تعزيز سيادة القانون: رحلة العراق من منظور الإصلاح القضائي في ألمانيا
تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT
شرعت ألمانيا بعد الحرب العالميَّة الثانية، في رحلة تحولٍ صعبة لإعادة بناء نظامها القانوني وإصلاحها، والسعي لضمان العدالة، وحماية الحقوق الفرديَّة، ومنع تكرار جرائم ماضيها، فجعل التزام البلاد بالديمقراطيَّة وسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان من سلطتها القضائيَّة أنموذجاً للتنمية، ويقدم دروساً قيمة للدول التي تسعى جاهدة إلى إنشاء نظامٍ قانوني قوي ومستقل.
1 - نقطة البداية، محاكمات نورمبرغ: بدأ الطريق إلى الإصلاح القضائي في ألمانيا بمحاكمات نورمبرغ، ففي أعقاب الحرب العالميَّة الثانية مباشرةً واجهت ألمانيا المساءلة عن الجرائم التي ارتكبت خلال الحقبة النازيَّة، وكانت محاكمات نورمبرغ التي عقدت للمدة من 1945 إلى 1946، بمثابة جهدٍ دولي لمحاكمة كبار المسؤولين النازيين بتهمة ارتكاب جرائم حربٍ وجرائم ضد الإنسانيَّة. هذه المحاكمات كانت مهمة للغاية لأنها أولاً، أسست لمبدأ المسؤوليَّة الجنائيَّة الفرديَّة في القانون الدولي، والذي كان خروجاً عن المفهوم السابق للذنب الجماعي، وقد أرسى هذا المبدأ الأساس الرصين لنظام قانوني أكثر عدلاً وإنصافاً في ألمانيا ما بعد الحرب. من جهة أخرى، ضمت المحاكمات مزيجاً من الخبراء القانونيين من دول الحلفاء الذين عملوا معاً لمحاكمة القيادة النازيَّة، ويمثل هذا التعاون الدولي مثالاً للتعاون الذي سيؤثر لاحقاً في جهود إصلاح القضاء في ألمانيا.
2 - عمليَّة اجتثاث النازيَّة: كجزءٍ من عمليَّة التطهير من النازيَّة من مفاصل الدولة، تمت إزالة الأفراد ذوي الانتماءات النازيَّة من المناصب القياديَّة داخل السلطة القضائيَّة لضمان استقلال الجهاز القانوني وعدم الانحياز، وأدرك الحلفاء أنَّه من أجل بناء مجتمعٍ عادلٍ وديمقراطي في ألمانيا ما بعد الحرب، كان من الضروري إبعاد ذوي الانتماءات النازيَّة من المناصب آنفاً، وشملت إجراءات عزل النازيين التحقيق في خلفيات القضاة والمدعين العامين وغيرهم من المسؤولين القانونيين لتحديد تورطهم مع النظام النازي، وعزل أولئك الذين تبين أنهم نازيون نشطون من مناصبهم، وفي بعض الحالات واجهوا المحاكمة، وكانت هذه العمليَّة صعبة، لأنها تطلبت تحقيق التوازن بين مساءلة الأفراد عن أفعالهم خلال الحقبة النازيَّة وضمان استمرار النظام القضائي في العمل بفعاليَّة.
3 - القانون الأساسي (1949): أنشأ الدستور، والذي يسمى في ألمانيا بالقانون الأساسي، والذي اعتمد في 23 أيار 1949، الإطار القانوني لجمهوريَّة ألمانيا الاتحاديَّة، والذي يمنح الحقوق الأساسيَّة، بما في ذلك الحق في الحصول على محاكمة عادلة، ووضع الأساس للنظام القانوني في البلاد، وهذا ما أدى الى إرساء القانون الأساسي الخاص بالفصل بين السلطات، والنظام الاتحادي، وسيادة القانون كالمبادئ التوجيهيَّة للنظام القانوني الألماني في فترة ما بعد الحرب.
4 - المحكمة الدستوريَّة الاتحاديَّة: في العام 1951 تمَّ تأسيس المحكمة الدستوريَّة الاتحاديَّة، وأصبحت هذه المحكمة الوصي على القانون الأساسي، وضمان امتثال القوانين والإجراءات الاتحاديَّة لأحكامه، ولعبت دوراً حيوياً في دعم سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات العامة، ولها سلطة مراجعة وتمييز دستوريَّة القوانين والإجراءات الحكوميَّة إذا خالفت القانون الأساسي
5 - إعادة دمج ألمانيا الشرقيَّة: بعد سقوط جدار برلين في العام 1989 وإعادة توحيد ألمانيا في العام 1990، دُمجت الأنظمة القانونيَّة في ألمانيا الشرقيَّة مع الغربيَّة، مع إشراف المحكمة الدستوريَّة الاتحاديَّة على الفترة الانتقاليَّة، مع التأكيد على القانون الأساسي لعام 1949.
6 - التكامل الأوروبي (التسعينيات – العقد الأول من القرن الحادي والعشرين): لعب القضاء الألماني دوراً محورياً في دمج البلاد في الاتحاد الأوروبي، إذ أكدت الأحكام التاريخيَّة التي اتخذتها المحكمة الدستوريَّة الاتحاديَّة على علويَّة قانون الاتحاد الأوروبي على القانون الوطني، الأمر الذي عزز التزام ألمانيا بالوحدة الأوروبيَّة.
7 - العصر الحديث (2010 – الآن): واصلت ألمانيا دمج المعايير الدوليَّة لحقوق الإنسان في نظامها القانوني، الأمر الذي سمح للأفراد برفع قضايا أمام “المحكمة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان”، وظل الالتزام بحماية حقوق الإنسان موضوعاً رئيساً في الفقه القانوني الألماني، وبهذا تجدر الإشارة الى أهم سمات التوجهات الألمانيَّة في السياق القانوني: أولاً - الرقميَّة والتكيف مع التحديات القانونيَّة: كان على السلطة القضائيَّة في ألمانيا، كما هي الحال في العديد من البلدان، أنْ تتكيف مع التحديات التي يفرضها العصر الرقمي، وأصبحت القضايا المتعلقة بخصوصيَّة البيانات والأمن السيبراني والأدلة الرقميَّة ذات أهميَّة متزايدة. ثانياً - الدور المستمر في العدالة الدوليَّة: تشارك ألمانيا بنشاطٍ في جهود العدالة الجنائيَّة الدوليَّة، وحاكمت الأفراد بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعيَّة، وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وجرائم حرب، وجريمة العدوان، كما أسهمت في المنتديات والمنظمات القانونيَّة الدوليَّة. ثالثاً - التحديات والإصلاحات: أدت التحديات المتعلقة بعدد القضايا والكفاءة القضائيَّة والوصول إلى العدالة إلى إجراء إصلاحات مستمرة داخل السلطة القضائيَّة الألمانيَّة لضمان بقائها فعالةً ومستجيبةً للاحتياجات المجتمعيَّة المتطورة. بإيجاز، شهد القضاء الألماني تحولاً ملحوظاً منذ الحرب العالميَّة الثانية، إذ تطور من نظامٍ ملوثٍ بالنفوذ النازي إلى نظامٍ يدعم المبادئ الديمقراطيَّة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان. وقد لعبت ألمانيا دوراً مهماً في المنظومة القانونيَّة الأوروبيَّة والعالميَّة، وكانت لها إسهامات مميزة وفعالة في حماية الحقوق الفرديَّة وتعزيز العدالة والمساءلة، ويعكس التطور التاريخي الذي شهده القضاء الألماني التزامه بالتعلم من الماضي وبناء نظام قانوني يساوي أمامه الجميع من دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القوميَّة أو الأصل أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي. في ألمانيا، وعلى مدى القرن المنصرم، كان هناك مبدأ قانوني سائدٌ يعرف باسم «Rechtsstaat» أو مبدأ “سيادة القانون”، كان بمثابة المبدأ التوجيه المركزي في التفكير القانوني والقضائي الألماني، وكان له تأثيرٌ كبيرٌ في النظام القانوني والقضائي في البلاد، ويؤكد مبدأ Rechtsstaat على مبادئ أساسٍ تتجلى بسيادة القانون، واليقين القانوني، وحماية الحقوق والحريات، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وأهميَّة تمكن المواطن من الوصول إلى العدالة، والديمقراطيَّة. الهيكل القضائي: يعملُ الهيكل القضائي في ألمانيا على ثلاثة مستويات: المستوى الاتحادي، على مستوى الولايات، وعلى مستوى البلديات، وتمَّ تصميم هذا النظام اللامركزي لضمان فصل السلطات والسماح بإحلال العدل بكفاءة واستقلاليَّة، وبهذا الصدد، سنعرف في أدناه آليات عمل الأجهزة القضائيَّة حسب مستويات التمثيل:
1 - المستوى الاتحادي: أولاً - المحكمة الدستوريَّة الاتحاديَّة: وهي أعلى مستوى من السلطة القضائيَّة الألمانيَّة، ومقرها في مدينة كارلسروه التابعة لولاية بادن- فورتمبيرغ، وتتمتع هذه المحكمة بسلطة الرقابة على دستوريَّة القوانين والفصل في تنازع الاختصاص بين الحكومة المركزيَّة وحكومات الولايات أو بين حكومات الولايات في ما بينها بما يضمن عدم مخالفة التشريعات الاتحاديَّة والمحليَّة للقانون الأساسي (دستور ألمانيا)، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات. ثانياً - المحاكم الاتحاديَّة: وتشمل محكمة العدل الاتحاديَّة، والمحكمة الإداريَّة الاتحاديَّة، ومحكمة الماليَّة الاتحاديَّة، ومحكمة العمل الاتحاديَّة، وتتمتع هذه المحاكم الاتحاديَّة بسلطة قضائيَّة على مجالات محددة من القانون، مثل القانون المدني والإداري والضريبي وقانون العمل. ثالثاً - المدعي العام الاتحادي: يتولى هذا المكتب ملاحقة الجرائم الفيدراليَّة الخطيرة، بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة، ويكون المدعي العام الاتحادي مستقلاً ويعمل تحت سلطة وزارة العدل الاتحاديَّة.
2 - مستوى الولاية: أولاً - محاكم الولايات: تتمتع كل ولاية من ولايات ألمانيا الفيدراليَّة الست عشرة بسلطتها القضائيَّة الخاصة، والتي تشمل محاكم الولايات، إذ تتعامل محاكم الولاية هذه مع مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك المسائل المدنيَّة والجنائيَّة والإداريَّة، وقد يختلف هيكل وتنظيم محاكم الولايات قليلاً من ولاية لأخرى. ثانياً - المحاكم الدستوريَّة للولايات: لدى معظم الولايات الألمانيَّة محاكمها الدستوريَّة الخاصة المسؤولة عن ضمان امتثال قوانين وإجراءات الولاية لدساتير الولايات المعنيَّة، تتعامل هذه المحاكم مع القضايا الدستوريَّة على مستوى الولاية.
3 - المستوى البلدي: أولاً - المحاكم المحليَّة: هي أدنى مستوى من السلطة القضائيَّة وموجودة في كل مدينة ومنطقة، وتتعامل مع القضايا المدنيَّة والجنائيَّة الأقل خطورة، مثل مسائل قانون الأسرة، والمطالبات الصغيرة، والجنح. وتتعامل هذه المحاكم أيضاً مع المسائل غير الخلافيَّة مثل الوصيَّة والوصايات. ثانياً - المدعون العامون: مسؤولون عن التحقيق والملاحقة القضائيَّة في القضايا الجنائيَّة في ولاياتهم القضائيَّة، ويعملون بشكلٍ وثيقٍ مع الشرطة المحليَّة ويلعبون دوراً حاسماً في نظام العدالة الجنائيَّة. من المهم أنْ نلاحظ أنَّه بينما يعملُ القضاء الألماني ضمن هذا الهيكل ثلاثي المستوى، هناك تركيزٌ قويٌّ على استقلال القضاء، إذ يتمُّ تعيين القضاة مدى الحياة ويتمُّ اتخاذ القرارات بشكلٍ محايدٍ بناءً على القانون، فضلاً عن ذلك، يلتزمُ القضاء الألماني بمبدأ الشرعيَّة، أي أنَّ القضاة يجب أنْ يطبقوا القانون كما هو مكتوبٌ، وليس لديهم سلطة إنشاء القانون من خلال قراراتهم. علاوة على ذلك، يعتمد النظام القانوني في ألمانيا على مبادئ القانون المدني، مع وجود مدونة قانونيَّة شاملة تغطي مختلف مجالات القانون، ويختلف هذا النظام عن أنظمة القانون العام في دولٍ مثل الولايات المتحدة الأميركيَّة والمملكة المتحدة، إذ يكون للسوابق القضائيَّة (هي ما تعرف اصطلاحاً بالقانون القضائي) دورٌ أكثر بروزاً. بكلماتٍ موجزة، يعملُ القضاء الألماني في ظل تقسيمٍ واضحٍ للسلطات بين المستوى الاتحادي، ومستوى الولايات، والبلديات، ليضمن إدارة العدالة بشكلٍ فعالٍ ومستقلٍ في جميع أنحاء البلاد. الدروس الأساسيَّة للعراق: لدى ألمانيا والعراق أنظمة قضائيَّة متميزة تتشكل حسب سياقاتها التاريخيَّة، وتقاليدها القانونيَّة، وبيئاتها السياسيَّة، ويرتكز النظام الألماني على المبادئ الديمقراطيَّة وتقاليد القانون المدني، مع التركيز على استقلال القضاء وحماية الحقوق والحريات، وبالمقابل، يعمل القضاء العراقي في بيئة أكثر تعقيداً، ويتأثر بالتقاليد القانونيَّة المدنيَّة والإسلاميَّة، ويواجه تحدياتٍ تتعلق بالتأثير السياسي وعدم الاستقرار، وبينما يواجه العراق تحديات إعادة بناء مؤسساته القانونيَّة والقضائيَّة بعد سنواتٍ من الصراع وعدم الاستقرار، فإنَّه يمكنه استخلاص العديد من الدروس الأساسيَّة من تجربة ألمانيا لتوجيه جهوده لإصلاح وتعزيز مؤسساته القانونيَّة والقضائيَّة، ومنها:
1 - الالتزام بسيادة القانون: إنَّ التزام ألمانيا الثابت بسيادة القانون ينبغي أنْ يكون بمثابة مبدأ أساس للعراق، وإنَّ التمسك بسيادة القانون يضمن أنَّ النظام القانوني هو السلطة النهائيَّة وأنَّ جميع الأفراد، بما في ذلك المسؤولون الحكوميون، متساوون أمام القانون.
2 - استقلال القضاء: يجب على العراق أنْ يضعَ النصوص الدستوريَّة والتشريعيَّة الخاصة باستقلال السلطة القضائيَّة موضع التطبيق من حيث وجود سلطة قضائيَّة متحررة من النفوذ السياسي أمرٌ ضروريٌ لدعم العدالة وضمان حصول جميع المواطنين على معاملة عادلة بموجب القانون، وهنا ينبغي تعيين القضاة على أساس الجدارة وحمايتهم من الضغوط الخارجيَّة والتدخل السياسي وألا يكون عليهم سلطانٌ إلا القانون.
3 - إطار دستوري قوي: على العراق أنْ ينشئ إطاراً دستورياً قوياً يكرّسُ المبادئ الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان والفصل بين السلطات، ويقدم أساساً قانونياً واضحاً للنظامين القانوني والقضائي في البلاد.
4 - المساءلة عن جرائم الماضي: بينما لا تزال تعالج ألمانيا ماضيها النازي من خلال آليات إزالة النازيَّة والمساءلة، على العراق بالمثل معالجة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، والسعي إلى المساءلة عن الجرائم المرتكبة خلال فترات الصراع، وإنَّ إنشاء آليات للمساءلة والمصالحة العادلة يمكن أنْ يساعد البلاد على المضي قدماً مع احترام حقوق الضحايا وأسرهم.
5 - التعليم والاحتراف القانوني: ينبغي للعراق أنْ يستثمرَ في التعليم القانوني والتطوير المهني لضمان الاستعداد الجيد للملاكات القانونيَّة المهنيَّة لدعم القيم الديمقراطيَّة وسيادة القانون، ويعدُّ التدريب الأخلاقي والقيمي والفهم العميق للمبادئ الدستوريَّة أمراً ضرورياً.
6 - الوصول إلى العدالة: ضرورة إعطاء العراق الأولويَّة لوصول جميع مواطنيه إلى مؤسسات وقنوات العدالة، بغض النظر عن خلفيتهم أو وضعهم الاقتصادي، وهنا ينبغي إنشاء برامج المساعدة القانونيَّة والمساعدات لضمان قدرة الجميع على التماس سبل الإنصاف من خلال النظام القانوني.
7 - التعاون الدولي: إنَّ التعاون والدعم الدوليين، كما تلقته ألمانيا بعد الحرب العالميَّة الثانية، من شأنه أنْ يزودَ العراق بالتوجيه والخبرة والموارد اللازمة لجهود الإصلاح القضائي، إذ إنَّ التعاون مع المنظمات الدوليَّة والخبراء القانونيين والتعلم من تجارب الآخرين مهمٌ ولا يقدر بثمن.
8 - التكيف مع السياق المحلي: ومع استخلاص الدروس من تجربة ألمانيا، يتعين على العراق أيضاً أنْ يأخذَ في الاعتبار سياقه الثقافي والتاريخي والاجتماعي الفريد، وينبغي تصميم الإصلاحات القانونيَّة بحيث تعالج التحديات والاحتياجات الخاصة بهويَّة العراق التاريخيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة.
9 - الموازنة بين الحقوق والواجبات: ندرك أنَّ الحقوق تأتي مع الواجبات والمسؤوليات المقابلة، وإنَّ تحقيق التوازن بين الحقوق والحريات والاحتياجات الأوسع للمجتمع أمرٌ ضروريٌّ للتعايش المتناغم. خاتمة: كان إصلاح المنظومة التشريعيَّة والقطاع القضائي في ألمانيا بعد الحرب العالميَّة الثانية عمليَّة معقدة ومليئة بالتحديات، وقد تطلب الأمر معالجة إرث النظام النازي، وإرساء مبادئ ديمقراطيَّة، وبناء نظام قانوني قادر على دعم سيادة القانون وحماية الحقوق الفرديَّة، فمن خلال محاكمات نورمبرغ، وتطهير ألمانيا من النازيَّة، وإنشاء القانون الأساسي، وإنشاء المحكمة الدستوريَّة الفيدراليَّة، والالتزام بالتثقيف القانوني والمهني، تمكنت ألمانيا من تحويل نظامها القضائي إلى نموذج للإصلاح. وتقدم تجربة ألمانيا درساً قيماً للدول الأخرى التي تواجه تحدياتٍ مماثلة، إذ تبين أنَّ الالتزام بالعدالة والقيم الديمقراطيَّة من الممكن أنْ يؤدي إلى نظام قانوني قوي ومرنٍ حتى في أصعب الظروف. بوسع بلدانٍ مثل العراق، التي تواجه تحديات التحولات السياسيَّة في مرحلة ما بعد الصراع أو التحول السياسي، أنْ تستمدَّ الإلهام من رحلة ألمانيا، من خلال إعطاء الأولويَّة لإنشاء إطار دستوري قوي وتقديم ضمانات تنفيذ أحكامه، وضمان استقلال القضاء، والاستثمار في التعليم القانوني، والمساءلة، وتعزيز الشفافيَّة، يمكن للدول أنْ تمهدَ الطريق لنظام قضائي قوي ونزيه يدعم سيادة القانون ويحمي حقوق مواطنيها ويقوي الثقة بين الدولة والمواطن العراقي، ومن خلال القيام بذلك، يمكنهم التحرك نحو مستقبلٍ تسود فيه العدالة والديمقراطيَّة واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة.
المصدر: شفق نيوز
كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية الكورد الفيليون الكورد الفيليون خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير الكورد الفيليون مجلة فيلي عاشوراء شهر تموز مندلي بعد الحرب العالمی المحکمة الدستوری القانون الأساسی النظام القانونی الحقوق والحریات القضاء الألمانی استقلال القضاء وسیادة القانون السلطة القضائی سیادة القانون حقوق الإنسان ما بعد الحرب بین السلطات هذه المحاکم على القانون ة الاتحادی على العراق بما فی ذلک ة ألمانیا ة الثانیة على مستوى من خلال
إقرأ أيضاً:
نحو منظور جديد للديمقراطية التمثيلية
معتصم الحارث الضوّي
23 ديسمبر 2024
مقدمة
إحدى مشكلاتنا المزمنة منذ أمد بعيد أننا نسخنا ديمقراطية وستمنستر في معظم ملامحها وتمظهراتها؛ ظانين أننا التحقنا بركب الحضارة واستلهمنا أفضل ما طرحه علماء السياسة من نظم الحكم.
تتحمل النخب السودانية التي تصدرت المشهد منذ ثلاثينيات القرن المنصرم هذه الجريمة، فنسبة لا يُستهان بها من ذلكم النفر تعرضت للقولبة الفكرية فتشوهت مداركها انسلاخا من الواقع المعيش، وتماهت مع المنظومة الفكرية البريطانية كاملة دون نقصان، وكانت النتيجة أنها تعالت على الإرث الثقافي المحلي، ولفظت أسه وأساسه، وتأففت من روابطها به، فكانت بحق مسوخا "ميتافورسيسية" كما حلا لكافكا تسميتها؛ لم تدرك أبعاد البرطنة "نسبة إلى بريطانيا"، ولم تعِ أبعاد الحصاد الوطني.
تلك علة أودتنا مدارك الردى، وصبغت واقعنا بعلقم مرير يتجرعه جيل الشباب بشكل خاص (أكثر من 60% من إجمالي السكان) صِرفا، وكانت ثانية الأثافي أن نشوء الأحزاب السياسية كان إثر صراعات سياسية مقيتة ثم مصالحات معيبة بين الطائفية والمتعلمين (ما يزال الكثيرون يخلطون بين المثقف والمتعلم!)، فكانت النشأة تعتورها الركاكة، والمنبت مثخنا بجراح التآمر، مشوبا بطرائق التحايل والاحتيال، والنتيجة هزائم مريرة في غير مُعترك.
أضحى نظامنا السياسي كائنا مسخا، يستمد صلفه، ويتغذى على أميبا حزبية لا تحذق العمل من أجل الوطن، بل حبك المؤامرات ونسج الدسائس، ودونك إن شئت كتاب د. فيصل عبد الرحمن علي طه الموسوم "الحركة السياسية السودانية والصراع المصري - البريطاني بشأن السودان : 1936-1953"، ومذكرات عبد الرحمن مختار المعنّونة "خريف الفرح أسرار السودان 1950- 1970"، وخلافهما كثير.
كانت النتيجة تأسيسا لمدرسة راسخة شملت الأحزاب من أقصى اليمين إلى اليسار، وكان جوهرها أن السياسة غش وخداع، وأن الممارسة الحزبية تلوّن ونفاق، وأن المسطرة هي المصلحة الشخصية ثم الحزبية، وأن الوطن والمواطن كم مهمل لا يُستدعى إلا لأغراض الكسب السياسي، ولا يُلقى إليه بال إلا عندما تدق صناديق الاقتراع أجراسها، ليُساق المواطنون زُرافات ووحدانا ليلقوا بطاقاتهم الانتخابية لصالح مرشح قد يجهلونه، ولكن الولاء الأعمى لمرشح الحزب والحمية القبلية وأوامر السيد/ الشيخ يجبرهم؛ حتف إرادتهم، على مرشح بعينه.
استمر الوضع المغلوط عبر العقود الماضية، ولم تفلح السلطة/ النخبة عبر الدورة الشيطانية للديمقراطية الخائبة والعسكر المتسلط في استنباط منظومة جديدة تستلهم واقعنا، وتنهل من موروثنا الثر، وتعبّر صادقة عن رغبات السواد الأعظم من الشعوب التي تتعايش داخل جغرافيا السودان.
حقّ علينا الآن، وخاصة في سياق التأسيس المبكر لمرحلة ما بعد الحرب أن نصطنع منظومة جديدة لتؤطر تعريف دولتنا، وأسس إدارتها، والمنطلقات الاستراتيجية لعلاقاتها الخارجية، والمبادئ الحاكمة لسوس مواطنيها، وقولبة العلاقات بين مكوناتهم بما يحقق المصلحة العليا للوطن.
كيف نؤسس لنظام عادل
السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، وبحكم الموقع الجغرافي كان بوتقة لانصهار ما يزال في سفر التكوين بين مكوناته الثقافية والحضارية، ولعجبي أن البعض يستبطئ تلك الصيرورة، ويستعجل النتيجة. يتمثل ذلك في الأسئلة المتكررة حد السقم من أمثال: هل السودان دولة عربية أم إفريقية؟ وهل شعبها إفريقي أم عربي؟
للإنصاف، ينطلق الكثيرون في طرحهم لهذه الأسئلة الحدّية والمعادلات الصفرية من رغبة صادقة بحسم الانتماء والهوية بُغية تحديد المنطلقات الأساسية تمهيدا للعمل على النمو السليم؛ سياسيا ومجتمعيا وثقافيا واقتصاديا.. إلخ. لكن أولئك النفر الكريم يغفلون عن حقيقة أساسية مفادها أن التحولات الاجتماعية والتلاقح الثقافي نحو وعاء جمعي لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يستغرق قرون، ويتطلب جهودا مدروسة، ودونك إن شئت أمثلة أمريكا وماليزيا في تأسيس الشعوب، والهند وسنغافورة في إدارة التنوع والتأسيس الصلد لقيم التسامح والتعايش السلمي والقبول بالآخر، وفي كل الحالات تحدث تجاوزات من حين لآخر بلا شك، فالكمال لله وحده، ولكن الفيصل هو سلامة المبدأ وإيجاد الأرضية السليمة وتوفير العزيمة السياسية مصحوبة بإرادة شعبية يؤسس لها التعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني (أسميتُهُ "ثالوث الانعتاق" في مقالة سابقة).
إذن، التأسيس لنظام حكم عادل في بلادنا مهمة شاقة، فالواقع –دون تجميل أو تزويق- يشير إلى تباينات مريعة في مستويات التعليم، وبالتالي الوعي، بين ربوع الوطن، ويشيرُ أيضا إلى أن المكونات القبلية والعرقية يلفظ كل منها الآخر، وينظر إليه نظرة دونية في سُلمٍ للتمييز العنصري ما يزال سائدا، بل حاكما، في مجتمعنا بالغ التعقيد والرجعية معا.
في هذا السياق من الجلي أن الأجيال الصاعدة قد استطاعت نسبيا كبح غلواء تلك النزعات العنصرية، وتجاوزت ذلكم الخطاب التقليدي، ولكن فئة الشباب، ورغم تناميها، ما زالت عاجزة عن اختراق الصروح التي شيدتها المجتمعات التقليدية في الأصقاع النائية، والتي ما يزال التأثير الأكبر فيها للشيخ المقبور، أو "الفكي" المحضور، أو زعيم القبيلة، أو غيره من قوى تُجذّر التخلف التي تسعى بلا كلل لتعطيل حاسة العقل، والإبقاء على أوضاع متخلفة لا تواكب مسيرة الحضارة، فهذا المجتمع بالغ التعقيد تتنازعه قوى الحداثة وجحافل الظلام، ويتناوش أفراده الحيرة والتأرجح بين الانضمام إلى ركب الحضارة أو الانغلاق في منظومات للتجهيل المطبق.
ثمة حاجة ماسة لاجتراح نظام سياسي ينطلق من ثوابتنا، ويستوعب اختلافاتنا، ويخطط لمستقبلنا بروية وحكمة، ويضع الحلول المسبّقة لكل القنابل الموقوتة، ويحقق تطلعات الجميع في الرخاء والسلام والتنمية، ويصوغ جدرانا قانونية صلدة تحول دون العبث بمقدرات الوطن أو بمصلحة أو مستقبل شعوبه.
هذا النظام لا يصح أن يطوّره البعض، بل يجدر أن تكتفي النخبة فيه بدور التعريف والتأطير والإدارة، وتدع الشعوب تُعرب عن رأيها الصريح: دون فوقية أو إملاءات، ودون تزييف للإرادة الجمعية.
هذا النظام يجدر أن يستلهم رأي الشعب في كل المسائل المصيرية عبر طروحات يسيرة الفهم، مصحوبة بحملات تعريف وتوعية عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حتى يكون الرأي الفصل ليس لحفنة من البرلمانيين حتى وإن كانوا مُنتخبين، بل الفاروق هو رغبة الشعوب التي تضمها هذه الجغرافيا، حتى وإن كان الثمن انفصال البلاد والذي ينظر إليه الكثيرون بأنه قد أصبح حتميا، بل وبدأت بالفعل جذوره تنبت على سطح الأرض.
هذا النظام يجب أن يتأسس على أن السياسي والمسؤول خادم للشعب (civil servant)، وأنه ليس مبعوثا للعناية الإلهية كما يعتقد البعض، وأن المصلحة الحكومية التي يرأسها أحدهم ليس عزبة تمتلكها أسرته، وأن سيوف المتابعة والمراجعة والمساءلة والثواب أو العقاب مُسلّطة على الجميع بلا استثناء بصرف النظر عن مناصبهم، وأن الدستور ومنظومة القوانين ليست لعبة يعدلها من شاء كيفما ومتى شاء وفق أهواءه ومصالحه الشخصية والحزبية.
هذا النظام هو ابن المعرفة التقنية الحديثة؛ يستلهم مفاهيمها ومنطلقاتها، ويطبق مناهجها وطرائقها في التعريف والتوعية ورصد الآراء، فقانون مقترح على سبيل المثال لا بد أن يُعرض على كافة قطاعات الشعب في كل أصقاع البلاد؛ تُعرّف وتُبشّر به وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتُصوّت عليه الجماهير بوسائل إلكترونية وتقليدية حسب المتاح، بعد فهم شامل لمنطلقاته وأهدافه عبر وسائل حديثة مبتكرة (29% تقريبا من السكان يستخدمون الإنترنت، أي ما يقارب 14 مليون نسمة) إضافة إلى الوسائل التقليدية، وبالتالي يكون الحكم فعليا للشعب؛ في أنصع صوره وأكثرها تمثيلا للإرادة الشعبية.
هذا النظام لا محل فيه للمحسوبية، فكل شيء وإن صغُر يخضع للمراقبة، وكل مسؤول يعلم علم اليقين أن التجاوزات ستنقله على جناح السرعة من الكرسي الوثير إلى المقعد الخشبي في محكمة عادلة.
هذا النظام سيبني للمستقبل بخطى وخطوات راسخة، ويُعزز مبدأ أن القوانين هي التي تُعيد صياغة العقل الجمعي الخرب، وتنزع عنه درن التخلف، وفي الحالة السودانية فإن ذلك متطلب أساسي وعاجل، خاصة وأن نظام القتلة واللصوص (الإنقاذ إن شئت) قد دمّر نظام الدولة المدنية، ونشر من القيم الزائفة قدرا ملحوظا.
هذا النظام سيفرض قيمة التخطيط الاستراتيجي الشامل في قمة الأولويات، ويجعل من إدارات البحث والتطوير (R & D) ثوابت في كل مرافق الدولة وجزءا أصيلا من هياكلها، ومن منظومة الرقابة الإدارية عامل تطوير وتجديد مستمر لشريان الخدمة العامة.
هذا النظام لن ينطلق من العدم، فلا حاجة لإعادة اختراع العجلة، ولذا فإنه سيحتقب تجارب سياسية سابقة: سوفيتات البلاشفة، وتجارب جوزيف بروز تيتو، واللجان الشعبية في ليبيا، وإرث الحركة التعاونية الدولية، وعطاء مايكل ألبرت في الاقتصاد التشاركي "Participatory Economics"، وغيرها كثير من العطاء الإنساني المفيد عبر الزمان والجغرافيا والثقافة، ويُزاوج بينها ونتائج التشخيص المتقن لواقعنا بكل معطياته المتأزمة والمتشظية؛ مستبطنا ما يصلُح من الإرث الشعبي والثقافة السائدة، إضافة إلى عطاء المفكرين والمثقفين والتكنوقراط الشرفاء من داخل وخارج البلاد. لذا سيكون من الخطل وصمُهُ بالتلفيقي أو التوفيقي، بل الأقرب إلى الدقة وصفه بالانتقائي العقلاني (أو الاصطفائي الانتخابي).
هذا النظام لن يكون ديمقراطيا أو رأسماليا أو اشتراكيا أو ليبراليا.. إلخ بالتعريفات القياسية المتعارف عليها، بل المقام الأرفع فيه للقيمة الوظيفية ولتحقيق الغاية مع الالتزام الأخلاقي (أي بعيدا عن الماكيافيللية، باستثناء العلاقات الخارجية)، وليس الإغراق والاستغراق في متاهات فكرية متقعرة، فالأصل في الأمور البساطة، وقيل قديما إن الفكرة الفلسفية التي لا يمكن شرحُها في خمس دقائق لا تستحق عناء التفكير والبحث!
هذا النظام سيطرح منظورا مختلفا، فهو مُبتكر يستند إلى الحكمة والإنصاف، ويُعلي من صوت العقل والمنطق، وينحاز ضد التخلف وكل معاول التجهيل والتجريف الاجتماعي، ليؤسس لدولة (أو ربما دول!) سِمتها العقل في السلم والحرب، والإنصاف في كل الأحوال، والعقلانية في شتى المواقف.
هذا النظام؛ عندما تتفاعل الجهود وتتلاقح العقول النيّرة على اجتراحه من علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع وشتى العلوم، سيكون هاديا للركب وحاديا للمسيرة، وإضافة غير مسبوقة إلى المعرفة الإنسانية، ليُثبت بالدليل الملموس أن العقل لا غرو سيهدم أصنام الأفكار المعطوبة والإلهة الزائفة، وأن البقاء في ناموس الشعوب للأصلح فكريا والأحذق علميا والأفطن سياسيا.
moutassim.elharith@gmail.com