لجريدة عمان:
2024-07-04@00:59:22 GMT

نوافذ :أن تعيش كمالا وهميا

تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT

[email protected]

هناك فترة محددة، يقال عنها فترة الشباب، وهي الفترة النزقة في حياة كل إنسان، حيث يأتي الفرد فيها بسلوكيات فيها من الرعونة، والشطط، والتهور، في إطلاق الأحكام، ومع ذلك يسمح لنا فيها بأن نشعر بأننا على درجة كبيرة من المثالية، ولأنه شعور ضمني معنوي، ليس له أساس «مادي» على الواقع، فإن هذه الفترة لا تلبث أن تزول سريعا، وإن آمن البعض بحتمية بقائها واستمرارها عنده مدى الحياة «شعور من الوهم» فهي حالها كحال مختلف الفترات الذي ترافقنا على فترات مختلفة من أعمارنا، حيث تظل فترة الشباب من أكثر الفترات غنى بكل هذه التموضعات النفسية التي تتلاشى شيئا فشيئا مع تراكم تجربة الحياة عند كل إنسان؛ بلا استثناء، والاستثناء الوحيد الذي لا يفرط في كثير منها هو عندما يتلبس أحدنا الوهم، وما أدراك ما الوهم.

ويأتي الشعور بالمثالية عندما تطغى النرجسية على الشخصية الإنسانية، وهي القاتلة بلا شك؛ قاتلة، لأنها لا تترك مجالا لكثير من القيم الإنسانية، حيث تزج بصاحبها في متون تضخم الذات، والشعور بالفوقية الزائفة، وأصفها بالزائفة لأنه ليس هناك شخص يفوق شخصا، في أي شأن من شؤون الحياة، نعم؛ هناك مسافة أفقية، نسبية بين الأشخاص، هذه المسافة هي التي ترى فلان من الناس متفوق في أمر ما على آخرين، وهذا التفوق إن حدث فهو ليس علوا على الآخرين، وإنما في المستوى الأفقي ذاته، ويقاس بالنسبية الأفقية فقط، وليس بالنسبية العمودية، ولذلك أتصور من وجهة نظر شخصية أن من ينتقد طبيبا لا بد أن يكون طبيبا هو الآخر، وليس من المقبول مطلقا أن تنتقد طبيبا وأنت لم تدخل كلية الطب، وتعرف حقيقته، ويصدق هذا على جميع التخصصات، والمقاربة ذاتها تذهب عندما نرى فلان من الناس يوصف بالكرم -والكرم هنا حالة شائعة عند الجميع- فليس هو الكريم المطلق ليكون فوق الجميع، ولكنه يتميز بكرم نسبي، وهذه النسبية بقدر ما ترتفع في مؤشر الكرم في لحظة زمنية ما عند شخص ما، فهي تنخفض في لحظة زمنية أخرى عند ذات الشخص، لأن هناك شخصا آخر حقق نسبة أعلى، ومعنى هذا أن ليس هناك كمال مطلق، ومن يشعر نفسه بذلك فهو واهم، وعليه أن يبحث عن علاج لأوهامه.

عندما نستقرئ الواقع نجد أن هذه الصور تتكرر في كل شأن من شؤون الحياة، ولأن الحياة شأن عام، يمتلكه الجميع، فبذلك يظل الجميع عند هذا المستوى النسبي، فليس هناك تفوق بالمطلق، وليس هناك تميز بالمطلق، وليس هناك أفضيلة بالمطلق، وليس هناك إنجاز بالمطلق، فقد خبر الناس كل مشروعات الحياة اليومية على امتداد تاريخهم الإنساني، ولم يبق شيء بكر، لم تمر عليه اشتغالات الإنسان، وبالتالي فالذين يغالون في هذا الجانب، ويحملون أنفسهم فوق ما لا تطيق، يبقى من الجيد مراجعة هذه النفس، ومصارحتها، فلن تأتي بشيء لم يأت به الأُوَلُ، نعم، فطر الإنسان على البحث عن التميز، وهذا حق مشروع له، ومعاتب إن لم يسع إلى تحقيقه، إن هو يملك أدواته، ولكن هذا الحق محكوما بإطار قيمي لا يتعدى إلى الآخر، وبإطار زمني «العمر» وكما قال أحدهم: «عمر الشبيبة يبدي عذر صاحبه فما بال شيبة يستهويه شيطان» وكلا الإطارين متلازمين منذ النشأة الأولى، وحتى مغادرة هذه الحياة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لیس هناک

إقرأ أيضاً:

لا تحلموا بالعودة للدولة القديمة

حرب أبريل أرّخت لعهد جديد وصفّرت العداد فهزمت منظومة المفاهيم القديمة، في أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية، فاجتماعياً أحدثت توازناً ملحوظاً بين جميع فئات وشرائح المجتمع، فوحّدت الناس بمختلف خلفياتهم الجهوية والاجتماعية، وساوت بين الجميع حينما تذوق الجميع طعم الموت واستشعر مآسي الدمار والتبرم جراء ويلات التشرد، وهذا بدوره حرّك الضمير الجمعي للأمة، فأيقن الناس أن النجاة من جحيم الحرب لا يكون فردياً، وأن العمل الجماعي والتضامن الجمعي أصبح ضرورة وجودية لا فكاك منها، فانهزمت الفكرة الأحادية المكرسة لأمان البعض وفناء البعض الآخر، تلك الفكرة المجنونة التي سيطرت على ذهنية ومنهج روّاد الدولة القديمة، الذهنية التي أحرقت سكان الجنوب وأزهقت أرواح مواطني دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، من منطلقات دينية منحرفة وتوجيهات تقليدية سالبة وغارقة في انتهاكات حقوق الانسان، واليوم لن تجد من يحدثك عن إبادة مجتمع بعينه ليسلم ويأمن المجتمع الآخر، فصار الجميع مهدد بالفناء وبالإبادة القسرية، المفروضة من شيطان الدولة القديمة المترنحة والآيلة للسقوط، المتدهورة والمتدحرجة كرتها الآن تزامناً مع انسكاب هذا المداد الحزين، فعندما يداهم الخطر الجميع يعمل الجميع بعقل الرجل الواحد وقلب المرأة الواحدة، والرافضون لأمان وسلام الوطن المناهضون لمشروع كنس أركان الدولة القديمة الفاسدة، هم في الأساس ثلة من الفاسدين الذين احتكروا الدخل القومي لمصالحهم الفردية، ولاذوا بالفرار لبلدان الغرب البعيد والشرق الأوسط القريب، وفي جيوبهم مدخرات المواطن وكنوز الوطن يصرفونها على شراء وقود الحرب – المرتزقة والسلاح.
ثقافياً اعترف الجميع بأن إيقاع اهازيج الحقيبة ما عاد معبراً عن الذائقة العامة، ولا معتبراً قاسماً مشتركاً بين أمزجة الناس الجمعية ومناهجهم الفنية، وأن للناس رقصاتهم الشعبية وغنائهم المحلي النابع من صفاء سمائهم الزرقاء المكسوة بالسحب، ومن نقاء باديتهم وحواضرهم ودامرتهم، فانصت من اعتادت أذنه على سماع النغم الواحد فتقبل الرقص على إيقاعات أخرى طبلها يستجيب لنغم جميل آخر، واحتفل الصغار من أبناء المدن المركزية بالزي الجديد للفرسان الجدد، فنُسفت أبجديات عروض مسرحية الرجل الواحد، واقتنع الجيل الحديث بأن الثراء في التنوع وأن الابداع في التعدد، ناهيك عن مزاحمة اللهجة اللغوية الجديدة للهجة المركزية المسيطرة، المولودة مع تاريخ تأسيس إذاعة أم درمان (العامية السودانية)، فأثرى قاموس ثوار التغيير الحاملين للواء التجديد المخزون المعرفي القومي ثراءً كبيراً، وفي اثناء مرور اللحظات المؤسفة لهذه الحرب هنالك غليان وتفاعل اجتماعي يجري بين الناس، وفي بعض الأحيان يولّد هذا التفاعل الخصومة الصارخة بين الشقيقين، بل حتى بين الأم وابنتها، إنّه الغليان المفاهيمي الذي يمور ويفور كالمرجل بين صفوف العلاقات الحميمة للأفراد والجماعات، هذا المطبخ الساخن المزدحم بالأدخنة والأبخرة سيخرج لنا طبخة مسبوكة ومتماسكة، لمجتمع سئم مرارات الحرب وأنهكته مآسي اللجوء ومعاناة النزوح وضياع الهجرة والتشرد، وبلا شك سوف يخرج الشيف المحترف من هذا المطبخ بمنظومة ثقافية متجانسة، تعبر عن اللوحة الكبيرة للوطن الجميل المنظور اليه من زوايا مختلفة.
سياسياً انهزمت جميع اطروحات المشاريع المقدمة من الأحزاب، وفشلت جميع المؤتمرات التي تنادي بحل المعضلة الوطنية الكبرى، وأخفقت التحالفات السياسية ومعها الحركات المسلحة والعسكر في الإتيان بمسودة جديدة تزيح المأساة عن كاهل الشعب المكلوم، واستكان الناشطون الخاضعين لأجندة الدولة القديمة، فما استطاعوا مجاراة الحراك الثوري منذ ابريل قبل عام وبضعة أشهر، وذهبت أدراج الرياح الأطروحات الكثيفة التي تكدست بها دور البحوث العلمية بالجامعات والمعاهد العليا، وعجزت في أن تقدم دواءً ناجعاً لأمراض المنظومة القديمة، فقفز إلى سطح الأحداث منظرون حداثيون يؤمنون بالتجديد والتغير واجتثاث الجذور التالفة للشجرة القديمة، فتقدم خطهم السياسي الرائد ليتوافق مع خط حراك أبريل الكاسح الماسح كالسيل الجارف، واتسقت الرؤى الجديدة مع آلة التغيير وبدأت ملامح الشكل الجديد للدولة الجديدة، الدولة الكاسرة لقيد وشرط الجهة والنوع والحزب والعرق في التموضع فيما يتعلق بالحصول على أي محاصصة متعلقة بالشأن العام، أو اجتياز امتحان من الامتحانات المؤهلة لولوج باب أي مؤسسة من مؤسسات العمل العام، على دعاة البقاء على النمط القديم أن لا يحلموا حلماً باذخاً وطويلا، لأن سفينة التغيير الحقيقي قد مخرت عباب البحر، ورفعت رايات السلام المسنود بالمدفع الرزّام، الذي اقسم الفارس الممسك بزناده قسماَ غليظاً أن لا عودة للقديم المهترئ البالي، لقد ولى عهد الظلام بكلفة باهظة في الأرواح والممتلكات، لكن هذا ديدن الانعتاق ومهر التحرر الذي لا يسلك تفرعات الطرق القصيرة ولا يقبل بأنصاف الحلول.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • دويدار: اتحاد الكرة "ملوش كلمة" على الأندية وليس هناك كوادر إدارية بالكرة المصرية
  • صبا مبارك تعيش حالة كبيرة من النشاط الفني
  • لغز العمر المديد: لماذا تعيش النساء عمرا أطول من الرجال؟
  • لا تحلموا بالعودة للدولة القديمة
  • ماركينيوس: كولومبيا تعيش فترة رائعة.. لكننا اخترقنا حصونهم
  • ضبط شخص يدير كيانا تعليميا وهميا بالإسكندرية
  • بنسعيد: مواقع التواصل تعيش فوضى ومن حق المواطنين اللجوء للقضاء
  • وزير فلسطينى: غزة تعيش كارثة غير مسبوقة بسبب نقص المياه والمساعدات الغذائية
  • عزز ثقتك في نفسك بأبسط الخطوات
  • أغرب 5 كائنات تعيش في أعماق المحيط.. أبرزها الأخطبوط دامبو وخنزير البحر