لماذا انهارت الديمقراطية التمثيلية في تونس؟
تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT
ينطلق هذا المقال من ملاحظة عفوية لمآلات الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة في تونس بعد "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021. فرغم المسارات المتعرجة للانتقال الديمقراطي وهشاشة منجزه في جميع الملفات السياسية والقضائية والاقتصادية والثقافية، كان هناك شبه "وهم معمّم" حول "الاستثناء التونسي" وصعوبة انتكاسته مثلما حصل لأغلب ثورات الربيع العربي.
عندما أقدم الرئيس على اتخاذ إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، كان سنده الدستوري هو الفصل الثمانون من الدستور وحتمية تفعيل حالة الاستثناء بصورة "مؤقتة"؛ لإعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي وتجنيب البلاد "الخطر الداهم" الذي تنذر به حالة العطالة في عمل الحكومة، إضافةً إلى فشل "الائتلاف الحاكم في معالجة وباء كورونا والكساد الاقتصادي وحالة الاحتقان الشعبي التي قد تتحول إلى اقتتال بين المواطنين.
وإذا ما استحضرنا عمق الاستياء الشعبي من النخب المسيطرة على الدولة وعلى المجتمع المدني، فإننا نفهم لماذا كانت تلك "الحجج" كافية لتمرير الفصل 80 بصورة مختلفة جذريا عن منطوقه الصريح، ولماذا كما كانت كافية أيضا لتحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تؤسس لجمهورية جديدة؛ أساسها إلغاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وإنهاء الدور المركزي لأجسامها الوسيطة في إدارة الشأن العام وصياغة سياساته الكبرى في مختلف الحقول بصورة تشاركية.
إنّ نجاح الرئيس (ومن ورائه النواةُ الصلبة للحكم وحلفاؤها في "محور الثورات المضادة) في إنهاء "الاستثناء التونسي" لا يعود إلى قوة ذاتية فيه، أي لا يعود إلى شرعية شعبية ولا إلى مشروعية الإنجاز ولا إلى تبني عموم الشعب لمشروعه السياسي؛ بقدر ما يعود إلى "قابلية الارتكاس" في " مسار الانتقال الديمقراطي" وهشاشة الوعي الديمقراطي للنخب التي أدارته، بل تناقض وعي تلك النخب مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية من حيث هي قبول بالاختلاف الجذري واعتراف بالانقسام الاجتماعي وبمرجعية الإرادة الشعبية وعلوية الدستور.
ونحن هنا لا نتحدث -كما يفعل أغلب المتباكين على "الديمقراطية"- عن الحقل السياسي تخصيصا، بل نتحدث عن "الوعي اللا ديمقراطي" المهيمن على النخب في مختلف الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنقابية والمدنية. فنحن نذهب إلى أن السبب الجوهري وراء هشاشة "الديمقراطية التمثيلية" (أو الليبرالية) وتداعيها أمام "إجراءات الرئيس" يكمن في تناقض الدعوى مع الواقع أو المحصول.
ترجع المحدودية التفسيرية لمختلف الخطابات الواصفة للوضع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو 2021 إلى تركيزها على الحقل السياسي وإهمال باقي الحقول الأخرى. فالوعي السياسي هو مجرد تعبيرة من تعبيرات الوعي النخبوي الذي يخترق كافة المجالات، إننا أمام حقيقة جوهرية ذهل عنها أغلب المُتصدّين للشأن العام؛ سواء أكانوا من المسيّسن (أي الذين يصوغون خطابات عمومية هدفها الأساسي هو التغيير) أم كانوا من الباحثين (أي الذين يصوغون خطابا عمومية هدفها الأساسي هو بناء خطاب مطابق لموضوعه).
إن الخطابات السياسية -مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية- ما هي إلا خطابات مشتقة من خطاب كبير هو "الخطاب الديمقراطي" بالمعنى الليبرالي للكلمة. وهو خطاب تحتكره ما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" التي انبنت هويتها تاريخيا على أساس التناقض مع "الإسلاميين" ومع الهوية/ المقدس الجماعي (باعتباره تناقضا رئيسا)، أكثر مما انبنت على التناقض مع التبعية والتخلف أو مع منظومات الحكم الريعية-الجهوية-الزبونية المتعاقبة على بلاد "النمط المجتمعي التونسي" منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (باعتبار هذا التناقض تناقضا ثانويا).
بعد الثورة، كان الخوف الرئيس لما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" هو دخول فاعل سياسي قانوني جديد من خارج "القوى الديمقراطية" ألا وهو حركة النهضة. ولم يكن هذا الخوف محصورا في الحقل السياسي، بل كان خوفا عاما تمظهر في استمرارية منطق" مقاومة اختراق الدولة" تحت شعار محاربة التطرف والخوف من تغوّل النهضة. ولذلك ظلت أغلب النخب المهيمنة على الحقول الاجتماعية (كالعمل النقابي أو المدني والإعلام وغير ذلك) رافضة للتطبيع مع الإسلاميين-فما بالك بمساندتهم- بمن فيهم أولئك المتمتعين بالعفو التشريعي باعتبارهم ضحايا نظام المخلوع.
لقد كان المنطق الانقلابي في الحقل السياسي جزءا من منطق أعمّ يحاول أصحابه إفراغ "الانتقال الديمقراطي" من مضمونه، بحيث يضمنون استمرار هيمنتهم على مختلف الحقول الاجتماعية، أي يضمنون عدم حصول أي تغيير جذري في آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها فرديا وجهويا وأيديولوجيا، وكذلك يضمنون حرمان "النهضة" من ركائز السلطة، وما يعنيه ذلك من فقدانهم لامتيازاتهم المادية ووجاهتهم الاجتماعية الموروثة من عهد المخلوع.
خلال عشر سنوات، كانت الديمقراطية التمثيلية مجرد مجاز لا شيء تحته إلا حكم اللوبيات والجماعات الوظيفية المرتبطة بالنواة الصلبة للحكم، ولذلك كان من السهل على تلك النواة الصلبة إنهاء "الفسحة الديمقراطية" والحكم بلا واسطة، اللهم إلا تلك الواسطة التي وفّرها الرئيس ومشروعه السياسي القائم على إنهاء الحاجة للديمقراطية التمثيلية (أي إنهاء الحاجة للنهضة بالقصد الأول وإنهاء الحاجة لباقي الأجسام الوسيطة بالتبعية).
لقد أدى الصراع الوجودي الذي أدارته "العائلة الديمقراطية" ضد النهضة إلى إنهاء الحاجة إليها هي نفسها، كما أدى منطق مقاومة مشروع "أخونة" الدولة والمجتمع إلى جعل أجهزة الدولة مجرد أداة في خدمة النظام الحاكم، بالإضافة إلى إجبار منظمات المجتمع المدني والنقابات والإعلام على التحول إلى أجهزة دعائية في خدمة الرئيس ومشروعه؛ إذا لم تُرد التحول إلى عدو "وجودي" للنظام مع ما يعنيه ذلك من تضييقات واستهداف مُمنهج.
لقد كان تهاوي الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة ضربا من الحتمية أو من النتيجة المنطقية لآفات تلك الديمقراطية ذاتها عندما تدار بوعي لا ديمقراطي، ولذلك لم يجد "تصحيح المسار" أية مقاومة جدية من أدعياء الديمقراطية قبل غيرهم. فإجراءات الرئيس كانت تحقيقا لحلم "انقلابي" لم يكن الكثير من "الديمقراطيين" يجدون أي حرج في إعلانه منذ الأشهر الأولى للثورة، ولكنّ ما فعله الرئيس (ومعه النواة الصلبة للحكم) كان خارج أفق انتظار أولئك "الديمقراطيين" الذين توهموا أنهم سيكونون شركاء له في إدارة البلاد بعد التخلص من حركة النهضة؛ سواء بمنطق الاستئصال الصلب أو بمنطق الاستئصال الناعم.
في التحليل الأخير، فإن ما فعله الرئيس ومشروعه المبشّر بـ"زمن سياسي جديد" (بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للحكم) هو وجه ومن وجوه "مكر التاريخ" بأدعياء الديمقراطية من جهة، وبسدنة "التوافق" من جهة أخرى. فلا إخراج النهضة من الحكم أوصل الديمقراطيين إلى السلطة أو دفع الرئيس إلى محاورتهم والاعتراف بهم كـ"أنداد" أو شركاء، ولا مهادنة منظومة الفساد والاستبداد وعدم تفكيكها جعل "التوافقيين" في مأمن من الاستراتيجية الانقلابية ومن الاستهداف الأمني-القضائي. وهو ما يطرح موضوع المراجعات أو النقد الذاتي باعتباره الغائب الأبرز في الفكر السياسي للنخب التونسية، سواء أكانت في المعارضة الراديكالية أو "المساندة النقدية".
ولا شك عندنا في أن المستفيد الأكبر من هذا الغياب هو النواة الصلبة للحكم (منظومة الاستعمار الداخلي)، وليس الرئيس الذي لا يُمثّل في نظرنا إلا لحظة من لحظات هيمنة تلك النواة على الحكم قبل الثورة وبعدها.
twitter.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الديمقراطية تونس النهضة الإنقلاب تونس النهضة الديمقراطية قيس سعيد مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إنهاء الحاجة
إقرأ أيضاً:
الرهانات الخاطئة على فشل الإسلام السياسي
منذ نشوء وصعود الإسلام السياسي في المجال العربي الإسلامي تعرض إلى حملة مادية ورمزية عنيفة منسقة وممنهجة من القمع والاحتواء، وخضعت الحركات الإسلامية على مدى عقود إلى عمليات نزع شرعية قاسية من الاستئصال والاستبعاد، وخضع حقل دراسات الإسلام السياسي إلى مقاربة استشراقية وثقافوية وأمنية غير تفهمية؛ بهدف تشويه وتسفيه خياراته الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية، وجرى حبسه في سجن المقاربة الجوهرانية الماهوية، وحُشر في سياق هوية متطرفة عنيفة على يد خبراء مزعومين وموظفين مخلصين لأجندة الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والسلطوية العربية؛ بقصد إخضاع حركات الإسلام السياسي وتطويعه وفرض الهيمنة والسيطرة على أفكاره وممارساته.
منذ صدور كتاب الباحث الفرنسي أوليفييه روا "فشل الإسلام السياسي" في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، باتت مقولة "فشل الإسلام السياسي" وأفوله ونهايته ثيمة راسخة في التعاطي مع الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وهي نبوءة سياسية رغبوية لا تستند إلى أدنى درجات المعرفة العلمية، فقد أخقفت في كافة مراحل صعود الإسلام السياسي. فلم تفشل الحركات الإسلامية قي أي اختبار ديمقراطي حقيقي، وتعرضت لعمليات قمع واستئصال عنيقة وقاسية من خلال أجهزة الدولة الاستبدادية القمعية العسكرية والقانونية. ففي كل مرة حصلت فيها حركات الإسلام السياسي على ثقة الشارع بانتخابات ديمقراطية نزيهة تم قمعها بعنف عسكري وقانوني، وبدعم ومباركة من المركزية الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي كانت حركات الإسلام السياسي رغم عمليات القمع والاحتواء تعود أقوى من السابق، وشكلت محطة الانتفاضات العربية مختبرا لإخفاق نبوءات الفشل والأفول. وفي زمن "طوفان الأقصى" برهن الإسلام السياسي عن استحالة إزاحته وإعلان موته، فقد برهنت حركة حماس عن وهم الصهيونية بالقضاء عليها، وفي غفلة عن التحولات الجيوبوليتيكية أصبحت سوريا في قبضة الإسلام السياسي وتخلصت من حكم استبدادي عربي وحشي، وكانت حركة طالبان قد أحكمت قبضتها على أفغانستان قبل ذلك ودحرت الولايات المتحدة وواجهضت الحلم الإمبريالي.
تكشف التحولات العميقة التي عصفت في بنية النظام الدولي عن بوادر هزيمة استراتيجية للثلاثي الإمبريالي والصهيوني والاستبدادي في ثلاث مناطق جيوسياسية مركزية (أفغانستان وفلسطين وسوريا) عن طريق الإسلام السياسي، على اختلاف توجهاته الأيديولوجية، وهو ما دفع بثلاثي القهر العالمي إلى استخدم العنف المفرط للحيلولة دون تحقيق نصر كامل للإسلام السياسي
تكشف التحولات العميقة التي عصفت في بنية النظام الدولي عن بوادر هزيمة استراتيجية للثلاثي الإمبريالي والصهيوني والاستبدادي في ثلاث مناطق جيوسياسية مركزية (أفغانستان وفلسطين وسوريا) عن طريق الإسلام السياسي، على اختلاف توجهاته الأيديولوجية، وهو ما دفع بثلاثي القهر العالمي إلى استخدم العنف المفرط للحيلولة دون تحقيق نصر كامل للإسلام السياسي، وهو ما يتزامن مع صعود منظورات دول الحضارة وبروز التعددية القطبية، حيث يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار. وشكلت حرب الإبادة في غزة مختبرا لثلاثي القهر ونهاية سردية الحضارة والبربرية، فبدلا من الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، انتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة أحادي ضد كل البدائل المتعددة.
إن العداء للإسلام السياسي يعبر عن حالة الهلع والفوبيا من عودة منظورات دول الحضارة التي ترتكز على الهوية الحضارية، والالتزام بالرموز الثقافية الموروثة من أجيال وأجيال من الأجداد، والمتجذرة في هوية الشعوب الذاتية، إذ يشير مصطلح الإسلام السياسي إلى الأفكار والحركات التي تسعى لتأسيس كينونة تناهض المنظومة الإمبريالية والحركة الصهيونية والأنظمة الاستبدادية.
وتهدف حركات الإسلام السياسي على المدى المنظور والبعيد إلى إقامة "نظامٍ إسلامي" يتمثّل في دولة تُحكَم بالشريعة وتفرض القوانين الأخلاقية الخاصة بها في المجتمعات الإسلامية، وما حصل في العالم العربي من إخفاق مؤقت لهذه الحركات هو فشل لنوع من نضالات الإسلام السياسي؛ حين تخلى عن أهدافه النهائية واندمج في إطار دولة سلطوية استبدادية تتناقض في أبسط تعريفاتها مع مفاهيم الحكم الإسلامي الجيد.
وبهذا فإن فشل الإسلام السياسي هو فشل تكتيكي في إطار حدود اللعبة السلطوية المحسوبة دون ديمقراطية حق، فالحرب الشاملة على حركات الإسلام السياسي هي نتاج حقد وكراهية متأصلة خشية ظهور كينونة مسلمة مخِلة بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة. وإن ظهور كثير من الأفعال السياسية باسم الإسلام يمكن وصفها بطريقة مفيدة باعتبارها الإسلام السياسي. وقد تمّ وسم ظهور الإسلام السياسي بتطوّرين: إزاحة الغرب عن المركز، والمحاولة المتصاعدة في شدّتها لإيقاف تلك الإزاحة عن المركز عبر إعادة تقرير تفوّق البيض.
يبدو أن الخوف من عودة حركات الإسلام السياسي كفاعل في المجال السياسي العربي منطقيا عقب عملية "طوفان الأقصى" المباغتة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، داخل المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، وكانت حركة طالبان قبل ذلك بعام قد فرضت واقعا مختلفا في أفغانستان وهزمت الولايات المتحدة. وقد برهنت "حماس" على قدرة الإسلام السياسي على المخاطرة والمغامرة في ظل انسداد أفق الحل السياسي العادل، وأن الاستقرار المبني على جبروت القهر وغطرسة القوة مجرد وهم لا يحقق الأمن، ولا يتمتع بالشرعية والمشروعية. وسرعان ما أطاحت هيئة تحرير الشام بعد عام من عملية "طوفان الأقصى" بنظام استبدادي عربي وحشي.
فعملية "طوفان الأقصى" عصفت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي وعقيدة الردع الاستعمارية، وهزت أركان النظام الدولي المبني على الهيمنة الأمريكية الأحادية، وأصبح النظام الاستبدادي العربي ما بعد استعماري في حالة شك وفقدان الثقة بمستقبله، وسرعان ما صدرت تحذيرات عالمية وإقليمية ومحلية واسعة من خطر صعود حركات الإسلام السياسي في المنطقة، والترهيب من موجة جهادية عالمية جديدة تهدد الاستقرار العالمي والإقليمي.
إن حالة الرعب التي دبت في أوصال النظام الاستبدادي المبني على القهر من موجة ثالثة لصعود حركات الإسلام السياسي تقوم على الخشية من تشكّل نموذج جديد على شاكلة "حماس"، فلا جدال في أن حركة "حماس" ترتبط تاريخيا وأيديولوجيا بحركات الإسلام السياسي، لكنها تختلف عن الحركات الإسلامية الأخرى بخصوصية العمل في نطاق حكم استعماري. وقد تطورت "حماس" من حركة إحيائية دعوية إصلاحية إلى حركة مقاومة إسلامية عسكرية، وهي تجمع بين العمل الديني الإصلاحي الدعوي والاشتغال السياسي والمدني والعسكري. وهي حركة مقاومة وطنية إسلامية سياسية جهادية تحصر نطاق عملها العسكري بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتؤمن بنهج إصلاحي تدريجي في تطبيق المبادئ الإسلامية والحكم، ولذلك تمتعت "حماس" بحكم صلاتها التاريخية والأيديولوجية بالإخوان المسلمين؛ بالدعم والتأييد من كافة حركات الإسلام السياسي المنبثقة من الإخوان.
يتأسس الخوف من ظهور نمط جديد من حركات الإسلام السياسي من الخشية من نجاح حركة "حماس" في فرض نفسها وعدم القدرة على هزيمتها وتجاوزها في أي حل مستقبلي للقضية الفلسطينية، وهو ما يؤذن بتدشين نموذج إرشادي جديد وملهم لحركات الإسلام السياسي التي فشلت في خلق جاذبية كافية لإحداث اختراق في النظام الاستبدادي العربي الما بعد استعماري. فالنموذج الجديد الذي تقدمه "حماس" يجمع بين التقاليد الخطابية الإسلامية والتأويلات الواقعية المجسدة، إذ لم تتخل حماس عن هويتها الدينية الإسلامية، وإنما أعادت تعريفها هويتها نتيجة تطور نظرتها العالمية المتغيرة، ولم تستبدل معجمها الديني الإسلامي وحقلها الدلالي، وإنما أضافت إليه مفردات من المعجم القومي الحداثي، لتوسع مجال الخطاب إلى مجال تداولي أشمل، وهو ما فشلت فيه حركات الإسلام السياسي في اختبارات عدة.
في زمن الاستقرار في ظل الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 أصبح العداء للإسلام السياسي بضاعة رائجة في ظل عولمة "الإسلاموفوبيا" صناعة إمبريالية غربية رائجة، وبات مصطلح الإرهاب يكافئ دين الإسلام، وبعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي أعيد تشكيل النظام الاستبدادي العربي باستبعاد أي شكل من عملية تسيس الإسلام، والانتقال إلى إدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة.
وقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" في لحظة تاريخية شهدت تراجعا قسريا لدور الحركات الإسلامية على اختلاف أوجهها وتوجهاتها، عقب الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، وفي حقبة تاريخية بائسة تماهى فيها الخطاب الاستبدادي العربي مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، حيث تناسى خطاب القهر الثلاثي أسباب العنف الإسرائيلي في قطاع غزة الذي حوله الاحتلال إلى معتقل وسحن كبير. وقد تجاهل الثلاثي الإمبريالي الغربي والاستعماري الصهيوني والاستبدادي العربي الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يستند إلى الاحتلال والإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، كما تناسى المجتمع الدولي حقيقة شرعية المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار وطبيعتها كحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئا ممكنا، بل واجبا يقوم على حق الدفاع عن النفس، بينما حشرت حركات الإسلام السياسي عموما وحركات المقاومة خصوصا في خانة "الإرهاب".
نظرية الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية باتت ترتكز إلى دعم الأنظمة السلطوية، ولم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأنا ثانويا داخليا من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي
فقد أصبح الوهم القائل بأن القضية الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا. وقد عززت مسارات التطبيع مع الدول العربية السلطوية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، حيث تماهت الخطابات الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية مع أسطورة "الإرهاب الإسلامي"، وخرافة الإسلام السياسي كمهدد للاستقرار.
لقد تنامى الوهم بالقضاء على الإسلام السياسي بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، حيث تشكّلت تصورات دولية وإقليمية جديدة حول دور الحركات الإسلامية في تحقيق الاستقرار، فقد تبدلت النظرة التقليدية التي طالما ربطت عدم الاستقرار الداخلي بالأنظمة الاستبدادية وغياب الديمقراطية، وهشاشة الاستقرار الإقليمي بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتحولت المقاربة الدولية والإقليمية بالنظر إلى جماعات الإسلام السياسي باعتبارها أحد أهم عوامل عدم الاستقرار.
فنظرية الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية باتت ترتكز إلى دعم الأنظمة السلطوية، ولم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأنا ثانويا داخليا من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي.
وهكذا أُسدل الستار على نظريات إدماج الإسلاميين في الحكم، وضرورة اشتمال الاعتدال في السلطة، وانتهت مقولات الاعتدال وجدار الوقاية، وغدت الحركات الإسلامية تتقلب بين تعريفها بين كونها حزاما ناقلا للتطرف والعنف، أو اعتبارها حركات عنيفة إرهابية، وتبلورت عقيدة دولية جديدة حول ماهية الاستقرار ومكوناته في نظام سلطوي في الشرق الأوسط، وأصبح وجود إسرائيل مشروطا بوجود أنظمة استبدادية عربية تقمع الإرادة الحرة للشعوب، وغدت الوظيفة المقدسة للاستبدادية العربية العمل كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية.
فالعلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.
قبل عملية "طوفان الأقصى" تبدلت المنطقة وتحولت إلى واحة استبدادية في ظل الهيمنة الأمريكية، وظهر مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط عقب اكتمال إعادة بناء الاستبدادية العربية، بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة، وبرزت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار في نظام سلطوي في المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية، إذ لم يعد ينظر إلى الاستبداد كتهديد وعقبة تحول دون الاستقرار، بل أصبحت مطلبا ضروريا للاستقرار، ولم يعد يُشار إلى وجود الاستعمار الإسرائيلي كمهدد للاستقرار، وتبدلت تعريفات الصديق والعدو، فاختُزلت مهددات الاستقرار بوجود الإسلام السياسي على اختلاف توجهاته السياسية؛ الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والاستبدادية العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها الدينية السياسية على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية متماهية مع الرؤية الإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في بناء التصورات الأساسية حول المنطقة، وأصبحت تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول تعريف الاستقرار وماهية الصديق والعدو.
الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى" ومنع انبعاثه والقضاء على "حماس"، هدف مشترك للأنظمة الاستبدادية العربية والإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية، فظهور كينونة مسلمة مقاومة يخل بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة
وبلغت الكراهية والعدوانية تجاه الحركات الإسلامية في المنطقة أوجها بعد الانقلاب على "الربيع العربي"، وهو ما تجلى في بناء استراتيجية تقوم على التخلص من الإسلاميين محليا، وتسليم قيادة المنطقة إقليميا للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، ومحو وإزالة وتصفية القضية الفلسطينية، من خلال نسج تحالفات مع الأنظمة العربية الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية، أسفرت عن توقيع اتفاقات السلام "الإبراهيمية"، وبناء تحالفات عسكرية مشتركة، من خلال استراتيجية أمريكية غربية طموحة تسعى إلى إدماج المستعمرة الاستيطانية اليهودية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك تمّ اختزاله بمقولة "الإرهاب" الإسلامي، والذي بات يكافئ مصطلح "الإسلام السياسي".
خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" التي أظهرت قوة ونفوذ حركات الإسلام السياسي التي ترى في الإسلام دين وسياسة، تعاملت الأنظمة الاستبدادية العربية بقسوة مع نمط الإسلاميين المسيسين باستخدام القوة العسكرية أو العنف القانوني أو مزيج بين المقاربتين، ولجأت الأنظمة الاستبدادية المحافظة إلى مزيح من الاحتواء والإخضاع، وساد الاعتقاد لدى معظم الخبراء والباحثين بنهاية رؤى الإسلام السياسي وبروز نمط جديد من التدين، يستند إلى ظهور تغيرات في الممارسة الدينية من التعبئة السياسية من أجل الخلاص المجتمعي، وإلى تحول الإسلام إلى نهج غير مُسيس وشيوع نمط من التدين يقوم على سعي شخصي فرداني روحاني، حيث فُسّر تراجع الإسلام السياسي بسبب رفض المجتمعات لأطروحات ونهج الإسلام السياسي بعد الإخفاق في إيحاد حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون الالتفات إلى أن انحسار الإسلاميين جاء بسبب الانقلابات العسكرية المسلحة واستخدام العنف المادي والقانوني، وتشكيل تحالفات عسكرية دولية واسعة للقضاء على المنظمات الجهادية العالمية.
خلاصة القول أن الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى" ومنع انبعاثه والقضاء على "حماس"، هدف مشترك للأنظمة الاستبدادية العربية والإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية، فظهور كينونة مسلمة مقاومة يخل بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث الفلسفة. وإن ظهور كثير من الأفعال السياسية باسم الإسلام يمكن وصفها بطريقة مفيدة باعتباره الإسلام السياسي، وقد تمّ وسم ظهور الإسلام السياسي بتطوّرين: إزاحة الغرب عن المركز، والمحاولة المتصاعدة في شدّتها لإيقاف تلك الإزاحة عن المركز من خلال إعادة تقرير تفوّق العرقية البيضاء والعرقية اليهودية.
فالتحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي يمكن مقاربته من خلال النظر إليه باعتباره إطارا مفككا للاستعمارية الصهيونية والغربية على الصعيدين الإبستمولوجي والاستراتيجي، فالحركات الإسلامية تتوافر في جوهرها على أجندة تؤسس لكينونة مناهضة لسياسات ومصالح ومشاريع الغرب الإمبريالي، فقد نشأت كرد فعل على الاجتياح الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي الذي تزامن مع نشوء الحركة الصهيونية وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعلى وقع صدمة انهيار وسقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية).
وقد تطور الإسلام السياسي كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة ما بعد الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانية)، وبهذا أصبحت أهداف وغايات الحركات الإسلامية مناهضة للدكتاتورية والإمبريالية والصهيونية، من أجل استعادة "الخلافة" كرمز للهوية السياسية الدينية الإسلامية.
x.com/hasanabuhanya