مراكش- يشعر الناقد السينمائي مصطفى الطالب بالمتعة عندما يشاهد فيلما وثائقيا يجمع بين التألق الفني والعمق الفكري والثقافي في تناوله للذاكرة التاريخية المغربية، والتي تشكل هوية المجتمع ومنبع قيمه وثقافته.

ويقول للجزيرة نت إن عناصر المقاربة وكيفية تناول الموضوع ونوعية الضيوف والأرشيف المستعمل، وعنصر التشويق والقالب الفني الذي يصيغ ذلك كله، تعد السبب الرئيسي في نجاح الفيلم الوثائقي واستئثاره بعين وذكاء المشاهد.

ويبرز أن الفيلم الوثائقي يتميز بكون الشهادات حية ومفعمة بالمشاعر الإنسانية الطبيعية، فضلا عن عمقه الفكري والثقافي، مشيرا إلى أن المقاربة الثقافية تكون حاضرة إلى جانب المقاربة الحقوقية والإنسانية.

حذر

من شاهد فيلم "كذب أبيض" يفوز بالسعفة الذهبية، في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، قد ينتابه نوع من الفخر من التقدم الذي أحرزه الفيلم الوثائقي في المشهد السينمائي المغربي، والمدى الذي وصل إليه تناول الذاكرة التاريخية المغربية.

ويلاحظ الطالب أن تناول الذاكرة المغربية في السينما برزت بقوة مع إحداث "هيئة الإنصاف والمصالحة" (عام 2004) لجبر ضرر ضحايا وعائلات المختطفين خلال سنوات الرصاص وما طالهم من تعذيب وعدم احترام حقوق الإنسان.

مع ذلك، يقول الناقد السينمائي محمد بنعزيز للجزيرة نت "ننظر نحن المغاربة بحذر إلى الكاميرا السياسية، إلى تناول السينما الوثائقية لهذه الذاكرة، ونتعاطى مع ما جرى بكذب أبيض، وهكذا نتجاهله".

ويضيف "هذه هي نقطة انطلاق المخرجة أسماء المدير في تعاملها مع أحداث يونيو/حزيران 1981، إذ بدأ الأمر بحذر ومع تقدم التصوير مع الجدة اكتشفت المخرجة حقائق غير بيضاء، وهكذا صار للفيلم بعد ثقافي وسياسي يكشف تعامل المغاربة مع ماضيهم المشترك والمسكوت عنه، لقد ولد التناول الإيجابي من مقاومة الحذر".

بدوره، يشدد المخرج المغربي عز العرب العلوي، في حديث للجزيرة نت، على أن نبش الذاكرة الجمعية المغربية في الأعمال الوثائقية الإبداعية ضرورية ومستعجلة، للإسهام في الحفاظ على الهوية الوطنية وربط جسور بينها وبين الماضي القريب والبعيد.

ماهية

ويرى نقاد أن الفيلم الوثائقي المغربي محكوم بالذاكرة التاريخية، منفتح على التاريخ الاجتماعي والذاكرة السياسية والثقافية، والسير الخاصة لشخصيات الأفلام والمبدعين التي تتكثف من داخلها آثار تاريخ جماعي لافت.

وبهذا الصدد، يؤكد الباحث الأكاديمي والناقد السينمائي حميد اتباتو -للجزيرة نت- أن هذا الفيلم يصدر عن كل اجتماعي، وليس عن فردانية المبدع المتوهمة وحدها، وبهذا تنطبع آثار واعية وغير واعية في هذا الإبداع تبرزه بملامح ذات علاقة بالتاريخ والذاكرة بمعانيها المتعددة.

الباحث الأكاديمي والناقد السينمائي حميد اتباتو (الجزيرة)

ويشير إلى أن ما يجعل الوثائقي يحيل إلى عناصر معبرة ذات علاقة بسير فردية لشخصيات الفيلم، وسيرة الذات المبدعة، تندرجان في سياق عام ما، له علاقة بسيرة المجتمع والتاريخ والحقل السينمائي المغربي.

ويذكر أن ما يصوغ انتساب الوثائقي المغربي هو الانفتاح اللافت على أنواع من الجراح والخسارات العامة والخاصة، وعلى الوقائع المهمشة أو المراد تهميشها، وهو ما يعتبره شكلا من قراءة التاريخ وتأويله بما يخدم السينما المغربية والتاريخ الاجتماعي المرتبط بها.

بينما تكمن أهمية الفيلم الوثائقي، حسب الناقد السينمائي الطالب، في كونه يخاطب عقل ووجدان المشاهد معا، كما أن الفيلم الوثائقي يسعى لنقل واقع المشاهد مع طرح عدة تساؤلات مستفزة إيجابيا له تجعله يعيد نظرته لهذا الواقع أو لفترة تاريخية معينة أو قضية وطنية معينة ويدفعه للاهتمام بها، بمعنى أنه يرفع من مستوى معرفة وذكاء المشاهد فضلا عن رفع مستوى ذائقته الفنية.

تأثير

يساهم الإبداع وثائقيا في الاهتمام الثقافي بالذاكرة التاريخية المغربية. وبهذا الصدد، يقول الناقد السينمائي بنعزيز إن كل فيلم سينمائي وثائقي أو تخييلي عن الماضي يخلف ظاهرة ثقافية، وينبش نزاعات لغوية وعرقية وسياسية، ويصهر النقاش ويصفي الذاكرة المغربية المشتركة، لذلك فإن الكاميرا السياسية يمكن أن تكون مفيدة، مؤكدا أن كل تتويج يثبت أن الماضي لا يموت ويحتاج قراءة مستمرة لفهمه والتطهر منه.

الناقد السينمائي محمد بنعزيز (الجزيرة)

ويوضح الباحث اتباتو أن تتويج "كذب أبيض" أو أي فيلم آخر من نفس النوع، وباشتغال مماثل على ما له علاقة بالذاكرة أمر مهم لأنه يلفت الانتباه لما اشتغل عليه، ويوجه الأنظار إلى قضايا ومواضيع ووقائع لم ينتبه إليها، كما يساهم في تسوية وضعها في الوعي العام والخاص، إنه ينطبق على أفلام اشتغلت على قضايا حارقة، وكان لتتويجها دور في إحيائها، وتجديد الحديث عنها.

بدوره يلاحظ العلوي أن الإبداع وثائقيا يؤثر حين يتناول الذاكرة وفق رؤية إخراجية إبداعية عميقة تعمل على سبر أغوار تلك الشخصية أو البحث والتمحيص فيما وراء الأحداث والوقائع التاريخية، وتفكيكها وإعادة صياغتها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.

ويضيف: يتم ذلك باستضافة خبراء وأكاديميين متخصصين في التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، يعالجون المادة التاريخية بلغة سلسة يفهمها الجمهور المستهدف، وبأسلوب إخراجي إبداعي يستفز المُشاهد ويثيره ويجعله بدوره يطرح تساؤلات خلال عملية التلقي وما بعده. كما يساهم هذا الإبداع الوثائقي المرتكز على الذاكرة التاريخية في إيجاد حركية فكرية وثقافية في المغرب تصون وتحافظ على الهوية الوطنية ذات الجذور المتفرعة تاريخيا وجغرافيا أيضا.

آفاق

من يتابع السينما الوثائقية المغربية قد يلاحظ أنها راكمت -من خلال تناولها للذاكرة التاريخية المغربية- تجارب مهمة لم تبدأ حديثا، وإنما مع بداية طلائعها، كما يقول نقاد.

لكن هذا التناول، حسب رأي العلوي، لايزال محدودا وضيقا، لغياب تعاون ثقافي بين المخرجين والمؤرخين المغاربة والأكاديميين، وضعف الاستثمار في هذا النوع من السينما الوثائقية، لأن هذا النبش يحتاج لوقت طويل، ولبحث عميق وتدقيق في المصادر والوثائق التاريخية كما يتطلب رصد ميزانية مهمة، إضافة لجرأة بعيدة عن التناول السطحي.

المخرج المغربي عز العرب العلوي (الجزيرة)

ويؤكد أن السينما المغربية لم تتطرق بعد للمواضيع التي تعتمد ثيمتها على شخصيات مغربية من التاريخ سواء الوسيط والحديث القريب، شخصيات وضعت بصمتها على تاريخ المغرب سياسيا وعسكريا واجتماعيا أيضا، ولا تزال آثار فترتها واضحة وجلية على ما هو عليه مغرب اليوم.

ويشير إلى أن هناك مواضيع ذات علاقة بأحداث تاريخية معينة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، خاصة تلك التي حدثت في القرن الـ20 أو نهاية القرن الـ19، وتحتاج الجرأة في الطرح ونبش في الماضي القريب وتسليط الضوء عليها.

ومن جانب آخر، يعتبر الباحث اتباتو أن كل ما تم الاشتغال عليه من مواضيع في الفيلم الوثائقي المغربي ذو قيمة كبيرة، لكن ما تحقق لا يشكل التراكم المطلوب، لأننا بحاجة لصناعة التراكم النوعي المؤثر الذي يمكنه أن يجدد سينمانا، ويجدد الوعي الذي يحتاج إليه الواقع كذلك.

ويضيف أن أوجه الذاكرة السياسية لم تستنفذ بعد في الفيلم الوثائقي، وهناك الكثير مما لم يتم الاشتغال عليه، وهو بقيمة كبيرة من حيث ما هو تاريخي وإنساني وما يستجيب للحاجات الدرامية والتعبيرية والوجدانية في السينما الوثائقية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: التاریخیة المغربیة الناقد السینمائی الفیلم الوثائقی للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

"مثل قصص الحب"يفوز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان الشانزليزيه السينمائي

بعد عرضه العالمي الأول الناجح بمهرجان برلين السينمائي الدولي في فبراير الماضي، انطلق فيلم "مثل قصص الحب" للمخرجة ميريام الحاج في جولة في 5 مهرجانات مختلفة طوال شهر يونيو، انتهت بعرض ناجح في مسابقة الأفلام الفرنسية في مهرجان الشانزليزيه السينمائي، حيث حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الكبرى للأفلام الفرنسية.

وانطلقت جولة فيلم متل قصص الحب في شهر يونيو مع مهرجان جنيف الدولي للسينما الشرقية حيث حصل على تنويه خاص لجودة المعالجة، تلاها عدد لا يحصى من العروض الناجحة في مهرجان فنون لبنان في المملكة المتحدة، ومهرجان شنغهاي السينمائي الدولي في الصين، ومهرجان تورن السينمائي الدولي في بولندا.

كما عُرض الفيلم مؤخرًا في مهرجانين في كندا: مهرجان هوت دوكس الكندي الدولي للأفلام الوثائقية ومهرجان دوكسا للأفلام الوثائقية، كما تم عرضه أيضًا في مهرجان رؤى من الواقع السينمائي الدولي في سويسرا.

وتدور أحداث الفيلم الوثائقي متل قصص الحب في لبنان، حيث تروي المخرجة، في شكل مذكرات، أربع سنوات مضطربة لأمة تعيش حالة من الاضطراب، وتكافح من أجل التحرر من أغلالها. بينما تهتز البلاد بسبب الاضطرابات، تتكشف المساعي الشخصية من أجل المعنى والبقاء. كيف يمكننا الاستمرار في الحلم والعالم ينهار منحولنا؟

متل قصص الحب من تأليف وإخراج ميريام الحاج وإنتاج ميريام ساسين لشركة Abbout Productions وكارين روسزنيفسكي لشركة GoGoGo Films. 

شخصيات الفيلم

شخصيات الفيلم الرئيسية هم جُمانة حداد وجورج مفرج  وبيرلا جو معلولي ومونتاج أنيتا بيريز ومديري تصوير جهاد سعادة وميريام الحاج ومحمد صيام وموسيقى تصويرية مارك كودسي، وتتولى MAD World المبيعات في جميع أنحاء العالم وهي تابعة لشركة MAD Solutions وهي أكبر ستوديو لتسويق الأفلام المستقلة ووكالة تمثيل وإدارةالمواهب في العالم العربي.

وميريام الحاج مخرجة لبنانية، أول فيلم وثائقي طويل لها، هدنة، عُرض لأول مرة بـمهرجان رؤى من الواقع بنيون سويسرا عام 2015 وتم عرضه في العديد من المهرجانات الدولية، وفاز بالعديد من الجوائزأهمها جائزة لجنة التحكيم الخاصة من المهرجان الدولي للشريط الوثائقي بأكادير. ويعد فيلم متل قصص الحب ثاني أفلامها الوثائقية الطويلة ويشهد عرضه العالمي الأول في مهرجان برلين السينمائي الدولي ضمن قسم بانوراما.

وتقوم ميريام بتدريس السينما في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. وهي عضو في العديد من اللجان السينمائية، بما في ذلك مؤسسة الدوحة للأفلام، كما أنها عضو مؤسس في منظمة "راويات - أخوات في الفيلم" وهي مجموعة من صانعات الأفلام من العالم العربي والمغتربات.

مقالات مشابهة

  • الفيلم السينمائي
  • «آخر أيام الجماعة».. على الوثائقية احتفاءً بالذكرى الـ11 لثورة 30 يونيو
  • عرض أول لفيلم سوفتكس لنواز ديشه في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي في التشيك
  • فيلم اللعب مع العيال يقترب من تحقيق 30 مليون جنيه إيرادات في دور العرض
  • فيلم السبع موجات.. آخر ما وثقته الكاميرا في غزة قبل حرب الإبادة
  • فوز فيلم "مثل قصص الحب" في مهرجان الشانزليزيه السينمائي
  • "مثل قصص الحب"يفوز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان الشانزليزيه السينمائي
  • MAD World تحصل على حقوق توزيع فيلمي 100 عبوة وحجاب
  • "متل قصص الحب" يفوز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان الشانزليزيه السينمائي
  • سيف الدين: (الأخذ بالألباب)