كشفت وكالة أسوشيتد برس أن ما لا يقل عن خمسة مشاريع مجتمعية وشبابية مولتها الولايات المتحدة في قطاع غزة تعرضت للتدمير أو لأضرار، منذ بدء الحرب "على الأرجح على يد الجيش الإسرائيلي".

الوكالة ذكرت أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 7 مليارات دولار على المساعدات التنموية والإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ إنشاء مهمة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قبل عقود، بما في ذلك 270 مليون دولار منذ أنهى الرئيس الأميركي، جو بايدن، وقف التمويل الذي أقره سلفه، دونالد ترامب.

ولعقود، أرسلت الولايات المتحدة أيضًا أكثر من 3 مليارات دولار سنويًا لدعم الجيش الإسرائيلي، مع تعهد إدارة بايدن بأكثر من 14 مليار دولار في عام 2023.

وقبل أقل من عام من قيام حماس بشن هجومها في السابع من أكتوبر الماضي، والذي أدى إلى اندلاع الحرب الجديدة، شهد أحد أقدم وأكبر المجمعات الرياضية في الأراضي الفلسطينية عملية تجديد كان في أمس الحاجة إليها، والذي يضم ملاعب كرة سلة وكرة طائرة وتنس، وملعب لكرة القدم، ومضمار للجري، حيث بلغت كلفة ترقية المجمع 519 ألف دولار.

والآن -تقول الوكالة- يبدو أن سقف نادي غزة الرياضي قد دمر، كما تم سحق ملعبه تحت وطأة الدبابات الضخمة التي يمكن رؤيتها في صور الأقمار الصناعية التي نشرتها أسوشيتد برس.

ملعب غزة، في 31 أكتوبر ثم في 1 نوفمبر - أسوشيتد برس

إلى ذلك، قالت الوكالة إن الضربات الإسرائيلية في غزة تحاشت إلى حد كبير مشاريع البنية التحتية الكبرى التي تمولها الحكومة الأميركية، التي شاركت إحداثيات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وتفاصيل أخرى مع الجيش الإسرائيلي لسنوات، لكن مشاريع أخرى أتلفت بسبب الحرب.

ويأتي الهجوم الإسرائيلي ردا على هجوم شنته حماس في إسرائيل في السابع من أكتوبر وأدى إلى مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز العشرات كرهائن. 

وفي الوقت نفسه، يقول مسؤولو الصحة في غزة التي تديرها حماس إن أكثر من 20 ألف فلسطيني قتلوا، وفر حوالي 1.9 مليون من منازلهم جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية.

وقال هوارد سومكا، الذي شغل منصب مدير بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في غزة والضفة الغربية بين عامي 2006 و2010 "من المهم بالنسبة لنا أن نستمر في تقديم المساعدات الإنسانية والمساعدات التنموية، وعندما يأتي الجيش ويمحوها، نبدأ من جديد".

وقامت وكالة أسوشييتد برس بمراجعة العقود والمنح الأميركية في غزة وحددت أكثر من 30 مشروع بناء تم إنجازه أو تحسينه من قبل الوكالة الأميركية.

ووجدت مراجعة لصور الأقمار الصناعية والتحليلات التي أجرتها شركة ماكسار تكنولوجيز أنه في حين يبدو أن أكثر من عشرة مشاريع كبرى تدعمها الولايات المتحدة، بقيت سليمة، فقد لحقت أضرار بخمسة على الأقل. 

وتحققت وكالة أسوشييتد برس بشكل مستقل من تقييم ماكسار من خلال فحص صور الأقمار الصناعية الخاصة بها، بالإضافة إلى صور من أقمار صناعية منفصلة التقطتها شركة Planet Labs في الأسابيع الأخيرة.

"مأساة فظيعة"

لا يمكن تحديد السبب الدقيق للضرر الذي يظهر في الصور من خلال الصور وحدها، لكن في بعض الحالات، أكدت تقارير إخبارية ومصادر حكومية وقوع هجمات عسكرية إسرائيلية بالقرب من المشاريع التي تدعمها الولايات المتحدة في غزة.

وتلقي إسرائيل باللوم على حماس في الأضرار، قائلة إن الحركة تستخدم البنية التحتية المدنية في غزة كغطاء لشن هجمات وإخفاء مسلحيها وأسلحتها وبناء أنفاق تحت الأرض. 

وتقول أيضًا إن مئات من صواريخ حماس التي تم إطلاقها بشكل خاطئ سقطت داخل غزة.

ولم تتمكن وكالة الأسوشييتد برس من الوصول إلى المسؤولين الفلسطينيين في غزة بسبب الانقطاع المتكرر للاتصالات.

الرئيس التنفيذي ورئيس شركة أنيرا، وهي شركة مقاولات أميركية قامت ببناء العشرات من مشاريع البنية التحتية في غزة، بما في ذلك النادي الرياضي، وصف تدميرها بأنه "مأساة فظيعة".

وقال شون كارول "إن هذه الحرب تتسبب في خسائر فادحة، سواء في الأرواح البشرية أو البنية التحتية، وهي آثار ستظل حاضرة لعقود قادمة".

وفي عام 2011، ساهمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بمبلغ 138 ألف دولار للمساعدة في بناء المركز الثقافي العربي الأرثوذكسي، وهو مبنى مكون من طابقين مزود بمسرح وقاعة رقص وقاعة محاضرات.

 ويبدو أن صور الأقمار الصناعية التي التقطت في أكتوبر تظهر أضرارا جسيمة في المركز.

ويبدو أن مركزين مختلفين يخدمان الأطفال من ذوي الإعاقة قد تعرضا للضرر أو التدمير في الأيام الأخيرة، وفقًا لصور ماكسار بتاريخ 20 ديسمبر. 

ويعود المركز الأول لجمعية الحق في الحياة للأطفال المصابين بالتوحد ومتلازمة داون، والمركز الآخر تابع لجمعية في جباليا لدعم تأهيل المعاقين. 

تم بناء المركزين بتمويل أميركي بقيمة 28000 دولار و177000 دولار على التوالي.

وفي الوقت نفسه، نجت مكتبة جمعية الشبان المسيحية في غزة، التي تم تجديدها بتمويل أميركي قدره 89 ألف دولار، دون أن تصاب بأذى، في حين تم تسوية مبنى واحد على الأقل مجاور لها بالأرض بالكامل.

وتعرضت مدرسة راهبات الوردية، التي تخدم الأطفال المسلمين والمسيحيين، لبعض الأضرار في غارة جوية أخيرة. 

المركز الثقافي العربي الأرثوذكسي بغزة بين 28 أكتوبر و31 أكتوبر 2023

في عام 2022، قامت الولايات المتحدة بتخصيص مبلغ 495 ألف دولار لبناء فصول دراسية جديدة مزودة بألواح ذكية وتكييف هواء ومصعد وطابق جديد لمدرسة ثانوية.

وتُظهر صور القمر الصناعي ماكسار الحطام والأضرار المتناثرة في ساحة المدرسة، التي كانت تحتضن مئات الطلاب.

والمباني المدرسية نفسها كانت لا تزال قائمة حتى 22 نوفمبر، وكذلك غالبية المشاريع المهمة التي تمولها الولايات المتحدة في غزة، والبنية التحتية الحيوية في المنطقة الفقيرة حيث كانت مياه الشرب النظيفة نادرة حتى قبل الحرب الحالية - بما في ذلك محطة تحلية المياه بالقرب من غزة_، أنفقت الولايات المتحدة 16 مليون دولار لتوسيعها، إلى جانب خزانين للمياه ومرافق الضخ في البريج والمغازي، والتي بلغت تكلفتها مجتمعة حوالي 7 ملايين دولار.

وقال مسؤول أميركي، تحدث للوكالة شريطة عدم الكشف عن هويته، إن المشاركة الحالية للحكومة الأميركية مع إسرائيل تركز على حماية المدنيين، لكن التفاصيل حول مواقع البنية التحتية التي تمولها الولايات المتحدة متاحة بسهولة بسبب التنسيق الطويل والمستمر.

وقال ديف هاردن، الذي شغل منصب مدير بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من عام 2013 إلى عام 2016، إنه عمل "عن كثب" مع المسؤولين الإسرائيليين. وقال "أعطيهم الإحداثيات وأخبرهم ألا يضربوها".

وقال كريستوفر كراولي، أول مدير لبعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الضفة الغربية وغزة، إن مشاريع البنية التحتية، وخاصة المتعلقة بالحصول على المياه، هي أمر يمكن أن تتفق عليه الحكومتان الفلسطينية والإسرائيلية، وكانت الولايات المتحدة بمثابة جسر بينهما. 

وكانت الفكرة من إنشاء تلك البنى التحتية، هي المساعدة في إرساء الأساس لدولة فلسطينية مستقبلية إلى جانب إسرائيل.

في عام 1999، كان لدى مدير البعثة الجديد، لاري جاربر، خطط طموحة لبناء اقتصاد حيوي في غزة مع تعزيز السلام في المنطقة. 

كانت ستكون هناك أسواق للفراولة وصادرات الزهور ومحطة رئيسية لتحلية المياه ونظام للمياه. 

وفي الوقت نفسه، بدأ الولايات المتحدة، في دفع ما يقرب من 3 مليارات دولار سنويًا لإسرائيل لدعم قدراتها العسكرية.

وبعد أقل من عام، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وكانت هناك غارات جوية وعمليات برية بالدبابات والعربات المدرعة. 

وبعد وصول حماس إلى السلطة في غزة، عام 2007، تم تأجيل خطط مشروع كبير للمياه كانت ستموله الولايات المتحدة.

وتراجع دور الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لسنوات، حيث تعتبر الولايات المتحدة، حماس، منظمة إرهابية، وليس لها أي اتصال مباشر بها.

وخاضت إسرائيل وحماس خمس حروب ومناوشات عديدة منذ أواخر عام 2008.

وفي كل مرة كان لا بد من إعادة بناء ما دمرته الحرب، إذ كان الغرض من مهمة غزة والضفة الغربية، وفق أسوشيتد برس، هو المساعدة في استقرار المنطقة وتعزيز فرص الفلسطينيين،  في عيش أفضل، بدءًا من التوسط في اتفاقيات التجارة عبر الحدود إلى برامج التعليم ومشاريع البنية التحتية.

حرب جديدة.. "أعنف"

لكن حجم هذه الحرب العنيفة والمميتة بشكل خاص قد يؤثر على ما تستطيع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تحقيقه في المستقبل، وفق أسوشيتد برس. 

خرائط تكشف حجم الدمار في قطاع غزة تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية، المستمرة منذ أكثر من شهرين، في أضرار جسيمة في قطاع غزة، وخاصة في المنطقة الشمالية، وفق صحيفة واشنطن بوست، التي استندت لدراسة قدمها باحثان أميركيان.

ولا يتم بناء أي شيء في غزة دون موافقة إسرائيل، التي قد تكون مترددة في إعطاء الضوء الأخضر لمشاريع البنية التحتية الكبرى دون ضمانات أكيدة بعدم وصول أي إمدادات مفيدة للأسلحة إلى حماس.

في الصدد، قال بعض المديرين السابقين للوكالة إن أملهم في مستقبل غزة يتضاءل.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: الوکالة الأمیرکیة للتنمیة الدولیة مشاریع البنیة التحتیة صور الأقمار الصناعیة الولایات المتحدة أسوشیتد برس ألف دولار أکثر من التی تم فی غزة فی عام

إقرأ أيضاً:

إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟

نشر موقع " لو ديبلومات" الفرنسية تقريرا سلّط فيه الضوء على طبيعة القوة الحقيقية في الولايات المتحدة، حيث لا يستأثر الرئيس بصنع القرار بشكل مطلق بل تلعب المؤسسات الفيدرالية وخاصة البيروقراطية والإدارات الأمنية والعسكرية دورا أساسيا في توجيه الاستراتيجية الأمريكية.

وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السلطة الإمبريالية الأمريكية لا تكمن في البيت الأبيض - على عكس ما يُعتقد - حتى عندما يحظى بدعم أغلبية الكونغرس، بل الأجهزة الضخمة للإدارة الفيدرالية هي التي تحدد مسار الأمة مما يضمن الاستمرارية الاستراتيجية للهيمنة الأمريكية.

يُنظر إلى انتخاب الرئيس على أنه محطة مفصلية في المسار الإمبريالي، لكنه في الواقع لا يعدو كونه تغييرا في التمثيل والسرد السياسي أكثر من كونه تغييرا حقيقيًا في النهج، حسب التقرير.


وأشار الموقع إلى أن الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد دائمًا ما يثيران اهتمامًا كبيرًا لما يكتسيانه من أهمية في مسار القوة العظمى المهيمنة عالميًا. لكن في الواقع، يعد مدى تأثير الرئيس في الولايات المتحدة على السياسات العامة والمسار الاستراتيجي للبلاد مبالغًا فيه إلى حد كبير.

وقال الموقع إن أكبر جهة توظيف في العالم ليست إحدى الشركات متعددة الجنسيات الخاصة التي تعمل على نطاق عالمي مثل "وول مارت" أو "ماكدونالدز" أو "كوكاكولا"، وليست أيضًا جيش أحد البلدين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، الهند والصين، بل هي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي تضم ما يقارب ثلاثة ملايين موظّف. وهذا الرقم لا يشمل الموظفين "السريّين" أو العاملين في الشركات الخاصة التي تعتمد عليها الوزارة، مثل المتعاقدين.

تعد أجهزة المخابرات الأمريكية بدورها كيانا واسعا ومعقدا للغاية، حيث تتألف من سبع عشرة وكالة استخباراتية أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) التي غالبًا ما تختلف في رؤاها وتكتيكاتها وتتنافس بشدة فيما بينها. ونظرًا للشبكة الواسعة من المنظمات ومراكز الأبحاث والشركات المرتبطة بها، يصعب تحديد العدد الدقيق لإجمالي العاملين في هذا القطاع.

قدّمت صحيفة "واشنطن بوست" في سنة 2010 تقديرًا تقريبيًا يفيد بأن أكثر من 800 ألف شخص لديهم حق الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالأمن القومي. لكن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار العدد غير المحدد من العملاء المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين لا تظهر أسماؤهم في السجلات الرسمية بسبب عملهم كعملاء سريين أو متخفين.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنظومة الفيدرالية الأمريكية بكاملها، فإننا نتحدث عن أكثر من خمسة ملايين موظف مسجلين، من بينهم آلاف المسؤولين الحكوميين الذين يشغلون مناصب رفيعة يدعمهم عشرات الآلاف من الخبراء الفنيين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويتولّون إدارة وتحمل مسؤولية المناطق الجغرافية الموكلة إليهم حول العالم.

ووفقا للتقرير، فإنه بغض النظر عن هوية الشخص الذي يشغل البيت الأبيض أو الانتماء السياسي للأغلبية في الكونغرس، فإن الآلة الضخمة للإدارة الفيدرالية تضمن الاستمرارية الاستراتيجية للإمبراطورية غير الرسمية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على جميع بحار العالم والهيمنة على أوروبا. للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، من الضروري تمامًا منع ألمانيا من التقارب الجيوسياسي مع روسيا والصين وكذلك منع بكين من فرض سيطرتها على بحر الصين من خلال الاستيلاء على تايوان. على هذا النحو، لن يكون بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة مهما كان توجّهه السياسي أو أي أغلبية في الكونغرس التخلي عن هذه المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد لأن الأجهزة الفيدرالية لن تسمح بذلك.

لكن التواجد في الخطوط الأمامية للحفاظ على الهيمنة العالمية وتعزيزها هو مهمة شاقة للغاية، وليس فقط بسبب حالة الحرب الدائمة التي تفرضها. فكما كان الحال مع الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية اللتين سبقتاها، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهل عاملين أساسيين يحددان مكانتها كقوة مهيمنة: العجز التجاري الهائل والتدفق الهائل للمهاجرين. العجز التجاري هو أداة ضرورية لإبقاء الدول التابعة اقتصاديًا، حيث تصبح أميركا المستهلك الرئيسي لمنتجاتها مما يضمن استمرار تبعيتها. أما الهجرة الجماعية، فهي ضرورية للحفاظ على مجتمع ديناميكي وتنافسي للغاية، والأهم من ذلك، إبقاء السكان في حالة شبابية عدوانية وعنيفة.


لكن التضحيات الاقتصادية الناجمة عن إلغاء التصنيع والاستيعاب المتواصل للمهاجرين بأعداد متزايدة والاستنزاف الناتج عن الحروب المستمرة، كلها عوامل أدت إلى تنامي شعور بالضيق والسخط داخل بين صفوف العرق المهيمن، وهو شعور يميز جميع الإمبراطوريات الكبرى في مراحلها المتأخرة. في الولايات المتحدة، بدأت ملامح هذا الاستياء بالظهور خلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، ومنذ ذلك الحين استمرت في التصاعد بشكل ملحوظ.

أورد الموقع أن دونالد ترامب يُعد تجسيدًا بارزًا للعرق الجرماني المهيمن، وقد تمكن من التعبير عن استيائه بوضوح. ارتكزت حملته الانتخابية على شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وهي تستند إلى ثلاثة أهداف رئيسية لمعالجة هذا الاستياء: إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة واستعادة الهيمنة الاقتصادية، تقليص تدفق الهجرة للحد من التأثيرات الثقافية والديموغرافية، وإنهاء الحروب الخارجية وإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.

لكن هذه الرؤية غير واقعية إلى حد بعيد لأنها تعني انسحاب الولايات المتحدة من إمبراطوريتها غير الرسمية والتراجع إلى عزلة قومية قديمة الطراز. وهذا أمر لن يسمح به الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو ما أكده بوضوح خلال الولاية الأولى لترامب الذي اصطدم بصلابة "الدولة العميقة" التي حالت دون تنفيذ الكثير من سياساته.

لهذا تتمحور نوايا ترامب، رغم غموضها الكبير، حول تقليص نفوذ الإدارة الفيدرالية التي يصفها بـ "الدولة العميقة" - بمعنى سلبي - ورفع سلطة البيت الأبيض بدعم من الأغلبية في الكونغرس لإعادة تشكيل نهج أميركا الجيوسياسي نحو العزلة. لكن هذا الطموح يصطدم بعائق جوهري وهو استحالة تنفيذ نظام "التطهير الإداري" على عشرات الآلاف من البيروقراطيين المتخصصين، الذين يشكلون العمود الفقري للدولة. حتى لو نجح ترامب بمعجزة في هذا التحدي الضخم، فإن الهوية العميقة للأمة الأمريكية لن تتخلى أبدًا عن دورها كقوة عظمى مهيمنة عالميا.

وقال الموقع إن هنا تصطدم الدعاية الانتخابية بالواقع الجيوسياسي الصلب، حيث لا يمكن للرئيس بغض النظر عن سلطته ونفوذه أن يغيّر بسهولة الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية في العالم. لكن موظفي ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" ينتمون في الغالب إلى التيار المهيمن، مما يجعلهم شديدي الحساسية والاستجابة لمشاعر هذا التيار وتوجهاته. وقد شكّل الهجوم على مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات نقطة تحوّل كبيرة في المسار الإمبراطوري لواشنطن، حيث أن الأجهزة الحكومية لم تستهِن أبدًا بهذه الموجة الحادة من السخط التي اجتاحت العاصمة قادمة من عمق البلاد.

يوضح ذلك التغيير التاريخي في الموقف الذي بدأته الولايات المتحدة خلال إدارة باراك أوباما، والذي تسارع بشكل كبير في عهد جو بايدن، مباشرة بعد محاولة الانقلاب في 6 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد قلّصت أمريكا إلى الحد الأدنى تدخلها بل وحتى وجودها في المناطق التي تعتبرها أقل استراتيجية، معتمدة على وكلائها المحليين لإدارة تلك الساحات بدلاً منها.

يعد الشرق الأوسط، حسب التقرير، مثالًا بارزًا حيث عملت الأجهزة الحكومية الأمريكية بشكل مكثف على تحقيق تقارب بين "إسرائيل" والدول العربية السُّنية بهدف احتواء إيران، مما أدى في النهاية إلى توقيع "اتفاقيات إبراهيم". وبنفس النهج، جاء الانسحاب من أفغانستان، لكن بطريقة "غير منظمة" – إن صح التعبير – حيث لم يكن هناك توافق بشأن الانسحاب وتسليم البلاد في الوقت نفسه إلى حركة طالبان، بل شهدت الساحة انقسامًا واضحًا بين الوكالات الفيدرالية الأمريكية المختلفة.

وفي منطقة الساحل الإفريقي، أدت إعادة تموضع واشنطن إلى فشل فرنسا في الحفاظ على جميع مواقعها، مما تسبب في خسارة بعض معاقلها التقليدية أمام نفوذ روسيا. وفي الوقت ذاته، كثفت الولايات المتحدة سيطرتها على المناطق التي تعتبرها استراتيجية، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى.

وذكر الموقع أن فرض الرسوم الجمركية أو تبني سياسات تحفيزية للصناعة الأمريكية، التي بدأت في عهد "باراك أوباما"، واستمرت خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب وتسارعت تحت إدارة جو بايدن لم يكن يهدف إلى تحقيق هدف وهمي أو غير اجتماعي متمثل في إعادة التصنيع كجزء من مشروع إمبريالي، بل كان الهدف منه تحقيق هدف استراتيجي واضح يتمثل في تقليص الفوائض التجارية الضخمة لكل من الصين وألمانيا.


تعتمد هاتان الدولتان بشكل رئيسي على تلك الفوائض للحد من القوى الانفصالية الداخلية القوية، التي لولاها لتفككت وحدتهما الوطنية. في الوقت نفسه، تساعد هذه الفوائض في تعزيز طموحاتهما الجيو-اقتصادية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ومع ذلك، لا يمكن للتأثير الجانبي الناجم عن إعادة التصنيع الجزئي الناتج عن هذه التدابير إلا أن يخفف من حالة السخط الاقتصادي داخل الفئة السكانية المهيمنة في الولايات المتحدة.

أشار الموقع إلى أن بناء جدار حدودي مع المكسيك، الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ولا يزال مستمرًا منذ أربع سنوات، لا يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية بل يسعى لتحقيق هدف إمبريالي بحت يتمثل في تسهيل عملية استيعاب المهاجرين من خلال إنشاء حاجز مادي يقطع روابطهم الثقافية مع وطنهم الأم.

نتيجة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر والخطاب الافتتاحي الأول لدونالد ترامب يؤكّدان توجهًا هيكليًا مستمرًا منذ ما يقارب عشرين عامًا داخل المجتمع الأمريكي: وهو الشعور بالسخط داخل العرق المهيمن. فالولايات المتحدة القارية، التي يغلب عليها الأصل الجرماني والتي تتحمل العبء الثقيل للإمبراطورية، تشعر بالإحباط والغضب. إنها تحمل ضغينة تجاه السواحل و"مقاطعات" أوروبا الغربية - أو ما يُعرف بـ"القارة العجوز" - حيث تُعتبر هذه المناطق طفيليات تعيش على حسابها وتُصنف على أنها المستفيد الأكبر من "السلام الأمريكي" دون تقديم أي تضحيات ضرورية لحمايته. وقد تمكن الرئيس الجديد من استيعاب هذا الشعور بالغضب والسخط والتعبير عنه بمهارة، مما مكنه من تحقيق انتصار في المواجهة الانتخابية.

بعيدًا عن كونه نقطة تحول أو حتى بداية لعصر جيوسياسي جديد، فإن تولي رجل الأعمال النيويوركي الرئاسة في البيت الأبيض سيعزز الموقف الأمريكي الجديد الذي يتبناه الجهاز الفيدرالي منذ أواخر سنة 2010، لا سيما على مستوى السرد السياسي. سترتفع الرسوم الجمركية، خاصة تلك المفروضة على المنتجات الألمانية والصينية.

وبحسب التقرير، فإنه من المؤكد أن "الشركاء" الأوروبيين سيتم دفعهم لتحمل مسؤوليات أكبر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) للمساهمة في الدفاع عن "السلام الأمريكي" ضد خصومه. ومع أن نبرة الخطاب حول هذه القضايا تتغير، إذ أصبحت أقل ودية مقارنة بالحكومة السابقة، إلا أن الجوهر لا يزال كما هو.

مقالات مشابهة

  • وسط أزمة إنسانية عميقة.. «الأونروا» تخلى مقراتها فى القدس.. بعد سريان قرار إسرائيل بوقف التعامل مع الوكالة
  • الولايات المتحدة الأميركية تنفذ ضربات جوية في الصومال
  • هددوا الولايات المتحدة وحلفاءنا.. ترامب يعلن قتل إرهابيين في الصومال
  • حرب ترامب الجمركية تصيب السلع والشركات الأميركية
  • زي النهارده.. توقيع معاهدة سلام تورون التي أنهت الحرب البولندية الليتوانية التوتونية
  • إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟
  • ترامب يعلق على تقارير سحب القوات الأميركية من سوريا
  • أراض اشترتها الولايات المتحدة عبر تاريخها.. ماذا عن غرينلاند؟
  • العراق يعزي الولايات المتحدة في ضحايا حادث تحطم طائرتين
  • هذه هي الرسائل التي بعثت بها الولايات المتحدة لنتنياهو بشأن مراحل اتفاق غزة