بعد نحو 5 أيام على إرساله حوالة مالية إلى عائلته في غزة، اضطر أحمد المصري، الفلسطيني الذي يقيم في مدينة مالمو السويدية، إلى إلغاء الحوالة متحملا تكلفة الإلغاء، نتيجة تعذر عائلته التي نزحت إلى مدرسة بمدينة غزة استلامها، بسبب عدم وجود أفرع عاملة في المدينة لنظام التحويل المالي الذي أرسل الحوالة من خلاله.

ويشرح المصري ظروف عائلته التي تعيش أوضاعا كارثية في مدرسة استقبلت نازحين بعد اضطرارهم إلى مغادرة منازلهم نتيجة إصابتها بالقصف الإسرائيلي في سياق الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ويتابع المصري "غادرت عائلتي المنزل بشكل مفاجئ وبدون إنذار، وبذلك لم تستطع حمل كثير في أيديها، إضافة إلى أنها لم تتوقع أن تطول المدة بهذا الشكل" ويوضح "العائلة اضطرت للتفرق أكثر من مرة في عدة مناطق نزوح، ولا يحمل معظمهم مالا يساعدهم في تدبر أمور حياتهم الأساسية من مأكل ومشرب، وحتى ملابس تقيهم برد الشتاء فكان من مسؤوليتي تقديم العون لهم وحتى الآن لم أنجح إلا في حالات قليلة".

وعمدت إسرائيل منذ بداية الحرب إلى استهداف البنية التحتية للنظام المالي والمصرفي في قطاع غزة، وهو ما تمثل في استهداف أفرع البنوك العاملة في القطاع وتدمير عشرات مكاتب الصرافة وآلات الصرف الآلي. مما حدّ قدرة الغزيين المغتربين بشكل كبير على مساعدة عائلاتهم التي تعيش ظروفا مأساوية في القطاع.

صعوبات كبيرة يواجهها المغتربون في سبيل إرسال الأموال لذويهم لإبقائهم على قيد الحياة (غيتي)

أما الفلسطينية دالية مقداد المقيمة في كندا، فقد أشارت إلى صعوبة كبيرة واجهتها أثناء محاولتها إرسال الأموال من كندا لأخواتها النازحات في القطاع، إذ تشترط وكالات إرسال الأموال إلى غزة بشكل خاص وجود صلة قرابة من الدرجة الأولى بين المرسل والمستلم، وهو ما يكون صعبا في حالتها لتعذر تحرك النساء في ظروف الحرب وسعيهن البقاء إلى جوار أطفالهن، وترسل الحوالات بأسماء الأزواج وهو ما ترفضه وكالات التحويل.

وتقول مقداد "تخاف أختي من ترك أطفالها لمدة طويلة والوقوف في طابور أمام مكتب استلام في منطقة بعيدة جدا عن مكان نزوحها للذهاب لاستلام حوالة باسمها، لأن الاستلام يشترط الحضور الشخصي، قامت أختي بالذهاب مرة، وعانت بشدة لحين استلامها وهي لا تخاطر بالذهاب مرة أخرى".

وتضيف مقداد "تخبرني أختي بأن أسعار كل شيء في القطاع ارتفع أضعاف ما كان عليه قبل الحرب بسبب ندرتها، من المحاصيل الزراعية إلى الدقيق وحتى الملابس الدافئة للأطفال، والأموال تفقد قيمتها بشكل كبير نتيجة لذلك".

حلول مؤقتة

يقول أبو جميل، وهو فلسطيني من غزة يدير مكتبا للحوالات المالية في مدينة إسطنبول التركية، أن مكتبه يشهد ارتفاعا كبيرا في أعداد الراغبين بتحويل الأموال إلى قطاع غزة، ويشير أبو جميل إلى أن المغتربين الغزيين يجدون في مكاتب الحوالات المالية ملجأ لإرسال أموال لذويهم في القطاع، بسبب اعتماد هذا النوع من المكاتب على شبكة من الصرافين في القطاع وخارجه، وعدم ارتباطه بنظام مالي عالمي مشدد، وإمكانية التسليم في مناطق عدة بالقطاع.

لكن أبو جميل يوضح أنهم يعانون من عدم قدرتهم على التسليم في مناطق مدينة غزة ومحافظة الشمال، نظرا للتدمير الكامل للمنظومة العاملة هناك.

ويشير أبو جميل "قبل الحرب كان عملنا مرتبطا بتسهيل العمليات التجارية للتجار الغزيين الذين تربطهم علاقات تجارية مع الموردين الأتراك، وكانت الحوالات الشخصية جزءا ثانويا من عملنا، اليوم الجزء الأكبر من عملنا هو حوالات شخصية"، مضيفا "لدينا ضغط كبير حاليا، لكننا لا نستطيع تلبية الجميع، فمناطق الشمال وغزة هي خارج نطاق أعمالنا، إضافة إلى أنه لا يمكننا توفير السيولة اللازمة لكل الطلبات داخل القطاع، هذا إلى جانب المخاطر الكبيرة لعملية الإيصال وحمل الكاش داخل القطاع بسبب القصف المتواصل".

أسعار المنتجات تضاعفت بسبب ندرتها في قطاع غزة وهو ما أفقد الأموال جزءا كبيرا من قيمتها (الفرنسية)

أما عبدالله سليم، وهو صراف يدير مكتب صرافة صغير في رفح، فقد تحدث إلى الجزيرة نت حول صعوبات تسليم الأموال المحولة من المغتربين لذويهم في القطاع، ويشير سليم إلى صعوبات كبيرة في عمليات التحقق من المستلم وصعوبات أخرى ومخاطر في عمليات حمل الأموال السائلة في القطاع.

ويوضح سليم "في السابق كان الوضع أسهل بالنسبة لنا، أعمل في نطاق حي صغير في رفح، وجميع أعمالي سابقا كانت محصورة عملاء من عائلات مألوفة لدي في نطاق الحي والأحياء الصغيرة المجاورة، يسهل علي التحقق منها بكون الطريقة هذه في التحويل لا تعتمد على نظام مصرفي متكامل، بل مجموعة من المعايير منها ما هو مرتبط بإثبات بالهوية الشخصية، ومنها ما هو مرتبط بالمعرفة الشخصية، ولكن مع نزوح معظم سكان القطاع إلى مناطق الجنوب وبالأخص مدينة رفح، فالعملية ازدادت تعقيدا" ويضيف سليم "الأمر لا يتوقف على هذا فحسب، لكن في ظل هذا القصف المجنون من سيخاطر بحمل أموال سائلة (كاش)؟".

عبد الناصر عزيز، وهو مواطن من غزة مقيم في العاصمة الأردنية عمان، أوجد لنفسه طريقة أخرى لمساعدة عائلته، ففي حديث له مع الجزيرة نت أوضح أنه تمكن من إرسال أموال لعائلته النازحة من مناطق الشمال لرفح عن طريق تسليمها لصديقه في الضفة الغربية، والذي أودعها بحساب له ببنك فلسطين، ومن ثم أرسلها لشقيقه الذي يملك حسابا في ذات البنك، ليقوم شقيقه بدوره بسحبها من صراف آلي للبنك في مدينة رفح، ويضيف عزيز "الأمر مرهق حقا، لكن ما باليد حيلة، لن تستطيع عائلتي من توفير أبسط الحاجات الأساسية بدون ذلك، لقد خسروا أعمالهم وأموالهم ومنازلهم وكل شيء".

ويشير عزيز إلى أنه كان محظوظا بذلك "أنا محظوظ، لأنني على الأقل أستطيع إرسال الأموال لأمي، صديقي هنا يساعدني، لكن الأمر ليس بهذه السهولة للجميع، حيث يمتنع الكثير من سكان الضفة فعل ذلك خوفا من تعقبهم من قبل الجيش الإسرائيلي واتهامهم بتمويل الإرهاب في غزة".

خسائر مليارية

وقدر المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة إسماعيل الثوابتة الخسائر المباشرة التي مني بها قطاع غزة حتى الآن تربو على 12 مليار دولار، وذلك دون الأخذ بالاعتبار الخسائر غير المباشرة لصعوبة حصرها وفق تعبيره.

بيد أن رئيس المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان وخبير الاقتصاد والتمويل الدكتور رامي عبده كان قد توقع، في حديث سابق للجزيرة نت، أن تصل الخسائر الاقتصادية حتى الآن إلى نحو 20 مليار دولار. حيث أوضح عبده أنه هذا الرقم يستند إلى حجم التدمير الذي لحق في البنية التحتية والمنشآت المدنية والاقتصادية في القطاع.

وأشار معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في تقرير أصدره في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى أن إسرائيل عطلت اقتصاد غزة بأكمله "في المستقبل المنظور".

وذكر التقرير أن إسرائيل دمرت -حتى تاريخ إصدار التقرير- 23% من مباني القطاع بشكل كلي و27% منها بشكل جزئي.

وحاولت الجزيرة نت التواصل مع سلطة النقد الفلسطينية للحصول على إحصائية رسمية لخسائر القطاع المصرفي الفلسطيني في القطاع، لكن استعلامات السلطة أوضحت أنها لم تصدر تقريرا شاملا بعد لتعذر الحصول على معلومات كاملة بسبب ظروف الحرب.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: إرسال الأموال فی القطاع قطاع غزة أبو جمیل إلى أن وهو ما

إقرأ أيضاً:

قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر وتدمير قوات الدعم السريع

قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم
بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر (Alick Potter) وتدمير قوات الدعم السريع

أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
تمهيد
زار وفد من إدارة جامعة الخرطوم مباني الجامعة الرَّئيسة (مركز الوسيط) بعد أن أُخرجت منها قوَّات الدَّعم السَّريع، وذلك في يوم 25 فبراير 2025، وأفاد بأنَّ حجم الدَّمار والخراب في بعض مباني الجامعة العريقة لا تصدِّقه عين رأت، إذ تعرَّضت قاعة الامتحانات الكُبرى "لحريق كامل ولم يتبقَّ بالقاعة سوى الرَّماد." دفعني هذا التَّقرير المؤلم إلى إعادة قراءة كتاب مارغريت (Margaret) وأليك بوتَّر (Alick Potter)، الرَّئيس المؤسِّس لقسم العمارة بكلِّيَّة الهندسة جامعة الخرطوم والمهندس الَّذي صمَّم الهيكل المعماريُّ لقاعة الامتحانات الكُبرى. نقل الأستاذ الزُّبير علي الكتاب المشار إليه إلى اللُّغة العربيَّة تحت عنوان: "كلُّ شيء ممكن: سنوات في السُّودان" (Everything is Possible: Our Sudan Years). صدرت الطَّبعة الإنجليزيَّة للكتاب عن دار ألن سوتون بغلوستر (Allen Sutton Gloucester,) في العام 1984، والطَّبعة العربيَّة عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 1997؛ أي قبل ثلاث سنوات من تاريخ وفاة أليك بوتَّر (1912-2000). وخصَّص المؤلِّفان الثَّلاثة فصول الأولى من كتابهما الفريد لقصَّة بناء قاعة الامتحانات (قاعة النَّجاح) الكُبرى بجامعة الخرطوم. وشرعت في إعداد رثاء لقاعة الامتحانات الكُبرى، مستأنسًا بما جاء في فصول الكتاب الثَّلاثة، ولمَّا حدث لها من دمار بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023. وقبل الفراغ من إعداد الرِّثاء أرسل الأستاذ السِّر سيِّدأحمد لي مقالاً بعنوان: "في تذكُّر قاعة الامتحانات: كلُّهم مرُّوا من هنا"، أعدَّه السَّفير عبد المحمود عبد الحليم، بلغة قلميَّة رائعة وأحرف حزينة-باكيةً على ما آلت إليه قاعة الامتحانات الكُبرى، الَّتي كانت تعدُّ من المعالم المعماريَّة البارزة في السُّودان، والأماكن الَّتي لها وقع في نفوس خرِّيجي الجامعة العتيقة وإن تعدَّدت مذاهبهم السِّياسيَّة والفكريَّة.

(2)
قصة بناء قاعة الامتحانات
يقول أليك بوتَّر في مقدِّمة كتابه المشترك مع زوجته الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت: "واجهت في السُّودان واحدًا من أكبر التَّحدِّيات في حياتي المهنيَّة، وذلك عندما طلبوا منِّي تصميم وتشييد قاعة كُبرى للامتحانات. فقد كان على هذه القاعة أن تتَّسع لخمسمائة طالب يجلسون بطريقة مريحة، كلُّ طالب على منضدته الَّتي تفصله عن الآخرين مسافةً معقولةً. وأنَّ تكوُّن مراقبتهم جميعًا من موقع محدَّد في سهولة ويسر، كما كان مطلوبًا أيضًا أن يصبح في الإمكان الإفادة من القاعة حينما تكون هناك تجمُّعات عامَّة كبيرة، وأن تُقسَّم القاعة إلى عدَّة أقسام، بحيث يمكن أن تلقَّى عدَّة محاضرات في وقت واحد، دون أنَّ تشوُّش إحداهما على الأخرى. وكان لا بد كذلك أن توضع في الاعتبار الحرارة المنبعثة من أجساد خمسمائة طالب، إضافة إلى حرارة الحمَّى الَّتي تجلبها الامتحانات! " وكان التَّصوُّر الذِّهنيُّ الَّذي وضعه أليك بين تصميماته الأوَّليَّة بناء قاعة ذات تصميم أخَّاذٍ وجديدٍ وغير تقليديّ، مساحتها واسعةً، وأرضيَّتها خالية تمامًا من الأعمدة، رغم سعتها، وفي أعلاها لا توجد دعامات أفقيَّة، ولا تأخذ شكل القباب المعروف في السُّودان. ولكن بديلاً عن ذلك يرتفع ويمتدُّ سقف متموِّج مصنوع خشب المهوقني الفخم ذي اللون البنِّيِّ الضَّارب إلى الحمرة." (ص: 56). ولتنفيذ هذا المشروع سافر أليك وعقيلته إلى مدينتي إستانبول وبورصة في تركيا للوقوف إلى فنون العمارة الإسلاميَّة والاستئناس بها في تصميم مباني قاعة الامتحانات المقترحة، ومن تركيا انطلقا إلى مدينة أسيكس (ESSEX)، حيث رشَّح لهما صديقهما إزرا ليفن (Ezra Leven)، كبير المعماريِّين في جمعيَّة أبحاث وتطوير الأخشاب بالمملكة المتَّحدة، زيارة مدرسة بالمدينة، مصنوعةً سقوفها من خشب يشبه قشرة البيض في رقَّته، لكنَّه متين، بسبب تقويسه من بعديه الاثنين، وأصبح يطلق على التِّقنيَّة المستخدمة في مثل هذه المباني تقنيَّة "قشرة البيض" (Shell Method). وقد رفقهما في الرِّحلة إلى مدينة أسيكس أحمد المرضيِّ جبارة، مسجِّل جامعة الخرطوم آنذاك، لينقل الفكرة إلى اللَّجنة المسؤولة من تنفيذ مشروع قاعة الامتحانات، برئاسة البروفيسور النَّذير دفع اللَّه، نائب مدير الجامعة آنذاك. (ص: 63).
وبعد سلسلة من الاجتماعات مع لجنة الجامعة عرض البروفيسور أليك التَّصميم المجسَّم للقاعة على أعضاء اللَّجنة، الَّذين ووافقوا عليه وصادقوا بمبلغ عشرين ألف جنيه سودانيّ لتنفيذ المشروع، المبلغ الَّذي كان يراه إليك غير كاف. وبعد ذلك طرحت اللجنة تنفيذ المشروع في عطاءٍ، وتقدَّمت ثلاث شركات سودانيَّة وشركة بريطانيَّة وشركة مصريَّة، وأخيرًا، رسا العقد على المقاول السُّودانيِّ جابر أبو العز، الَّذي وصفه بوتَّر بأنَّه "رجل حادّ الذَّكاء، وذا حاسَّة مهنيَّة خارقة."
بدأت عمليَّة تنفيذ المباني في نهاية عام 1958، أي بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبُّود في 17 نوفمبر 1958، وصمَّم البروفيسور أليك القاعة حسب تنقية "قشرة البيض"، التِّقنيَّة الَّتي جعلت هيكلها خفيف الوزن، لكنَّه كان يمتاز بالقوَّة والصَّلابة، ممَّا جعلها فسيحةً دون وضع أعمدة رأسيَّة أو أفقيَّة حاملة لسقوفها، وشيَّدت سقوف القاعة من خشب المهوقني ذي اللَّون البُنَّي المائل إلى الحمرة، واستعان البروفيسور إليك في التَّصميم الدَّاخليِّ بزوجته الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت بوتَّر، الَّتي أضافت لمسات فنِّيَّةً جماليَّةً للقاعة، منها كتابة الآية 88 من سورة هود: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، والَّتي نقلتها من مسجد أولو كامي (Ulu Cami) بمدينة بورصة التُّركيَّة، وخطَّها الخطَّاط البارع عثمان وقيع اللَّه على الورق، بطريقة تقرأ من اليمن إلى الشَّمال ومن الشَّمال إلى اليمن، ثمَّ نقلتها مارغريت بحجم أكبر عبر ريشتها التَّشكيليَّة على جدران القاعة الأربعة، بلون أسود فاحم، ماعدا كلمة "توفيقي"، الَّتي رسمت بلون قرمزيّ، لاعتقاد أحمد المرضيِّ جُبارة بأنَّه يضفي على النُّقوش لمسةً جماليَّةً. واستورد أليك أقفال ومقابض أبواب القاعة ونوافذها من مدينتي شيفيلد (Sheffield) وبيرمنجهام (Bermingham) بالمملكة المتَّحدة.
ويصف مؤلَّفًا كتاب "كلِّ شيء ممكن" ليلة افتتاح قاعة الامتحانات الكُبرى بقولهما: "كانت القاعة على سعتها قد امتلأت تمامًا، وكانت السَّيَّارات السَّوداء الفارهة تقف تحت أشجار النِّيم المنتشرة في المكان، ويهبط منها علية القوم من كلِّ شكل ولون، بعضهم في بزَّاتهم العسكريَّة والبعض الآخر في ملابسهم الوطنيَّة ذات التَّشكيلات المتنوِّعة والمترفة. وكانوا جميعهم يتَّجهون من هناك إلى أبواب الدُّخول الرَّئيسة. . . وواحدًا بعد الآخر، جلس المدعوُّون على الكراسيِّ الوثيرة، وغاصوا في الوسائد المحشوَّة بوبر الجمال. . . من السَّقف كانت تتدلَّى مجموعة لمبات (الفلورسنت) الَّتي تشبه كعكة الزِّفاف المقلوبة، وهي تتوهَّج بينما سلَّط ضوء كشَّاف على أجزاء السَّقف لإبراز تقويساته وانحناءاته وظلاله وألوانه. وخلف المسرح علَّقت ستائر سوداء عليها بعض الزَّخارف النَّوبيَّة الملوَّنة. . . وفوق المسرح عازفو آلات النَّفخ الموسيقيَّة لأوركسترا راديو كولون السِّيمفونيَّة، وهم في ملابس السَّهرة البالغة الأناقة، وملؤوا القاعة بأصوات موسيقيَّة غاية في الوضوح والصَّفاء. . ." (ص: 94). يرى السَّفير عبد المحمود أنَّ ذلك المشهد المدهش قد رسم "علامات الارتياح على محيا أليك، وأيقن سلامة التَّجهيزات الصَّوتيَّة في القاعة متعدِّدة الأوجه" والأغراض.
وبعد افتتاحها المشهود ظلَّت قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم تقوم بأدوار متعدِّدة الأغراض، منها انعقاد الامتحانات الدَّوريَّة، والمؤتمرات والنَّدوات العامَّة، والاحتفالات السَّنويَّة، واحتفالات استقبال الطَّلبة الجدد، ومراسيم توزيع الشَّهادات العلميَّة للخريجين. ومن أهمِّ المؤتمرات الَّتي استضافتها القاعة "مؤتمر السُّودان في أفريقيا"، في الفترة من 7 إلى 12 فبراير 1968، والَّذي نظَّمته شعبة أبحاث السُّودان بكلِّيَّة الآداب، برعاية السَّيِّد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السِّيادة آنذاك، وأمُّه علماء وباحثون من المملكة المتَّحدة، وفرنسا، والولايات المتَّحدة الأميركيَّة، والاتِّحاد السُّوفيتيُّ، والنَّرويج، وأثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، ونيجيريا، وغانا، ومصر، والإمارات العربيَّة المتَّحدة، والسُّودان البلد المضيف. وقدَّم هؤلاء العلماء والباحثون نحو ثلاثين ورقةً علميَّةً باللُّغة الإنجليزيَّة، حرَّر يوسف 21 ورقة منها، ثمَّ نشرها في كتاب بعنوان السُّودان في أفريقيا (Sudan in Africa)، الخرطوم: شعبة أبحاث السُّودان، 1968.

(3)
كيف الخروج من مأزق الحرب وتداعياتها؟
بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023، أصبحت جامعة الخرطوم مقرًّا لقوَّات الدَّعم السَّريع، الَّتي استباحت مكتبتها العامَّة ودنَّست حرمة قاعاتها التَّدريسيَّة، ولم تنج من آثار الدَّمار والتَّخريب قاعة الامتحانات الكُبرى، الَّتي رثاها السَّفير عبد المحمود عبد الحليم، مستعيرًا كلمات الشَّاعر الدُّكتور عمر محمود خالد، وإنَّ اختلفت المناسبات: "الجامعة بعدك كوم رماد * * * لا تنفع آداب لا اقتصاد * * * لا فيها طبّ لا صيدلةً". ولذلك يصعب على خرِّيجي جامعة الخرطوم أن يروا الجامعة دون قاعة الامتحانات الكُبرى، ذات الحضور المعماريِّ الباذخ، والسُّقوف المجنَّحة من الخارج، والمزوِّقة بأخشاب المهوقني الاستوائيَّة اللَّامعة من الدَّاخل، وخطوط الفنَّان عثمان وقيع اللَّه، ونقوش الفنَّانة التَّشكيليَّة مارغريت أليك على جدرانها الأربعة. إذًا، التَّحدِّي الحقيقيُّ، كما يرى السَّفير عبد المحمود يكمن في سؤال: كيف ينهض طائر الفينيق (The phoenix) من ركام دماره؟ فالنُّهوض، يا سادتي، يحتاج إلى مهندسين وتشكيليِّين من ذوي الهمم العالية، أمثال البروفيسور المعماريِّ أليك بوتَّر وزوجته مارغريت؛ ومقاولين مخلصين، يقدِّمون المصلحة العامَّة على مصالحهم الخاصَّة، أمثال جابر أبو العز؛ وإداريِّين أكفاء، يملكون الرُّؤية وزمام المبادرة في اتِّخاذ القرارات الصَّائبة، أمثال أحمد المرضيِّ جبارة، وبذلك يكون "كلُّ شيء ممكن". لكن للأسف، إنَّ واقع الحال في السُّودان لا ينبئ بذلك؛ لأنَّ الَّذي "يصلح للتَّدمير لا يصلح للتَّعمير"، كما قالها المهندس معمار سنان في بلاط السُّلطان العثمانيِّ سليمان القانوني. ولذلك على خرِّيجي جامعة الخرطوم في أوطان الشَّتات؛ أن يوفوا كيل "الجميلة المستحيلة" (جامعة الخرطوم)، ويسهموا في إعادة إعمارها وإعمار قاعة امتحاناتها الكُبرى؛ لأنَّ جراحات الوطن أضحت نازفةً فوق طاقات الجميع، وإنَّ إعادة إعمار ما دمَّرته آلة الحرب يحتاج إلى طرائق تفكير مبتكرة، بعيدًا عن الرُّؤى المرتكزة على قسمة السُّلطة والثَّروة، والمعضدة بالنُّعرات العرقيَّة والعنصريَّة والخصومات السِّياسيَّة غير المنتجة. والتَّوافق على البرامج المبتكرة للإعمار لا يعني توحيد القوى السِّياسيَّة في كيان واحد، بل يعني أنَّ تقديم مصلحة الوطن الجريح على المصالح الحزبيَّة والخصومات السِّياسيَّة الضَّيِّقة؛ لكن وفق رؤًى وخطط مدروسة، يضعها المهنيُّون وأصحاب الاختصاصات ذات الصِّلة.

ahmedabushouk62@hotmail.com

   

مقالات مشابهة

  • وزير الدولة للتعاون الدولي القطرية تجتمع مع وزير الخارجية وشؤون المغتربين
  • إسرائيل تصعّد حصارها على غزة بقطع الكهرباء وسط تفاقم الأزمة الإنسانية
  • الاحتلال يشدد الحصار على غزة.. ويقطع الكهرباء بشكل كامل عن القطاع
  • وزير الخارجية وشؤون المغتربين يصل الدوحة
  • العدو الصهيوني يقطع الكهرباء بشكل كامل عن قطاع غزة
  • شهيدان في الشجاعية وإسرائيل تقرر قطع الكهرباء عن قطاع غزة
  • بعد تهديدات «ترامب».. إسرائيل تقطع الكهرباء عن قطاع غزة المحاصر
  • إصابات برصاص الاحتلال الإسرائيلي في وسط وجنوب قطاع غزة
  • العلاق: سنشهد تحولاً رقمياً شاملاً في القطاع المالي
  • قاعة الامتحانات الكُبرى بجامعة الخرطوم بين إعمار البروفيسور أليك بوتَّر وتدمير قوات الدعم السريع