لغتنا العربية… شجرة الاحتفال وغابة الإهمال
تاريخ النشر: 23rd, December 2023 GMT
وتشتد الحاجة إلى السياسة اللغوية، أي إلى تدخل الدولة، كلما كانت اللغة في موقف دفاع. فقد كان الخوف من الغزو اللغوي الإنكليزي هو الذي أوجب إصدار قانون توبون لحماية الفرنسية عام 1994. ولكن الوضع اليوم أخطر بكثير، حيث إن 4 في المئة فقط من وثائق الاتحاد الأوروبي في بروكسل تحرر في الأصل بالفرنسية.
لا تجري علاقة الأمم بلغاتها وثقافاتها مجرى واحدا، بل إن ثمة اختلافات متعددة المظاهر لعل أبرزها الموقف الذي تتخذه الدولة من لغة البلاد متعيّنا في ما يسمى بـ»السياسة اللغوية».
ويصدر هذا اللا-موقف عن عاملين: أحدهما هو اطمئنان الأمتين إلى هيمنة الإنكليزية على معظم قطاعات الإنتاج العلمي والتقني والاقتصادي في العالم أجمع، بما يغني عن بذل أي جهد لتدعيم اللغة في الداخل والعمل على انتشارها وإشعاعها في الخارج. أما العامل الثاني فتاريخي، وهو ميراث الامتناع الحكومي (المستمر منذ أكثر من قرنين) عن الاستثمار في المؤسسات الثقافية والأكاديمية بإيكال الأمر كله إلى القطاع الخاص.
ومن تجليات هذه اللامبالاة أن وزارة الثقافة عديمة الأهمية في بريطانيا، فهي تأتي في آخر التراتبية الحكومية، وغالبا ما يكون وزير الثقافة نكرة لدى الجمهور. بل إن قدر هذه الوزارة أن يتوزع دمها بين القبائل، ولذلك فهي تسمى وزارة الثقافة والإعلام والرياضة (قبل أن يضاف للإعلام التواصل الرقمي). وقد سبق لمعلق ثاقب النظر أن نبه إلى أن الأهمية الحقيقية للمجالات هي في علاقة تناسب عكسي مع التسمية الرسمية: فالمجال الأهم الذي يحظى بالسيادة هو الرياضة، ثم يأتي الإعلام لأنه الوسيلة الأقوى للتأثير السياسي والانتخابي، وفي الأخير تأتي الثقافة بنتا من بنات العمومة الأباعد، فقيرة كسيرة لا تدعى إلى المناسبات العائلية إلا على مضض.
ومن المظاهر الأخرى لهذه اللامبالاة أن مستوى اللغة الإنكليزية التي يتحدثها الرؤساء الأمريكيون ورؤساء الحكومات البريطانيون هي أقرب إلى العامية منها إلى الفصاحة، وإذا أردت مثلا على رقي اللغة فلا بد لك من العودة إلى كندي وروزفلت، وإلى هارولد ماكميلان وتشرشل.
الصنف الثاني يشمل الأمم التي تبدو كما لو أنها في خصومة مع لغتها، فدولها مكتفية بفتح المدارس، وإعلامها، خصوصا التلفزيوني والإلكتروني، يسعى في خراب اللغة سعيا حثيثا من حيث لا يدري. أما الحكام فمعظمهم متخصص في ارتكاب الأخطاء اللغوية الفاضحة المخجلة المخزية التي يترفع عنها النجباء من تلاميذ المدارس الابتدائية. ولكن الحكام لا يخجلون لأنهم لا يدركون، وليس ثمة بين أفراد الحاشية من يكترث لتنبيههم أن إتقان اللغة الأم في الخطب العامة والتصريحات الرسمية هو الدرجة الصفر من شروط الاحترام للذات ومن مقومات المصداقية السياسية. ولا شك أن دولنا المكتفية برتابة الاحتفال الشكلي، كل 18 ديسمبر/كانون الأول، باليوم العالمي للغة العربية هي المثال الأبرز على استفحال هذه الرداءة التي بلغت حد التلعثم والتعثر في آيات قرآنية معروفة يحفظها حتى الأميون من أفراد الأمة.
أما الصنف الأخير فيشمل الأمم التي تقدّر لغاتها وتمضي في الاحتفاء بها إلى حد يقرب من التقديس. ولا شك أن المثال الأبرز هو فرنسا التي يزخر تاريخها بآيات باهرة من الاحتفاء باللغة الوطنية. أما أحدث مظاهر هذا الاحتفاء فقد تمثل، أواخر أكتوبر/تشرين الأول، في تدشين المدينة الدولية للغة الفرنسية في بلدة فيللر-كوتيري. ذلك أنها البلدة التي شهدت إصدار الملك فرانسوا الأول عام 1539 المرسوم الذي جعل الفرنسية اللغة الإدارية للبلاد، تماما كما فعل عبد الملك بن مروان عندما قرر تعريب الديوان. وبهذا تم توحيد فرنسا لغويا وإنهاء الهيمنة النخبوية للغة اللاتينية، والبلبلة الناجمة عن كثرة اللغات الجهوية (المناطقية). كما تمتاز فيللر- كوتري بأنها موطن ألكسندر دوما، أول كاتب فرنسي متعدد الأعراق (كانت جدته سوداء).
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بريطانيا فرنسا بريطانيا فرنسا اللغة العربية سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: معارض الكتب العربية.. لماذا لا نمل التكرار؟!
في البدء كانت الكلمة، ثم صارت معرضًا، نلتقي هناك، بين الرواق والرف، لنعيش لحظات نعتقد أنها ثقافة، لكنها غالبًا ما تكون مجرد ظل لها. نشتري الكتب، نلتقط الصور، نستمع إلى المتحدثين نفسهم كل عام، ثم نغادر كما جئنا: بلا أسئلة جديدة، ولا أفكار تقلقنا.
هذا ليس نقدًا لمعارض الكتب، بل هو حنين إلى ما يمكن أن يكون. إلى معرض لا يختزل في "الحدث الثقافي" الذي يعلن عنه، بل في ذلك الحوار الخفي الذي يحدث بين القارئ والكتاب، بين المبدع والمتلقي، بين الماضي الذي نحمله والمستقبل الذي نصنعه. معرض لا يكرر نفسه، بل يتجدد كالنهر الذي لا يعبر المرء نفس مياهه مرتين.
فهل نجرؤ على أن نحلم بمعرض كهذا؟!
في كل ربيع، تتنفس أبو ظبي بكتب تفتح، وأفكار تعلق كنجوم في سماء ندواتها، وأصوات تأتي من كل حدب لتلون أروقة المعرض الدولي للكتاب. هنا، حيث تتحول الكلمات إلى لوحات، والندوات إلى حوارات تلامس الغيم، يصبح المعرض ليس مجرد سوق للورق والحبر، بل مهرجانًا ثقافيًا يذوب فيه الفن في الفكر، والماضي في المستقبل. لكني، وأنا أقرأ أخبار هذه الدورة، أشعر بظل من الحزن يتسلل إلى كياني؛ حزن لا يعبر عن غيابي الجسدي عن أروقته هذا العام فحسب، بل عن سؤال يلح علي: هل يكفي أن نكرر الوجوه ذاتها كل عام لنجعل من المعرض منارة ثقافية؟.
بين الكتب والوجوه: سردية المكان
لا يختزل المعرض في رفوفه الممتلئة، بل في ذلك الحوار الخفي بين الغائبين عنه والحاضرين فيه. إنه فضاء تعيد فيه الثقافة العربية اكتشاف ذاتها عبر كتب تتنافس في جمال الطباعة وعمق المحتوى، وندوات تلامس قضايا من الشرق إلى الغرب، وفنون تشكيلية تتحرك كأنها قصائد بصرية. الضيوف الذين يحتضنهم المعرض، من مفكرين وأدباء وفنانين، هم بمثابة جسور تربط بين الموروث والحداثة، بين المحلي والعالمي. كل دورة جديدة تذكرنا أن الثقافة ليست تراكمًا، بل حركة دائمة نحو آفاق غير مطروقة.
لكن هذه الحركة، يا سادتي، تحتاج إلى رياح جديدة. فكيف لنا أن نتحدث عن انفتاح ثقافي، ونحن نرى الوجوه ذاتها تتكرر عامًا بعد عام، وكأن المعرض تحول إلى "صالون أدبي" مغلق على نخبة محددة؟ أليس في العالم العربي والعالمي من المبدعين والمفكرين من يستحق أن يسمع صوته؟ أليس التغيير جزءًا من جوهر الثقافة ذاتها؟.
غيابي... وحضور الأسئلة
قد يقول قائل: "الحضور رمزي يعزز التواصل". لكنني، وأنا أتأمل صور الندوات وبرامجها، أتساءل: كم من تلك الأسماء المكررة قدمت رؤية جديدة هذا العام؟، كم منهم تجاوز خطابه المألوف إلى فضاءات غير مسبوقة؟ الثقافة لا تبنى بالتكرار، بل بالتجديد. ولئن كان حضور بعض الوجوه ضرورة لاستمرارية الحوار، فإن إحلال دماء جديدة مكان أخرى بالية هو شرط بقاء الثقافة حية.
أذكر ذات مرة أن الدكتور سعيد يقطين الناقد المغربي المعروف ، كتب عن "السرد الناعم" كحكاية تتدفق بلا ضجيج، لكنها تحدث أثرًا عميقًا. هكذا يجب أن يكون المعرض: حكاية تتجدد شخصياتها كل عام، لا أن تتحول إلى مسرحية يعاد تمثيلها بنفس الأدوار. إن تكرار الضيوف يشبه إعادة طباعة كتاب قديم بغلاف جديد: قد يبدو جميلًا، لكنه لا يغني المكتبة.
اقتراح من القلب
لا ينبع نقدي من جحود بقيمة المكررين، بل من حب لجعل المعرض منصة لا تضاهى. لماذا لا نستلهم تجارب معارض عالمية تخصص مساحات واسعة للاكتشاف؟ لماذا لا نشرك الشباب أكثر، أو نستضيف مبدعين من ثقافات لم تسمع أصواتها بعد؟ الثقافة العربية غنية بتنوعها، لكن هذا التنوع لا يظهر إلا إذا فتحنا الأبواب لـ"الآخر" المختلف، لا الذي نعرفه مسبقًا.
الشارقة.. حب قديم!
بين ضجيج المعارض وصمت الذكريات، تقف الشارقة كسيرة عشق لم تكمَل. زرتها ذات يوم ضيفًا على معرض الكتاب، فكانت كحكاية "كليلة ودمنة" تروى لأول مرة: كل جنباتها حروف، وكل شارع فيها باب مفتوح إلى عالم آخر. أحببتها حتى ألفت عنها كتابًا، وكتبتها حتى صارت في قلبي وطنًا ثانيًا.
لكن العجيب في الحكايات الجميلة أنها تنسى أحيانًا! فمنذ تلك الزيارة اليتيمة، لم أتلق دعوة، ولم أعد إلى أروقة المعرض، وكأنما اكتملت فصول تلك القصة بلا خاتمة. أتذكر جيدًا ذلك الزحام الثقافي، وتلك الوجوه المتعطشة للكتب، والجلسات التي كانت تشبه "نديم" الجاحظ في زمن السوشيال ميديا. فالشارقة ليست معرضًا للكتب فقط، بل هي "ديوان" العرب الذي يجمع بين الأصالة والانطلاق.
فيا معرض الشارقة، أليس من العدل أن تعود الفراشات إلى حيث تلونت أجنحتها أول مرة؟ أم أن الدعوات صارت كالكتب النادرة التي لا يوفق الجميع لاقتنائها.