساؤل: ما دامت السردية الشائعة تزعم بأن علماء اللغة ضربوا الآفاق وعانوا المشاق في سبيل تأصيل اللغة من البادية أفليس ذلك بحد ذاته دليلا على أن الثقافة البدوية كانت -تماما كما هي اليوم- تعيش على هامش الحضارة العربية المتمدنة؟ ألا يحق لنا أن نستنتج بأن وجهة النظر الأعرابية كانت على الهامش من متن الحياة العربية الحضرية حتى وإن زعم بعض المؤرخين أنها كانت مرجعية العرب قاطبة في حقل اللغة؟

في أحد ردوده على الجابري أوضح ناقده الأكبر جورج طرابيشي تهافت هذا الزعم -أي أن اللغة العربية كما الثقافة الناتجة عنها هي وليدة الحياة البدوية- هو زعم متهافت جدا، وكان مما قاله: "كيف يغيب عنه -يقصد الجابري- أن أحدا من كبار شعراء الجاهلية ما كان أعرابيا وأنه إن وجد شعراء أعراب بين الشعراء الجاهليين فهم في الغالب من صغار الشعراء ومغموريهم لا من كبارهم ومشهوريهم" ولو جئنا لنعمم هذه المقاربة على نطاق أوسع، فلن نجانب الحقيقة حين نقول: إن الثقافة العربية ما قبل الإسلامية كانت تنطلق من حواضر لا من بوادٍ، وإذا أردنا أن ندلل بأمثلة على ذلك فلن نبدأ بذكر الحواضر الحجازية كمكة والطائف وتيماء، وسبب عدم ابتدائنا بالحواضر الحجازية هو أننا لا نريد أن نرسخ الفكرة الشائعة التي تحصر مفردة "العرب" ومحمولاتها الحضارية في الرقعة الجغرافية الحجازية، والتي كانت وما زالت بؤرة الحياة البدوية في شبه الجزيرة العربية، ولأجل ذلك إذن فسنبدأ بذكر الحواضر العربية الكبرى والتي تنبئنا الاكتشافات المعاصرة المتتالية يوما بعد يوم عن المستوى الحضاري المتقدم الذي وصلت إليه.

إن الدول العربية القديمة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية لم تكن تمت إلى البداوة بصلة وهذه الدول -كمثل سبأ وحمير وقتبان ومعين- قد نتج من مسار تطور لهجاتها ظهور اللغة العربية الفصحى وذلك بالتزواج مع لهجات أخرى شمالية كاللحيانية والنبطية والآرامية، شهد تاريخ هذه الدول -الممتد منذ ألف سنة قبل الميلاد وحتى ما بعد البعثة المحمدية- على تقدم حضاري لا يصفه بالبداوة إلا من يجهله أو من لا يتسع أفق فكره لاستيعابه، خاصة وأننا كما سلف الذكر نتحدث عن زمن يعود لأكثر من ألف سنة سابق لذلك الزمن الذي انطلقت معه الثقافة العربية بحسب زعم أصحاب نظرية "بداوة العقل العربي"، وقد كان لهذه الدول اليمنية -أو الجنوبية عموما حيث لم يكن حينها وجود للحدود الجيوسياسية- مواجهات مؤزرة ضد الرومان والفرس الذين حاولوا غزو جنوب غرب الجزيرة العربية.

وإذا تجاوزنا اليمن وممالكها العربية متجهين شمالا فسنجد الحاضرة العربية "تيماء" التي ما عرفت البداوة كمكون من مكوناتها قط والتي اتخذها نبونئيد آخر ملوك بابل وطنا له لسنوات سنجد كذلك تدمر والبتراء ومملكة الحضر ثم المناذرة والغساسنة في العراق وسوريا وقد حكم ملوكها منذ بداية القرون الأولى للميلاد لكل ذلك فنحن نطالب القائلين بـ"بداوة العقل العربي" بأن يجدوا موضعا في سياق نظريتهم لقصص جذيمة الأبرش وعرش الزباء ملكة تدمر وزوجها الملك أذينة ولنقوشات عربية طافحة بالحضارة مثل نقش امرئ القيس الملك -المعروف بنقش النمارة- نطالبهم كذلك بالتطرق إلى سيرة الملك الفارسي الكبير بهرام جور الذي بعثه والده إلى الحيرة فتربى فيها تربية عربية قبل أن يتولى قيادة المملكة الفارسية نريدهم كذلك أن يحدثونا عن الطبيب الحارث بن كلدة وتجارة خديجة بنت خويلد وعن الملك الحميري ذي نواس الذي اعتنق اليهودية وعن زرقاء اليمامة، فكيف يمكن أن تفسر نظريتهم كل هذا الإرث الحضاري الذي يشهد بعكس ما يزعمون، وإذا اتفقنا على أن المنجزات المادية للحضارة هي انعكاس لمدى اتساع وتعقيد الثقافة المنتجة لها فأين يضع مرددو النظرية الجابرية -في سياق ادعائهم- المنجزات الحضارية لما قبل الإسلام كحصن الخورنق وكعبة نجران وقصر غمدان ومحرم بلقيس بمأرب وهياكل البتراء المنحوتة بالصخ؟

ربما نلتمس بعض العذر لمن يتبنى فرضية بداوة العقل العربي حين نرجح أن مفهوم البداوة يختلط في أذهانهم مع مفهوم القبلية، فلئن كانت العصبية القبلية حاضرة في الثقافة العربية في مختلف أطوار اشتغالها التاريخي -بل ولا تزال إلى الآن حاضرة بدرجة أو بأخرى- فإن ذلك ليس مسوغا لمساواتها مع مفهوم البداوة ولئن كانت الممالك العربية الكبرى قد تسمت ونسبت إلى القبائل المتصدرة لها كمملكة آل غسان وآل لخم ومملكة حمير ومملكة كندة فإن ذلك يقف شاهدا على أن الحضارة ارتبطت لدى العرب بالقبلية تماما مثلما ارتبطت في أمثلة أخرى مع البداوة.

ختاما ندعو المثقفين والمفكرين العرب إلى الحذر والتروي في مماهاة الثقافة العربية -لا سيما القديمة- بالبداوة والأعراب إذ العلاقة بينهما ما هي إلا علاقة الجزء بالكل، وإذا كنا نستنكر على المستشرقين مثل إرنست رينان وغيره تعصبهم للعقل الغربي باعتباره عقلا إبداعيا على الضد من العقل والثقافة المشرقية بما فيها العربية ووصفهم للثقافة العربية بافتقادها لملكة التأمل الفكري والفلسفي فكيف نردد ادعاءاتهم متجاهلين الحقيقة التاريخية الواضحة التي تؤكد أن البداوة والعقل البدوي لم يحتلا يوما مركز الصدارة في ثقافتنا العربية؟.

* محمد الحراصي كاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الثقافة العربیة العقل العربی

إقرأ أيضاً:

المصرى القديم للعالم: لوْلَاىَ ما كانت الموسيقى

كان المصرى القديم أول من عزف على الآلات الموسيقية التى كان أول من اخترعها أيضاً وقدمها للعالم، كان يتعبد بالموسيقى إلى الله، وكذلك يفرح بها فى أفراح حياته، ويقدمها واجب عزاء فى جنازاته، وكان كذلك يجلس بجوار زرعه ينتظر حصاده بينما يحول هذا الانتظار إلى انتظار موسيقى وغنائى، وكان قد اخترع آلاته الموسيقية من حصاد زرعه كالناى وآلات النفخ، و كذلك الآلات الوترية من أخشاب شجره وأوتارها من أمعاء حيواناته، لم يكتف بذلك بل اخترع الآلات الإيقاعية، فرقص على دروبها، فاخترع المقامات الموسيقية، والموازين الإيقاعية، وجعل الغناء سجلاً لحياته اليومية، من نبضات الفرح وآهات الأحزان والتفكر فى الخالق والوجود، ورحلة الحياة والموت، اخترع المصرى القديم أكثر من خمسين آلة موسيقية، منها آلات العزف الغنائية كالعود والهارب والقانون.. ومنها الكثير من الآلات الموسيقية الإيقاعية، وهو الذى اكتشف السلم الخماسى، ثم لحقه باكتشاف السلم السباعى، الذى هو الأساس الأول لكل المقامات الموسيقية بكافة درجاتها، وقد تأثرت كافة الأديان، وسائر من فى الوجود بهذه الموسيقى، لقد وصف أفلاطون الموسيقى المصرية قائلاً: «هى أرقى موسيقى فى العالم.. فهى الموسيقى الملائمة لتكون لحن الجمهورية الفاضلة، وما أحوجنا فى ظل ألوان الموسيقى المتنوعة،. ما علا منها وما انخفض أن نقدم للعالم موسيقانا نحن وآلاتنا الموسيقية الأولى. باللغة المصرية القديمة، لا أن نجعل الأمر صراع لغات وحضارات فلا ننتصر لثوب هويتنا الأول، إذا كان المصرى وقتها مؤمناً يعلم العالم، وقد عمل الكهنة فى مصر القديمة فى مجالات الموسيقى والغناء ليعمومها للشعب وقد شغل الكاهن «خسور» وظيفة ولقب «مدرب المغنيين».

ويظهر فى الصور على ردهات المعابد، وهو يعلم العزف بـ«السيستروم» والتصفيق بالأيدى، ومن ألمع الأسماء التى عملت بالموسيقى «حمرع» وكان موسيقياً ورئيساً بالبلاط الملكى فى عصر الملك خوفو.

وكان الموسيقيون والمغنون فى عصر مصر القديمة يتمتعون بالمرتبة العالية فى المجتمع آنذاك، وهو الأمر الذى ساعد على نهوض الموسيقى فى هذا العصر، وجعل العالم يتعرف على عالم الموسيقى والغناء من خلال الموهوب المصرى الذى وجد من يدعمه، ومن هذه الأسماء «كافو عنخ» وشغل وظيفة مشرف غناء فى العصر الملكى لمدة اقتربت - من النصف قرن، وظهرت الثنائيات الغنائية ومن أشهرها «حنكو» عازف الهارب والمغنية «آتى» فحظي الاثنان بشرف التخليد على مقبرة أحد أفراد العائلة المالكة من الأسرة الخامسة.

وقد قال الحكيم «آنى» فى تلخيص دور الموسيقى فى حياة المصرى القديم فى إحدى بردياته: «إن الغناء والرقص والبخور هى طعام الآلهة».

فما أبهر تاريخنا المصرى القديم حين نقدمه للعالم بشكله وآلاته وشعره وموسيقاه فى هذا العهد الأول، وقت أن كان العالم يرسخ فى جهالته وبداوته، وفقره. وقد نجح عراب الموسيقى الفرعونية د. خيرى الملط، الأستاذ بكلية التربية الموسيقية فى أن يستخرج صور الآلات الموسيقية فى عهد مصر القديمة من على جدران المعابد، وينسج آلات موسيقية جديدة على غرار نفس شكل ومقاسات الآلات القديمة، وقد تجاوز عدد الآلات الموسيقية المستنسخ أكثر من خمسين آلة موسيقية الفرعونية التى ما تزال المتاحف فى مصر والعالم محتفظة بها، مكون فرقة موسيقية جديدة قديمة على نفس غرار الفرق الموسيقية فى عهد مصر القديمة، ويلبس العازفون بهذه الفرقة الجديدة نفس الزى الذى كان يرتديه العازفون فى العصر القديم، ويعزفون نفس الألحان سألته متعجباً كيف تعرفون وتعزفون الألحان.. وهو لم تسجل ولم تكتب «نوتة» موسيقية فأجابنى: من شكل العازف حين يؤدى هذا المقطع أو هذه الجملة.. فحين ترجع رأسه للوراء تكون الجملة الغنائية والموسيقية من منطقة «الجواب» وكذلك من قدرات الآلات الموسيقية ذاتها المتقدمة فى هذه الفرق ومن طبيعة النص الغنائى الذى كان يغنى، والذى مازلنا نحتفظ به، نحن فى احتفالات المتحف المصرى الكبير لولانا ما كان الغناء ولا الموسيقى.

مقالات مشابهة

  • مستشار لجنة الشئون الاقتصادية بالجامعة العربية: ربط الثقافة بالاقتصاد سمة الجمهورية الجديدة
  • حكم أداء الصلاة تحت تأثير المخدرات
  • 40 دولة تبحث وسائل نشر العربية في إفريقيا
  • الشبكة العربية للمنظمات الأهلية تستعد لإطلاق النسخة الرابعة من المنتدى العربي للأرض والمناخ بشرم الشيخ
  • حصول بنات عين شمس على الاعتماد البرامجي لخمسة برامج
  • المصرى القديم للعالم: لوْلَاىَ ما كانت الموسيقى
  • برعاية عبدالله بن زايد وبحضور ذياب بن محمد بن زايد وراشد بن حميد النعيمي.. مركز الشباب العربي يختتم النسخة الرابعة من برنامج القيادات الدبلوماسية العربية الشابة
  • الأمين العام المساعد للجامعة العربية يبحث مع وفد ليبي التحضيرات لاستضافة منتدى الحوار الإعلامي العربي- الدولي
  • فرقة المركز القومي تختتم فعاليات ملتقي القاهرة الدولي للمسرح الجامعي.. غدًا
  • اختتام أعمال المؤتمر الدولي لنشر العربية في أفريقيا 2025