لماذا يصدق الناس الأخبار الكاذبة؟
تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT
لماذا يصدق الناس الأخبار الكاذبة؟
الشخصية النرجسية أكثر ميلاً لنظريات المؤامرة، لأنها تشعر معها بالتفوق على الآخرين بامتلاك معلومات لا يعرفونها.
درس علماء السياسة التأثير الكارثي للتفكير الجمعي في اتخاذ قرارات أمريكية بائسة في أزمة خليج الخنازير، بل وفي حرب فيتنام.
إن الشعور بعدم اليقين أو العجز وقلة الحيلة شعور تكرهه النفس ومن ثم يميل الإنسان لتصديق وجود قوى خفية متجاوزة تعمل بالخفاء ولها أهداف شريرة.
هناك أسباب تتعلق بضغوط الأقران والمحيط الاجتماعي، والحقيقة أن العلماء أدركوا تلك الحقيقة، فدرسوا مفهوم «التفكير الجمعي» وتأثيره السلبي على اتخاذ القرار.
مطلوب منهج بحثي تكاملي، يجمع خلاصة أبحاث علوم مختلفة، لفهم ظاهرة تصديق قطاعات واسعة في مجتمعات عدة لأخبار كاذبة تنتشر كالنار في الهشيم في عصر فوضى المعلومات.
الجماعة المغلقة التي يفكر أفرادها وفق المنطق نفسه عادة ما يغذي كل منهما تفكير الآخر، ويؤكده لديه الأمر، الذي يسهل معه على جماعتهم استبعاد الأفكار والبدائل التي لا تتفق مع أفكارهم.
* * *
كثيرة هي المرات، التي نفاجأ فيها بأخبار زائفة، وحكايات بلا أساس عن قوى خفية، تهيمن على الكون صار الناس يصدقونها، ويعتبرونها الحقيقة، التي لا يأتيها الباطل.
والإقبال على تلك الأفكار بالغ الخطورة على عافية المجتمعات، وبنائها السياسي والاجتماعي، وفي مثل هذه الحالات ينشغل المعنيون بتفنيد تلك الأفكار والمعتقدات البائسة دون اهتمام كافٍ بالأسباب، التي تدفع الناس لتصديقها.
فرغم أن بعضها يدخل أحياناً في نطاق اللا معقول، بينما ينطوي غيرها على تناقضات تدعو كل ذي عقل للتوقف، يصدقها الناس ونادراً ما يقبلون ما يقنعهم بعكسها، لذلك يستحيل أن نضع أيدينا على الطريقة المثلى لإقناعهم دون الوقوف على الأسباب، التي تجعلهم يُقبلون على مثل تلك الأفكار أصلاً.
والحقيقة أن الإيمان بمثل تلك الأفكار والحكايات اللا معقولة لا علاقة له بتخلف المجتمعات وتقدمها، فكثيرة هي المجتمعات المتقدمة، التي يؤمن الناس فيها بما هو غير حقيقي، وبوجود مؤامرات لا مؤامرة واحدة عادة ما تتداخل فيما بينها لحد التناقض.
فلا يزال هناك من يؤمنون حتى اليوم في بريطانيا بمؤامرات كثيرة حول مقتل الأميرة ديانا، ويؤمنون في الوقت ذاته بأنها حية ترزق في مكان بعيد عن الأنظار.
أما دوافع تصديق الناس فيرجعها البعض للكسل الفكري والعزوف عن البحث عن المعلومات الصحيحة، بينما يرجعها آخرون للجهل، لكن الأبحاث العلمية خصوصاً في علم النفس، تطورت حتى باتت تقدم نظريات متعددة.
فالنظرية التقليدية كانت تقول إن البشر يؤمنون بالأفكار، التي تتوافق مع منظومتهم الفكرية أصلاً، وبالتالي يجعل الانحياز الفكري والسياسي المرء يؤمن بما يتوافق مع انحيازاته، وخصوصاً إذا كان مروجها ينتمي لتياره الفكرى ذاته، ويحظى عنده بالاحترام.
لكن نظريات أخرى برزت فيما بعد تولي الأهمية لعوامل أخرى، فعلى سبيل المثال أثبتت البحوث التي أجريت على عينات مختلفة أن التفكير وفق منطق سليم هو العامل الحاسم، فالإيمان بمثل تلك الأفكار ونظريات المؤامرة ينبع أساساً من العجز عن استخدام المنطق السليم.
وتبين أن الذين يمتلكون منطقاً سليماً قادرون على رفض تلك الأفكار حتى لو اتسقت مع انحيازاتهم أو صدرت عمن يتفقون معهم في الرأي، وهناك أبحاث أخرى لا تنكر دور الانحيازات، ولكنها أثبتت أن السبب، خصوصاً في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، هو أن من يصدقون أفكاراً ومؤامرات تتواتر على تلك الوسائط لا ينبع من التحيزات الفكرية بقدر ما يرجع للسرعة في التصفح.
فعدم توقف الفرد قليلاً ليتأمل ما يقرأ يجعله أكثر ميلاً لتصديق ما يقرأه، لكن الاعتماد على علم النفس وحده ليس كافياً لفهم الظاهرة في تقديري، إذ يلزم السعي لفهم تأثير المجتمع والمحيطين بالمرء، فالمحيط الاجتماعي للفرد وضغوط الأصدقاء يدفعه أحياناً لأخذ ما يقولونه كمسلمات لئلا يشذ عن الجماعة.
صحيح أن هناك دوافع نفسية، لكن لا يجوز أن نغض الطرف عن التأثير الاجتماعي، ففي الإيمان بنظريات المؤامرة مثلاً يقول علماء النفس: إن الشعور بعدم اليقين أو بالعجز وقلة الحيلة شعور تكرهه النفس البشرية، ومن ثم يميل الإنسان عندئذ لتصديق وجود قوى خفية شديدة البأس، تعمل في الخفاء، ولها أهداف شريرة.
وبينما يرون أن الشخصية النرجسية أكثر ميلاً لنظريات المؤامرة، لأنها تشعر معها بالتفوق على الآخرين بامتلاك معلومات لا يعرفونها، إلا أن علماء الاجتماع يرون أن هناك أسباباً تتعلق بضغوط الأقران والمحيط الاجتماعي، والحقيقة أن علماء السياسة والاجتماع أدركوا تلك الحقيقة، فدرسوا مفهوم «التفكير الجمعي» وتأثيره السلبي على اتخاذ القرار.
فالجماعة المغلقة التي يفكر أفرادها وفق المنطق نفسه عادة ما يغذي كل منهما تفكير الآخر، ويؤكده لديه الأمر، الذي يسهل معه على جماعتهم استبعاد الأفكار والبدائل التي لا تتفق مع أفكارهم، وقد درس علماء السياسة التأثير الكارثي للتفكير الجمعي في اتخاذ قرارات أمريكية بائسة في أزمة خليج الخنازير، بل وفي حرب فيتنام.
ودلالة ذلك كله أننا في حاجة لمنهج بحثي تكاملي، يجمع خلاصة أبحاث علوم مختلفة، من أجل فهم ظاهرة تصديق قطاعات واسعة في مجتمعات عدة لـ"الأخبار الكاذبة"، والتي صارت تنتشر كالنار في الهشيم في عصر فوضى المعلومات.
*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية، باحثة في الشأن الأمريكي
المصدر | البيانالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الانحياز الأخبار الكاذبة نظريات المؤامرة الشخصية النرجسية
إقرأ أيضاً:
إعادة دمج الرؤية الأخلاقية في الاقتصاد تعزز فهم النتائج السياسية
في أغلب فترات القرن العشرين، كان يُنظر إلى علم النفس الأخلاقي والاقتصاد باعتبارهما تخصصين منفصلين - كل منهما يركز على اهتمامات منفصلة، وهناك القليل من تلاقح الأفكار بينهما. ولكن لم يكن هذا هو الحال دائما.
فإذا عدنا بالزمن إلى فلاسفة مثل آدم سميث وكارل ماركس فسنجد أن المناقشات حول الاقتصاد السياسي كانت عميقة الارتباط بالمسائل الأخلاقية. وفي الآونة الأخيرة، بدأ هذان المجالان يرتبطان مجددا، بعد إدراك أن الأخلاق تؤثر بقوة على السلوك الاقتصادي، والعكس صحيح. وقد ناقشت ذلك في استعراض أُجري مؤخرا لأحدث الأدبيات في هذا المجال (2024).
وبصفتي خبيرا اقتصاديا، أعتقد أن هذا التداخل المتزايد يقدم دروسا قيِّمة ليس للأوساط الأكاديمية فحسب بل أيضا لصنّاع السياسات الذين يعانون في مواجهة أكبر تحديات العصر الحالي، مثل زيادة عدم المساواة، والاستقطاب السياسي، وتراجع الثقة في المؤسسات.
إن إحدى الأفكار الأساسية التي تدفع إلى إعادة ربط علم النفس الأخلاقي بالاقتصاد هي الفكرة التي نشأت من علم النفس الأخلاقي، والتي تشير إلى أن الأخلاق تطورت كأداة لها وظيفة اقتصادية، كما ذكر،
على سبيل المثال، جوناثان هايدت، عالم النفس الأمريكي، في كتابه «The Righteous Mind: Why Good People Are Divided by Politics and Religion».
وبعبارة بسيطة، يُنظر إلى الأخلاق باعتبارها آلية تقوم المجتمعات من خلالها بفرض التعاون، مما يتيح الإنتاج على نطاق واسع، والتبادل، والتماسك الاجتماعي. وفكرة أن الأخلاق لها وظيفة اجتماعية واقتصادية هي فكرة عميقة الجذور في منظور تطوري: فمع تشكيل البشر لمجتمعات تزداد تعقيدا، أصبح التعاون أمرا ضروريا لاستمرار الحياة، وظهرت النظم الأخلاقية لفرض السلوكيات الاجتماعية الإيجابية.
الإمبريالية الاقتصادية
من منظور خبير اقتصادي، تشير هذه الصيغة للأخلاق كاستجابة لمشكلات اقتصادية -مثل ضمان التعاون في المعاملات- إلا أن الأخلاق ليست ثابتة بل قابلة للتكيف. ومع تغير البيئات الاقتصادية، تتغير القيم الأخلاقية أيضا. فقد يؤدي صعود الأسواق المعولمة -على سبيل المثال- إلى تحويل المجتمعات من الأطر الأخلاقية التخصيصية -تلك التي تعطي أولوية للتعاون الوثيق بين أفراد المجموعة- إلى قيم أكثر تعميمية تبرز العدالة والمساواة عبر الشبكات الاجتماعية الأوسع نطاقًا.
وقد استخدم خبراء الاقتصاد هذه الأفكار من علم النفس الأخلاقي وقاموا بتوسيع نطاقها. وتحدث هذه الظاهرة -التي يشار إليها غالبا باسم «الإمبريالية الاقتصادية»- عندما يطبق خبراء الاقتصاد أدواتهم ومنهجياتهم على مجالات كانت تستكشفها عادة علوم اجتماعية أخرى، مثل علم النفس أو علم الإنسان. ورغم أن هذا المنهج قد تعرض للانتقاد أحيانًا بسبب تعديه على تخصصات أخرى، فقد يكون مثمرا للغاية عند تنفيذه بشكل تعاوني.
وبدلا من محاولة استبدال علم النفس الأخلاقي، نجح خبراء الاقتصاد في اختبار نظرياته والتحقق من صحتها -مثل الدور الوظيفي للأخلاق- من خلال عمل تجريبي واسع النطاق. وبذلك، ساهموا برؤى قيّمة، خاصة عند الحاجة إلى إجراء اختبارات تجريبية في بيئات واقعية أوسع نطاقًا.
ولفهم كيفية تطوُّر النظم الأخلاقية استجابة للبيئات الاقتصادية، يمكننا النظر إلى عدة أمثلة رئيسية. أولًا، تقدم لنا هياكل القرابة التاريخية دراسة حالة مقْنِعة؛ فالمجتمعات التي تتمتع بشبكات أسرية ممتدة قوية تعتمد غالبا على التعاون الوثيق داخل الأسر، مما يؤدي إلى قيم أخلاقية تخصيصية. وتعطي هذه المجتمعات أولوية للولاء للأسرة والمجتمعات المحلية، كما تعكس نظمها الأخلاقية هذا الاهتمام.
وكما أوضحْت في دراسة صدرت في عام 2019، تميل المجتمعات ذات شبكات القرابة الأضعف إلى تنمية قيم أخلاقية أكثر تعميمية، مع توسيع نطاق العدالة لتشمل الغرباء والأقارب البعيدين على حد سواء. وهذا التمييز بين التعميمية الأخلاقية والتخصيصية الأخلاقية، وارتباطه بهياكل القرابة التاريخية، يفسر الكثير من الاختلاف بين الثقافات في المعتقدات الأخلاقية والقيم والمشاعر.
ثانيًا، يساهم الانكشاف للأسواق أيضا بدور بالغ الأهمية في تشكيل القيم الأخلاقية. ففي المجتمعات التي تشيع فيها التعاملات بين الغرباء في الأسواق، من المرجح أن تزدهر القيم التعميمية -مثل العدالة في التعامل مع الأشخاص خارج الدائرة القريبة للفرد. وتشير مجموعة متزايدة من الأبحاث، بما في ذلك دراستي الصادرة في عام 2023، إلى أن المجتمعات التي شهدت انكشافًا أكبر للأسواق في الماضي تُظهر مستويات أعلى من التعميمية. وكلما زاد تعامل الناس مع الغرباء في الأسواق، زادت معاييرهم الأخلاقية التي تعطي أفضلية للتعاون الموضوعي والثقة.
وأخيرا فإن البيئة -أي البيئة الطبيعية التي توجد فيها المجتمعات- قد تؤثر أيضا على الأخلاق. ففي المناطق التي كان فيها التعاون المكثف مع الجيران أمرا ضروريا لاستمرار الحياة، كما هو الحال في المناطق ذات الأراضي المتجانسة الخصبة، نشأت في كثير من الأحيان قيم تخصيصية. وتؤكد هذه القيم الروابط الوثيقة بين أفراد المجتمع، والتي كانت ضرورية للإنتاجية الزراعية.
وفي المقابل، ربما تكون المناطق ذات الأوضاع البيئية الأكثر تقلبا أو تشرذما قد عززت القيم التعميمية؛ لأن التعاون مع الجيران القريبين (والتعلم منهم) كان أقل أهمية للإنتاج الاقتصادي، كما ذكر الخبير الاقتصادي الإسرائيلي إيتزاك زاخي راز.
النتائج السياسية والاقتصادية
هناك تأثير متبادل بين الأخلاق والسلوك الاقتصادي؛ فالأوضاع الاقتصادية تشكل القيم الأخلاقية، ولكن تلك القيم، بدورها، تشكل النتائج السياسية والاقتصادية. وفي المناخ الحالي المستقطب سياسيا، نجد أن الاختلافات الأخلاقية غالبا ما تدعم الانقسامات حول السياسة الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، يساعد التمييز بين القيم التعميمية والتخصيصية في تفسير سبب تبني مجموعات مختلفة لوجهات نظر متعارضة بشأن قضايا مثل الضرائب وإعادة التوزيع والهجرة وتغير المناخ والعولمة والمساعدات الخارجية.
والفكرة الأساسية هنا هي أن العديد من السياسات اليسارية التقليدية تتسم بطبيعة تعميمية نسبيا. والمؤيدون للتعميمية الأخلاقية، الذين يعطون أولوية للعدالة والمساواة للجميع، من الأرجح أن يدعموا سياسات إعادة التوزيع التي تهدف إلى الحد من عدم المساواة في الدخل، بما في ذلك للأشخاص من بلدان أجنبية. وهم أيضا أكثر دعما للسياسات «العولمية» مثل المساعدات الخارجية والعولمة والوقاية من تغير المناخ. أما المؤيدون للتخصيصية الأخلاقية، الذين يعطون أولوية للولاء للمجموعة التي ينتمون إليها، فغالبا ما يعارضون هذه السياسات، خوفا من إمكانية أن تؤدي إعادة التوزيع إلى استفادة مجموعات لا ينتمون إليها أو غرباء على حساب مجموعتهم، أو من إمكانية أن تؤدي الهجرة إلى الإضرار بفرص جيرانهم في العثور على وظائف. ويساهم هذا الانقسام الأخلاقي في الاستقطاب السياسي وتعقيد جهود التوصل إلى توافق في الآراء حول السياسات الاقتصادية.
وتوضح إحدى دراساتي حول أنماط التصويت في الولايات المتحدة أن القيم الأخلاقية للناخبين تتسق إلى حد كبير مع سياسات المرشحين السياسيين وكلماتهم الطنانة. والأدلة الحديثة التي جمعتها أنا ورايموند فيسمان ولويس موتا فريتاس وستيفن صن تعزز هذا الارتباط بشكل
أكبر. فنحن نقيس التعميمية الأخلاقية باستخدام البيانات واسعة النطاق عن التبرعات. ووفقا لمنهجنا، يقال إن الدوائر الانتخابية في الولايات المتحدة تتسم بقدر أكبر من التعميمية عندما تذهب حصة أكبر من التبرعات من تلك الدوائر إلى مستفيدين أبعد جغرافيا أو اجتماعيا. وبالتالي لا تعد الدوائر الانتخابية المؤيدة للتعميمية أكثر أو أقل مناصرة للقضايا الاجتماعية من غيرها -بل إنها تمنح قدرا أكبر من التبرعات للأماكن البعيدة وقدرا أقل لقضايا المجتمع المحلي.
ونحن نوثق أن الدوائر الانتخابية التي تتسم بقدر أكبر من التعميمية تميل إلى التصويت لصالح المرشحين الديمقراطيين وانتخاب ممثلين يستخدمون لغة أخلاقية تعميمية في خطاباتهم. وبالإضافة إلى ذلك، يُظهر ممثلو هذه الدوائر سلوك تصويت بنداء الأسماء أكثر ميلا إلى اليسار، حتى داخل نفس الحزب، وهو ما يوضح بشكل أكبر كيفية تأثير هذه القيم الأخلاقية على نتائج الانتخابات والإجراءات التشريعية.
منهج متعدد التخصصات
يعمد خبراء الاقتصاد عادة إلى توخي الحذر بشأن الخوض في المسائل الأخلاقية، مفضلين التمسك بالتحليل التجريبي القائم على البيانات. ولكنني أعتقد أن خبراء الاقتصاد يمكنهم الاستفادة من الانخراط بشكل أعمق في علم النفس الأخلاقي، مثلما يمكن أن يستفيد علماء النفس من دمج الرؤى الاقتصادية في عملهم. فكل تخصص يتسم بمواطن قوة متفردة: حيث يتفوق خبراء الاقتصاد في إدارة وتحليل البيانات واسعة النطاق، في حين يتفوق علماء النفس الأخلاقي في فهم العمليات المعقدة لصنع القرار الفردي والتفكير الأخلاقي.
ويمكن أن يؤدي هذا المنهج متعدد التخصصات إلى فهم أكثر ثراء ودقة للظواهر الاجتماعية والسياسية المعقدة. ولنأخذ على سبيل المثال قضية إعادة التوزيع، فالأبحاث في مجال علم النفس يمكنها إلقاء الضوء على الأسباب التي تجعل الناس يتمسكون بمعتقدات أخلاقية معينة بشأن العدالة والمساواة؛ كما يمكن للبيانات الاقتصادية أن تكشف عن كيفية ترجمة هذه المعتقدات إلى أنماط للتصويت وتفضيلات للسياسات. وبالجمع بين هذه المناهج، يمكننا إعداد صورة أشمل لكيفية تأثير القيم الأخلاقية على السلوك الاقتصادي والنتائج الاقتصادية.
فماذا يعني كل هذا لصناع السياسات؟ قبل كل شيء، يشير ذلك إلى أن السياسة الاقتصادية الفعّالة لا يمكن أن تتجاهل الاعتبارات الأخلاقية. ويجب على صناع السياسات أن يدركوا أن التفضيلات الاقتصادية للناس غالبا ما تشكلها معتقداتهم الأخلاقية، التي قد تتباين إلى حد كبير بين المجموعات المختلفة. ونتيجة لذلك فإن السياسات التي تتسق مع القيم الأخلاقية لإحدى المجموعات قد تواجه معارضة شديدة من مجموعة أخرى ذات قيم مختلفة.
ومن شأن فهم هذه الانقسامات الأخلاقية أن يساعد صناع السياسات على صياغة سياسات أكثر فعالية وإنصافا. فعلى سبيل المثال، قد تكون سياسات إعادة التوزيع التي تحمل عوامل جذب للقيم التعميمية أكثر نجاحا، إذا تمت صياغتها بطرق تجد صدى لدى المؤيدين للتخصيصية الأخلاقية أيضا، مثل التأكيد على المزايا التي تعود على المجتمعات المحلية.
وبالإضافة إلى ذلك، من شأن إدراك دور الأخلاق في السلوك الاقتصادي أن يساعد صناع السياسات على توقع الاستقطاب السياسي ومعالجته. وقد تَثْبُت أهمية ذلك في سد الفجوات الأخلاقية التي تدفعنا بعيدا عن التوافق في الآراء.
بنجامين إنكي، أستاذ مشارك في الاقتصاد السياسي بجامعة هارفارد،
صندوق النقد الدولي