اقتناص المعنى ورواية التاريخ.. كيف يخدم الأدب يوميات النضال الفلسطيني؟
تاريخ النشر: 23rd, December 2023 GMT
تعتبر الكتابة الأدبيّة أحد أشكال المقاومة في العصر الحديث، ذلك إن وظيفتها تتجاوز الأبعاد الفنية والجمالية التي تُراهن عليها وعادة ما تنطبع بها إنتاجاتها، باعتبارها وسيلة تعبيرية للذات في علاقتها بالعالم. لذلك تنزّل الأدب العربي الحديث منه والمعاصر منزلة رفيعة ومرموقة في وجدان الناس وحياتهم اليوميّة.
هذه المكانة الرمزية قادته إلى تطوير إمكاناته على مُستوى التعبير وفتح منافذ جديدة بالنسبة للبشرية في علاقتها بالاحتلال وقهره.
وعلى مدار تاريخه لعب الأدب دوراً فعالاً في المقاومة على المستعمر وتعرية أوهامه. ولأنّ الأدب كان دائماً مؤثراً في المجتمع بحكم أنه يحثّه على الثورة ويقوده إلى استرجاع كرامته المسلوبة وحقه في التعبير بطلاقة وحرية عن مواقفه تجاه الاستعمار وقهره، فإن السلطات السياسية، كلت تلعب دائماً دور الرقيب على هذا النّمط من الكتابة المُحرر للذات والمجتمع والذاكرة.
ويُعد الأدب الفلسطيني الحديث أكبر نموذج لعلاقة الأدب بالمقاومة، طالما ساهم العديد من الأدباء الفلسطينيين مثل غسان كنفاني ومحمود درويش وزكريا أحمد وسميح القاسم وغيرهم على المقاومة بالكتابة ومُتخيّلها، بل كانت هذه الكتابات نبراساً للعديد من الأدباء العرب الذين كتبوا مؤلفات نقدية وأدبية وفكرية مثل إلياس خوري وأمجد ناصر وعبد اللطيف اللعبي، تساهم بطريقة غير مباشرة في إبراز الجرح الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
ويقول الكاتب والشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في كتابه "الرهان الثقافي" بأن فلسطين "تراث حي، يترعرع ويشع يوميا أمام أعيننا وضمائرنا. والرجوع إليه أو بالأحرى التحاور معه ليس هروبا إلى الوراء أو خارجا عن الواقع العنيد قد يمليه العجز عن إنجاز مهام تعثرت هنا وهناك، انه انخراط في مدرسة مفتوحة للابداع الشامل، للجرأة على التفكير والكلام والفعل، مدرسة تتوحد فيها النظرية والممارسة وتحكي بلغة الأمل".
الأدب وتعرية واقع الاحتلالعن جوهر هذه العلاقة بين الأدب والمقاومة في غزة، تقول الروائية التونسية هند الزيادي في حديث للجزيرة نت بأنّ "طوفان الاقصى له أبعاد على المستوى الثقافي والفكري ليس لأنها اثبتت قدرة المقاومين على دحر العدو وإهانته عسكريا، بل لأنها أيضا كشفت كثيرا من الأقنعة وكشفت كذب الكثير من سرديات الحرية والقيم الإنسانية التي ينادي بها الآخر، وكان بذلك مثلا أعلى يطمح الجميع ليدرك مراتبه".
من هنا يأتي دور الأدب -في نظر صاحبة كتاب "الكابوس"- في "تفكيك ذلك الفكر الذي ينطلق من موقع نقص ومحاولة العثور على جذوره وعرض مظاهر خطورته وطرح البدائل الممكنة، وتقول الزيادي إن "الفكر والثقافة العربيين لم يتعافيا بعد من أدبيات ما سُمّي بالنكسة وساهما بذلك في انتاج حالة ثقافية كاملة قائمة على الهزيمة والسقوط المدوي والعجز التام وساهمت كثير من الأنظمة في ترويج تلك الروح خدمة لأجندتها الخاصة ولأجندة حلفائها".
وبالتالي، علينا في نظرها "ألا نغفل الحالة المضادة التي كانت قائمة على البروباغاندا الحزبية التي تصور انتصارات وهمية أحيانا أو تبالغ في تصوير حجم المكاسب لنفس الأسباب، مما خلق ردة فعل عكسية عند الناس. بين النقيضين ظل الفكر العربي يتأرجح دون القدرة على الوصول إلى حالة وسط متزنة تجعلنا واعين بحقيقة موقعنا عاملين من أجل تغييره وفي نفس الوقت معتزين بمواطن اختلافنا وبإنسانيتنا وأهمية وجودنا للإنسانية جمعاء. لهذا ليس أفضل ولا أكثر صحية وتوازنا من الأدب لعلاج هذه الحالة".
وتضيف الزيادي "لقد كنت دوما مؤمنة بأن الرواية هي كتاب التاريخ الحديث لذلك ليس أفضل منها لتتحدث عن القضية الفلسطينية بروح واقعية جديدة تتجنب فيها كل أخطاء الماضي وذلك بتنزيل البشر هناك منزلتهم الإنسانية وبقص حكاياتهم وتفاصيلهم بكل أبعادها الإنسانية، دون مبالغة في خلع هالة البطولة والقداسة عليهم، وكذلك دون الحط من قيمة تضحياتهم ومن صمودهم الكبير، وكلما ظل الأدب وفيا فينا لروحه الإنسانية ولإنحيازه للإنسان وقضاياه ، كلما استطاع خدمة الحقيقة وخدمة القضية الفلسطينية".
وهذا يعني في نظرها "تخليصه من الأيديولجيا التي حادت به عن أهدافه الإنسانية ووضعته في خدمة قلة قليلة من الناس وحرفت الحقيقة".
تنطلق الزيادي من مفهوم خاصّ بها، ترى في "الكتابة في حد ذاتها شكل من أشكال المقاومة"، لذلك تقول: "يجب أن تزدهر وتكثر الروايات ويعلو صوت الكتّاب والأدباء والمبدعين دون الوقوع في الاستسهال والدعاية الرخيصة للمقاومة الميدانية التي تحتاج أدبا على نفس قدر سموّها، أدبا فنيّا راقيا وليس مجرد محاكاة ممجوجة للواقع بكل تجلّياته. نحتاج أدبا يسائل الهوية الجديدة ويؤسس لها، ويرسمها ويطرح كل الأسئلة ويعمّق بيننا الحوار الحضاري البناء، ولا نحتاج أدبا دعائيا رخيصا يسيء إلى القضية أكثر مما يخدمها، وينتهي أثره بمجرد انتهاء المعركة الميدانية".
الأدب والمقاومةمن جانبها فإن الكاتبة والشاعرة الفلسطينية تغريد عبد العال، فتقول بأنّ "الأدب ليس فقط نزهة فنية، بل هو اقتناص للمعنى والعمق، وعلاقته بالمقاومة فلسطينيا هو علاقته بمعنى الحق ضد الظلم والاحتلال".
وتفسر في حديث للجزيرة نت "لقد بينت لنا سرديات العالم أن انتصار السردية هو انتصار الحق، لذلك فإن الأدب وثيقة إنسانية للذهاب عميقا في معنى أن تكون في هذا العالم وتعي ذاتك وحقك. فقد استطاع السرد الفلسطيني أن يذهب عميقا ليفكك سردية حرية الإنسان الفلسطيني تاريخيا وانسانيا ووجوديا، وظهر هناك أدب السجون وأدب المنفى والشتات، ومهما كانت التسميات، فهذه الآداب تحاول أن تسرد الحكاية الفلسطينية وتحررها من براثن الاستعمار".
ففي نظرها فإن "فالعلاقة بين الأدب الفلسطيني والمقاومة، هي العلاقة بين فكرة المكان والحرية، هي العلاقة بين معنى الوجود والهوية. لا يمكن فصل الأدب الفلسطيني عن المقاومة مهما اختلفت الأساليب وتجددت؛ فالأدب الإنساني بعامة غير منفصل أيضا عن جوهر الإنسانية المرتبط بمعنى وجودك في العالم، وهو في حد ذاته فكرة سياسية.. هل رواية العمى مثلا لساراماغو لا تطرح اشكالية الوجود الإنساني، وهي بالطبع تناقش معاني الفساد السياسي، وهناك أمثلة أخرى طبعا".
من ثمّ تعتبر الشاعرة بأن "الأدب أن لم يكن تراثا إنسانيا يطرح الأسئلة المتعلقة بالوجود العادل في هذا العالم لن تترك أثرا صادقا. وهكذا أيضا الأدب الفلسطيني الذي لا يبرح ينظر إلى الوجود الفلسطيني بعامة والتي هي قضية إنسانية وسياسية، وفلسفة وجوده هي مقاومة بالدرجة الأولى. والشعر أيضا الذي بدأ يتنوع ويتشكل هو أيضا لا ينفصل عن جوهره وهو الثبات والحق والوجود".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الأدب الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
اليُتْمُ الذي وقف التاريخُ إجلالًا وتعظيمًا له
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بعد أن انتهيتُ من قراءة كتاب "عبقرية محمد" للمفكرِ العملاقِ عباس محمود العقاد، تذكَّرتُ على الفورِ قول اللهِ جلَّ جلالُهُ للنبيِّ الكريمِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"، فأدركتُ السرَّ في انجذاب كلِّ من اقترب من سيرته العطرة، وتذكرتُ على الفور أنه ليس هناك متشهدٌ ولا صاحبُ صلاةٍ إلا ويلهجُ باسمه... وكلُّ من سيقرأُ ما كتبهُ المفكرون عن شخصية النبيِّ الكريمِ قديمًا وحديثًا، سيعرف أثر كرم الله على نبيَّه برفع ذكره منذ مولده وإلى قيام الساعة.
ولذا، لم يدهشني إهتمام الكُتَّابِ في الشرق والغرب به، وقد قرأتُ بإعجابٍ شديدٍ آخرَ ما صدر من مؤلفاتٍ في الغرب عن خيرِ خلقِ اللهِ أجمعين، للكاتبةِ والمفكرةِ البريطانية "كارن أرمسترونج"،وهي مَنْ ؟ إنها الكاتبة المرموقة والباحثة الماهرة التي تتجنُّب التحيُّز الشخصي، ولا تُصدر الأحكام إِلَّا بعد فحص ما لديها من أدلَّةٍ وبراهين بتجرُّدٍ وشفافية، وقد كرَّست حياتها لدراسة الأديان السماوية، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية، وكان كتابها "محمد: سيرة النبي"، والذي صدر عام ١٩٩١ وفيه قدَّمت فكرًا عميقًا، يُعدُّ هذا المؤلف من أبرزِ الأعمالِ التي قدَّمت رؤيةً موضوعيةً ومنصفةً عن النبيِّ الكريمِ في العالم الغربي. كما يُعدُّ جسرًا مهمًّا بين الثقافات، ودعوةً للحوارِ والتفاهمِ بين الأديان، بعيدًا عن الصور النمطيةِ والتشويهِ الإعلامي، فقدأَثْبَتَتْ فِي مُؤَلَّفِهَا هذا بأن النبي العظيم رجلًا ذا رؤيةٍ أخلاقيةٍ عَمِيقَةٍ...
ومن إنصافِها فى كتاباتها قالت: "كان محمدٌ رجلًا حنونًا، متواضعًا، وقائدًا بارعًا، لم يسعَ للسلطةِ بقدر ما كان يسعى لإحداث تغييرٍ أخلاقيٍّ عميقٍ في مجتمعه."
كما تناولت الكاتبةُ والباحثة دورَ النبيِّ الكريم في تحسينِ مكانةِ المرأةِ في المجتمع، حيث أشارت إلى أنه منحَ المرأةَ حقوقًا لم تكن موجودةً في الجاهلية، مثل حقِّ الإرث، وحقِّ التعليم، وحقِّ الاختيارِ في الزواج. وكان يسعى لتحريرِ المرأةِ من القهرِ الاجتماعي، ويدعو إلى معاملتها بكرامةٍ واحترام.
ولها أيضًا رأيٌ حرٌّ جريءٌ، إذ أكَّدت أن النبيَّ الكريمَ كان يسعى دائمًا إلى الحلولِ السلمية، وأن المعاركَ التي خاضها كانت دفاعية، ولم تكن من أجل التوسع أو فرض الدين بالقوة... وبذكاءٍ شديدٍ، اختارت صلح الحديبية وقالت عنه: "كان دليلًا واضحًا على براعةِ النبيِّ الكريم في إدارة النزاعاتِ بالسِّلمِ والحكمة، لأنه كان يؤمن بأن السلام هو الوسيلةُ الأقوى لنشرِ رسالته."
وهذه الشهادةُ من هذه الباحثة والتي تُعَدُّ واحدةً من أبرز الْباحثين في الأديان المُقَارَنَةِ تدحضُ الصورةَ السلبيةَ التي رسمها بعضُ المستشرقين لهذا النبي العظيم...
وقد تصدى لهؤلاء المستشرقين والشانئين المفكر الكبير عباس محمود العقاد في مواجهة هذه الافتراءات، حيث قال في كتابه الهام "عبقرية محمد": “إن التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمدٍ وشانئيه، فحكمُه أنفذُ من حكمِ الشانئين والأصدقاء، وأنفذُ من حكمِ المشركين والموحدين، وأنفذُ من حكمِ المتدينين والملحدين... إنه حكم الله، وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذَّبين، وكان في عمله أعظمَ الرجال أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان، وصاحبَ دينٍ يبقى ما بقيت في الأرض أديان، وسيطلع في الأفق هلالٌ، ويغيبُ هلالٌ، وسيذهب في الليل قمرٌ، ويعودُ قمرٌ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جُعلت التاريخَ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسمَ الزرع، ولا مواعيد الأشغال، ولا أدوار الدواوين والحكومات، ولا ينتظرونها إلا هدايةً مع الظلام، وسكينةً مع الليل: أشبه شيءٍ بهداية العقيدة في غياهب الضمير”.
وقبل أن يَخْتِمَ الكاتب الكبير عباس محمود العقاد صفحات كتابه "عبقرية محمد"، اختار يوم هجرة النبي إلى المدينة فكتب: "ستطلع الأقمار بعد الأقمار، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية، وكأنها تقبل بمعلمٍ من معالم السماء يوميء إلى بقعةٍ من الأرض: هي غار الهجرة، أو يوميء إلى يومٍ لمحمدٍ هو أجملُ أيامِ محمد، لأنه أدلُّ الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بإلهامٍ لا يعلوه تفكيرٌ ولا تعليم..."
ختامًا.. لقد عشتُ أوقاتًا ممتعةً مع كتاب "عبقرية محمد" للمفكر الكبير عباس محمود العقاد، ومن خلال صفحات هذا الكتاب شاهدت التاريخ يقف إجلالًا وتعظيمًا لهذا اليتيمِ الذي بُعث رحمةً للعالمين.. صلى الله عليك وسلم يا خير خلق الله أجمعين...
اللهم إنا نُشهدك أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فاللهمَّ اجزه عنا خير ما جزيتَ نبيًّا عن قومه، ورسولًا عن رسالته...
ولنا لقاء الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءة فى كتاب ممتع جديد...