إلى أسامة حمدان : الباطل لا ينصر الحق ولا ينتصر الحق بالباطل.

المصدر: المشهد اليمني

إقرأ أيضاً:

لستُ مدافعًا عن النور حمد… بل عن الحق في الاختلاف

إبراهيم برسي
22 يناير 2025

إنني هنا لست مدافعًا عن د. النور حمد، فلا تربطني بالرجل علاقة شخصية، ولم ألتقِ به من قبل، ولا يجمعني به أي انتماء حزبي أو عمل سياسي مشترك، سوى التزامنا المشترك بإرادة العبور بالسودان نحو وطن أكثر عدلًا وإنصافًا، وطن يتسع للجميع ويحترم اختلافاتهم.

إن معرفتي بالدكتور لا تتجاوز قراءتي لكتابه “العقل الرعوي”، وهو الكتاب الذي وجدته يقدم قراءة عميقة للمأزق السوداني، صيغت بلغة من يضع إصبعه مباشرةً على موضع الألم، حيث حاول فيه أن يفهم الأزمة السودانية من خلال تحليل مكونات العقل الجمعي السوداني وتأثير البنى الثقافية والاجتماعية على تشكيل سلوكنا السياسي.

بعد قراءتي لذلك الكتاب، تمنيت أن أتعرف على الرجل عن قرب وسعيت للتواصل معه، ليس فقط لفهم عمق أفكاره، ولكن أيضًا لتقدير جهوده في تسليط الضوء على ما خفي من ملامح أزماتنا المتجذرة.

لقد كان جهده في هذا الكتاب محاولة لفهم جذور الأزمات المتكررة في السودان، والتي تتجاوز السطح السياسي لتغوص في العمق الثقافي والاجتماعي، وهو أمر نحتاج إلى استكماله بدلاً من إنكاره.

ومع ذلك، فإن تناول أفكاره ومواقفه الأخيرة بشأن الأزمة السودانية لا يمكن أن يتم بمعزل عن سياق أوسع يتعلق بحرية الفكر والنقد، خاصة في ظل واقع سياسي شديد التعقيد يتطلب منا فهماً أعمق لجذور المشكلة وآليات التعامل معها.

الفكر الحر، مهما بدا مثيرًا للجدل، هو دعامة أساسية لأي مجتمع يسعى للتقدم.
النور حمد، في نهاية المطاف، لا يحمل بندقية، ولا يقود ميليشيا، ولا يفرض رؤاه على الآخرين بالقوة.
الفكر، كما علّمنا التاريخ، لا يُهزم إلا بفكر آخر. وكما قال الفيلسوف جون ستيوارت ميل: “الحقيقة تُولد من صراع الأفكار”.

لذلك، فإن رفض أو قمع فكرة ما بسبب اختلافنا معها لا يؤدي إلا إلى مزيد من الركود الفكري والسياسي.
إن حرية النور حمد في طرح رؤاه هي جزء من هذا الحق في التفكير الحر، الذي يشكّل شرطًا أساسيًا لأي نقاش صحي حول مستقبل السودان.

علاوة على ذلك، لا يمثل النور حمد مؤسسة حكومية، ولا يحمل سلطة تنفيذية تُحوِّل أفكاره إلى واقع مفروض. إنه مفكر حر، يتحرك ضمن الفضاء العام بأدوات الفكر والحوار.

الهجوم عليه، خاصة من قوى مدنية أخرى، يعكس أزمة أعمق في قدرتنا على إدارة الخلاف الفكري.
لماذا نحاكم الأفكار كما لو كانت أدوات قهر؟ ولماذا نضيّق على مساحة الفكر الحر، في وقت نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى نقاش عميق وجريء حول مستقبلنا؟

إذا أردنا فهم جذور الأزمة السودانية، فإن علينا أن نعود إلى المصدر الحقيقي للمأساة. الجبهة الإسلامية، التي اختطفت الجيش منذ عقود، حوّلت المؤسسة العسكرية من حارس للوطن إلى أداة لخدمة مشروعها السياسي والأيديولوجي.

لقد أفرغت هذه الجبهة الجيش من مضمون المهنية، وأعادته إلى مؤسسة قمعية تُستخدم ضد الشعب بدلًا من حمايته.
هذا التشويه لم يكن مجرد حادث عرضي، بل كان جزءًا من مشروع منهجي يُعيد تشكيل الدولة لخدمة الأجندة الأيديولوجية للجبهة.

ظهور الدعم السريع لاحقًا لم يكن سوى تجسيد لهذا الانحدار. الدعم السريع ليس نتاجًا لفراغ، بل هو امتداد لتفكيك الدولة ومؤسساتها، وهو انعكاس للعقلية التي تدير بها الجبهة الإسلامية صراعها من أجل البقاء.

إن مهاجمة النور حمد أو غيره من المفكرين في هذه اللحظة المفصلية ليست سوى انشغال بالصغائر، في وقت تستفيد فيه الجبهة الإسلامية من انقسام القوى المدنية، كما استفادت من قبل من تفتيت الحركة الوطنية منذ الاستقلال.

إن الأزمة السودانية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج لتراكمات تاريخية طويلة.
منذ الاستقلال، افتقرت الدولة السودانية إلى رؤية وطنية جامعة، ما جعل مؤسساتها عرضة للاستلاب من قبل النخب العسكرية والسياسية.

الجبهة الإسلامية ليست سوى الوجه الأكثر وضوحًا لهذا الاستلاب، وهي التي كرّست العقلية الاستعلائية التي أدت إلى الانقسامات الحادة بين مكونات الشعب.
هذه العقلية خلقت فجوة بين الدولة ومواطنيها، وجعلت الجيش أداة بيد السلطة السياسية، بدلًا من أن يكون حارسًا للديمقراطية.

في نهاية المطاف، إذا أردنا الحديث عن “المتاهة”، فإن الذي يعيش في متاهته الحقيقية ليس النور حمد، بل جنرالات الحرب الذين قادوا البلاد إلى هذا الخراب، يقتتلون فوق ركام وطن منهك، دون رؤية أو بوصلة أخلاقية.

إن متاهة النور حمد - إن وُجدت - هي متاهة الفكر الباحث عن مخرج، بينما متاهة هؤلاء تشبه متاهة “غابرييل غارسيا ماركيز” في روايته “خريف البطريرك”: متاهة الطغاة، حيث السلطة عارية من الإنسانية، والصراعات تدور بلا نهاية، كدوامة تبتلع البلاد والعباد.

هذه ليست متاهة الفكر الحر، بل متاهة الغرور السياسي والجشع العسكري، التي لن تنتهي إلا بإعادة تعريف معنى الوطن والسلطة والمسؤولية.

السودان اليوم بحاجة إلى مشروع فكري وطني جديد، يعترف بجذور الأزمة ويضع حلولًا شاملة تعيد بناء الدولة على أسس سليمة.

هذا المشروع لن يُبنى إلا إذا تجاوزنا منطق الإقصاء، وأعدنا إحياء ثقافة الحوار.
الفكر، كما قال سقراط: “هو محاكمة الذات أمام الذات”.

نحن بحاجة إلى وقفة صادقة مع الذات قبل أن نوجه أصابع الاتهام للآخرين.
المشكلة ليست في النور حمد أو أفكاره، بل في أن بلدًا بأكمله قد أُنهك بفعل عقود من القمع والاستغلال.

إذا لم نتعامل مع الجذور الحقيقية للأزمة، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من الصراعات التي لا طائل منها.

في النهاية، علينا أن ندرك أن الأفكار لا تُهزم بالسلاح أو الإقصاء، بل تُواجه بفكر أفضل وأكثر عمقًا وإقناعًا.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • لستُ مدافعًا عن النور حمد… بل عن الحق في الاختلاف
  • عرب كركوك: حكومة السوداني والبرلمان خذلونا بتمرير قانون إعادة العقارات الباطل
  • موناكو ينتصر على استون فيلا في دوري أبطال أوروبا
  • أخي استولى على شقى عمرى وعاوز يشاركنى؟.. وأمين الفتوى: أكل أموال بالباطل
  • القضاء ينتصر للكوادر الطبية (وثيقة)
  • أخي استولى على «شقى عمري» ويريد مشاركتي.. وأمين الفتوى: أكل أموال بالباطل
  • الشيباني: صدور حكم بإلغاء قرار ضم بلدية تاورغاء لبلدية مصراتة حكم نهائي واجب التنفيذ
  • صوت الحق ينتصر.. الملا لـبغداد اليوم: سأرشح للانتخابات المقبلة
  • إسماعيلي 2005 ينتصر على سيراميكا كليوباترا ببطولة الجمهورية للناشئين
  • مرافعة موضوعية أم مقامة إنشائية؟!