تعتبر الكتابة الأدبيّة أحد أشكال المقاومة في العصر الحديث، ذلك إن وظيفتها تتجاوز الأبعاد الفنية والجمالية التي تُراهن عليها وعادة ما تنطبع بها إنتاجاتها، باعتبارها وسيلة تعبيرية للذات في علاقتها بالعالم. لذلك تنزّل الأدب العربي الحديث منه والمعاصر منزلة رفيعة ومرموقة في وجدان الناس وحياتهم اليوميّة.

هذه المكانة الرمزية قادته إلى تطوير إمكاناته على مُستوى التعبير وفتح منافذ جديدة بالنسبة للبشرية في علاقتها بالاحتلال وقهره.

وعلى مدار تاريخه لعب الأدب دوراً فعالاً في المقاومة على المستعمر وتعرية أوهامه. ولأنّ الأدب كان دائماً مؤثراً في المجتمع بحكم أنه يحثّه على الثورة ويقوده إلى استرجاع كرامته المسلوبة وحقه في التعبير بطلاقة وحرية عن مواقفه تجاه الاستعمار وقهره، فإن السلطات السياسية، كلت تلعب دائماً دور الرقيب على هذا النّمط من الكتابة المُحرر للذات والمجتمع والذاكرة.

ويُعد الأدب الفلسطيني الحديث أكبر نموذج لعلاقة الأدب بالمقاومة، طالما ساهم العديد من الأدباء الفلسطينيين مثل غسان كنفاني ومحمود درويش وزكريا أحمد وسميح القاسم وغيرهم على المقاومة بالكتابة ومُتخيّلها، بل كانت هذه الكتابات نبراساً للعديد من الأدباء العرب الذين كتبوا مؤلفات نقدية وأدبية وفكرية مثل إلياس خوري وأمجد ناصر وعبد اللطيف اللعبي، تساهم بطريقة غير مباشرة في إبراز الجرح الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي الغاشم.

ويقول الكاتب والشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في كتابه "الرهان الثقافي" بأن فلسطين "تراث حي، يترعرع ويشع يوميا أمام أعيننا وضمائرنا. والرجوع إليه أو بالأحرى التحاور معه ليس هروبا إلى الوراء أو خارجا عن الواقع العنيد قد يمليه العجز عن إنجاز مهام تعثرت هنا وهناك، انه انخراط في مدرسة مفتوحة للابداع الشامل، للجرأة على التفكير والكلام والفعل، مدرسة تتوحد فيها النظرية والممارسة وتحكي بلغة الأمل".

الأدب وتعرية واقع الاحتلال

عن جوهر هذه العلاقة بين الأدب والمقاومة في غزة، تقول الروائية التونسية هند الزيادي في حديث للجزيرة نت بأنّ "طوفان الاقصى له أبعاد على المستوى الثقافي والفكري ليس لأنها اثبتت قدرة المقاومين على دحر العدو وإهانته عسكريا، بل لأنها أيضا كشفت كثيرا من الأقنعة وكشفت كذب الكثير من سرديات الحرية والقيم الإنسانية التي ينادي بها الآخر، وكان بذلك مثلا أعلى يطمح الجميع ليدرك مراتبه".

من هنا يأتي دور الأدب -في نظر صاحبة كتاب "الكابوس"- في "تفكيك ذلك الفكر الذي ينطلق من موقع نقص ومحاولة العثور على جذوره وعرض مظاهر خطورته وطرح البدائل الممكنة، وتقول الزيادي إن "الفكر والثقافة العربيين لم يتعافيا بعد من أدبيات ما سُمّي بالنكسة وساهما بذلك في انتاج حالة ثقافية كاملة قائمة على الهزيمة والسقوط المدوي والعجز التام وساهمت كثير من الأنظمة في ترويج تلك الروح خدمة لأجندتها الخاصة ولأجندة حلفائها".

وبالتالي، علينا في نظرها "ألا نغفل الحالة المضادة التي كانت قائمة على البروباغاندا الحزبية التي تصور انتصارات وهمية أحيانا أو تبالغ في تصوير حجم المكاسب لنفس الأسباب، مما خلق ردة فعل عكسية عند الناس. بين النقيضين ظل الفكر العربي يتأرجح دون القدرة على الوصول إلى حالة وسط متزنة تجعلنا واعين بحقيقة موقعنا عاملين من أجل تغييره وفي نفس الوقت معتزين بمواطن اختلافنا وبإنسانيتنا وأهمية وجودنا للإنسانية جمعاء. لهذا ليس أفضل ولا أكثر صحية وتوازنا من الأدب لعلاج هذه الحالة".

وتضيف الزيادي "لقد كنت دوما مؤمنة بأن الرواية هي كتاب التاريخ الحديث لذلك ليس أفضل منها لتتحدث عن القضية الفلسطينية بروح واقعية جديدة تتجنب فيها كل أخطاء الماضي وذلك بتنزيل البشر هناك منزلتهم الإنسانية وبقص حكاياتهم وتفاصيلهم بكل أبعادها الإنسانية، دون مبالغة في خلع هالة البطولة والقداسة عليهم، وكذلك دون الحط من قيمة تضحياتهم ومن صمودهم الكبير، وكلما ظل الأدب وفيا فينا لروحه الإنسانية ولإنحيازه للإنسان وقضاياه ، كلما استطاع خدمة الحقيقة وخدمة القضية الفلسطينية".

وهذا يعني في نظرها "تخليصه من الأيديولجيا التي حادت به عن أهدافه الإنسانية ووضعته في خدمة قلة قليلة من الناس وحرفت الحقيقة".

تنطلق الزيادي من مفهوم خاصّ بها، ترى في "الكتابة في حد ذاتها شكل من أشكال المقاومة"، لذلك تقول: "يجب أن تزدهر وتكثر الروايات ويعلو صوت الكتّاب والأدباء والمبدعين دون الوقوع في الاستسهال والدعاية الرخيصة للمقاومة الميدانية التي تحتاج أدبا على نفس قدر سموّها، أدبا فنيّا راقيا وليس مجرد محاكاة ممجوجة للواقع بكل تجلّياته. نحتاج أدبا يسائل الهوية الجديدة ويؤسس لها، ويرسمها ويطرح كل الأسئلة ويعمّق بيننا الحوار الحضاري البناء، ولا نحتاج أدبا دعائيا رخيصا يسيء إلى القضية أكثر مما يخدمها، وينتهي أثره بمجرد انتهاء المعركة الميدانية".

الأدب والمقاومة

من جانبها فإن الكاتبة والشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال، فتقول بأنّ "الأدب ليس فقط نزهة فنية، بل هو اقتناص للمعنى والعمق، وعلاقته بالمقاومة فلسطينيا هو علاقته بمعنى الحق ضد الظلم والاحتلال".

وتفسر في حديث للجزيرة نت "لقد بينت لنا سرديات العالم أن انتصار السردية هو انتصار الحق، لذلك فإن الأدب وثيقة إنسانية للذهاب عميقا في معنى أن تكون في هذا العالم وتعي ذاتك وحقك. فقد استطاع السرد الفلسطيني أن يذهب عميقا ليفكك سردية حرية الإنسان الفلسطيني تاريخيا وانسانيا ووجوديا، وظهر هناك أدب السجون وأدب المنفى والشتات، ومهما كانت التسميات، فهذه الآداب تحاول أن تسرد الحكاية الفلسطينية وتحررها من براثن الاستعمار".

ففي نظرها فإن "فالعلاقة بين الأدب الفلسطيني والمقاومة، هي العلاقة بين فكرة المكان والحرية، هي العلاقة بين معنى الوجود والهوية. لا يمكن فصل الأدب الفلسطيني عن المقاومة مهما اختلفت الأساليب وتجددت؛ فالأدب الإنساني بعامة غير منفصل أيضا عن جوهر الإنسانية المرتبط بمعنى وجودك في العالم، وهو في حد ذاته فكرة سياسية.. هل رواية العمى مثلا لساراماغو لا تطرح اشكالية الوجود الإنساني، وهي بالطبع تناقش معاني الفساد السياسي، وهناك أمثلة أخرى طبعا".

من ثمّ تعتبر الشاعرة بأن "الأدب أن لم يكن تراثا إنسانيا يطرح الأسئلة المتعلقة بالوجود العادل في هذا العالم لن تترك أثرا صادقا. وهكذا أيضا الأدب الفلسطيني الذي لا يبرح ينظر إلى الوجود الفلسطيني بعامة والتي هي قضية إنسانية وسياسية، وفلسفة وجوده هي مقاومة بالدرجة الأولى. والشعر أيضا الذي بدأ يتنوع ويتشكل هو أيضا لا ينفصل عن جوهره وهو الثبات والحق والوجود".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الأدب الفلسطینی

إقرأ أيضاً:

لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة.. يوميات معتقل (11)

ابني الحبيب..

قلبي "بيطبطب" عليك..

عثرت على هذه الكلمات التي كتبتها منذ سنوات، وهي تعبر عن شخصيتك المسالمة.

لم أكن أدري أني سوف أفترق عنك في يوم من الأيام، وأخاطبك عن بعد بالكلمات المكتوبة، لكنها إرادة الله، ولا أملك لك سوى الدعاء إلى الله عز وجل أن يفك أسرك الجائر، وأن يعيدك قريبا بإذنه سالما، لتسعد قلبي وقلب أمك وقلوب أولادك وزوجتك الوفية، بإذن الله تعالى تكون معنا في القريب العاجل.

من القلب إليك تحياتي وتحيات أحبابك الكثيرين الذين يسألون عنك دائما..

كن قويا وصبورا وراضيا حتى نلتقي بخير قريبا..

ولا تنسى أن تقرا القصيدة للأستاذ.. الذي أحببته من كلامك عنه في رسائلك..

وفي المقال المقبل نواصل حكايات السجن..

(أبوك)

هذه رسالة من شاعر وطني شارك في المقاومة الشعبية في حرب السويس، أرسلها إلى ابنه "جاسر" في سجن طرة، وكان جاسر منذ اليوم الأول لدخولي العنبر مسؤولا عن تدبير كل شيء في معيشتي. لم يكن يعرفني من قبل، لكن زميلا من المحامين الشرفاء السجناء، كان معه في عنبر آخر قبل تفريقهما، ولما علم بقدومي حاول مع إدارة السجن نقلي إلى العنبر المحبوس فيه، ولما تعثرت محاولته أوصى جاسر بالاهتمام بي، ولم يتأخر جاسر الشهير بلقب "القبطان".

أما قصيدة والده التي قرأها لي بعد أن جفت دموعه بعد الزيارة فهذا نصها:

حاشا و كلّا.. كلّا وحاشا
تكون في قلبي ذرة وحاشة
لأي كائن: مسلم.. مسيحي..
يهودي حتى من الفلاشا
لا فرق عندي بين أبيضاني
وحبشي أسود من النجاشا
وإن شوفت بوذي.. ما أقلبش بوزي
وأقول في بوزه شبهة عفاشة
الكل عندي من نسل آدم
للكل عندي ود وبشاشة
خلقهم المولى، وكافل
لكل واحد رزق وإعاشة
وإن حد جاب لي سيرة السياسة
أقفل وداني وأسوق الطناشة
لا كنت وفدي ولا كنت سعدي
مع احترامي لسعد باشا
ولا يوم سمعت عن عمرو موسى
ولا تابعت توفيق عكاشة
وجاي تقول لي: بتسيء لبلدك!
اسمح لي أقول لك غلطان يا باشا
بحب بلدي
وحب بلدي
بيجري في الدم والحشاشة
قلبي المسالم ع الحب دايم
والحقد منه متشال بماشة
للسجين في سجنه عيدان، عيد التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة "النوبتجي" من الإدارة حاملا الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى وأشواق، تحملها الرسائل
انتهت القصيدة التي ذيلها الأب بتوصية للابن أن يصبر ويتحمل ولا يكرر الانفعالات التي أدت إلى نقله من العنبر السابق بعد مشاجرة مع سجين آخر:

ابني الغالي ونور عيني..

أعرف أنك عصبي ولا تتحمل الظلم، لكن عشان خاطري وخاطر أمك وأسرتك اهدأ وتحمل ولا ترد الإساءة بالإساءة حتى يزيح الله هذه الغمة، وذلك على الله ليس ببعيد. أعرف أنك تتصرف تحت ضغط الإحساس بالظلم، واسأل الله أن يلطف لنا وبك " إن بعد العسر يسرا..

للسجين في سجنه عيدان، عيد التلاقي في يوم الزيارة كل أسبوعين، وعيد الوصال لحظة النداء على اسمه بعد عودة "النوبتجي" من الإدارة حاملا الرسائل اليومية، وتمضي الأيام في السجين بين الأمل والقلق، وهذه وذاك من فرح وأحزان، أسئلة وإجابات، حكايات وطلبات، شكاوى وأشواق، تحملها الرسائل "جواب رايح وجواب جاي".

كانت رسالة الأب لابنه السجين نموذجا للجواب الجاي، أما نموذج الجواب الرايح فهو قصيدة أخرى بالعامية كتبها السجين الشاب أحمد المنزلاوي لحبيبته التي تمنع قوانين السجن زياتها له، لعدم وجود صلة قرابة تسمح بالزيارة، والجواب القصيدة بعنوان "عصفور بدور":

"صباح الورد يا عمري / على لون خدك المورود
صباح العهد يا عمري / على القلب اللي كله وعود
هحكيلك على حلمي / اللي خلّى القلب بيرفرف ونفسه يعود
حلم بلون عينيكي البُنّي.. بيحضني
وياخدني لبحر الحب جوه النني.. بشوق وحنين
على شط عيونك اللولي حكايات مرسومة بالنرجس
ورموشك محاوطاهم كما البساتين
وبر عينيكي كان حاجب
عليه قارب
مفروش عيدان ياسمين
واقف عليه عصفور
عصفور جميل.. لكن حزين
يا حبيبتي
قلبي فايض بالأنين
بس صابر
ع الليالي لسه صابر.. ع السنين
عصفور بدور.. عمال يدور
حوالين عينيكي
حاير وداير
قاطع مَسَاير
نفسه يطّمِن عليكي
وفوق كفوفك.. ينقش حروفك
وبريش جناحه يكتب قصيدة
باسمه وسعيدة
لأنك برغم البعد والمسافات
بس مش شايفك بعيدة

* * *
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة
السجن يعلّم الرومانسية ويفتح أبواب القلوب المغلقة، ويحرك المشاعر الراكدة تحت ركام الحياة اليومية المكررة، وكانت متعة السجناء بعد ثقتهم بي أن يعرضوا عليّ ما يختارون من رسائلهم المرسلة والواردة، ليشعروا بفخر أنهم محبوبون ويحبون، معظمهم تعلم رسم القلوب الحمراء وميمز الابتسام في الرسائل المكتوبة، وكلهم كانوا يستعدون للزيارة بالاستحمام والتمشيط وارتداء الملابس النظيفة كأنهم ذاهبون إلى موعد غرامي. وفي نهاية العنبر تخصص الشيخ سمير في تصميم أوراق الجوابات الملونة ورسم الورود والعصافير عليها، ويتزاحم عليها عدد من السجناء يملون عليه أسماء الزوجات والأولاد دون خجل ليدونها بخط جميل في الرسائل.

وقد احتفظت بنماذج من هذه الرسائل لأنه من الصعب وصفها بالكلمات، فهي نوع من التعبير بالفن التشكيلي، الذي يمكن تسميته بفن السجون، حيث تخصص عدد من السجناء في صناعة البهجة بالفن.. فوانيس رمضان من الكرتون، وباقات ورود مصنوعة من المناديل الورقية، ولوحات تشكيلية بأحجام مختلفة وتصميمات مدهشة من مخلفات الأشياء المسموح بدخولها إلى السجن. وهذا النوع من التعبير يحتاج لمقالة مصورة لكي تتضح قيمته التعبيرية والجمالية، وحتى يتيسر ذلك سنعود إلى التعبير بالكتابة، ونتناول في المقال المقبل إبداعا عريقا من أدب السجون، وهو قصائد "العنبرة"، الموروث منها والمبتكر، وكله يسمع.. حتى الحديد يسمع.

وفي المقال المقبل نواصل يوميات الاعتقال..

* * *
* العنوان مقتطف من مراسلات محمود درويش وسميح القاسم، وكنا نطلق عليها في شبابنا "مراسلات شطري البرتقالة" حينما كما نتابعها في مجلة عربية تصدر في فرنسا، وقد كثف درويش روح المراسلات في قصيدة بعنوان "أسميك نرجسة حول قلبي" خاطب فيها القاسم قائلا:

سنكتبُ، لا شيء يثبت أني أُحبك غير الكتابة
أُعانق فيك الذين أحبوا ولم يفصحوا بعد عن حُبِّهم
أُعانق فيك تفاصيل عمر توقَّفَ في لحظةٍ لا تشيخ.

وللعنوان ودرويش وسجننا قصة أطول سأحكيها لاحقا في مقال آخر..

[email protected]

مقالات مشابهة

  • يوميات على هامش الحرب
  • إضراب في الداخل الفلسطيني ومطالبات بوقف الحرب على غزة ولبنان
  • لا شيء يثبت أني أحبك غير الكتابة.. يوميات معتقل (11)
  • برقية عزاء من بشار الأسد بمقتل حسن نصرالله: لن يكون يومًا أسطورة وسيبقى في ذاكرة السوريين
  • بشار الأسد: نصر الله سيبقى نهجاً للمقاومة والعزة والكرامة والتحرير
  • بشار الأسد يبعث برسالة تعزية إلى عائلة نصر الله.. ماذا قال فيها؟
  • بشار الأسد يبعث رسالة تعزية إلى عائلة نصر الله.. ماذا قال فيها؟
  • الاسد : نصر الله سيبقى في ذاكرة السوريين
  • «المقاومة ستكمل طريق النضال».. الرئاسة السورية تنعى حسن نصر الله
  • غزة والضفة.. إسرائيل تواصل قتل الشعب الفلسطيني