عقلية الأعرابي وثنائية المركز والهامش في الثقافة العربية
تاريخ النشر: 23rd, December 2023 GMT
ما زال كثير من مثقفي العالم العربي ومفكريه يرددون -باختلاف الصياغات- دعوى محمد عابد الجابري الزاعمة بأن "الأعرابي صانع العالم" أي أن العقل العربي الذي أنتج لنا الأدبيات العربية القديمة في جميع عصورها والتي أثرت على العقل العربي المعاصر ما هو إلا نتاج للبيئة والثقافة البدويتين ويحلو لهؤلاء اختزال الثقافة العربية الممتدة لأكثر من ألفي سنة في ذلك الجزء الضئيل منها أعني الجزء الذي أنتجته الجماعات البدوية، هذا ما جال بفكري حين استمعت لأحد ضيوف فعالية ثقافية كبرى أقيمت مؤخرا على المستوى المحلي حيث قال: إن تعريف الأدب تابع ونابع من متطلبات المؤسسة المنتمي إليها، وأنه تبعا لهذه المقدمة فإن الأدب العربي حسب التعريف القديم -أي الجاهلي والإسلامي- كان قد تشكل وفقا لنظرة الأعرابي التائه في الصحراء، إن هذه النظرة الهوليودية الضيقة إلى الثقافة العربية باعتبارها ثقافة بدوية هي نظرة يصعب أن يهضمها عقل العربي الذي نشأ وتربى في عمان وفي أقطار عربية أخرى لا يشكل المكون البدوي في ثقافتها سوى جزء صغير إن لم يكن هامشيا وحيث عاش الجزء الأكبر من أهلها منذ الآف السنين في المناطق الحضرية.
قد يعرف القارئ المطلع على كتابات "الجابري" أنه يستدل بما يشاع عن رواد النحاة والمعجميين الأوائل الذين كانوا يعدون الأعراب أفصح لسانا ومرجعا فيما أشكل عليهم من علوم اللغة، ومن هذه المقدمة ينطلق الجابري إلى نتيجة مفادها أن الأعرابي هو صانع العالم العربي أي صائغ النظرة العامة وفلسفة الحياة لدى العرب، وههنا لا بد لنا من التوقف والتساؤل: ما دامت السردية الشائعة تزعم بأن علماء اللغة ضربوا الآفاق وعانوا المشاق في سبيل تأصيل اللغة من البادية أفليس ذلك بحد ذاته دليلا على أن الثقافة البدوية كانت -تماما كما هي اليوم- تعيش على هامش الحضارة العربية المتمدنة؟ ألا يحق لنا أن نستنتج بأن وجهة النظر الأعرابية كانت على الهامش من متن الحياة العربية الحضرية حتى وإن زعم بعض المؤرخين أنها كانت مرجعية العرب قاطبة في حقل اللغة؟
في أحد ردوده على الجابري أوضح ناقده الأكبر جورج طرابيشي تهافت هذا الزعم -أي أن اللغة العربية كما الثقافة الناتجة عنها هي وليدة الحياة البدوية- هو زعم متهافت جدا، وكان مما قاله: "كيف يغيب عنه -يقصد الجابري- أن أحدا من كبار شعراء الجاهلية ما كان أعرابيا وأنه إن وجد شعراء أعراب بين الشعراء الجاهليين فهم في الغالب من صغار الشعراء ومغموريهم لا من كبارهم ومشهوريهم" ولو جئنا لنعمم هذه المقاربة على نطاق أوسع، فلن نجانب الحقيقة حين نقول: إن الثقافة العربية ما قبل الإسلامية كانت تنطلق من حواضر لا من بوادٍ، وإذا أردنا أن ندلل بأمثلة على ذلك فلن نبدأ بذكر الحواضر الحجازية كمكة والطائف وتيماء، وسبب عدم ابتدائنا بالحواضر الحجازية هو أننا لا نريد أن نرسخ الفكرة الشائعة التي تحصر مفردة "العرب" ومحمولاتها الحضارية في الرقعة الجغرافية الحجازية، والتي كانت وما زالت بؤرة الحياة البدوية في شبه الجزيرة العربية، ولأجل ذلك إذن فسنبدأ بذكر الحواضر العربية الكبرى والتي تنبئنا الاكتشافات المعاصرة المتتالية يوما بعد يوم عن المستوى الحضاري المتقدم الذي وصلت إليه.
إن الدول العربية القديمة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية لم تكن تمت إلى البداوة بصلة وهذه الدول -كمثل سبأ وحمير وقتبان ومعين- قد نتج من مسار تطور لهجاتها ظهور اللغة العربية الفصحى وذلك بالتزواج مع لهجات أخرى شمالية كاللحيانية والنبطية والآرامية، شهد تاريخ هذه الدول -الممتد منذ ألف سنة قبل الميلاد وحتى ما بعد البعثة المحمدية- على تقدم حضاري لا يصفه بالبداوة إلا من يجهله أو من لا يتسع أفق فكره لاستيعابه، خاصة وأننا كما سلف الذكر نتحدث عن زمن يعود لأكثر من ألف سنة سابق لذلك الزمن الذي انطلقت معه الثقافة العربية بحسب زعم أصحاب نظرية "بداوة العقل العربي"، وقد كان لهذه الدول اليمنية -أو الجنوبية عموما حيث لم يكن حينها وجود للحدود الجيوسياسية- مواجهات مؤزرة ضد الرومان والفرس الذين حاولوا غزو جنوب غرب الجزيرة العربية.
وإذا تجاوزنا اليمن وممالكها العربية متجهين شمالا فسنجد الحاضرة العربية "تيماء" التي ما عرفت البداوة كمكون من مكوناتها قط والتي اتخذها نبونئيد آخر ملوك بابل وطنا له لسنوات سنجد كذلك تدمر والبتراء ومملكة الحضر ثم المناذرة والغساسنة في العراق وسوريا وقد حكم ملوكها منذ بداية القرون الأولى للميلاد لكل ذلك فنحن نطالب القائلين بـ"بداوة العقل العربي" بأن يجدوا موضعا في سياق نظريتهم لقصص جذيمة الأبرش وعرش الزباء ملكة تدمر وزوجها الملك أذينة ولنقوشات عربية طافحة بالحضارة مثل نقش امرئ القيس الملك -المعروف بنقش النمارة- نطالبهم كذلك بالتطرق إلى سيرة الملك الفارسي الكبير بهرام جور الذي بعثه والده إلى الحيرة فتربى فيها تربية عربية قبل أن يتولى قيادة المملكة الفارسية نريدهم كذلك أن يحدثونا عن الطبيب الحارث بن كلدة وتجارة خديجة بنت خويلد وعن الملك الحميري ذي نواس الذي اعتنق اليهودية وعن زرقاء اليمامة، فكيف يمكن أن تفسر نظريتهم كل هذا الإرث الحضاري الذي يشهد بعكس ما يزعمون، وإذا اتفقنا على أن المنجزات المادية للحضارة هي انعكاس لمدى اتساع وتعقيد الثقافة المنتجة لها فأين يضع مرددو النظرية الجابرية -في سياق ادعائهم- المنجزات الحضارية لما قبل الإسلام كحصن الخورنق وكعبة نجران وقصر غمدان ومحرم بلقيس بمأرب وهياكل البتراء المنحوتة بالصخ؟
ربما نلتمس بعض العذر لمن يتبنى فرضية بداوة العقل العربي حين نرجح أن مفهوم البداوة يختلط في أذهانهم مع مفهوم القبلية، فلئن كانت العصبية القبلية حاضرة في الثقافة العربية في مختلف أطوار اشتغالها التاريخي -بل ولا تزال إلى الآن حاضرة بدرجة أو بأخرى- فإن ذلك ليس مسوغا لمساواتها مع مفهوم البداوة ولئن كانت الممالك العربية الكبرى قد تسمت ونسبت إلى القبائل المتصدرة لها كمملكة آل غسان وآل لخم ومملكة حمير ومملكة كندة فإن ذلك يقف شاهدا على أن الحضارة ارتبطت لدى العرب بالقبلية تماما مثلما ارتبطت في أمثلة أخرى مع البداوة.
ختاما ندعو المثقفين والمفكرين العرب إلى الحذر والتروي في مماهاة الثقافة العربية -لا سيما القديمة- بالبداوة والأعراب إذ العلاقة بينهما ما هي إلا علاقة الجزء بالكل، وإذا كنا نستنكر على المستشرقين مثل إرنست رينان وغيره تعصبهم للعقل الغربي باعتباره عقلا إبداعيا على الضد من العقل والثقافة المشرقية بما فيها العربية ووصفهم للثقافة العربية بافتقادها لملكة التأمل الفكري والفلسفي فكيف نردد ادعاءاتهم متجاهلين الحقيقة التاريخية الواضحة التي تؤكد أن البداوة والعقل البدوي لم يحتلا يوما مركز الصدارة في ثقافتنا العربية؟.
* محمد الحراصي كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقافة العربیة العقل العربی
إقرأ أيضاً:
وزير الثقافة يُكرم الفائزين بمسابقتي "السرد القصصي والروائي" و"شباب المترجمين"
باحتفالية ثقافية مميزة، كرّم الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، الفائزين بمسابقتي "السرد القصصي والروائي (دورة الكاتب الكبير فتحي غانم)" و"شباب المترجمين لعام 2024"، والتي نظمهما المجلس الأعلى للثقافة، برئاسة الدكتور أسامة طلعت، حيث أُقيم الحفل في قاعة المؤتمرات بالمجلس، بحضور نخبة من الأدباء والمترجمين والمبدعين.
دعم الطاقات الإبداعية الشابة
وفي كلمته خلال الحفل، أعرب الدكتور أحمد فؤاد هنو، عن سعادته بالمشاركة في هذا الحدث الثقافي المميز، مؤكدًا حرص وزارة الثقافة على دعم الطاقات الإبداعية الشابة، قائلاً: "إن هذه المسابقات تعكس التزام الوزارة بتوفير منصة للأدباء والمترجمين الواعدين وتعزيز مكانة الأدب والفكر في إثراء الحوار الثقافي بين الشعوب"، كما أشاد الوزير، بدور الكتاب والمترجمين في إثراء الثقافة الوطنية والعالمية، مؤكدًا استمرار دعم الوزارة لتنمية مهاراتهم وتطوير إبداعاتهم.
أكد الدكتور أحمد فؤاد هنو، أن هذه المسابقات تسعى لتعزيز الإبداع الأدبي، ودعم الكتاب الشباب من خلال تقديم أعمال تعبر عن قضايا المجتمع، وتشجيع المترجمين على الانفتاح الفكري والتفاعل مع الثقافات العالمية عبر اختيار موضوعات معاصرة ذات أهمية كبرى.
اختتم الوزير كلمته، بالتأكيد على التزام الوزارة بمواصلة تقديم كل أشكال الدعم للمبدعين والمثقفين، إيمانًا بأهمية الأدب والفنون كركيزة أساسية في بناء المجتمع والنهوض بالفكر.
ثم قام وزير الثقافة بتكريم الفائزين في مسابقة شباب المترجمين لعام 2024، التي تناولت موضوع "الثورة الصناعية الخامسة وتكنولوجيا المعلومات"، حيث كرم أسماء رجب، عن اللغة الإنجليزية، ومحمد أيمن البري، عن اللغة الصينية، وأحمد محمد أحمد إمام، عن اللغة الإيطالية، ومحمد يسري محمد، عن اللغة السواحيلية.
أما في مسابقة السرد القصصي والروائي (دورة فتحي غانم)، فحصلت سوسن حمدي محمد محفوظ، على المركز الأول عن مجموعتها القصصية "ست البنات"، وجاءت نهال جمال عبد الناصر، في المركز الثاني، عن مجموعتها "لا الناهية للأنثى"، بينما فاز محمد محمد أحمد مستجاب، بالمركز الثالث عن مجموعته "قمر زينب".
يذكر، أن مسابقة السرد القصصي والروائي، نُظمت تحت إشراف لجنة السرد القصصي والروائي بالمجلس، برئاسة منير عتيبة، وتُعقد هذا العام في دورتها التي تحمل اسم الكاتب الكبير فتحي غانم، تكريماً لإسهاماته الكبيرة في مجال الأدب القصصي والروائي، أما مسابقة شباب المترجمين لعام 2024، فنظمتها لجنة الترجمة بالمجلس، برئاسة الدكتور حسين محمود، وذلك تشجيعاً ودعماً للشباب المبدعين في مجال الترجمة، وتشجيعهم على الانفتاح على الثقافات العالمية.