لماذا انهارت الديمقراطية التمثيلية في تونس؟
تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT
ينطلق هذا المقال من ملاحظة عفوية لمآلات الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة في تونس بعد "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021. فرغم المسارات المتعرجة للانتقال الديمقراطي وهشاشة منجزه في جميع الملفات السياسية والقضائية والاقتصادية والثقافية، كان هناك شبه "وهم معمّم" حول "الاستثناء التونسي" وصعوبة انتكاسته مثلما حصل لأغلب ثورات الربيع العربي.
عندما أقدم الرئيس على اتخاذ إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، كان سنده الدستوري هو الفصل الثمانون من الدستور وحتمية تفعيل حالة الاستثناء بصورة "مؤقتة"؛ لإعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي وتجنيب البلاد "الخطر الداهم" الذي تنذر به حالة العطالة في عمل الحكومة، إضافةً إلى فشل "الائتلاف الحاكم في معالجة وباء كورونا والكساد الاقتصادي وحالة الاحتقان الشعبي التي قد تتحول إلى اقتتال بين المواطنين.
وإذا ما استحضرنا عمق الاستياء الشعبي من النخب المسيطرة على الدولة وعلى المجتمع المدني، فإننا نفهم لماذا كانت تلك "الحجج" كافية لتمرير الفصل 80 بصورة مختلفة جذريا عن منطوقه الصريح، ولماذا كما كانت كافية أيضا لتحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية جديدة؛ أساسها إلغاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وإنهاء الدور المركزي لأجسامها الوسيطة في إدارة الشأن العام وصياغة سياساته الكبرى في مختلف الحقول بصورة تشاركية.
إنّ نجاح الرئيس (ومن ورائه النواةُ الصلبة للحكم وحلفاؤها في "محور الثورات المضادة) في إنهاء "الاستثناء التونسي" لا يعود إلى قوة ذاتية فيه، أي لا يعود إلى شرعية شعبية ولا إلى مشروعية الإنجاز ولا إلى تبني عموم الشعب لمشروعه السياسي؛ بقدر ما يعود إلى "قابلية الارتكاس" في " مسار الانتقال الديمقراطي" وهشاشة الوعي الديمقراطي للنخب التي أدارته، بل تناقض وعي تلك النخب مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية من حيث هي قبول بالاختلاف الجذري واعتراف بالانقسام الاجتماعي وبمرجعية الإرادة الشعبية وعلوية الدستور.
ونحن هنا لا نتحدث -كما يفعل أغلب المتباكين على "الديمقراطية"- عن الحقل السياسي تخصيصا، بل نتحدث عن "الوعي اللا ديمقراطي" المهيمن على النخب في مختلف الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنقابية والمدنية. فنحن نذهب إلى أن السبب الجوهري وراء هشاشة "الديمقراطية التمثيلية" (أو الليبرالية) وتداعيها أمام "إجراءات الرئيس" يكمن في تناقض الدعوى مع الواقع أو المحصول.
ترجع المحدودية التفسيرية لمختلف الخطابات الواصفة للوضع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو 2021 إلى تركيزها على الحقل السياسي وإهمال باقي الحقول الأخرى. فالوعي السياسي هو مجرد تعبيرة من تعبيرات الوعي النخبوي الذي يخترق كافة المجالات، إننا أمام حقيقة جوهرية ذهل عنها أغلب المُتصدّين للشأن العام؛ سواء أكانوا من المسيّسن (أي الذين يصوغون خطابات عمومية هدفها الأساسي هو التغيير) أم كانوا من الباحثين (أي الذين يصوغون خطابا عمومية هدفها الأساسي هو بناء خطاب مطابق لموضوعه).
إن الخطابات السياسية -مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية- ما هي إلا خطابات مشتقة من خطاب كبير هو "الخطاب الديمقراطي" بالمعنى الليبرالي للكلمة. وهو خطاب تحتكره ما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" التي انبنت هويتها تاريخيا على أساس التناقض مع "الإسلاميين" ومع الهوية/ المقدس الجماعي (باعتباره تناقضا رئيسا)، أكثر مما انبنت على التناقض مع التبعية والتخلف أو مع منظومات الحكم الريعية-الجهوية-الزبونية المتعاقبة على بلاد "النمط المجتمعي التونسي" منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (باعتبار هذا التناقض تناقضا ثانويا).
بعد الثورة، كان الخوف الرئيس لما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" هو دخول فاعل سياسي قانوني جديد من خارج "القوى الديمقراطية" ألا وهو حركة النهضة. ولم يكن هذا الخوف محصورا في الحقل السياسي، بل كان خوفا عاما تمظهر في استمرارية منطق" مقاومة اختراق الدولة" تحت شعار محاربة التطرف والخوف من تغوّل النهضة. ولذلك ظلت أغلب النخب المهيمنة على الحقول الاجتماعية (كالعمل النقابي أو المدني والإعلام وغير ذلك) رافضة للتطبيع مع الإسلاميين-فما بالك بمساندتهم- بمن فيهم أولئك المتمتعين بالعفو التشريعي باعتبارهم ضحايا نظام المخلوع.
لقد كان المنطق الانقلابي في الحقل السياسي جزءا من منطق أعمّ يحاول أصحابه إفراغ "الانتقال الديمقراطي" من مضمونه، بحيث يضمنون استمرار هيمنتهم على مختلف الحقول الاجتماعية، أي يضمنون عدم حصول أي تغيير جذري في آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها فرديا وجهويا وأيديولوجيا، وكذلك يضمنون حرمان "النهضة" من ركائز السلطة، وما يعنيه ذلك من فقدانهم لامتيازاتهم المادية ووجاهتهم الاجتماعية الموروثة من عهد المخلوع.
خلال عشر سنوات، كانت الديمقراطية التمثيلية مجرد مجاز لا شيء تحته إلا حكم اللوبيات والجماعات الوظيفية المرتبطة بالنواة الصلبة للحكم، ولذلك كان من السهل على تلك النواة الصلبة إنهاء "الفسحة الديمقراطية" والحكم بلا واسطة، اللهم إلا تلك الواسطة التي وفّرها الرئيس ومشروعه السياسي القائم على إنهاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية (أي إنهاء الحاجة للنهضة بالقصد الأول وإنهاء الحاجة لباقي الأجسام الوسيطة بالتبعية).
لقد أدى الصراع الوجودي الذي أدارته "العائلة الديمقراطية" ضد النهضة إلى إنهاء الحاجة إليها هي نفسها، كما أدى منطق مقاومة مشروع "أخونة" الدولة والمجتمع إلى جعل أجهزة الدولة مجرد أداة في خدمة النظام الحاكم، بالإضافة إلى إجبار منظمات المجتمع المدني والنقابات والإعلام على التحول إلى أجهزة دعائية في خدمة الرئيس ومشروعه؛ إذا لم تُرد التحول إلى عدو "وجودي" للنظام مع ما يعنيه ذلك من تضييقات واستهداف مُمنهج.
لقد كان تهاوي الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة ضربا من الحتمية أو من النتيجة المنطقية لآفات تلك الديمقراطية ذاتها عندما تدار بوعي لا ديمقراطي، ولذلك لم يجد "تصحيح المسار" أية مقاومة جدية من أدعياء الديمقراطية قبل غيرهم. فإجراءات الرئيس كانت تحقيقا لحلم "انقلابي" لم يكن الكثير من "الديمقراطيين" يجدون أي حرج في إعلانه منذ الأشهر الأولى للثورة، ولكنّ ما فعله الرئيس (ومعه النواة الصلبة للحكم) كان خارج أفق انتظار أولئك "الديمقراطيين" الذين توهموا أنهم سيكونون شركاء له في إدارة البلاد بعد التخلص من حركة النهضة؛ سواء بمنطق الاستئصال الصلب أو بمنطق الاستئصال الناعم.
في التحليل الأخير، فإن ما فعله الرئيس ومشروعه المبشّر بـ"زمن سياسي جديد" (بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للحكم) هو وجه ومن وجوه "مكر التاريخ" بأدعياء الديمقراطية من جهة، وبسدنة "التوافق" من جهة أخرى. فلا إخراج النهضة من الحكم أوصل الديمقراطيين إلى السلطة أو دفع الرئيس إلى محاورتهم والاعتراف بهم كـ"أنداد" أو شركاء، ولا مهادنة منظومة الفساد والاستبداد وعدم تفكيكها جعل "التوافقيين" في مأمن من الاستراتيجية الانقلابية ومن الاستهداف الأمني-القضائي. وهو ما يطرح موضوع المراجعات أو النقد الذاتي باعتباره الغائب الأبرز في الفكر السياسي للنخب التونسية، سواء أكانت في المعارضة الراديكالية أو "المساندة النقدية".
ولا شك عندنا في أن المستفيد الأكبر من هذا الغياب هو النواة الصلبة للحكم (منظومة الاستعمار الداخلي)، وليس الرئيس الذي لا يُمثّل في نظرنا إلا لحظة من لحظات هيمنة تلك النواة على الحكم قبل الثورة وبعدها.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية تونس النهضة الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية قيس سعيد مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إنهاء الحاجة
إقرأ أيضاً:
صحم يهدد طموحات النهضة في إياب ربع نهائي أغلى الكؤوس
تتجه الأنظار مساء الغد نحو مباراتي إياب الدور ربع النهائي لمسابقة كأس جلالة السلطان لكرة القدم لحساب الموسم الرياضي الحالي ٢٠٢٤ / ٢٠٢٥ م، حيث يستقبل صحم ضيفه النهضة على أرضية المجمع الرياضي بصحار بحلول الساعة الخامسة والربع، قبل أن تتجدد مواجهة ديربي الجنوب بين الغريمين التقليديين النصر وظفار على أرضية مجمع السعادة الرياضي بصلالة عند الساعة الثامنة والربع مساء الغد .
ويتعين على صحم استنفار أقصى الجهود لقلب الطاولة على النهضة بعدما عاد بخفي حنين من مواجهة الذهاب التي جرت خارج قواعده بمجمع الرياضي بالبريمي، بل وتكبد سيناريوا قاتلا إذ استقبل مرماه الهدف الوحيد في المباراة بحلول الدقيقة الخامسة من الوقت المحتسب بدلا من ضائع بضربة رأسية متقنة من النجم الدولي أحمد الكعبي، أصاب من خلاله آمال أزرق الباطنة في مقتل ليخرج من اللقاء خالي الوفاض ويعود إلى دياره صفر اليدين جارا أذيال الخيبة.
ويعول صحم في لقاء الإياب على سلاحه الأبرز متمثلا في هدافه علي الهاشمي لعله يدل طريق مرمى الفريق الضيف ويتمكن من زيارة شباك الحارس الدولي إبراهيم المخيني، كما سيعول أيضا على فاعلية جماهيره وتأثيرهم البالغ في نثر سحر الإبداع والإلهام في المدرجات الزرقاء التي لطالما عرفت بشيم الوفاء والانتماء والإخلاص والتفاني لفريقها الذي يبلي البلاء الحسن في مسابقة دوري عمانتل لكرة القدم بدليل احتلاله المركز السادس في سلم جدول الترتيب العام لفرق الدوري برصيد ١٤ نقطة جمعها من ٤ انتصارات وتعادلين، في حين مني بستة هزائم، وأحرز ١٢ هدفا واستقبل ١٦ هدفا في ١٢ مباراة.
ويتمسك صحم بآمال وفرص الصعود لنصف نهائي أغلى الكؤوس خلال منافسات الموسم الكروي الحالي، متطلعا لحصد ثالث ألقابه في مسابقة الكأس الغالية بعدما ظفر بها في نسختين سابقتين وتحديدا موسمي ٢٠٠٩ / ٢٠١٠، و٢٠١٥ / ٢٠١٦ م.
من جهته يسعى وصيف بطل النسخة الماضية نادي النهضة لتأكيد تفوقه على صحم والعودة من مجمع الرياضي بصحار غانما ببطاقة التأهل الحاسمة لنصف نهائي أغلى الكؤوس، متطلعا لاستعادة اللقب وتزيين خزائنه به للمرة الثانية في تاريخه بعدما نجح في تدشين باكورة ألقابه في الموسم قبل الماضي ٢٠٢٢ / ٢٠٢٣م.
وخطا النهضة خطوة كبيرة نحو حجز تذكرة التأهل للدور نصف النهائي بعدما حسم مواجهة الذهاب على أرضه بهدف قاتل بصم عليه النجم الدولي أحمد الكعبي في الدقيقة الخامسة من الوقت المحتسب بدلا من ضائع، مما يمنحه أسبقية معنوية تقربه فعليا من اغتنام بطاقة التأهل.
نظريا وعلى الورق تبدو كفة النهضة أرجح في حجز بطاقة التأهل الحاسمة لنصف نهائي الكأس الغالية، نظرا للفوارق الجلية على صعيد القدرات والإمكانيات، لاسيما وأن النهضة يتمتع بجودة لاعبين خارقة حيث تعج صفوفه بنجوم دوليين متمرسين على غرار حارب السعدي وعبدالله فواز ومحمد مبارك الغافري وعاهد المشايخي وأحمد الكعبي وإبراهيم المخيني وغانم الحبشي وعبدالعزيز الشموسي وثاني الرشيدي، مما يجعله مرشحا فوق العادة لاقتناص بطاقة العبور عن جدارة واستحقاق.
النصر - ظفار
ستكون بطاقة التأهل حائرة وعلى المحك تماما بين قطبي ديربي الجنوب والغريمين الأزليين النصر وظفار عندما يتجدد فصل الصراع المحتدم بينهما مساء الغد على أرضية مجمع السعادة الرياضي بصلالة في إطار إياب الدور ربع النهائي لمسابقة كأس جلالة السلطان لكرة القدم لحساب الموسم الرياضي الحالي ٢٠٢٤ / ٢٠٢٥ م.
وكان النصر قد وضع قدما ونصف في المربع الذهبي لأغلى الكؤوس بعدما حسم نتيجة مواجهة ذهاب الدور ربع النهائي لصالحه بهدف نظيف حمل توقيع نجمه الدولي ملهم السنيدي، مما يمنحه أريحية نسبية وأسبقية معنوية على حساب غريمه التقليدي ظفار.
ويسعى النصر جديا لتجريد ظفار من لقبه، مستهدفا بدوره اقتناص بطاقة العبور لنصف نهائي الكأس الغالية، تمهيدا لاعتلاء منصة التتويج بصفته بطلا للمسابقة الأغلى للمرة السادسة في تاريخه بعدما انتزع تاج العرش في ٥ مناسبات سابقة وتحديدا في نسخ ١٩٩٥ و٢٠٠٠ و٢٠٠٢ وموسم ٢٠٠٥ / ٢٠٠٦، بالإضافة إلى موسم ٢٠١٧ / ٢٠١٨ م.
وتعي كتيبة المدرب الوطني الشاب أحمد بن سالم بيت سعيد صعوبة المأمورية في لقاء الإياب الذي سيطفو على صفيح ساخن مساء الغد، لاسيما وأن حامل اللقب لن يفرط بلقبه بهذه السهولة وسيسعى جاهدا للعودة من بعيد طمعا في خطف بطاقة التأهل الحاسمة ومواصلة رحلة البحث الناجحة عن تعزيز رقمه القياسي برصيد ١٢ لقبا.
وكان ظفار المتوج مؤخرا بلقب كأس السوبر العماني للمرة الخامسة في تاريخه على حساب نادي السيب بطل الدوري بثلاثة أهداف مقابل هدفين في المباراة التي جرت على أرضية المجمع الرياضي بالرستاق تحت قيادة المدرب الوطني مصبح بن هاشل الرشيدي قد وضع آماله في عنق الزجاجة بعدما خسر رهان مواجهة ذهاب الدور ربع النهائي بهدف ملهم السنيدي، ولكن حامل اللقب يؤمن بقدراته وإمكانياته في العودة بالنتيجة وقلب الطاولة على غريمه التقليدي النصر رأسا على عقب، مستهدفا مواصلة حملة الدفاع عن لقبه بنجاح، ومتطلعا في الوقت عينه لتعزيز الرقم القياسي لعدد مرات الفوز بالكأس الغالية والابتعاد به برصيد ١٢ لقبا بعدما توج بها في ١١ مناسبة سابقة وتحديدا في نسخ ١٩٧٦ و١٩٨٠ و١٩٨١ و١٩٩٠ و١٩٩٩ وموسم ٢٠٠٤ / ٢٠٠٥ وموسم ٢٠٠٦ / ٢٠٠٧، وموسم ٢٠١١ / ٢٠١٢، وموسم ٢٠١٨ / ٢٠١٩ وموسم ٢٠١٩ / ٢٠٢٠، علاوة على لقب الموسم المنصرم ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤م.
ويعول ظفار في مباراة الغد على المساندة والمؤازرة الجماهيرية الحاشدة التي سيحظى بها في مجمع السعادة الرياضي بصلالة، حيث جرت العادة بأن تكون جماهير ظفار هي الرقم الصعب الذي يمنح الفريق طاقة إيجابية ملهمة في مثل هذه الظروف الحالكة والمواقف العصيبة.