السودان: عبد الله حمدوك …النوايا الطيبة والإرادة السياسية
تاريخ النشر: 23rd, December 2023 GMT
ينشط رئيس الوزراء ء السابق من منفاه الدكتور عبد الله حمدوك في حملاته وخطاباته ومشاركته الإقليمية والدولية لوقف الحرب الدائرة في السودان منذ أن اندلعت في ابريل الماضي بين الجيش وحفاءه من الإسلاميين وقوات الدعم السريع. وربما فاقت تحركاته المحسوبة على طرف الحرية والتغيير الجناح المدني الرافض للحرب والمتهم من الطرف الآخر وحلفائه بممالأة إن لم يكن تحالفا تكتيكيا مع قوات الدعم السريع في حربه مع الجيش.
ويعد حمدوك من التكنوقراط الذين وضعتهم حظوظهم أو أقدار التاريخ على مسار سياسي لم يكن مستعد له بالخبرة أو التجربة أو الطموح، فقد صادف اختياره بعد انتفاضة ديسمبر 2019م التي أطاحت بحكم الإسلاميين ليكون رئيس وزراء الحكومة الانتقالية كشخصية متفق عليها شعبياً وسياسيا ليقود حكومة هجين بين المدنيين والعسكريين. ولعها المرة الأولى في تحولات السياسية السودانية التاريخية أن يتقلد شخص من خارج الدائرة التقليدية السياسية السودانية والاجتماعية الجهوية منصباً سياسياً (رئيس الوزراء) بالانقلاب أو الثورة أو الانتخابات مثل شخصية عبد الله حمدوك. فالرجل الذي حازّ على شعبية غير مسبوقة حملته عاطفة الجماهير المتحمسة للتغيير لتطلق عليه وصف "المؤسس" وأصبح في واجهة الأحداث بكاريزما شعبية جارفة أكثر فعالية من منصبه. وقاد حكومة تنازعتها الصراعات السياسية في مناخ سياسي ورث تشوهات مستعصية كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل على شخصية حمدوك التعامل معها. فخلفية الرجل الاقتصادية والمهنية ومسلكه الليبرالي وشخصيته الحذرة التي تميل إلى الوسطية أو المجاملة في السياق الشعبي السوداني اعاقت الكثير من قراراته. فإذا كانت السياسية تقتضي فيما تقتضي جملة رؤي متباينة تقوم على خيارات إنسانية متباينة بما فيها الحسم في القرار أو القوة في التنفيذ، فقد افتقدت حكومة حمدوك وسياساته كل من الأمرين لنقص التجربة السياسية على مستوى الممارسة السياسية الشخصية.
ولكن ما الذي يحرك الرجل الآن بنشاط مكثف ربما فاق دوره ابان توليه رئاسة وزراء الفترة الانتقالية؟ وهل لممارسته القصيرة للسلطة فتحت شهيته نحو الزعامة السياسية أو السلطة؟ قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن الرجل قد حقق اختراقاً على المستوى الدولي وأعاد السودان إلى دائرة منظومة الاقتصادي الدولي بعد عقوداً من الحظر، والأبرز بطبيعة الحال ما قادته اليه جهوده في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب حسب التصنيف الأميركي. صعد الرجل مسرح السياسة في وقت يبحث فيه الشارع السوداني على منقذ تكنوقراطي يخرج البلاد من مأزقها الاقتصادي. وهو ذات الرؤية التي دفعت النظام السابق قبيل انهياره لاستدعاه لشغل منصب وزير المالية واعتذر عنه، وهو ما زاد من شعبيته بعد الثورة.
لم تكن رؤية سياسية واضحة بالمعني التقليدي للممارسة السياسية في ظل واقع مشعباً بالمعوقات الاقتصادية والحروب الداخلية على بينة دولة هشة تقوم على الترضيات والكيانات الاجتماعية والقبلية، وكلها عوامل تحد من التحول الديمقراطي أو الانتقال الى التحديث من منظور اقتصادي وسياسي اجتماعي. فرض هذا الواقع على الرجل البدء بمعالجات فوقية تحقق مصالح الدولة العليا أكثر من المواجهة المباشرة خاصة مع التعاطي السياسي اليومي، فكان الأداء السياسي غير مسيطر عليها جعل من حكومته لقمة سائغة لشهية الانقلابات السودانية على عادة تداول وتغير السلطة في السودان خاصة في فتراتها الديمقراطية قصيرة الأجل. فقد آثر الحلول على مستوى المؤسسات الدولية لإقالة عثرات الاقتصادية دون تفعيل للمقدرات السياسية الداخلية التي تضمن استمرار هذه الحلول.
لم تكن المعايير الاقتصادية القياسية وتطبيقاتها في السياسية التنظيمية لمؤسسات الدولة التي نهجها الوزير المدني في سياسته المالية للدولة المتعثرة من واقع خبرته المهنية في كخبيرٍ دولي في مجالات عدة. فلم تلفح خبراته الفردية في الاصلاح الإداري والحوكمة، والاندماج الإقليمي وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديموقراطية والمساعدة الانتخابية كما تحفل بها سيرته الذاتية لم تكن لديها قابلية التطبيق على واقع السودان الذي قاد وزارته في خضم صراع محتدم على السلطة وفوضى سياسية فتكت بالمرحلة الديموقراطية الرابعة. فقد نظر إلى الواقع السياسي وصراعاته من منظور تكنوقراطي مفرط في مثاليته وجموده فأفتقد لتقديرات السياسي وبصيرة القائد في استيعاب تناقضات التي أدت إلى ما أدت اليه من نتائج شاخصة.
فما الذي ستكشف عنه جوالاته ومبادرته الشخصية على صعيد الأزمة السودانية؟ يعتمد حمدوك إلى حدٍ ما إلى شرعية منصبه وهي شرعية ثورية وليست انتخابية كآخر رئيس وزراء بعد الثورة قبل أن يطيح به انقلاب الفريق البرهان وحلفائه من الإسلاميين أكتوبر 2021م رغم أنه شارك في سلطة الانقلاب في خطوة افتقرت الى الخبرة السياسية إن لم تكن الحساسية التاريخية أو تقدير الذات. ومن ثم غادر مستقيلاً إلى الخارج وطوته ظلال الوظيفة الأممية. ومن ثم عاد إلى الظهور على منصة الواجهات الإعلامية طارحاً للمبادرات الوطنية ومخاطباً كل الأطراف الإقليمية مؤسسات وافرادا. وظلت هذه الخطوات لحين اشعار آخر تحلق في فضاءات الإعلام دون أن تحدث أثراً على الداخل.
فما يحرك الرجل ليس مسعى سياسياً نحو عودة سلطة نزعت عنه أو مبادئ سياسية يستميت في الدفاع عنها. ولكن يفسر هذه التحركات على كافة المنابر المتاحة والخاصة بالشأن السوداني فيما يتعلق بالحرب على ما يبدو هي النوايا الطيبة Good Will هي ما يدفع الرجل الى لعب دور يمكن وصفه بالمبادرة الفردية على الرغم من موقعه الجديد رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية. فانتماءات الوزير السابق السياسية لم تكن صريحة بما يكفي لاتخاذ موقف يحتمل أقصى درجات الضغط والمناورات السياسية داخليا أو خارجيا. ثم إن تاريخه السياسي القصير في الحكم يجعل من وجوده مستغلاً وموظفاً في الصراع السوداني الدائر دون إرادة حقيقية لإنجاز ما يصبو إليه من آمال لإنهاء الحرب. فالدعوة إلى انهاء الحرب مطلباً لا حيدة عنه أي يكن مصدر الدعوى، فأي دعوة لابد لها من إرادة سياسية نافذة أكثر مما تتصوره النوايا أو التصورات المحمولة على الأماني أكثر من حقائق الواقع.
###
nassyid@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لم تکن
إقرأ أيضاً:
معاوية بين التوظيف السياسي والواقع المر
لا تزال الدراما العربية وخاصة التاريخية منها تخضع بشكل متفاوت لسلطة السياسة والأيديولوجيا والمال، والعمل الأخير الذي كثر الحديث عنه يدل بوضوح على ذلك. فمعاوية ليس مسلسلا عاديا، إنه في قلب الصراع الدائر حاليا.
تابعت أغلب الحلقات، فبدا لي أن الشخص الذي نحتوه لا علاقة له البتة بذلك الرجل الذي انحرف بالتاريخ العربي الإسلامي إلى درجة الانقلاب عليه وتحويل وجهته سياسيا وعقائديا. فمعاوية بن أبي سفيان في المسلسل شخصية مؤمنة إلى حد التقوى، تحب الخير للأمة، مجاهدة في سبيل الله، من كتبة الوحي وحفظته. لكن معاوية في الواقع التاريخي حكاية أخرى ذات طموح شخصي وقبلي، براغماتي، ومستبد إلى حد التهور والغلو.
لا خلاف حول الدور الهام الذي قامت به الحقبة الأموية في ترسيخ الدولة وتوسيع نطاق سلطتها جغرافيا وحضاريا، لكن ذلك لا يبرر مطلقا أن نضفي على مؤسسها ما ليس فيه، وأن نقارنه بعلي بن أبي طالب، تلك الشخصية النقية التي تمتعت بخصال عديدة، والذي ذهب ضحية المناورات الخسيسة التي قام بها خصومه خلال الفتنة التي قضت على جزء هام من الجيل المؤسس.
ورغم أن الرسول صل الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم معاوية يعتلي منبري فاقتلوه"، ورغم أنه قال أيضا "عمار ابن ياسر تقتله الفئة الباغية"، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تميل الرياح لصالح معاوية فينتصر في معركة الخلافة، وتنقسم جبهة علي، فتقع معركة الجمل، ثم تنجح حيلة التحكيم، ويولد الجناح التكفيري ويقوم الخوارج بقتل علي، وصولا إلى يزيد ابن معاوية الذي ورث الحكم عن أبيه فقضى على مبدأ الشورى وقيام الحكم العضوض، وتولى يزيد قتل الحسين مع أهل بيته، وقطع رأسه ورفعه فوق الرماح. وبذلك اكتملت التراجيديا الشيعية الإسلامية.
من الأهمية بمكان أن نحمي الذاكرة ونصححها للأجيال القادمة؛ لأن الذاكرة إذا انحرفت تكون النتائج وخيمة، وينقلب الحق باطلا، وتضرب القيم في مقتل، ولن يفهم تاريخنا فهما صحيحا. ليس المطلوب القيام بلعن معاوية في المنابر كما فعلت الدولة العباسية من قبل، وكما يفعل الشيعة اليوم، ولكن المطلوب وضع الرجل في مكانه وفي سياقه وفي حجمه. مهما حاول البعض التصرف في الشخصية، والتلاعب في تقديمها بوضعها في إطار براق، فإن الحقائق ستفرض نفسها بقوة، وتكشف حجم الزيف الذي تم اعتماده في الإخراج.
الأمة اليوم منهكة، ومقسمة، والعدو الصهيوني يتوغل في الجسم الفلسطيني والعربي، ويعربد كما يشاء. فهل هذا مناخ سليم لكي نعبث بلحظة فارقة في تاريخنا، من أجل ترضية هذا الطرف أو ذاك، فتوجيه ضربة للشيعة في هذا السياق اختيار خاطئ في وقت غير مناسب. فإيران بحساباتها وحزب الله اللبناني والحوثيون بإمكانياتهم المحدودة فعلوا مع أهل غزة ما لم يفعله أهل السنة مجتمعين، ساندوا المحاصرين في لحظات فارقة لا يمكن إنكارها أو التقليل من شأنها. شهد بذلك الجميع، فهل أن إنجاز مسلسل مثل هذا من شأنه أن يغير في رأي الكثير من الناس؟
فعندما نعلم بأن كل علماء أهل السنة والجماعة الذين يحظون بالثقة من قبل الجمهور، أجمعوا حول عدم إدراج معاوية ضمن أهل الفضائل والمكرمة، وكل ما فعله أغلبهم أنهم تجنبوا الخوض في سيرته، خوفا من بطش السلطة بهم. ومن الغريب أن خالد صلاح كاتب السيناريو اعتبر أن المسلسل "يؤسس لخطاب ديني جديد يعتمد على التحليل والنقد البناء، بعيدا عن التقليد الأعمى، ويعزز من أهمية الفهم العميق للتاريخ الإسلامي بعيدا عن التأويلات المغلوطة أو المبالغة في تقديس الأشخاص"؛ فأي خطاب ديني عقلاني يمكن أن يبنى على أنقاض سيرة معاوية بن أبي سفيان، الذي استعمل كل الوسائل التي تمكنه من البقاء في السلطة، حتى لو أدى ذلك إلى تغذية الفتنة وتبرير قتل الخصوم؟ لقد كان معاوية مثالا لشخصية المستبد غير العادل، ولا أعتقد أن تجديد الفكر الديني يمكن أن يرتبط بالاستبداد والمكيافيلية المقيتة، وإنما يولد من رحم الحرية والشورى الحقيقية والعقلانية المرتبطة بروحانية عالية.