في كنيسة بلدة القليعة في جنوب لبنان قرب الحدود مع إسرائيل، يحض الأب بيار الراعي المؤمنين على الحفاظ على روح عيد الميلاد على رغم التوترات التي تشهدها المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة.

اعلان

تعيش هذه البلدة على وقع القصف المتبادل في المناطق الحدودية بشكل يومي بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، منذ اندلاع الحرب بين الدولة العبرية وحركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

ويقول الراعي أثناء ترؤسه القداس في كنيسة مار جرجس القليعة أمام عدد من المؤمنين وغالبيتهم من المسنين والأطفال "من المؤكد اننا منزعجون من الحرب ومتضايقون (...) منذ ثلاثة أشهر تقريبا".

وأضاف "طالما أخذنا القرار بالصمود في البلدة، وفي القرى الحدودية بالجنوب، يجب أن نعيش فرح العيد".

يطال القصف المدفعي والغارات الجوية الإسرائيلية أطراف القليعة الواقعة على مسافة أقل من خمسة كلم من الحدود، وتحيط بها السهول الخضراء وأشجار الزيتون. لكن البلدة نفسها تبقى الى حد كبير في منأى عن القصف، حالها كحال قرى أخرى مسيحية مجاورة.

ومنذ بدء التصعيد الحدودي، قتل حوالى 150 شخصا في لبنان بينهم حوالى مئة من عناصر الحزب، و12 شخصا على الأقل من الجانب الإسرائيلي بينهم ثمانية جنود.

حزب الله يشيع أحد عناصره قتل خلال المواجهات مع إسرائيل جنوب لبنانالجيش الإسرائيلي يقصف مواقع في جنوب لبنان يزعم أنها تعود لحزب الله

يؤكد الأب أنطونيوس فرح في الكنيسة حيث أقيمت مغارة ميلادية كبيرة أن سكان المنطقة الحدودية اعتادوا على "الأوضاع غير السليمة"، مضيفا انه رغم "الصعوبات التي نمر فيها هذه الأيام، وصعوبة الحرب التي نحن فيها، قررنا هذه السنة عيش الميلاد كالعادة".

وأضاف "نحنا ملتزمون عيش العيد، ومن خلال الصلوات والاحتفالات التي نقيمها ولو كانت أقل من كل السنوات... نصلي من أجل السلام".

"لن نغادر"

عاشت القليعة، كغيرها من مناطق واسعة في جنوب لبنان، تحت الاحتلال الاسرائيلي الذي امتد من العام 1978 حتى 2000. كما كانت من القرى التي تأثرت بفعل حرب 2006 بين الدولة العبرية والحزب.

شوارع القليعة التي تكون عادة مكتظة في مثل هذه الفترة من الأعياد، تبدو شبه مقفرة عند حلول الليل.

يقول الأب فرح إن "تقريبا 60%" من سكان البلدة ما زالوا موجودين فيها، مشيرا الى أن المغتربين لم يعودوا الى القليعة لتمضية فترة الأعياد.

ويؤكد أن السكان اعتادوا أصوات القصف ويمضون في أعمالهم اليومية خلال النهار. ويضيف "نحن لا نحب الحرب أبدا".

في قاعة مجاورة للكنيسة تقول ميسا نهرا (25 عاما) وهي مسؤولة عن النشاطات الترفيهية والاجتماعية للاطفال في الرعية "نحن أكيد في ظروف استثنائية حاليا".

احتفالات عيد الميلاد بكنيسة بلدة القليعةAFP

وتضيف وهي تساعد فتيات صغيرات على تزيين شجرة الميلاد "لكن رغم تحديات هذه الظروف والحرب المحيطة بنا، نحاول قدر الإمكان أن نعيش أجواء العيد".

وتقول "حاولنا قدر الإمكان ان نبقى مستمرين بأنشطتنا الرعوية بصورة متتالية، نحاول في هذه الظروف عيش أجواء العيد ببساطتها".

من جهتها، تأمل سوزي سلامه البالغة من العمر 47 عاما التي نصبت شجرة ميلاد كبرى في منزلها في القليعة، في أن يحمل العيد الأمل والسلام الى هذه المنطقة التي لطالما عرفت التوترات.

منشورات إسرائيلية فوق قرية بجنوب لبنان تحذر من التعامل مع حزب اللهاعتراف إسرائيلي بامتلاكها.. قلق أميركي من استخدام أسلحة الفوسفور الأبيض خلال قصف جنوب لبنان

تقول لفرانس برس "نحاول عيش عيد الميلاد بكل معانيه، نحاول عيشه بمحبة وبسلام، رغم كل الظروف المحيطة بنا".

تضيف "ميلاد يسوع هو عيد الفرح والسلام والمحبة، وان شاء لله ولادة يسوع تكون ولادة سلام لبلدنا ولكل البلدان حولنا".

لكن في البلدة، لا يشاطرها الجميع هذا التفاؤل.

اعلان

في منزلها القريب من الكنيسة، تقول ليلى ونّا وهي ربة منزل تبلغ 67 عاما وتجلس مع زوجها قرب شجرة الميلاد الكبيرة المزينة "لا نشعر بالعيد أبدا".

تضيف "إنما من عاداتنا أن نضغ المغارة"، مشيرة الى أن أيا من أولادها الذين يقيم قسم منهم في بيروت وقسم آخر خارج لبنان، لن يمضي العيد في القليعة.

وتقول "نحن باقون في منزلنا، لن نغادر حتى لو كنا سنموت في منزلنا".

المصادر الإضافية • أ ف ب

شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية شاهد: البريد يحتفظ برسائل موجهة الى سانتا كلوز منذ أكثر من قرن في السويد اتهامات أمريكية لإيران بتزويد الحوثيين بأسلحة لشن هجمات ضد سفن بالبحر الأحمر اشتباكات بجباليا وجنين..واندلاع حريق في سفينة تابعة لإسرائيل قبالة سواحل الهند بعد هجوم بطائرة مسيرة عيد الميلاد إسرائيل غزة جنوب لبنان لبنان حزب الله اعلانالاكثر قراءة تغطية مستمرة| سكان غزة يتضورون جوعا.. مجلس الأمن يقر زيادة في المساعدات وإسرائيل توسع عملياتها واشنطن "ترحب" بقرار طوكيو تصدير أنظمة الدفاع الجوي باتريوت إليها نفقات دفاع قياسية في ميزانية اليابان الجديدة الزعيم الانفصالي الأرمني يتراجع عن قرار حل "جمهورية" ناغورني قره باغ المقرر في 1 كانون الثاني/يناير غزة.. الجيش الإسرائيلي يطالب السكان بإخلاء مخيم البريج وأحياء أخرى اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next تغطية مستمرة: اشتباكات بجباليا وجنين.. وطائرة مسيرة تصيب سفينة تابعة لإسرائيل قبالة سواحل الهند يعرض الآن Next أوكرانيا تعلن إسقاط ثلاث طائرات روسية من طراز سو-34 يعرض الآن Next حريق في سفينة "مرتبطة بإسرائيل" ترفع علم ليبيريا قبالة سواحل الهند بعد هجوم بطائرة مسيّرة يعرض الآن Next حكومة الأرجنتين تفرض غرامة بآلاف الدولارات على منظمي مظاهرة ضدها يعرض الآن Next المكسيك تتعهد للولايات المتحدة بتعزيز جهودها لمكافحة الهجرة غير الشرعية

LoaderSearchابحث مفاتيح اليوم غزة إسرائيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس فرنسا فلسطين مجلس الأمن الدولي عيد الميلاد روسيا اليابان كرة القدم Themes My EuropeالعالمBusinessرياضةGreenNextسفرثقافةفيديوبرامج Servicesمباشرنشرة الأخبارالطقسجدول زمنيتابعوناAppsMessaging appsWidgets & ServicesAfricanews Games Job offers from Amply عرض المزيد About EuronewsCommercial Servicesتقارير أوروبيةTerms and ConditionsCookie Policyتعديل خيارات ملفات الارتباطسياسة الخصوصيةContactPress OfficeWork at Euronewsتابعونا النشرة الإخبارية Copyright © euronews 2023 - العربية EnglishFrançaisDeutschItalianoEspañolPortuguêsРусскийTürkçeΕλληνικάMagyarفارسیالعربيةShqipRomânăქართულიбългарскиSrpskiLoaderSearch أهم الأخبار غزة إسرائيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس فرنسا فلسطين My Europe العالم Business رياضة Green Next سفر ثقافة فيديو كل البرامج Here we grow: Spain Discover Türkiye Discover Sharjah From Qatar أزمة المناخ Destination Dubai Explore Azerbaijan مباشرالنشرة الإخباريةAll viewsنشرة الأخبارجدول زمني الطقسGames English Français Deutsch Italiano Español Português Русский Türkçe Ελληνικά Magyar فارسی العربية Shqip Română ქართული български Srpski

المصدر: euronews

كلمات دلالية: عيد الميلاد إسرائيل غزة جنوب لبنان لبنان حزب الله غزة إسرائيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس فرنسا فلسطين مجلس الأمن الدولي عيد الميلاد روسيا اليابان كرة القدم غزة إسرائيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس فرنسا فلسطين فی جنوب لبنان یعرض الآن Next عید المیلاد

إقرأ أيضاً:

قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل

بيروت، لبنان- تحتفظ زينب الديراني، مثل كثيرين من سكان الضاحية الجنوبية، بذكريات دافئة عن الحي الذي نشأت فيه، عن حفل خطوبة ابنة عمها حيث اجتمع الأهل والجيران يرقصون في الشارع أمام منزلهم في الطابق الأرضي، وعن والدها الذي كان يقصد صالون الحلاقة القريب ليحصل على حلاقة مميزة على يد إبراهيم الشهير بـ"بوب الحلاق".

لكن اليوم، لم يتبقَ من كل تلك التفاصيل سوى صور عالقة في الذاكرة، بعدما تحولت شوارع الحدث -الحي الذي ترعرعت فيه وعاشت فيه 20 عاما- إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة.

حلاق بضاحية بيروت الجنوبية (الجزيرة) مجرد ذكريات الآن

كانت الديراني (25 عاما) تعيش في منطقة الحدث، إحدى ضواحي بيروت الجنوبية، التي استهدفتها إسرائيل بشراسة خلال الحرب. في 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنّت إسرائيل غارة مدمرة على حارة حريك، مسفرة عن تدمير 6 مبانٍ ومقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفقا للتقارير الإسرائيلية.

بعد ساعات فقط من الهجوم، وبينما كان اللبنانيون يترقبون مصير نصر الله، أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أوامر إخلاء لسكان مناطق واسعة من الضاحية، مما دفع آلاف العائلات إلى مغادرة منازلها في حالة من الذعر.

إعلان

يصف المشهد خضر عيدو -وهو طاهٍ تنفيذي (26 عاما) ويعيش في بشامون قرب الشويفات- قائلا: "كانت الليالي الأولى تحت القنابل مرعبة. أصوات الانفجارات كانت تحطم الصمت، وتبث الخوف في كل زاوية من المدينة. مع كل دويّ، كنا نشعر بأن وجودنا نفسه أصبح هشا أكثر من أي وقت مضى".

امرأة نائمة على كورنيش بيروت بعد فرارها من الغارات الجوية الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية 14 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

على مدى الأسبوعين التاليين، شهدت الضاحية أعنف قصف إسرائيلي منذ حرب 2006، حيث استهدفت الغارات الجوية المنطقة بشكل غير مسبوق. كانت وسائل الإعلام اللبنانية تبث الدمار على الهواء مباشرة، في حين أضاءت سماء الليل ألسنة اللهب البرتقالية والحمراء، حتى بدت وكأنها شروق جديد، لكنه محمّل بالرعب بدلا من الأمل.

حياة تحت الأنقاض

زعمت إسرائيل أنها تستهدف مخازن أسلحة حزب الله، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا، فقد أسفر القصف عن مقتل أو تشريد عشرات الآلاف من المدنيين، في وقت تحولت فيه مئات المنازل والمتاجر إلى ركام، ولم يتبقَ من حياة الناس سوى ذكريات تائهة بين الأنقاض.

تصاعد الدخان والنيران بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت، السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (الأناضول)

زينب الديراني كانت واحدة من هؤلاء الذين فقدوا منازلهم. تحاول استجماع كلماتها وهي تصف حجم الدمار الذي لحق بمسكنها: "لقد قصفوا بجوار منزلي.. المبنى لا يزال قائما، لكن كل شيء بداخله دُمر بالكامل"، وتتوقف للحظة قبل أن تتابع بصوت مخنوق: "غرفتي أصبحت لها شرفة الآن بسبب القنبلة".

ورغم أن منزلها لا يزال واقفا جزئيا، فإن ما حوله لم يكن محظوظا بالقدر نفسه، إذ فقدت الحيّ بأكمله، فقدت صالون الحلاقة الذي كان يقصده والدها، وفقدت معلمتها التي كانت تعدّها شخصية ملهمة في طفولتها.

إعلان

وتضيف بأسى: "لقد قصفوا منزلها وقتلوا كل أفراد عائلتها بداخله.. زوجها، ابنتها، ولديها.. كلهم رحلوا في لحظة. كل يوم ترى شخصا يموت".

ألسنة اللهب والدخان تتصاعد من غارة جوية إسرائيلية على الضاحية في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس) قتل مدينة

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 2500 شخص في لبنان على يد القوات الإسرائيلية. وفي حين استهدفت الهجمات عديدا من المناطق، كانت بيروت والضاحية الجنوبية من بين أكثر الأماكن تضررا، مما دفع بعض الخبراء إلى تصنيف ما يحدث هناك على أنه "إبادة حضرية" أو "قتل المدينة".

تصف منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ما يحدث قائلة: "إنه ليس مجرد دمار مادي، بل إنه محو هائل للمكان والناس وذكرياتهم".

وتضيف: "الأمر يتجاوز المباني المدمرة، لقد فقدنا أيضا الأشياء غير الملموسة.. العادات، الممارسات، تفاصيل الحياة اليومية التي اعتاد الناس القيام بها في تلك الأماكن. إنه تدمير لما يحمله الناس في ذاكرتهم".

يرى أحد الباحثين في مركز "أستوديو الأشغال العامة"، وهو مؤسسة تهتم بالتخطيط الحضري وصنع السياسات في لبنان، أن الحرب لم تدمر الأبنية فحسب، بل قطعت الروابط التي تشكل نسيج المجتمع. يقول الباحث، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، للجزيرة: "الهجمات الإسرائيلية تفكك الصلة بين الناس وأحيائهم، وتقطع الروابط الاجتماعية التي تحدد هوية المجتمع".

ويتابع: "نتيجة لذلك، لا تواجه هذه المناطق الدمار المادي فحسب، بل تشهد أيضا تفككا اجتماعيا عميقا، حيث يضطر السكان إلى التخلي عن الأماكن التي شكلت حياتهم وذكرياتهم وهوياتهم".

امرأة تمر أمام سيارة مرسيدس بنز قديمة من ستينيات القرن العشرين متوقفة أمام جدارية لحزب الله في الضاحية أثناء الحرب الأهلية في 12 يونيو/حزيران 1986 (غيتي) الضاحية من بساتين الزيتون إلى مدينة نابضة بالحياة

في عام 1955، قرر محمد، جد ديانا يونس، مغادرة مدينة بعلبك في وادي البقاع شرقي لبنان، بحثا عن مستقبل جديد، فاستقر في المنطقة الواقعة جنوب بيروت، التي كانت آنذاك مجرد بساتين زيتون ممتدة على مد البصر.

يتذكر يونس تلك الفترة قائلا: "لم تكن هناك ضواحٍ كما نعرفها اليوم، لم يكن هناك سوى أشجار الزيتون وأراضٍ واسعة، لا مبانٍ ولا شوارع مزدحمة". وسط هذا الامتداد الأخضر، قرر محمد وزوجته بناء بيت صغير بأيديهما، وضعا فيه الأساس لحياة جديدة، غير مدركين أن المنطقة التي اختاراها ستتحول يوما ما إلى واحدة من أكثر المناطق حيوية وكثافة سكانية في لبنان.

مع مرور السنين، ومع توسع العمران، بدأت المدارس والجامعات تظهر في المنطقة، وهو ما جعلها مقصدا لعديد من العائلات الباحثة عن الاستقرار. كبرت عائلة محمد، وكبرت معها الضاحية، التي لم تعد مجرد مجموعة من البيوت الريفية، بل أصبحت مجتمعا حضريا متكاملا.

إعلان

اليوم، يُعرف هذا الامتداد رسميا باسم "سهل المتن الجنوبي"، لكنه لا يزال يُشار إليه ببساطة بـ"الضاحية"، اسم أصبح مرادفا للتنوع والتاريخ والتحولات السكانية التي شهدتها المنطقة على مدار العقود الماضية.

تُعرف الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها منطقة مترامية الأطراف، تضم بلديات رئيسية مثل الغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، والمريجة -تحويطة الغدير- الليلكي، إلى جانب مناطق عشوائية مثل الأوزاعي، وبئر حسن، وحرش الكتيل، وحي السلم، بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في برج البراجنة وشاتيلا.

تصف منى حرب، الخبيرة في التخطيط الحضري، الضاحية بقولها: "إنها بحجم مدينة بيروت". وتضيف: "إذا بدأنا من هذا المفهوم، فسندرك أن هذه المنطقة ليست مجرد ضاحية، بل هي مجتمع متكامل متعدد الأوجه، حيث تعيش الأسر، ويعمل الناس، ويتنقلون، ويقضون أوقات فراغهم. لكل طبقة من الحياة هنا قصة خاصة بها".

لم تكن الضاحية كما نعرفها اليوم، بل تشكلت عبر موجات نزوح متتالية خلال العقود الماضية، وهو ما جعلها ملاذا لمئات الآلاف من العائلات الفارة من العنف والنزاعات.

الموجة الأولى (1975-1976) جاءت خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، حيث طُرد نحو 200 ألف شخص من سكان الأحياء الفقيرة في شمال شرق بيروت، بعضهم تعرض لمجازر نفذتها مليشيات مسيحية يمينية، وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى الضاحية بحثا عن الأمان.

الموجة الثانية الكبرى وقعت خلال الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في عامي 1978 و1982، وما تبعه من احتلال استمر حتى عام 2000. أسفرت هذه الأحداث عن نزوح ما يصل إلى 900 ألف شخص، معظمهم من المسلمين الشيعة، الذين استقروا في الضاحية بعد أن اضطروا لمغادرة قراهم الجنوبية.

مع هذه التحولات، تغيّرت التركيبة الديمغرافية للضاحية. كانت المنطقة تضم سابقا طائفة مارونية كبيرة، لكن كما توضح منى حرب، فإن الموارنة "هُجِّروا قسرا وبعنف" خلال موجات النزوح المتتالية. وعلى الرغم من أن بعض المسيحيين لا يزالون يعيشون في المنطقة، فإن الغالبية العظمى منهم لم يعودوا أبدا بعد تهجيرهم خلال الحرب.

إعلان

هكذا، لم تكن الضاحية مجرد امتداد عمراني للعاصمة بيروت، بل أصبحت مدينة بحد ذاتها، شكلها التاريخ، وطبعتها الهجرة القسرية، حتى باتت اليوم واحدة من أكثر المناطق تنوعا وكثافة سكانية في لبنان.

على الرغم من التغيرات الديمغرافية التي شهدتها الضاحية الجنوبية خلال العقود الماضية، فإن بعض مظاهر التعددية الدينية لا تزال قائمة. تشير حرب إلى أن "الكنائس والمقابر المسيحية تم ترميمها في العقد الأول من القرن الـ21، وظلت القداسات تُقام كل يوم أحد"، في تأكيد على أن الوجود المسيحي لم يُمحَ بالكامل من المنطقة، حتى لو أن أعداد السكان قد تغيّرت.

مع توافد موجات المهاجرين الجدد إليها، لم تعد الضاحية مجرد منطقة مجاورة لبيروت، بل أصبحت امتدادا حضريا كثيفا، يكاد يضاهي العاصمة من حيث الحجم والكثافة السكانية، حيث نما العمران بشكل متسارع، وتوسعت البنية التحتية لتستوعب الأعداد المتزايدة من السكان، مما جعلها إحدى أكثر المناطق ازدحاما في لبنان.

بالنسبة إلى محمد، جد ديانا يونس، الذي كان أحد أوائل من استقروا في الضاحية، شهد بأم عينيه كيف تحولت هذه المنطقة من بساتين زيتون هادئة إلى مدينة مكتظة بالحياة. وكما توسعت الضاحية، نمت عائلته أيضا؛ فمع مرور السنوات، تزوج كل واحد من أبنائه، وأصبح كل منهم يبني طابقا جديدا فوق بيت أبيهم، ليؤسس أسرته الخاصة، في مشهد يعكس التحولات السريعة التي طرأت على المنطقة.

اليوم، أصبحت الضاحية شاهدا على عقود من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من منطقة زراعية بسيطة إلى واحدة من أكثر المناطق تأثيرا في المشهد اللبناني.

أنصار حزب الله يحملون الأعلام لتوزيعها على مشيعين في جنازة بالضاحية نهاية 2023 (غيتي) محطات تاريخية.. كيف تغيرت الضاحية؟

غالبا ما تصف وسائل الإعلام الدولية الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها "معقل حزب الله"، في محاولة لاختزالها في بُعد سياسي وأمني فقط، متجاهلة تعقيداتها الاجتماعية والثقافية. حتى داخل لبنان، هناك من ينظر إليها باعتبارها "غيتو" شيعيا أو منطقة متمردة، كما أشارت منى حرب في مقال نشرته عام 2009 عن الضاحية.

بائعا خضروات وفاكهة يتجولان بعربة في مخيم شاتيلا للاجئين يوم 13 يناير/كانون الثاني 1984 (غيتي)

لكن حرب ترفض هذه النظرة التبسيطية التي تتجاهل واقع الحياة اليومية في المنطقة، وتقول في حديثها للجزيرة الإنجليزية: "مئات الآلاف من الأفراد ذوي الأصول والهويات المتعددة يعيشون هناك"، مشيرة إلى أن بيروت ولبنان عموما صغيران إلى حد يجعل من المستحيل العيش في الضاحية من دون أن تكون متصلا ببقية المدينة والمجتمع ككل.

إعلان

نشأت في الضاحية عدة تيارات سياسية وحركات اجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، لكن الحرب الأهلية اللبنانية غيرت موازين القوى فيها. خلال الحرب، سيطرت على المنطقة حركة أمل، الذراع المسلح لحركة "المحرومين" التي أسسها الإمام موسى الصدر.

لكن في عام 1984، بدأ حزب الله في كسب أنصار داخل الضاحية، وفي عام 1989، اندلعت مواجهات بينه وبين حركة أمل، انتهت بسيطرة الحزب على أجزاء واسعة من الضاحية، ليصبح لاحقا القوة السياسية والعسكرية الأبرز فيها. حتى اليوم، يحتفظ الحزب بشبكات سياسية واجتماعية واسعة النطاق داخل الضاحية، كما أن وجود أعلامه وتجمعاته وخطاباته العامة كان مشهدا مألوفا على مدار العقود الماضية.

خيام أقيمت ملاجئ مؤقتة للعائلات النازحة الهاربة من الغارات الجوية الإسرائيلية، على طول شاطئ الرملة البيضاء العام في بيروت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2024 (أسوشيتد برس)

لكن على الرغم من وجود أنصار لحزب الله في الضاحية، فإن تصنيف المنطقة بـ"المعقل" يثير اعتراضات واسعة، ليس فقط بين الباحثين، بل أيضا بين سكانها أنفسهم. ترى حرب وآخرون أن استخدام مصطلح "معقل" يتجاهل التنوع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الضاحية، بل ويعمل على إضفاء الشرعية على العنف ضدها، وكأنها مجرد هدف عسكري وليس حيا نابضا بالحياة.

تقول حرب: "هناك صورة نمطية غير إنسانية تروجها وسائل الإعلام الغربية، تربط جميع سكان هذه المنطقة بتوجهات سياسية معينة، وهو أمر بعيد عن الواقع".

قبل أن تتحول الضاحية إلى ساحة حرب، جاءت زينب الديراني إليها عام 2021 من بلدتها قصرنبا في البقاع بحثا عن فرص عمل، في وقت كان فيه لبنان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه. كانت زينب تحمل طموحات كبيرة، وبذلت جهدا هائلا في حياتها المهنية، إذ عملت لأكثر من 14 ساعة يوميا إلى جانب دراستها للكيمياء والتشخيص الطبي.

إعلان

لم تكن تحب حيّها كثيرا، لكنها رغم ذلك تحتفظ بذكريات جميلة عن الجلوس مع والديها في نهاية اليوم، يتبادلان الأحاديث، وعن عمتها التي كانت تمرّ لزيارتهم باستمرار.

دعاء نابو (3 سنوات) تنام على زاوية أحد الشوارع بينما تقرر عائلتها إخلاء المنزل تحسبا لغارات جوية إسرائيلية في العاشر من أغسطس/آب 2006 (غيتي)

نشأت منى حرب في الضاحية الجنوبية، لكنها غادرتها قبل نحو 30 عاما. أما والدها، فكان يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز واللحوم والجبنة واللبنة حتى أسابيع قليلة مضت.

تقول بأسى: "كان المنزل جيدا وآمنا"، قبل أن تتوقف للحظة وتضيف بصوت منخفض: "قبل ذلك".

اليوم، يجد أكثر من مليون شخص -أي ما يعادل 20% من سكان لبنان- أنفسهم في حالة نزوح قسري بسبب الحرب الأخيرة. وبينما دُمّرت منازلهم، لم يجد كثيرون منهم مأوى، فافترشوا الحدائق العامة، والشوارع، وحتى شواطئ البحر، في مشهد يعيد إلى الأذهان الأزمات الإنسانية التي عصفت بلبنان على مر العقود.

يقول الباحث في أستوديو الأشغال العامة: "بالنسبة إلى النازحين، الصدمة مزدوجة، ليس فقط لأنهم طُردوا من منازلهم تحت التهديد، ولكن لأنهم يشهدون أيضا محو روابطهم الثقافية والجسدية بأرضهم". وأضاف أن ما يحدث في الضاحية ليس مجرد قصف عشوائي، بل هو "محاولة متعمدة لمحو وجود المجتمع ذاته"، في إشارة إلى حجم الدمار الذي طال المنطقة منذ بدء العدوان الإسرائيلي.

ليالٍ مرعبة ودمار ممنهج

منذ 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنت إسرائيل عشرات الغارات على الضاحية، وفقا لمصادر محلية. وبعد توقف استمر أسبوعا تقريبا، استؤنف القصف بوتيرة أعنف، إذ شهدت ليلة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 واحدة من أشد ليالي القصف رعبا، حين شنت إسرائيل 17 غارة جوية أسفرت عن تدمير ما لا يقل عن 6 مبانٍ، كان من بينها مكتب قناة الميادين الإعلامية.

ويؤكد الباحث في أستوديو الأشغال العامة أن "رسم خريطة للدمار أمر معقد، لكن الواضح هو أن الضاحية تعرضت لهجمات وحشية يومية". ويضيف: "ما يميز هذه الضربات هو العنف العشوائي ضد المدنيين، حيث لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية مزعومة، بل امتدت لتشمل الأبنية السكنية والشوارع والمحال التجارية".

إعلان

وكانت الأوامر الإسرائيلية بالإخلاء تصدر عبر منصة إكس، حيث نُشرت خرائط للضاحية مع تمييز المباني المستهدفة باللون الأحمر. وفي كثير من الحالات، مُنح السكان ساعة واحدة فقط للمغادرة، ومع كل ليلة كانت المهلة تقلّ، لتتحول إلى دقائق معدودة في بعض الأحيان.

يضيف الباحث: "المباني والشوارع والأحياء بأكملها تم تحديدها ورسم خرائطها بشكل منهجي، ثم استُهدفت بغارات جوية دقيقة، في إطار إستراتيجية مدروسة للقضاء على المساحات المدنية".

المأوى المفقود

يوم 27 سبتمبر/أيلول 2024، أجبرت زينب الديراني وعائلتها على مغادرة منزلهم. انتقل والداها للعيش مع شقيقتها في أحد الأحياء المسيحية، بينما وجدت زينب ملجأ مؤقتا في متجر بعين الرمانة.

ومع استمرار عمليات الإخلاء، انتقدت منظمة العفو الدولية الطريقة التي أُجبر بها السكان على المغادرة، ووصفتها بأنها "مضللة وغير كافية". وأشارت إلى أن بعض الهجمات وقعت بعد أقل من 30 دقيقة من إصدار التحذير، بينما جاءت هجمات أخرى من دون أي تحذير على الإطلاق.

صدمة الفقدان

بالنسبة لمازن، وهو صاحب محل هدايا وعطور في المريجة، لم يكن القصف مجرد كارثة مادية، بل كان فقدانا لكل ما كان يعني له الحياة. كان يعيش حياة هادئة مع قطته المحبوبة "سيسي"، التي أصبحت نجمة حسابه على "تيك توك". ولكن عندما ضربت غارة جوية المبنى الذي يسكن فيه حين كان خارجه لشراء بعض الحاجات، انهار المبنى بالكامل، تاركا سيسي تحت الركام.

وفي مقطع فيديو انتشر على "تيك توك"، ظهر مازن وهو يقف أمام أنقاض منزله يبكي بحرقة وينادي على قطته المفقودة، بينما انهالت التعليقات برموز تعبيرية باكية وأخرى تعبر عن الحزن.

يقول مازن للجزيرة: "ذهبت كل حياتي، لا مشكلة، سأجد منزلا آخر… لكن الشيء الوحيد الذي يهمني هو إذا ما كانت سيسي قد نجت. إن شاء الله لم تمت".

لم يفقد الأمل في العثور عليها، فكل يوم يذهب إلى موقع الدمار بحثا عنها، وينام في العراء، متنقلا بين الشوارع والشرفات، ويقول: "ما زلت أعيش حياة هادئة، لا يهمني أي حزب أو طائفة، أنا فقط أحب الحياة والقطط والحيوانات"، يقول بنبرة مفعمة بالألم والاستسلام.

إعلان تاريخ يعيد نفسه

لم تكن هذه المرة الأولى التي تعيش فيها الضاحية هذا النوع من التدمير الشامل. ففي حرب يوليو/تموز 2006، خاض حزب الله وإسرائيل حربا استمرت 34 يوما، قُتل خلالها أكثر من 1220 شخصا، معظمهم من اللبنانيين، في حين دُمر حوالي 245 مبنى وفق ما أطلق عليها الجيش الإسرائيلي "عقيدة الضاحية"، وهي تكتيك عسكري يقوم على التدمير غير المتناسب.

ورغم الحروب السابقة، فإن الضاحية استمرت في النمو واحتضنت سكانها النازحين من مناطق أخرى. لكن اليوم، يواجه بعض هؤلاء السكان واقعا مختلفا، إذ لم يعد كثيرون يرون في الضاحية مكانا يصلح للعيش بعد انتهاء الحرب.

نسيم (11 عاما) نازحة من الضاحية تعرض حجارة لونتها خلال أنشطة فنية أقامها متطوعون في بيروت يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (رويترز)

تقول ديانا يونس: "عائلة خالي قررت عدم العودة. يخططون لبيع كل ممتلكاتهم هنا والانتقال إلى مكان آخر. لم يعد أحد يريد الضاحية".

ذكريات تتلاشى وأحلام تتبدد

نشأت منى حرب في الضاحية، التي غادرتها قبل 30 عاما، وكان والدها حتى وقت قريب يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز والجبنة، ليس لعدم توفرها في مكان آخر، ولكن لأن هذه الرحلة عبر الأزقة الضيقة كانت تمنحه شعورا بالانتماء والارتباط بالمكان.

تقول بحزن: "هذا مجرد مثال بسيط على شيء قريب مني تم محوه تماما".

أما زينب الديراني، التي حلمت دائما بحياة خارج الضاحية، فوجدت نفسها أمام واقع لم تكن تتمناه. "أردت الرحيل، لكن ليس بهذه الطريقة… أشعر أن كل أحلامي تنهار"، تقول بصوت يملؤه الألم والصدمة.

وتضيف: "ما زلت أعيش في حالة إنكار… وكأنني في كابوس لا أريد أن أستيقظ منه، لأنني عندما أفعل، سأجد نفسي أمام حقيقة قاسية لا أعرف كيف أتعامل معها".

ففي حين تتلاشى ذكريات الطفولة والأيام الجميلة، يغلب شعور الرعب والخوف من المستقبل على سكان الضاحية. وتختتم زينب حديثها بعبارة موجعة: "نحن نجلس وننتظر يومنا… من المؤسف أن أقول هذا، لكننا ننتظر اللحظة التي سنُقتل فيها مثل أحبائنا وأصدقائنا".

إعلان

مقالات مشابهة

  • اتهامات وحرب كلامية.. هكذا احتد التوتر بين الخرطوم وجوبا
  • دبلوماسي سابق يكشف لـ«الأسبوع» مخطط إسرائيل في الضفة الغربية
  • صالون الإشراف " يكرم رموز العمل الاجتماعي بقنا تزامنآ مع احتفالات مولد عبدالرحيم القنائي
  • المفتي يشارك أهالي الدقهلية احتفالات العيد القومي للمحافظة - صور
  • مفتي الجمهورية يشارك في احتفالات العيد القومي الـ775 لمحافظة الدقهلية
  • قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل
  • الرئيس اللبناني يؤكد ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها
  • محافظ الدقهلية يضيء الشعلة إيذانًا بانطلاق احتفالات العيد القومي 775 للمحافظة
  • شاهد.. مقطع فيديو جديد للغارة “الاسرائيلية” التي استهدفت الشهيد “حسن نصر الله” 
  • لبنان يأمل من أورتاغوس طمأنته بانسحاب إسرائيل في 18 شباط