عربي21:
2024-11-22@16:19:35 GMT

حروب إسرائيل على غزة منذ عام 1948

تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT

لا تكل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من الدفاع عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني من خلال استخدام التعويذة المبتذلة التي تنادي بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ففي آب/ أغسطس 2022، قصفت آلة القتل الإسرائيلية الفلسطينيين في غزة على مدار ثلاثة أيام، مما أسفر عن مقتل 49 شخصا، من بينهم 17 طفلا.

وكان رد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المذبحة هو الإعلان بشكل قاطع عن دعمهما لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" والتعبير عن الأسف الخافت الصوت على قتل المدنيين الفلسطينيين.

ورغم أن تلك كانت المذبحة الكبرى الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة قبل حرب الإبادة الجماعية الحالية، فإنها لم تكن الأولى بكل تأكيد. فلكي نؤرخ لحروب إسرائيل على غزة وشعبها، ينبغي أن نعود إلى عام 1951، عندما بدأت إسرائيل بالإغارة على قطاع غزة الذي طردت إليه مئات الآلاف من الفلسطينيين بين نهاية عام 1947 وصيف عام 1950، عندما طردت مَن تبقى من الفلسطينيين البالغ عددهم 2500 فلسطيني من مجدل عسقلان، البلدة فلسطينية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقد قام الجيش الإسرائيلي بتحميل فلسطينيي مجدل عسقلان (المعروفة بمستوطنة "عشقلون" اليهودية اليوم) على شاحنات وطردهم إلى غزة.

غم أن تلك كانت المذبحة الكبرى الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة قبل حرب الإبادة الجماعية الحالية، فإنها لم تكن الأولى بكل تأكيد. فلكي نؤرخ لحروب إسرائيل على غزة وشعبها، ينبغي أن نعود إلى عام 1951، عندما بدأت إسرائيل بالإغارة على قطاع غزة الذي طردت إليه مئات الآلاف من الفلسطينيين
كما قامت إسرائيل بطرد 7000 فلسطيني بدوي إلى مصر خلال تلك الفترة وحتى عام 1955. وفي تشرين الأول /أكتوبر 1951، أغار الإسرائيليون على غزة وقتلوا "العشرات" من الفلسطينيين والمصريين، وهدموا "عشرات المنازل" وفجّروا الآبار، لردع محاولات الفلسطينيين المهجّرين من العودة إلى ديارهم عبر الحدود الدولية الجديدة التي أقامتها المستعمرة-الاستيطانية اليهودية.

وفي وقت سابق من آب/ أغسطس 1949، اعتقل الجنود الإسرائيليون لاجئَيْن فلسطينيَيْن (رجل وامرأة) حاولا العودة إلى وطنهما. فقتلوا الرجل، وتناوب 22 جنديا على اغتصاب المرأة قبل قتلها. وفي آذار/ مارس 1950، اعتقل الجنود الإسرائيليون فتاتين فلسطينيتين وصبيا عادوا من غزة عبر الحدود الجديدة، فقتلوا الصبي واغتصب الجنود الفتاتين ثم قتلوهما.

وقد كان اغتصاب الجنود ورجال الشرطة الإسرائيليين للاجئات فلسطينيات أثناء محاولتهن العودة إلى ديارهن أمرا شائعا في تلك الفترة، ولم يكن أمرا جديدا نظرا لمدى انتشار اغتصاب الصهاينة للنساء الفلسطينيات خلال نكبة 1948، أي قبل ذلك بعامين. فعلى سبيل المثال، في آب/ أغسطس 1950، اغتصب أربعة من رجال الشرطة الإسرائيلية لاجئة فلسطينية كانت تقطف الفاكهة من بستان عائلتها عبر حدود الضفة الغربية.

وقد استمرت الغارات الإسرائيلية على غزة في عام 1952، وبلغت ذروتها في مذبحة مخيم البريج للاجئين في آب/ أغسطس 1953، عندما قتلت الوحدة العسكرية الإسرائيلية رقم 101 ما لا يقل عن 20 لاجئا فلسطينيا، من بينهم سبع نساء وخمسة أطفال، عن طريق إلقاء القنابل عبر نوافذ أكواخ اللاجئين بينما كانوا نائمين، وأطلقت النار على الفارين فأصيب العشرات. وتشير مصادر أخرى إلى أن العدد النهائي للفلسطينيين الذين قتلوا في هذا الهجوم الإسرائيلي لا يقل عن 50 فلسطينيا. لم يذكر المراقبون الأجانب في تلك الفترة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بل وصفوا المذبحة بأنها "حادثة مروعة من القتل الجماعي المتعمد".

وفي العام نفسه، ذبح الإسرائيليون 70 مدنيا فلسطينيا في قرية قبية بالضفة الغربية، وهو ما دفع حتى جريدة "البريد الوطني اليهودي" الصادرة في مدينة إنديانابوليس والموالية لإسرائيل بمقارنة مذبحة قبية بالمذبحة التي ارتكبها النازيون في مدينة ليديسي في تشكوسلوفاكيا إبان الحرب العالمية الثانية. وفي شباط/ فبراير 1955، أغار الإسرائيليون على معسكر للجيش المصري في غزة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 36 جنديا مصريا بالإضافة إلى مدنيَيْن فلسطينيَيْن، أحدهما طفل.

وحتى ذلك الحين، كانت السلطات المصرية تعمل على استرضاء الإسرائيليين من خلال حراسة الحدود ومنع "التسلل" الفلسطيني، ولكن بعد الغارة على غزة، انتفض الفلسطينيون ضد السلطات المصرية مطالبين بأسلحة للدفاع عن أنفسهم من الغارات الإسرائيلية المتواصلة. ونتيجة غضبه من الوحشية الإسرائيلية وعدوانيتها وتحت ضغط اللاجئين الفلسطينيين، استجاب الرئيس جمال عبد الناصر للمطلب الفلسطيني. وقامت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين بالانتقام من إسرائيل بمداهمة المستعمرة-الاستيطانية الغاصبة في آب/ أغسطس 1955 والتسلل إلى مسافة تصل إلى 27 ميلا داخل حدودها، ونصبوا كمائن للجنود وزرعوا الألغام وقاموا بمهاجمة المركبات والمباني، مما أسفر عن مقتل خمسة جنود وعشرة مدنيين.

وحتى لا يظن أحد أن الحكومة الإسرائيلية العنصرية اليهودية الحالية هي أول من استحضر قصة "العماليق" التوراتية لتوفير تبرير ديني لحرب الإبادة الجماعية الحالية ضد الفلسطينيين، كما فعل بنيامين نتنياهو مؤخرا، فقد كان في الواقع رئيس الوزراء العلماني ديفيد بن غوريون هو أول من استخدم هذا التشبيه قبل سبعة عقود. فبينما كان عبد الناصر يستعد لصد الغزو الإسرائيلي المتوقع في عام 1956، أعلن بن غوريون أن "جنود العماليق" قد شرعوا في إعادة تسليح أنفسهم من أجل "تدمير دولة إسرائيل وشعب إسرائيل".

وقد سبق كل هذه الأحداث الغزو الإسرائيلي لغزة ومصر في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1956. وعندما بدأت إسرائيل باجتياحها لغزة، قصف الإسرائيليون مدينة خان يونس في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956 من الجو، مما أسفر عن مقتل العشرات من المدنيين قبل أن تدخل الدبابات الإسرائيلية المدينة يوم 3 تشرين الثاني/ نوفمبر. وقد قامت قوات الاحتلال باعتقال المقاومين وإعدامهم ميدانيا أو في منازلهم. وفي تلك الأثناء، وفي مخيم اللاجئين المجاور قام الإسرائيليون بجمع جميع الرجال والفتيان فوق سن 15 عاما في ساحة البلدة وشرعوا في إطلاق النار عليهم، مما أسفر عن مقتل ما بين 300 و500 شخص، الغالبية العظمى منهم من المدنيين ونصفهم من لاجئي عام 1948. وقامت إسرائيل بعد تلك المذابح باحتلال غزة وشبه جزيرة سيناء حتى تم إجبارها على الانسحاب من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في شهر آذار/ مارس 1957.

في الأسابيع القليلة الماضية، فقد شملت المجازر الإسرائيلية المتواصلة في خان يونس، وهي ثاني أكبر مدينة في غزة (والتي أطلقت عليها إسرائيل اسم "منطقة قتال خطيرة" بعد أن كانت بمثابة منطقة آمنة لمليون فلسطيني كانوا قد فروا إليها من شمال غزة)،
أما في الأسابيع القليلة الماضية، فقد شملت المجازر الإسرائيلية المتواصلة في خان يونس، وهي ثاني أكبر مدينة في غزة (والتي أطلقت عليها إسرائيل اسم "منطقة قتال خطيرة" بعد أن كانت بمثابة منطقة آمنة لمليون فلسطيني كانوا قد فروا إليها من شمال غزة)، ذبح 30 مدنيا كانوا يحتمون بمدرسة من القصف الإسرائيلي الوحشي. فالمذبحة المستمرة والتي قتلت فيها إسرائيل عشرات الآلاف منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر تجعل المجازر الإسرائيلية الوحشية في عام 1956 تبدو إنسانية ورحيمة بالمقارنة.

وقد غزت إسرائيل قطاع غزة واحتلته مرة أخرى في عام 1967، وقامت بطرد 75 ألف فلسطيني من القطاع، ومنعت 50 ألف آخرين (كانوا يعملون أو يدرسون أو مسافرين خارج القطاع عندما غزته إسرائيل) من العودة إلى ديارهم. وقد صادرت إسرائيل 60 في المئة من أراضي الفلسطينيين وجميع مصادر المياه، التي خُصص معظمها للاستخدام الحصري للمستوطنين اليهود الذين كانوا يحصلون على 18 ضعف كمية المياه المتاحة للسكان الأصليين الفلسطينيين. وقد خُصص لكل مستوطن من اليهود 85 ضعف مساحة الأراضي (المسروقة) التي خُصصت لأصحاب الأرض الفلسطينيين. وأخضعت إسرائيل كافة السكان

الفلسطينيين لاحتلال عسكري عنصري، دمرت خلاله البنية التحتية الاقتصادية للقطاع حتى عام 2005.

ومنذ إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي حول غزة في أيلول/ سبتمبر 2005 واحتجازها لمليونين ونصف مليون فلسطيني في معسكر الاعتقال الذي حوّلت قطاع غزة إليه، شن الإسرائيليون عددا من حملات القصف ضد المدنيين الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية المحتجزين داخل معسكر الاعتقال هذا، بما في ذلك في الأعوام 2006 و2008-2009 و2012 و2014 و2021، قتلت خلالها آلاف المدنيين.

وبما أن النصر الوحيد الذي حققه الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو ذبح الآلاف من المدنيين، وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد أكثر من مليون فلسطيني، ناهيك عن تدمير المنازل والمباني السكنية والمستشفيات والمدارس والمكتبات والمباني البلدية والكنائس والمساجد، فقد فقدت إسرائيل سمعتها عن جاهزيتها العسكرية في المستقبل المنظور. ومع تزايد التفاصيل التي تتسرب حول قيامها بقتل مدنييها وتدمير منازلهم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فسوف تمر فترة طويلة قبل أن تتمكن إسرائيل من استعادة بعض من الجاذبية العسكرية غير المستحقة التي كانت تتمتع بها في الغرب وبين حلفائها العرب في السابق.

بما أن النصر الوحيد الذي حققه الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو ذبح الآلاف من المدنيين، وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد أكثر من مليون فلسطيني، ناهيك عن تدمير المنازل والمباني السكنية والمستشفيات والمدارس والمكتبات والمباني البلدية والكنائس والمساجد، فقد فقدت إسرائيل سمعتها عن جاهزيتها العسكرية في المستقبل المنظور
لكن إحدى المفارقات الأكثر إثارة للاهتمام في ظل الحرب الإسرائيلية الحالية هي أنه في حين بدأت الإمبراطورية الأمريكية وأذنابها، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، في إعادة تسليح إسرائيل منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر دون توقف حتى تتمكن المستعمرة-الاستيطانية من مواصلة حرب الإبادة الجماعية، فإن المقاومة الفلسطينية التي لم تصلها أية أسلحة جديدة منذ ذلك التاريخ هي من تواصل تحقيق انتصارات عسكرية ضد الغزاة الإسرائيليين القساة الذين يمارسون الإبادة الجماعية. لم يكن الأمريكيون هم الطرف الرئيس في هذه الحرب ضد هذا الشعب المستعمَر والجريح فحسب، بل ذهب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، إلى أبعد من ذلك أيضا من خلال ربطه الولايات المتحدة بإسرائيل لدرجة أنه أشار إلى الفلسطينيين على أنهم "العدو". فقد ذكر سوليفان أنه "ناقش الشروط والتوقيت المناسب لإسرائيل لإنهاء المرحلة الحالية من عملياتها مع القادة الإسرائيليين". لكنه رفض تحديد إطار زمني، قائلا إن أيا منهما لا يريد "إرسال برقية للعدو حول الخطة".

فإذا كان أمريكيون مؤيدون لإسرائيل قد شبهوا مذبحة قبية عام 1953 بالمذبحة النازية في ليديس، وكتب كاتب العمود الإسرائيلي الأشكنازي الشهير يهوشوا رادلر فيلدمان، المعروف بالاسم المستعار "الحاخام بنيامين"، عن المذبحة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون في قرية كفر قاسم داخل إسرائيل في عام 1956 والتي راح ضحيتها 50 فلسطينيا من "مواطني إسرائيل": "إننا قريبا سنصبح مثل النازيين ومرتكبي المذابح"، فإنه يشير اليوم كل من المسؤولين الإسرائيليين والمتحدثين باسم المقاومة الفلسطينية إلى بعضهم البعض بصفة "نازيين".

ولكن إذا كان المسؤولون الفلسطينيون في المقاومة يشيرون إلى الحكومة الإسرائيلية وجيشها على أنهم نازيون وفاشيون، فإن المسؤولين الإسرائيليين يشيرون إلى الشعب الفلسطيني ككل على أنهم "نازيون". ونظرا للخطاب العنصري البغيض الذي تستخدمه إسرائيل الرسمية بشأن الفلسطينيين باعتبارهم "حيوانات" و"دون البشر"، والقوة غير العادية لآلة القتل الإسرائيلية العشوائية، والنطاق الفلكي لفظائع الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، فإن مدى ملاءمة أو عدم ملاءمة هذا التشبيه هو أمر متروك للمراقبين. ولكن الحقيقة الساطعة أنه وعلى الرغم من أن الحجم المهول للفظائع الإسرائيلية في غزة لم يسبق له مثيل، إلا أن طبيعة هذه الجرائم غير الإنسانية تبقى جزءا لا يتجزأ من حلقات الحرب المستمرة التي تشنها إسرائيل بدعم لا محدود من حلفائها الأمريكيين وأتباعهم على الشعب الفلسطيني منذ عام 1948.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسرائيل الفلسطيني غزة المذابح إسرائيل فلسطين غزة مذابح مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حرب الإبادة الجماعیة الجیش الإسرائیلی الولایات المتحدة من الفلسطینیین تشرین الأول من المدنیین إسرائیل فی فلسطینی من العودة إلى الدفاع عن ن فلسطینی الآلاف من قطاع غزة على غزة فی عام فی غزة

إقرأ أيضاً:

هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا

لم يعد اليمين الأكثر تطرفًا في إسرائيل، يبدي أي قدرٍ من الحياء أو التحسب والحذر، وهو يبوح بما يختزنه في عقله الأسود، من مخططات ومشاريع، تكاد تطال مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتمسّ بالعمق، أمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة أراضيها ووحدة شعوبها.

آخر الصيحات التي خرجت من أفواه قادته، جاءت على لسان الوزير جدعون ساعر، ودعوته لتشكيل "حلف أقليات" في الإقليم، تستند إليه إسرائيل في استهداف أعدائها من شرقي المتوسط إلى ضفاف قزوين.

لم يكن الرجل قد قضى سوى أيام قلائل، في منصبه على رأس وزارة الخارجية، إثر انقلاب نتنياهو على وزير دفاعه، حتى بدأ يُلقي على مسامعنا، بعضًا من فصول "نظرته الإستراتيجية" للإقليم، الذي تشكل إسرائيل فيه، "أقلية وسط أغلبية معادية"، مُقترحًا البحث عن "مُشتركات" مع أقليات أخرى، بدءًا بدروز سوريا ولبنان، وليس انتهاء بأكراد سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، فاللعب على ورقة "المكونات"، كفيل بجعل إسرائيل، "أكبر الأقليات وأقواها"، في فسيفساء المشرق العربي وهلاله الخصيب ودول الجوار الإقليمي للأمة العربية.

الأمر الذي يدفع على الاعتقاد الجازم، بأن ساعر لم يعرض سوى رأس جبل الجليد من مشروعه لـ "تجزئة المجزَّأ"، في حين ظل الجزء الأكبر منه، غاطسًا تحت السطح، وهو بالقطع، يشمل مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجوارها الإقليمي.

وبالنظر إلى السياق الذي طُرح فيه، "حلف الأقليات" وتوقيت هذا الطرح، يمكن الافتراض، بأن تركيا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من الدول المستهدفة، هي الحلقة الأولى في إستراتيجية التفكيك المنهجي المنظم، لبنية هذه المجتمعات ووحدة وسلامة أراضي هذه الدول.

فأنقرة، رفعت وتيرة انتقاداتها لحرب إسرائيل البربرية على غزة ولبنان، وهي تقدم حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، بوصفها حركات تحرر وطني مشروعة، في مواجهة "طوفان الشيطنة" و"حرب الإلغاء" اللذين تتعرض له من قبل آلة "البروباغندا" الإسرائيلية، المدعومة من قبل أوساط غربية وإقليمية وازنة.

ولعلّ هذا ما تنبهت إليه القيادة التركية، مبكرًا وقبل أن يُخرج ساعر ما في جوفه، عندما بدأت التحذير من مغبة تطاير شرارات الحرب إلى سوريا، وعلى مقربة من حدودها، بل وإبداء الاستعداد لمواجهة تركية – إسرائيلية إن تدحرجت كرة النار، وعجز المجتمع الدولي عن وقفها.

وفي كل مرة صدرت فيها عن أنقرة، تحذيرات من هذا النوع، كانت أنظار المسؤولين والناطقين باسمها، تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تريد إسرائيل فرضها على الإقليم، بدعم وإسناد من دوائر غربية عديدة، وتحت حجج وذرائع ومزاعم شتى.

مبادرتان استباقيتان

في هذا السياق، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي صدرت عن أنقرة، وأهمها اثنتان: الأولى؛ داخلية، وصدرت عن دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"ذئابها الرمادية"، الرامية لإغلاق ملف المصالحة بين أتراك تركيا وكردها، وهي مبادرة كانت مفاجئة لجهة توقيتها والجهة التي صدرت عنها، وسط قناعة عامة بأنها لم تأتِ منبتّة عن السياق الإقليمي، وانفلات "التوحش" الإسرائيلي من كل عقال، وأنها لم تأتِ من دون تنسيق مسبق بين الحليفين: بهتشلي وأردوغان.

صحيح أن المبادرة، فجّرت قلق خصومها الداخليين، بالذات على "ضفتي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأنها أثارت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل أكراد المنطقة، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان، يقف على رأسه، من مَحبَسه على جزيرة "إمرالي".

وصحيح أن خصوم المصالحة عملوا على تفجير مركبها قبل إبحاره وسط تلاطم أمواج المواقف والمصالح المتناقضة، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب العاصمة التركية في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أعقبه من تصعيد في العمليات طال مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح كذلك، أن قطار المبادرة ما زال على سكته، رغم العرقلة، وأنه قد يواصل مسيره، ما دام أن وجهته النهائية، تحصين الداخل التركي في مواجهة مؤامرات التفكيك.

أما المبادرة الثانية؛ فسابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن كانت اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، والمقصود بها، الرغبة التركية الجارفة بالمصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة، للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف (الصراع) بين البلدين.. وهي المبادرة، المدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".

والحقيقة أن أنقرة، لم تكن بحاجة لأن تنتظر جدعون ساعر ليخرج ما في "صندوقه الأسود" من مشاريع طافحة بالعدائية لتركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، وتشرع في العمل على إحباط مراميها وأهدافها، والمؤكد أنها كانت تدرك، أن "النجاحات" التي سجلتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيفها العمليات ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاستباحة الكاملة للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها إحياء النزعات الانفصالية لدى بعض تيارات الحركة الكردية في المنطقة، ما دام أن هذه النزعات كانت قد تغذّت تاريخيًا وتضخمت، على جذع "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.

كما أن التطاول الإسرائيلي المتكرر على إيران، سواء في عمقها أو مناطق نفوذها، وعدم نجاح الأخيرة في بناء معادلة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجَيها النووي والصاروخي – من ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تضخم الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أسلحة وأدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "حلف الأقليات".

العامل الأميركي

لم تكن علاقات تركيا بإدارة بايدن سلسة دائمًا، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب مقتضيات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين جملة الأسباب الباعثة على فتور العلاقات وأحيانًا توترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة متميزة في صياغة شكل ومحددات العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.

فالرئيس بايدن، عُرِفَ عنه، تاريخيًا، تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وهو كان سبّاقًا من موقعه في مجلس الشيوخ لعرض تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث. ودعم بكل قوة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأطر والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها والموازية لها.

ونافح بقوة أيضًا عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية وتدعيمها، إن في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وهو أغدق على أكراد سوريا، الأكثر قربًا من "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما قرع نواقيس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.

وربما لهذا السبب بالذات، سقطت أنباء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بردًا وسلامًا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، ونسج بعض خيوط الصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، وهو متحرر من أية صلات أو "مشاعر" حيال كُرد المنطقة، والأهم، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية، ما كان بدأ به، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.

على أن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما يمكن لتل أبيب، أن تقدم عليه. فالأتراك، بلا شك، يدركون أتم الإدراك، "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

ويعرفون تمام المعرفة، أن اليمين الفاشي في تل أبيب، قادر على مغازلة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، ومداعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وبالضد من إرادة الإدارة في بعض الأحيان، إن تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مشوار تركيا في تعاملها مع "المسألة الكردية"، لن يكون معبدًا وسلسًا.

أنقرة تعوّل أيضًا على قلّة اهتمام ترامب بالقضية السورية، وتلمّست خلال ولايته الأولى، استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتحبيذه تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني بالأخص، فيما الرجل ربما يكون مقبلًا على فتح صفحة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا، وملفات أخرى، على الساحة الدولية.

وأنقرة تعوّل أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله بوحي من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، إن لجهة حفز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو لجهة التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف احتقانات علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يشاع عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تنمّ على دعم روسي لقيام سوريا، بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، حال وضعت الحرب على هذه الجبهة، أوزارها.

هي مرحلة جديدة، تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة، تبدو محمّلة بكل جديد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • إسرائيل توقف أوامر اعتقال المستوطنين بتهمة الاعتداء على الفلسطينيين
  • إسرائيل النازية تبيد الفلسطينيين بـ«الفيتو» الأمريكى
  • محلل سياسي: إسرائيل تسعي إلى إخلاء المنطقة الشمالية لقطاع غزة من الفلسطينيين
  • ارتفاع عدد شهداء الغارات الإسرائيلية على جنين وخان يونس إلى 60 فلسطينيًا
  • يوم الطفل العالمي.. تقرير فلسطيني عن الأطفال المعتقلين لدى إسرائيل
  • كاتب صحفي: أمريكا تشارك إسرائيل في قتل الفلسطينيين واللبنانيين
  • إسرائيل تقدم وعداً لبايدن: لن نسعى لتهجير الفلسطينيين
  • هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
  • راشيل كرم: إسرائيل تُعرقل أي مفاوضات لإحباط الفلسطينيين واللبنانيين
  • كاتبة صحفية: إسرائيل تُعرقل أي مفاوضات لإحباط الفلسطينيين واللبنانيين