الخروج على الحاكم: الإنسان ذئب أخيه الإنسان

د. عبد الله علي ابراهيم

19 سبتمبر 2020

(أول عهدي بالفيلسوفين توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704) كان بالصف الثاني أو الثالث الثانوي بعطبرة. كان جاءنا صبحي عباس صبحي، أخ الأكاديمي الأديب حسن عباس صبحي، مدرساً للتاريخ. ولا أدري مناسبة اطلاعنا بالفيلسوفين في إحدى حصصه التي لا تزال تتراءى لي كأنها تحدث أمامي.

ثم وجدتني أضطر لأعلم عنهما فوق حفظ اسمائهما من درس الثانوية في خضم ثورة ديسمبر حين راجت الدعوة بتحريم الخروج على الحاكم. ولم أرد أن نكتفي بالجدل داخل علم السياسة الإسلامي عن صحة هذا الخروج. فنظرت في علم سياسة غيرنا من نظن أننا في سكتهم في الحداثة غير أن جهلنا به ظلمات فوق ظلمات. وقبلنا أن نناقشهم من فوق منصة تقليدهم الثقافي وهذه هي المصيدة مالم تمكر عليهم بالعلم الجديد الذي خرجوا لاستئصاله)

هذه كلمة كتبتها أول ما سمعت من قال إن الثورة على الإنقاذ أبطلت المشروع الإسلامي. فخشيت على القائل وصحبه استسهال العلاقة التاريخية والسياسية المعقدة بين النظم السياسية والدين. فبدأ لي كأن القائل عنى بذلك أن ننصرف منذ الآن فصاعداً إلى دولة تركت الدين من ورائها سوى من التعبد ونحوه. وأردت بالمقال تنبيه الأذهان إلى ديناميكية جدل الدين والدولة الذي لم ينته بهما بعد إلى طلاق البينونة. وعرضت في الحلقة الماضية لبعض خبرتنا في المسألة لأتطرق في هذه الحلقة إلى منشأ هذه الجدلية في أوربا بين علماء السياسية والاجتماع الإنجليزيين الشهيرين للقرن السابع عشر توماس هوبز وجون لوك.

اتفق لكل من هوبز ولوك فساد النظر للسياسة من زاوية العقيدة الدينية. فالسياسة في رأيهما معارف دنيوية منفصلة عن فقه الدين. وكان السؤال الذي جبههما من بعد اتفاقهما ذاك هو: كيف للناس أن يتعايشوا في زمن لم تعد للاعتبارات الدينية والتقليدية الفاعلية أو الجاذبية؟ فاختلفا حول طبيعة الحكم الذي يكفل لهم هذا التعايش بسلام. ودار خلافهما حول الموقف من حكم الملوك المطلق الذي خضعت له أوربا طويلاً. فاعتقد فيه هوبز بينما نقضه لوك. وفي الحالين كان العقل دليلهما في عقيدتيهما لا أية حقوق سلطانية أو تقليدية أو دينية مسبقة. فالعقل هو المعيار عندهما في الأحكام بما فيها خطة المُلك.

فرأى هوبز أن الحُكم تعاقد بين الملك والشعب. ومتى صار الملك في سدة الحكم لم يجز نزعه منه. وجعل له بذلك سلطة مطلقة لا معقب عليها. أما لوك فركز الحكم في الشعب وجعله رهيناً بالإحسان للمحكومين يسقط متى لم يعد يمثل الشعب. ولذا كان لوك، لا هوبز، هو الأكثر تأثيراً في مفهوم السياسة الحديثة.

وخلاف هوبز ولوك قائم في نظر كل منهما للطبيعة البشرية. فهوبز سيء الظن بها. وهو القائل بأن الإنسان “ذئب أخيه الإنسان” لطلبه الحثيث للشوكة لا يريم. أما لوك فحسن الظن بالطبيعة البشرية. وانبنت نظم الغرب على حسن ظنه ذاك. فاقتدى الغرب به في قدسية الدستور وحقوق الإنسان لأنه رهن الحكم بالإحسان وإلا ذهب. ومصدر حسن ظن لوك بالطبيعة البشرية هو اعتقاده بأنها محكومة بقوانين طبيعية من وضع الرب. ورب لوك مطلق غير منتم لدين بعينه. وعليه قال لوك، ناظراً إلى صقل القوانين لهذه الطبيعية، إن الإنسان يُعنى بنفسه كثيراً، ولكن لا يغيب عنه اعتبار مصلحة جماعته فينجو بذلك من التوحش الذي رماه هوبز به. فسيصعب على هوبز، القائل بانشغال الإنسان بنفسه واستغراقه فيها، مثلاً تفسير لماذا يهب إنسان لنجدة آخر بتكلفة تؤدى إلى موته.

لم تكن منزلة الإسلام من الدولة بعد فشل مشروع (بغير ألف ولام) دولة الإنقاذ الإسلامي موضوع نظر علمي منهجي بين دعاة فصل الدين عن الدولة تجاوز الاحتجاج السياسي على الإنقاذ ومشروعها. وأعفتهم غيبة النظر خلوصهم إلى قناعة أن الإنقاذ دولة غير إسلامية لا تقارب الدين إلا ذراً للرماد في العيون. وهنا مربط فرس مأزق العلمانيين. فتجدهم لا يستوقفهم تناقض بَين في مقولتهم: فحين خلصوا إلى أن المشروع الإسلامي (بإطلاق) كما جسدته دولة الإنقاذ قد انتهى إلى غير رجعة تجدهم في نفس الوقت ينفون دولة الإنقاذ عن الإسلام. فكيف ينتهي مشروع ما ببينة دولة لم تطبقه؟

ينتظر العلمانيون شغل كثير للتوطن في ثقافة غلب عليها المصطلح الإسلامي في فقه الدولة. وينتظرهم أيضاً وبشدة تجديد النظر في مصطلح فكرهم الحداثي الذي هجروه زمناً لاستغراقهم في المقاومة العملية للإنقاذ. وأردت بهذا المقال حول شرعية الخروج على الحاكم في فقهنا الإسلامي والعلماني التشديد على أهمية الشغل العلماني المنتظر في الجبهتين.

IbrahimA@missouri.edu

الوسومالإسلام الإنقاذ الحزب الشيوعي توماس هوبز ثورة ديسمبر د. عبد الله علي إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإسلام الإنقاذ الحزب الشيوعي ثورة ديسمبر د عبد الله علي إبراهيم

إقرأ أيضاً:

متى يحق للمريض الخروج من المنشأة الطبية بالقانون الجديد؟

يحقق مشروع قانون المسؤولية الطبية، والذي وافق عليه مجلس النواب في جلسته الأخيرة من حيث المبدأ، التوازن المطلوب بين توفير حماية قانونية لحقوق المرضى وضمان بيئة عمل آمنة للأطقم الطبية.

برلماني: مجزرة الاحتلال برفح الفلسطينية استكمال لسيناريو الإبادة الجماعيةبعد واقعة أسد سيرك طنطا .. تساؤل برلماني: أين لائحة القانون التنفيذية؟برلماني: رفح الجديدة للمصريين .. ولن نقبل بتصفية القضية الفلسطينيةبرلماني يطالب المجتمع الدولي والعربي بالتدخل الفوري لردع الانتهاكات الإسرائيلية

يأتي ذلك من خلال وضع معايير قانونية عادلة لمسائلة الأطباء قانونًا.

واتاح مشروع قانون المسؤولية الطبية، للمرضى الحق في مغادرة المنشآت الطبية.

ونصت المادة 8 على أنه يحق لمتلقي الخدمة الخروج من المنشأة، إذا كانت حالته الصحية تسمح بذلك طبقاً للأصول العلمية الثابتة، ووفقاً لتقرير مكتوب من الطبيب المعالج يفيد انتهاء فترة علاجه.

مشروع قانون المسؤولية الطبية

ويكون لمتلقي الخدمة قبول أو رفض الإجراء الطبي ومغادرة المنشأة خلافاً لتوصية مقدم الخدمة، بعد الحصول على الموافقة المستنيرة.

ولا يجوز نقل متلقي الخدمة إلى منشأة أخرى لاستكمال علاجه، إلا بناء على رأي الطبيب المعالج، أو بناء على طلب متلقي الخدمة وتحت مسئوليته مع توفير مستلزمات النقل الصحي السليم له.

مقالات مشابهة

  • حكم خروج المرأة المعتدة من وفاة زوجها للعمل؟.. الإفتاء تجيب
  • 12 سفيرا يزورون متحف الفن الإسلامي بالقاهرة .. صور
  • عاجل. ألمانيا: العثور على 3 قتلى في منطقة فيستر فالد كرايس والشرطة تحذر السكان من الخروج
  • خلي بالك.. هؤلاء الأشخاص ممنوعون من الخروج نهائيا
  • “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.. هل كان توماس هوبز متشائمًا أم واقعيًا؟
  • ‏⁧‫رسالة‬⁩ من نوع آخر إلى ( ⁧‫صدر الدين الگبنچي‬⁩) الذي يريد يقاتل أمريكا من العراق دفاعا عن ايران !
  • متى يحق للمريض الخروج من المنشأة الطبية بالقانون الجديد؟
  • السيد القائد يؤكد فشل العدوان ويدعو لاستئناف الخروج المليوني
  • الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية يقبل قرار عزل الرئيس يون سوك يول
  • ضبط سارق سيارة أخيه في درنة بحيازته مواد مخدرة