عربي21:
2024-07-06@17:32:53 GMT

لماذا انهارت الديمقراطية التمثيلية في تونس؟

تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT

ينطلق هذا المقال من ملاحظة عفوية لمآلات الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة في تونس بعد "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021. فرغم المسارات المتعرجة للانتقال الديمقراطي وهشاشة منجزه في جميع الملفات السياسية والقضائية والاقتصادية والثقافية، كان هناك شبه "وهم معمّم" حول "الاستثناء التونسي" وصعوبة انتكاسته مثلما حصل لأغلب ثورات الربيع العربي.

كما كان أغلب النقد الموجه لما قبل 25 تموز/ يوليو ينصبّ على التحذير من انحرافات الديمقراطية التمثيلية المتمثلة في تفشي "الفكر المتطرف" والارتهان للمال السياسي المشبوه، أو تدخل السفارات في صياغة القرار السيادي والتمويل الأجنبي وتأثيره في توجيه الرأي العام. ولم يكن من المفكّر فيه -حتى في السرديات الانقلابية الصلبة والناعمة- بناء شكل ديمقراطي بديل، كما هو الشأن مع "التأسيس الثوري الجديد" والديمقراطية القاعدية أو المباشرة.

عندما أقدم الرئيس على اتخاذ إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، كان سنده الدستوري هو الفصل الثمانون من الدستور وحتمية تفعيل حالة الاستثناء بصورة "مؤقتة"؛ لإعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي وتجنيب البلاد "الخطر الداهم" الذي تنذر به حالة العطالة في عمل الحكومة، إضافةً إلى فشل "الائتلاف الحاكم في معالجة وباء كورونا والكساد الاقتصادي وحالة الاحتقان الشعبي التي قد تتحول إلى اقتتال بين المواطنين.

وإذا ما استحضرنا عمق الاستياء الشعبي من النخب المسيطرة على الدولة وعلى المجتمع المدني، فإننا نفهم لماذا كانت تلك "الحجج" كافية لتمرير الفصل 80 بصورة مختلفة جذريا عن منطوقه الصريح، ولماذا كما كانت كافية أيضا لتحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية جديدة؛ أساسها إلغاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وإنهاء الدور المركزي لأجسامها الوسيطة في إدارة الشأن العام وصياغة سياساته الكبرى في مختلف الحقول بصورة تشاركية.

إنّ نجاح الرئيس (ومن ورائه النواةُ الصلبة للحكم وحلفاؤها في "محور الثورات المضادة) في إنهاء "الاستثناء التونسي" لا يعود إلى قوة ذاتية فيه، أي لا يعود إلى شرعية شعبية ولا إلى مشروعية الإنجاز ولا إلى تبني عموم الشعب لمشروعه السياسي؛ بقدر ما يعود إلى "قابلية الارتكاس" في " مسار الانتقال الديمقراطي" وهشاشة الوعي الديمقراطي للنخب التي أدارته، بل تناقض وعي تلك النخب مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية من حيث هي قبول بالاختلاف الجذري واعتراف بالانقسام الاجتماعي وبمرجعية الإرادة الشعبية وعلوية الدستور.

ونحن هنا لا نتحدث -كما يفعل أغلب المتباكين على "الديمقراطية"- عن الحقل السياسي تخصيصا، بل نتحدث عن "الوعي اللا ديمقراطي" المهيمن على النخب في مختلف الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنقابية والمدنية. فنحن نذهب إلى أن السبب الجوهري وراء هشاشة "الديمقراطية التمثيلية" (أو الليبرالية) وتداعيها أمام "إجراءات الرئيس" يكمن في تناقض الدعوى مع الواقع أو المحصول.

ترجع المحدودية التفسيرية لمختلف الخطابات الواصفة للوضع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو 2021 إلى تركيزها على الحقل السياسي وإهمال باقي الحقول الأخرى. فالوعي السياسي هو مجرد تعبيرة من تعبيرات الوعي النخبوي الذي يخترق كافة المجالات، إننا أمام حقيقة جوهرية ذهل عنها أغلب المُتصدّين للشأن العام؛ سواء أكانوا من المسيّسن (أي الذين يصوغون خطابات عمومية هدفها الأساسي هو التغيير) أم كانوا من الباحثين (أي الذين يصوغون خطابا عمومية هدفها الأساسي هو بناء خطاب مطابق لموضوعه).

إن الخطابات السياسية -مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية- ما هي إلا خطابات مشتقة من خطاب كبير هو "الخطاب الديمقراطي" بالمعنى الليبرالي للكلمة. وهو خطاب تحتكره ما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" التي انبنت هويتها تاريخيا على أساس التناقض مع "الإسلاميين" ومع الهوية/ المقدس الجماعي (باعتباره تناقضا رئيسا)، أكثر مما انبنت على التناقض مع التبعية والتخلف أو مع منظومات الحكم الريعية-الجهوية-الزبونية المتعاقبة على بلاد "النمط المجتمعي التونسي" منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (باعتبار هذا التناقض تناقضا ثانويا).

بعد الثورة، كان الخوف الرئيس لما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" هو دخول فاعل سياسي قانوني جديد من خارج "القوى الديمقراطية" ألا وهو حركة النهضة. ولم يكن هذا الخوف محصورا في الحقل السياسي، بل كان خوفا عاما تمظهر في استمرارية منطق" مقاومة اختراق الدولة" تحت شعار محاربة التطرف والخوف من تغوّل النهضة. ولذلك ظلت أغلب النخب المهيمنة على الحقول الاجتماعية (كالعمل النقابي أو المدني والإعلام وغير ذلك) رافضة للتطبيع مع الإسلاميين-فما بالك بمساندتهم- بمن فيهم أولئك المتمتعين بالعفو التشريعي باعتبارهم ضحايا نظام المخلوع.

لقد كان المنطق الانقلابي في الحقل السياسي جزءا من منطق أعمّ يحاول أصحابه إفراغ "الانتقال الديمقراطي" من مضمونه، بحيث يضمنون استمرار هيمنتهم على مختلف الحقول الاجتماعية، أي يضمنون عدم حصول أي تغيير جذري في آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها فرديا وجهويا وأيديولوجيا، وكذلك يضمنون حرمان "النهضة" من ركائز السلطة، وما يعنيه ذلك من فقدانهم لامتيازاتهم المادية ووجاهتهم الاجتماعية الموروثة من عهد المخلوع.

خلال عشر سنوات، كانت الديمقراطية التمثيلية مجرد مجاز لا شيء تحته إلا حكم اللوبيات والجماعات الوظيفية المرتبطة بالنواة الصلبة للحكم، ولذلك كان من السهل على تلك النواة الصلبة إنهاء "الفسحة الديمقراطية" والحكم بلا واسطة، اللهم إلا تلك الواسطة التي وفّرها الرئيس ومشروعه السياسي القائم على إنهاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية (أي إنهاء الحاجة للنهضة بالقصد الأول وإنهاء الحاجة لباقي الأجسام الوسيطة بالتبعية).

لقد أدى الصراع الوجودي الذي أدارته "العائلة الديمقراطية" ضد النهضة إلى إنهاء الحاجة إليها هي نفسها، كما أدى منطق مقاومة مشروع "أخونة" الدولة والمجتمع إلى جعل أجهزة الدولة مجرد أداة في خدمة النظام الحاكم، بالإضافة إلى إجبار منظمات المجتمع المدني والنقابات والإعلام على التحول إلى أجهزة دعائية في خدمة الرئيس ومشروعه؛ إذا لم تُرد التحول إلى عدو "وجودي" للنظام مع ما يعنيه ذلك من تضييقات واستهداف مُمنهج.

لقد كان تهاوي الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة ضربا من الحتمية أو من النتيجة المنطقية لآفات تلك الديمقراطية ذاتها عندما تدار بوعي لا ديمقراطي، ولذلك لم يجد "تصحيح المسار" أية مقاومة جدية من أدعياء الديمقراطية قبل غيرهم. فإجراءات الرئيس كانت تحقيقا لحلم "انقلابي" لم يكن الكثير من "الديمقراطيين" يجدون أي حرج في إعلانه منذ الأشهر الأولى للثورة، ولكنّ ما فعله الرئيس (ومعه النواة الصلبة للحكم) كان خارج أفق انتظار أولئك "الديمقراطيين" الذين توهموا أنهم سيكونون شركاء له في إدارة البلاد بعد التخلص من حركة النهضة؛ سواء بمنطق الاستئصال الصلب أو بمنطق الاستئصال الناعم.

في التحليل الأخير، فإن ما فعله الرئيس ومشروعه المبشّر بـ"زمن سياسي جديد" (بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للحكم) هو وجه ومن وجوه "مكر التاريخ" بأدعياء الديمقراطية من جهة، وبسدنة "التوافق" من جهة أخرى. فلا إخراج النهضة من الحكم أوصل الديمقراطيين إلى السلطة أو دفع الرئيس إلى محاورتهم والاعتراف بهم كـ"أنداد" أو شركاء، ولا مهادنة منظومة الفساد والاستبداد وعدم تفكيكها جعل "التوافقيين" في مأمن من الاستراتيجية الانقلابية ومن الاستهداف الأمني-القضائي. وهو ما يطرح موضوع المراجعات أو النقد الذاتي باعتباره الغائب الأبرز في الفكر السياسي للنخب التونسية، سواء أكانت في المعارضة الراديكالية أو "المساندة النقدية".

ولا شك عندنا في أن المستفيد الأكبر من هذا الغياب هو النواة الصلبة للحكم (منظومة الاستعمار الداخلي)، وليس الرئيس الذي لا يُمثّل في نظرنا إلا لحظة من لحظات هيمنة تلك النواة على الحكم قبل الثورة وبعدها.

twitter.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية تونس النهضة الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية قيس سعيد مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إنهاء الحاجة

إقرأ أيضاً:

أيُّ أفق للانتخابات الرئاسية في ظل التأسيس الجديد؟

بإصداره أمرا يدعو فيه التونسيين إلى الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، أنهى الرئيس قيس سعيد الجدل القائم حول إمكانية عدم إجرائها. ولكنّ هذا المعطى الإجرائي الذي كان في السابق من مشمولات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات -باعتبارها الطرفَ المسؤول دستوريا عن تحديد رزنامة الانتخابات وليس السلطة التنفيذية- لا يُنهي الجدلَ حول المناخ السياسي العام الذي ستُجرى فيه الانتخابات، خاصةَ مع الاستهداف الممنهج -في قضايا تآمر على أمن الدولة أو قضايا فساد وحق عام- لأغلب الشخصيات التي أعلنت عزمها الترشح للانتخابات أو لتلك الشخصيات التي يمكن أن تكون منافسا جديا للرئيس في حال ترشحها.

بصرف النظر عن التنقيحات التي طالت القوانين الانتخابية في شكل مراسيم رئاسية (المرسوم عدد 55 لسنة 2022)، وبصرف النظر أيضا عن تعديل القرار الترتيبي عدد 18 لسنة 2014 حتى يتلاءم مع مع الشروط الجديدة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية في الفصل 89 من دستور 2022، فإن للانتخابات الرئاسية رهانين أصليين يتوزعان بين السلطة الحالية وبين مجمل الشخصيات المعنية بالترشح، ويجعلان من إمكانية إجراء الانتخابات بصورة طبيعية أمرا مستبعدا.

فمن جهة السلطة، فإن إجراء الانتخابات يعني قبولها الاحتكام للإرادة الشعبية لتأكيد "التفويض الشعبي الأصلي" الذي حازته يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لتصحيح المسار بمحاربة الفساد السياسي والاقتصادي، أما من جهة المعارضة فإنها ترى في الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم والقطع مع تصحيح المسار -ومع فلسفته السياسية الرافضة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة- في إطار القانون وبمنطق التداول السلمي على السلطة.

إجراء الانتخابات يعني قبولها الاحتكام للإرادة الشعبية لتأكيد "التفويض الشعبي الأصلي" الذي حازته يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لتصحيح المسار بمحاربة الفساد السياسي والاقتصادي، أما من جهة المعارضة فإنها ترى في الانتخابات فرصةً لتغيير نظام الحكم والقطع مع تصحيح المسار -ومع فلسفته السياسية الرافضة للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة- في إطار القانون وبمنطق التداول السلمي على السلطة
إن التعمق في هذين الرهانين يجعلنا نقف على تناقضات جذرية تجعل من إمكانية التعايش أو التنافس الطبيعي بينهما في ظل "تصحيح المسار" أمرا أقرب إلى المحال، ذلك أنهما يتحركان معا بمنطق التنافي أو النفي المتبادل. فالرئيس الذي لم يقبل بوجود "رجل ثان" في نظامه ولم يعين ناطقا رسميا باسم رئاسة الجمهورية، ولم يجد من يستحق أن يكون مدير ديوانه بعد إقالة السيدة نادية عكاشة، لا يمكن أن يقبل بوجود منافس من خارج مشروعه. ولا يبدو أن منطق "الأمانة" و"التفويض الأصلي" و"الوعي المهدوي" وغير ذلك من المفاهيم التي تحكم خطابه السياسي؛ ستجعله يرى في مشروعه مجرد عرض من العروض الممكنة (أي غير الضرورية) في سوق الأفكار السياسية. أما من ينافسونه من مواقع مختلفة، فإنهم حتى عندما لا يعلنون نيتهم محاسبة النظام الحالي ومساءلة رموزه أو العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، فإنهم لا يُخفون تمايزهم عن الفلسفة السياسية للرئيس ورغبتهم في إنهاء فاصلة "تصحيح المسار" بسبب فشله السياسي والاقتصادي.

رغم إعلان "تصحيح المسار" أنه يكتسب شرعيته من تمثيل الإرادة الشعبية بصورة تقبل الضبط الإحصائي -أي بصورة يمكن التأكد منها بمنطق الأرقام- ورغم أنّ هذا المعطى كان حقيقيا في المرحلة الأولى التي أعقبت إعلان "حالة الاستثناء" (أي مع تحويل الاستثناء إلى مرحلة انتقالية للتأسيس الجديد، خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021)، فإنه لم يتراجع عن خارطة طريقه ولم يُعدّلها بناء على تغير اتجاهات المزاج الشعبي في كل المناسبات التي عبر فيها عن نفسه (الاستشارة الوطنية حول التعليم، الاستفتاء حول تغيير الدستور، الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الأقاليم والجهات). فنسبة المشاركة المتدنية والعزوف الشعبي -بما يعنيه ذلك من عدم اقتناع أو رفض- لم تكن بالنسبة لرأس النظام إلا فرصة لتعميق الانقسام الاجتماعي وشيطنة خصومه لا محاورتهم.

ونحن هنا أمام منطق سياسي جديد لا يؤسس شرعيته على الأغلبية الشعبية (صناديق الاقتراع)، بل على "الأقليّة الصادقة" (الايمان بمشروع الرئيس). ولا شك عندنا في البنية الدينية العميقة لهذا الخطاب السياسي، ولكنها بنية دينية مهجّنة بحكم جمعها بين وعي "المهدي" أو "المجدّد" في المخيال الإسلامي (سفينة النجاة أو حبل الله الممدود بين الأرض والسماء)، وبين وعي "القائد الأممي" أو "الثوري" في المرجعية اليسارية، باعتبار "المجالسية" أو الديمقراطية المباشرة أحد تفريعات المدرسة الماركسية. فخصوصية الرئيس -أي مركز قوته/ ضعفه في الآن نفسه، وسبب صعوبة تصنيفه بالمعايير الحديثة في التصنيف السياسي تكمن أساسا في جمعه بين مرجعيتين مختلفتين وقدرته -إلى حد الآن- على إدارة التناقضات النظرية بينهما.

لو أردنا التعمق أكثر في رهانات الانتخابات الرئاسية، فإننا نرى أنها تطرح قضية "الصوابية السياسية" (Political correctness) لكن مع إجراء بعض التعديلات التي يفرضها السياق المحلي على معاني هذا المفهوم في سياقاته التداولية الأصلية. فإذا كانت الصوابية السياسية تعني في الأصل "اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع"، فإن "تصحيح المسار" قد أعاد هندسة هذا المفهوم لكن دون القطع مع أصوله فيما يسمى بعد 25 تموز/ يوليو 2021 بـ"العشرية السوداء". ذلك أن الجملة التي كانت تعتبر صائبة سياسيا عند أغلب النخب "الديمقراطية" (رغم أنها تستهدف جزءا معتبرا من المواطنين على أساس الهوية) هي تلك الجملة التي تشيطن حركة النهضة أو تدعو إلى إقصائها من مركز الحقل السياسي بتعديل الدستور أو حتى بالانقلاب عليه. كما أن الصوابية السياسية كانت مرتبطة بالتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة وتضخيم القضايا الهوياتية، والتقاطع الموضوعي مع محور الثورات المضادة.

واقعيا، لم يكن تصحيح المسار إلا دفعا بتلك "الصوابية السياسية" إلى نهاياتها المنطقية غير المقصودة أو غير المتوقعة عند أصحابها. فالرئيس جعل الصواب سياسيا هو إنهاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية كلها؛ بديمقراطيتها التمثيلية ونظامها البرلماني المعدّل ودستورها ونظامها الانتخابي وأجسامها الوسيطة (بما فيها تلك الأحزاب والمنظمات النقابية والمدنية والهيئات الدستورية وغير الدستورية التي ساندته بحكم محدودية قدراتها الاستشرافية وحساباتها الانتهازية الضيقة). ولذلك فإن ما يفعله الرئيس من تضييق على معارضيه أو من بحث عن توفير أفضل شروط للفوز بالانتخابات هو أمر منطقي وذو "صوابية سياسية" حين نحتكم إلى الفلسفة السياسية لتصحيح المسار، بل حين نحتكم إلى التاريخ السياسي الانتهازي وغير المبدئي للأغلب الأعم من منافسيه المحتملين.

إن الإشكال الأعظم الذي يواجه منافسي الرئيس هو أنهم يتحركون بمنطق متناقض ذاتيا: نقد المقدمات والقبول بالنتائج. وقد يعترض علينا معترض بأن ترشحهم هو أمر يرتبط بـ"الواقعية السياسية" التي خفّضت سقف تحركاتهم من إسقاط النظام بالمنطق الاحتجاجي إلى محاولة تغييره عبر العملية الانتخابية (أي من داخل النظام وبشروطه). ولكنّ هذا الاعتراض مردود لسببين: السبب الأول هو أن المشاركة تعني الاعتراف بشرعية هذا النظام، كما تعني الاعتراف ضمنيا بتوفر شروط المنافسة النزيهة على الأقل في حدها الأدنى، وهو ما يجعل من أي اعتراض على النتائج أو تشكيك فيها من قبيل اللغو السياسي؛ ثانيا، إن العجز عن تقديم مرشح جامع لكل أطياف المعارضة هو أمر لا يرتبط بالتضييقات التي يسلّطها النظام على معارضيه أو على الشخصيات التي أعلنت عزمها الترشح. فأزمة المعارضة مردودة أساسا إلى الانقسامات الداخلية بين أطيافها الأساسية، وهي انقسامات تجعل من أغلب المترشحين (حتى لو قبلتهم هيئة الانتخابات، بل حتى لو جرت الانتخابات في ظل الشفافية وتحت رقابة قبة محلية ودولية نزيهة) غير قادرين على استمالة الناخبين بصورة جدية قد تهدد حظوظ الرئيس في الفوز.

في ظل التوازنات السياسية الحالية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة رئاسية ثانية. ورغم أن الانتخابات ستجرى في ظل منطق "التفويض" أو "الوكالة" التي لا تقبل السحب (بحكم طبيعة المشروع السياسي للرئيس)، فإن المترشحين لمنافسة الرئيس لم يستوعبوا بعدُ هذا الأمر
في ظل التوازنات السياسية الحالية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد يتجه إلى الفوز بعهدة رئاسية ثانية. ورغم أن الانتخابات ستجرى في ظل منطق "التفويض" أو "الوكالة" التي لا تقبل السحب (بحكم طبيعة المشروع السياسي للرئيس)، فإن المترشحين لمنافسة الرئيس لم يستوعبوا بعدُ هذا الأمر. ولذلك فإننا لسنا أمام "واقعية سياسية" بل أمام مغامرات سياسية لا يبدو أن أصحابها محكومين بمنطق الواقع بقدر ما هم محكومون بمنطق الرغبة. فكيف يمكن أن يتصور هؤلاء تخلي الرئيس عن "أمانته" أو عن "رسالته" أو عن "التفويض الأصلي" والقبول بأن يتنازل عن السلطة لأطراف هم عنده -بلا استثناء- من المتآمرين أو الفاسدين أو الطامعين في امتيازات الحكم؟ وكيف يمكن لمن يعتبر نفسه صاحب فكر سياسي كوني جديد أن يسمح لأصحاب الأفكار السياسية البالية (أي من يتحركون بمنطق الديمقراطية التمثيلية) بالعودة إلى مركز الحقل السياسي بعد أن انتهت الحاجة إلى أحزابهم وأفكارهم في زمن "الديمقراطية المباشرة"؟ بل كيف يمكن لشخصيات لا مشروع لها إلا العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 أن يطمعوا في الحصول على دعم شعبي واسع؛ والحال أن أغلبهم كان مساهما في إفشال الانتقال الديمقراطي وشيطنة الأحزاب والبرلمان ورفض التعددية وتسفيه الإرادة الشعبية وتغذية صراع الهويات وما صاحبها من عنف رمزي ومادي؟

إنها أسئلة قد لا تكون الإجابة عنها من أولويات المترشحين المحتملين لمنافسة "المترشح" قيس سعيد، ولكنهم سيرون الجواب عيانا بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، وكل آت قريب.

x.com/adel_arabi21

مقالات مشابهة

  • تونس.. سعيد يحذر من “محاولات ضرب استقرار” البلاد قبل الرئاسيات
  • أيُّ أفق للانتخابات الرئاسية في ظل التأسيس الجديد؟
  • تفاصيل لقاء قيادة حماس مع الديمقراطية في الدوحة
  • تونس تعلن عن قبول المرشحين للرئاسة اعتبارا من 29 يوليو الحالي
  • القيادة تهنئ الرئيس الجزائري بذكرى استقلال بلاده
  • كيف يبدو المشهد السياسي في تونس بعد تحديد موعد الانتخابات الرئاسية؟
  • سمو أمير البلاد يهنئ الرئيس الجزائري بذكرى استقلال بلاده
  • 5 عجائب طبيعية.. اختفت
  • ماذا بعد تحديد موعد الانتخابات الرئاسية في تونس؟
  • تونس.. 6 أكتوبر موعد إجراء الانتخابات الرئاسية