رغم ما ارتبط بالعدوان الصهيوني الأميركي الغاشم على غزَّة ومَنْ سانده ووقف معه من صهاينة العرب من حرب إبادة ضدَّ المَدنيِّين العُزَّل والمنازل والبيوت من قتل للأطفال والنِّساء والشيوخ والكبار وقصف المساكن وتدميرها على سكَّانها، وتدمير البنية الأساسيَّة من طُرق وجسور وأنفاق وملاجئ، أو قصف للمستشفيات والمدارس وأماكن الإيواء وقطع للتيار الكهربائي والماء وشبكات الاتصال وإفراغ غزَّة من كُلِّ معاني الحياة ـ في إجرام قذر لَمْ تشهد البَشَريَّة وحشيَّته وفظاعته وقسوته بما يُعبِّر عن الحقد الدَّفين الَّذي يحمله العدوُّ المحتلُّ على الشَّعب العربي عامَّة والشَّعب الفلسطيني المدافع عن أرضه والمناضل نَحْوَ إقامة دَولته المستقلَّة على ترابه الوطني في حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقيَّة؛ إلَّا أنَّ الحرب على غزَّة أعطت العالَم أجمع دروسًا عظيمة، وأعادت تشكيل الصورة الَّتي اعتاد عَلَيْها الخنوع العربي لأكثر من سبعة عقود مضت حَوْلَ الاحتلال الصهيوني والمسلَّمات الَّتي زرعت في العقل العربي معالم الخوف والذُّل والهوان، لِتأتيَ غزَّة برجالاتها العظام وأبطالها وأطفالها وحرائرها وشهدائها لِتعيدَ إنتاج الصورة من جديد، صورة لا يتصدر مشهدها المتصهينون والكلاميون والمنافقون والخوَنة والمتاجرون بالأرض والعِرض والشَّرف والرجولة، بل يتصدرها المؤمنون الصادقون، الأوفياء للأرض بما تحمله من معاني الإيمان والعقيدة والعزَّة والشموخ والنصر والغلَبة والقوَّة والإرادة والتضحية والبطولة، صورة ملهِمة تتجلَّى فيها معالم الحياة النموذج، وتبرز مفاهيم الحُريَّة الموجَّهة في سبيل الله، والسَّاعية نَحْوَ مرضاة الله وجنَّته، قوامها الجهاد والإيمان بالثوابت والمبادئ والأرض والوطن، فصنعت من الجهاد بالنَّفْس صورة متجدِّدة وحدثًا رائعًا بعد أن شوَّهت الامبرياليَّة الأميركيَّة والصهيونيَّة الحاقدة صورته أمام حكَّام العرب فأمَرتهم بإزالة آيات الجهاد وأحكامه من مناهج التعليم وتدريس الطلبة في المدارس، وعقدت صفقات التطبيع الَّتي أثبتت فشلها اليوم، بما حمَلته الحرب على غزَّة من حقائق تحدَّث بها القرآن العظيم في آياته الكريمة؛ فاليهود كيان واهن وضعيف ومفلس، وهو أوهن من بيت العنكبوت في جُبنه وخوَره وقُبحه وانسلاخه من أيِّ ربقة مبدأ أو خُلق أو إنسانيَّة أو التزام أو عهد أو ميثاق أو اتِّفاق… ومَن أصدق من الله قيلًا؟ ومَن أصدق من الله حديثًا؟
لقَدْ أعاد طوفان الأقصى الهيبة للأُمَّة العربيَّة ـ رغم ما تعيشه من خوار بعض الحكَّام وأذناب الصهاينة المتربصين بالعروبة ـ وعزَّز الأحداث الَّتي تبعت هذا الطوفان العظيم من الوعي العربي بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وأعادت إنتاجها من جديد وتعاملت معها بجديَّة على أنَّها قضيَّة الأُمَّة المصيريَّة الَّتي لا يجِبُ المساومة عَلَيْها أو محاولة الالتفاف عَلَيْها بمفاهيم وأفكار السِّياسة الضحلة في طاولات الحكَّام والسِّياسات الخارجيَّة واتفاقيَّات السَّلام والتعايش والتسامح والمشتركات الَّتي لَمْ تتناسب مع العنصريَّة الصهيونيَّة والامبرياليَّة الأميركيَّة ولا تتناغم مع عقليَّة سفك الدِّماء والقتل والتخريب والتدمير وفرض سُلطة الأمْرِ الواقع وتركيع الحكَّام وإذلال الشعوب ونهب الثروات.

وكشفت أحداث غزَّة عن مفهوم الامبرياليَّة الأميركيَّة وغطرستها، وأنَّ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة ليست شريكة لهذا العالَم في تحقيق السَّلام والتنمية والحوار، إذ إنَّ تاريخها ملوَّث بدماء الأبرياء من العرب والمُسلِمين في غزَّة والقدس وفلسطين والعراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن ولبنان وغيرها.
وأصبحت غزَّة المدينة والعاصمة الَّتي يتحدث عَنْها العالَم أجمع، كما أصبحت شوكة في وجْه أعداء الإنسانيَّة والفضيلة والأخلاق وأعداء الأُمَّة في بسالة شَعبها وصمود إنسانها الَّذي لَمْ يتخلَّ عن أرضه رغم الإبادة الجماعيَّة الَّتي يتعرض لها، قصفًا بالطائرات والدبَّابات وبأقذر أنواع الأسلحة وأشدِّها فتكًا، فقَدْ أسقطت القنابل الفوسفوريَّة على جموع السكَّان المحاصَرين، سواء مَن كانوا في المنازل أو كانوا في الملاجئ أو حتَّى الَّذين لَمْ تظلّهم الأسقف، ورغم كُلِّ ذلك لتقرأ في حديث المرأة والطفل والشيخ الكبير رباطة جأش وإيمان محتوم بالمصير وإدراك لقِيمة الأرض وعظَمة التراب الطاهر، إنَّه رباط الإيمان والعقيدة وصحوة الضمير، والعزَّة والكرامة، والمبادئ والأخلاق والإنسانيَّة، والشجاعة والبسالة، رباط المؤمنين المحتسبِين إلى الله، والمتوكِّلين عَلَيْه، والراغبين في جنَّته بما يقدِّمونه من شهدائهم الأبرار الَّذين هُمْ أحياء عِند ربِّهم يُرزقون. إنَّ صمود غزَّة وبسالة أهلِّها تعلِّم هذا العالَم حُب الأوطان والتضحية والوفاء والفداء للوطن، تعلِّمنا كيف يصنع الإنسان التغيير، وكيف يعزِّز الإيمان القوَّة، إذ هو كُلُّ القوَّة.
كما أعاد إنتاج الوعي الجمعي العربي وفق مرتكزات عقديَّة وفكريَّة وتنويريَّة وثوابت وأبجديَّات ومفاهيم انطلقت من روح الإسلام وعظَمته وجسَّدت الحقائق القرآنيَّة شواهد على الأرض، لِتعيدَ قراءة المشهد العربي في قناعات الشعوب من جديد؛ فإنَّ العدوان على غزَّة والحرب الهمجيَّة البربريَّة الَّتي يمارسها أعداء الإنسانيَّة، أعطى الشعوب العربيَّة صورة أكثر وضوحًا كشفت عن الأقنعة الخفيَّة الَّتي تدسُّ سمومها وتحيك مؤامراتها على الإنسان العربي، في أشكال مختلفة ووسائل وتعابير برزت على حقيقتها بعد أن انكشف قناعها المزيَّف، فكانت مسارات السَّلام والعلاقات التجاريَّة أو السِّياسيَّة والتطبيع مع الكيان الصهيوني والصورة الَّتي قدَّمها الصهاينة العرب المندسُّون بَيْنَ هذه الأُمَّة على أنَّها تجديد للتعايش بَيْنَ العرب واليهود أكذوبة تأريخيَّة وتضييع للحقِّ العربي، فلَمْ تَعُدْ هذه الشعارات سوى فرقعات صوتيَّة ظهرت بأنياب مفترسة في الحرب على غزَّة، وأبانت مدى الحقد الصهيوني الأميركي على النَّوع العربي، فهي مجرَّد حبر على ورق، في حين أنَّ المراد مِنْها تركيع الحكومات وإخضاعها للشروط الصهيونيَّة دُونَ أن يكُونَ لهذه الاتفاقيَّات أيُّ أثر إيجابي على التطوير الاقتصادي والاجتماعي والتنموي للدوَل المطبِّعة، بل فرصة لإخضاعها للشروط الصهيونيَّة عَبْرَ المنظَّمات الدوليَّة كاليونسكو واليونيسف وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها في فرض إملاءاتها وأجندتها على هذه الدوَل، وتعظيم حالة التبعيَّة الاقتصاديَّة وغيرها، ولَمْ تستطع هذه التنازلات الَّتي قدَّمتها بعض الدوَل العربيَّة للكيان الصهيوني على صحن من ذهب من أن تمنعَ هذا الكيان من العدوان أو على الأقلِّ أن تسمعَ رأيًا أو تسمح للعرب في إدخال عبوة ماء للعطشى في غزَّة، ناهيك عن إدخال الدواء والغذاء والإغاثة الطبيَّة والإنسانيَّة، بل أصبحت هذه الحكومات أداة ضغط على شعوبها في إرغامهم على أنَّ عدم الاهتمام بما يجري من عدوان على غزَّة، وسياسة التهديد والتنكيل وفرض القوَّة وتكميم الأفواه والوقوف بعصا من حديد لأيِّ تظاهرات أو تصريحات أو دعاء أو غيرها، بل أرغمت هذه الحكومات على الوفاء بالتزاماتها في تقديم الماء والغذاء والدواء للصهاينة كعربون لهذا الاتِّفاق وإلَّا…؟
وفضحت أحداث غزَّة المتصهينين والمنافقين والمندسِّين باسم الأُمَّة من حكَّام ومفكِّرين وكتَّاب وباحثين ومتسلِّقين على أكتاف الدِّين من مفتِين ووعَّاظ وخطباء وسياسيِّين واقتصاديِّين، هؤلاء الَّذين فضحوا أنْفُسهم وفضحهم التأريخ، ويكاد المواطن العربي قَبل أحداث غزَّة يجد فيهم أنَّهم جاءوا للإصلاح وأنَّ أهدافهم وتغريداتهم وأحاديثهم إنَّما جاءت لإنقاذ ما يُمكِن إنقاذه من جبروت السُّلطة وقسوَة العسكر على مواطنيه، بَيْدَ أنَّ المسألة أضافت إليها حقائق صادمة أثبتت ولاء هؤلاء المتصهينين للكيان الصهيوني، فَهُمْ جواسيس لأجندة الموساد الصهيونيَّة والمخابرات الأميركيَّة، ووفاءهم لَهُم وتنفيذهم لأجندتهم وسعيهم لتخريب الدِّيار وتوجيه الشَّباب نَحْوَ قضايا خلافيَّة عَبْرَ زرع قضايا المذهبيَّة والمناطقيَّة ومفاهيم الحُريَّات والاستقلاليَّة وحُريَّة الرأي والتعبير، لِيُشكِّلوا جسرًا لهؤلاء الصهاينة في تحقيق أهدافهم الخبيثة ومساعيهم المفلسفة، فَهُمْ أشدُّ قبحًا وأعظم فجورًا وأكذب حديثًا وأحقر سِيرةً وأفلس سريرةً، باتَ الحذَر مِنْهم واجبًا، والتعريف بمساوئهم ملزمًا، وعدم الاعتراف بحديثهم أو تناقله للعامَّة الطريق لإسقاط طموحاتهم الدنيئة؛ لِمَا في أساليبهم الكاذبة من كيد للأُمَّة.
لقَدْ صنع الوعي الجمعي العربي مداخل متعدِّدة في مواجهة العدوان فكان سلاح المقاطعة الاقتصاديَّة لهذا الكيان، سواء لتلك البضائع والمنتجات أو الشركات المتعاملة معه أو التابعة له والعلامات التجاريَّة الَّتي تصدر جرمها لهذا العالَم عَبْرَ دعمها المستمر لهذا الكيان الصهيوني في عدوانه على غزَّة، الطريق الَّذي التزمه أحرار العرب والعالَم أجمع في الوقوف في وجْهِ هذا الطغيان؛ لِمَا يُشكِّله الاقتصاد لدَيْهم من أهمِّية كبرى تسقط أهدافهم وتثنيهم عن غيِّهم وبطَرهم، وتمنعهم من الاستمرار في هذه المجازر، وتمنع المتصهينين أصحاب هذه العلامات التجاريَّة والشركات وغيرها من الاستمرار في دعم هذه الكيانات؛ كما أفصحت حرب غزَّة عن بسالة المقاومة الفلسطينيَّة، كتائب القسَّام وسرايا القدس والأقصى وغيرهم، ففي كُلِّ يوم يسطرون ملاحم بطوليَّة إيمانيَّة في النصر والنَّيْل من جبروت الطغاة، وقتل الكثير من جنود الصهاينة وضبَّاطهم وأَسْر العدد الكبير مِنْهم، ناهيك عن تدمير دبَّاباتهم وناقلات الجند وغيرها من وسائل العدوِّ وأدواته، كما أثبتت حُسن تعاملهم مع الأسرى والصورة الإيمانيَّة المُسلِمة الَّتي قدَّموها في التعامل مع الأسرى الأطفال والنِّساء وكبار السِّن، لِتثبتَ أحداث غزَّة كذب مقولة الجيش الَّذي لا يُقْهَر، فلَمْ يَعُدْ هذا الجيش الَّذي ظلَّ ـ رغم عدَّته وعتاده وإمكاناته والتسليح المستمر له من قِبل الصهاينة الأميركان ـ لقمة سائغة لرجال المقاومة المؤمنين البواسل، حقيقة يجِبُ على العرب المتصهينين وحكَّامهم أن يُعِيدوا ترتيب أوضاعهم في أن يرجعوا إلى إنسانيَّتهم وعروبتهم ويقفوا مع المقاومة الفلسطينيَّة، فهي الطريق لردِّ الحقِّ إلى أصحابه.
أخيرًا، يبقى على الوعي العربي اليوم أن يدركَ أنَّ العداء مع الصهاينة، عداء فكري وعقدي، وأنَّ الكفر ملَّة واحدة، فاليهود والمتصهينون وغيرهم في الغرب والشَّرق هُمْ أعداء العروبة والإسلام، وأنَّ الكيد على هذه الأُمَّة لا يستهدف غزَّة فحسب، بل سيطول غيرها وما هي سوى مسألة وقت ليس إلَّا، وفي هذا الشَّأن وما يؤكِّد تكالب قوى الشَّر والإجرام على حرب المُسلِمين، دَوْر المنظَّمات الدوليَّة والسقوط القِيَمي والأخلاقي الَّذي تعيشه في تنفيذ أجندة الصهاينة والأميركان وسياسة القطب الواحد. إنَّها محطَّة لينتبهَ العالَم العربي والإسلامي فيها لنَفْسِه ويُعيدَ إنتاج قوَّته، ويعتمدَ على ذاته، ويُعيدَ النظر في هذه المنظَّمات وأهدافها الدنيئة الَّتي لَمْ تَعُدْ صالحة لإدارة المشهد العالَمي الجديد ورعاية مصالح شعوبه.

د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ة الأمیرکی العال م على غز

إقرأ أيضاً:

ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على قطاع غزة إلى 43972 شهيدا و 104008 مصابين

الثورة نت/
ارتفعت حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني المتواصل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى 43 ألفا و972 شهيدا و104 آلاف وثمانية مصابين أغلبيتهم من الأطفال والنساء، في حين لا يزال آلاف الضحايا تحت الأنقاض ولا تستطيع فرق الإنفاد الوصول إليهم بسبب استمرار القصف.

وذكرت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة في بيان اليوم الثلاثاء ، أن قوات العدو ارتكبت ثلاث مجازر، أسفرت عن استشهاد 50 مواطنا، وإصابة 110 آخرين.
وتواصل قوات العدو الصهيوني ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، منذ 410 أيام، عبر شن عشرات الغارات الجوية والقصف المدفعي، مع ارتكاب مجازر ضد المدنيين، وسط وضع إنساني كارثي نتيجة الحصار .

مقالات مشابهة

  • ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة إلى 44 ألف شهيد و104000 جريح
  • ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على قطاع غزة إلى 43972 شهيدا و 104008 مصابين
  • شهداء وإصابات في العدوان الصهيوني على لبنان لليوم الـ 58
  • ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3516 شهيدا و14929 مصابا
  • الأربعاء المقبل.. انعقاد المؤتمر العربي الـ38 لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات
  • الفريق العدوان يكتب .. قدوة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة البشرية . . !
  • العربي بدر: لا ألعب في أي نادي.. ولن أستسلم
  • الصحة اللبنانية: 3481 شهيدا و14786 جريحا منذ بدء العدوان الصهيوني
  • الصحة اللبنانية: 3,481 شهيداً و14,786 جريحًا منذ بدء العدوان الصهيوني
  • تظاهرات في مدن وعواصم عالمية تطالب بوقف العدوان الصهيوني على غزة ولبنان