سودانايل:
2024-11-08@01:09:11 GMT

المؤسسة السودانية .. من الطقوسية الى الإنهيار (2-5)

تاريخ النشر: 22nd, December 2023 GMT

mbakri9@gmail.com

انحدار المؤسسة نحو الطقوسية ومن ثم الى الانهيار لا يحدث دفعة واحدة. المؤسسة كائن اجتماعي بالغ التعقيد ولها طبقات كعش الطائر يبنى كما يقول الأهل "قشة قشة" وهو عش عصي على رياح التغيير، وإن قال Douglas C. North إن قواعد المؤسسية تعشش في تراتبية “Rules nested in a hierarchy” فإن التجربة السودانية تعلم المرء أن كل طبقة تستدعي شكل الطبقة التالية وأن الانزلاق نحو الطقوسية أيضا طبقات.

في هذه الحلقة الثانية من المقال أود أن أرسخ تعريف المؤسسة والترتيبات المؤسسية ورصد الانحدار نحو الطقوسية.
سكان جمهورية جنوب السودان كانوا جزء من المؤسسة السودانية منذ قبل استقلال السودان عام 1956 وحتى استقلال جمهورية جنوب السودان عام 2011. هذا القسم من السكان بدأ في مقاومة الترتيبات المؤسسية حتى قبل الاستقلال منذ عام 1954، وظل يقاوم تحت ظل أنظمة تعددية وانظمة دكتاتورية. ما اريد قوله انه مهما حدث منذ 1954 من تعديلات مؤسسية هنا وهناك - اتفاقية أديس أبابا 1972 واتفاقية السلام الشامل 2005، والحكم الاقليمي - ومهما كان هنالك من اقسام اخرى من السكان كانت تنادي بتعديلات مؤسسية جوهرية من أجل هذا القسم من السكان وحتى استقالة السودانيين الجنوبيين من المؤسسة السودانية بإعلان استقلالهم، ومهما كان تعريفك للدوافع والادوار ومهما كانت شماتة بعض ضيقي الافق بمشاكل جنوب السودان الحالية، هؤلاء القوم الجنوبيون السودانيون قالوا للمؤسسة السودانية بعد كل هذه الحروب والدماء وبالتي هي أحسن "أن ترتيباتكم المؤسسية لا تخارج معنا، ونحن لا نريد أن نكون جزء منها." لا داعي للخوض في التحيزات المؤسسية ضد سكان الجنوب فقد أضحت معروفة الآن. لكن لابد أن نقر بعدة حقائق:
اولا، النظام الذي تطور منذ الحرب الاهلية الطويلة، الاولي عام 1954 والثانية عام 1983، وتطور الهوية الجنوبية وما حدث في المركز من تغليظ للهوية الشمالية Thickness كان عملية ارتقائية من كل الجوانب بمعنى Co-evolutionary process وترتب عليها تعقيد النظام الذي تقوم عليه المؤسسة السودانية الى حد غير مسبوق.
ثانيا، النظام القائم على السلطة بمعنى Regime هو ممثل وحارس الترتيبات المؤسسية وتجليها مهما كان رأيك فيه. لكن في نفس الوقت إن المنطق المؤسسي يحتم إلا نركن لخلاص الذمة وراحة الضمير عن طريق القاء المسؤولية على الإسلاميين كليا ونظامهم، حيث إن المؤسسة كانت قائمة قبلهم وقد بددت الفرص لبزوغ مؤسسة جديدة وقد كان على رأسها علمانيين صُرف.
ثالثا، أن المؤسسة تنزع نحو الديمومة والاستقرار Intuitional Endurance والترتيبات المؤسسية عنيدة لأنها تقوم على أخلاق الناس وضمائرهم، بل الاخطر انه تقوم عليها الايدولوجيا التي تحرك الحكام.
رابعا، ما حدث في تجربة استفتاء الجنوب واستقلاله هو حدث مؤسسي من الدرجة الأولى، حيث واجه النظام السوداني خيارين. الخيار الأول كان هو الانتقال الى مؤسسة أكثر تعقيدا لمواجهة واقع اجتماعي أكثر تعقيدا، أي إحلال المؤسسة القديمة بمؤسسة جديدة تستوعب وجود أكثر من ثقافتين كبيرتين في النظام الاجتماعي علاوة على ذلك حل قضايا الدين والسلطة، قضايا الهوية والسلطة، وقضايا تقسيم الثروة والسلطة. الخيار الآخر كان الحفاظ على المؤسسة القديمة.
الاختيار كان ذهاب الجنوبيين واختيار استمرارية المؤسسة القديمة التي لم تتكيف مع نشؤ الهوية الجنوبية السودانية. ما حدث هنا أن المؤسسة السودانية نحت نحو تبسيط التعقيد الاجتماعي في المجتمع السوداني العريض بقبول انفصال الجنوب، أي الإبقاء على الترتيبات المؤسسية القديمة. بمعنى آخر أن مركز صناعة القرار المؤسسي وقدرته على التكيف المؤسسي لم تعد مناسبة للنمو في حجم السكان والتعقيد البالغ في المشاكل الذي يطرحها هذا النمو. هذا في جوهره تكريس للبنية الطقوسية التراتبية للمؤسسة، فالمسالة ليست فقط ضيق الاخوة الجنوبيين بمركز المواطن من الدرجة الثانية في المؤسسة التي ينبغي أن يكونوا شركاء اصلاء فيها، بل اصرار المؤسسة على هذا الوضع الطقوسي. والمشكلة الأكبر ان الأمر لا يتعلق بالهوية الدينية وحدها، كما سيبين التاريخ فيما بعد، بل بهويات اخرى يحملها أناس آخرين، حتى لو كان هؤلاء الناس على اتفاق في وجه من وجوه الهوية مع ديانة مركز صناعة القرار المؤسسي. فالمؤسسة تنحدر يوما بعد يوم نحو الطقوسية وجوهر الطقوسية تركز القرار في أيدي قليلة وانعدام التعاون المؤسسي. وفي خضم ذلك ينحدر النظام الاجتماعي من مجتمع معقد Complex الى مجتمع أقل تعقيدا Less Complex وتنخفض درجة تكيّفه بما في ذلك تكيف مؤسسته Institutional adaptability. حين يرتضي حراس المؤسسة خطوة واسعة نحو الطقوسية ستُجر اقدامهم الى خطوات أكبر نحو الطقوسية لا سبيل للتراجع عنها.
إذا تابعنا نفس التحليل المؤسسي وحاولنا مقاربته مع الحالة الدارفورية نجد انه منذ عقود لم تكن الترتيبات المؤسسية تلبى تطلعات المكون السكاني لإقليم دارفور. عندما برزت تطلعات مشروعة للمكون السكاني في دارفور تم التعبير عنها باكرا من خلال منظمة اللهيب الاحمر في 1957 ومنظمة سوني 1963. ورغم أن الظلامات في جوهرها هي نفس الظلمات التي طرحها الكتاب الأسود في مايو 2000، تمكنت المؤسسة بسرعة من دمغها بالعنصرية وماتت الحركة في مهدها. ذلك جدير بالتأمل. في ظني أن ذلك حدث لان المؤسسة لا تزال تملك بعض الحيوية ولم تنحدر تماما نحو الطقوسية والجمود بعد. وفوق ذلك، بل الأهم، أن هنالك دائما ذاك الإيمان الواسع بالترتيبات المؤسسية الراهنة وأن ثمة أمل لدي الأفراد والجماعات بما في ذلك الجماعات المظلومة disadvantaged groups أن بزوغ ترتيبات مؤسسية جديدة ممكنا، وأن لتراكم التعديلات، حتى لو كانت صغيرة، أثره في النهاية نحو التحول الى ترتيبات مؤسسية جديدة. يبقي ثمة أمل، بل حتى أن الجماعات المظلومة قد تواصل في العادات المؤسسية القديمة لأنها تعطيها هوية مؤسسية: انتماء ما لجماعة او أمة، انتماء لشيء أكبر منها. ولكن ظلت الظلامات قائمة وظلت المؤسسة تسابق نفسها نحو الطقوسية وتتعامل مع الظلامات دون تغيير مؤسسي جذري بمعالجات مؤقتة.
تم التعبير بقوة عن هوية الإقليم مرة أخرى في انتفاضة 1981 التي حدثت بدارفور وحدها دون سائر أجزاء البلاد عندما فرض عليه جعفر نميري حاكما من خارج الإقليم. انحنت المؤسسة للعاصفة واستجابت جزئيا للمطالب، ولكن مرة اخرى لم تأت المؤسسة بتغيرات مؤسسية جديدة وحافظت على نفس الترتيبات المؤسسية حتى أن تعيين المرحوم أحمد إبراهيم دريج لم يكن خارجا عن الترتيبات المؤسسية القديمة.
يحدث ما يحدث في المركز المؤسسي، لكن هنالك عمليات أخرى تجرى في نفس الوقت في الانظمة الاجتماعية. هذه العلميات هي ببساطة تراكم المظالم وازدياد التناقضات المجتمعية، بل تطور الوعي بها. حيث يصير هذا التعاون المؤسسي الذي قد تنتج منه في بعض الاحيان حالة من الازدهار مؤقتة كما حدث في الجنوب بعد اتفاقية أديس ابابا، غير ممكنا.
بناء على ذلك حدثت نقطة تحول كبرى في نهاية التسعينات وذلك عندما عبرت بوضوح عن هوية الاقليم حركات واسعة تنادى بترتيبات مؤسسية جديدة. نعم هذه الحركات كانت تحمل السلاح، ولكن يجب أن نتذكر هنا شيئين أساسيين: أن حركة تحرير السودان عندما تكونت نواتها عام 2002 وأعلنت عن وجودها بعملية عسكرية عام 2003 كانت تضم ثلاث من المكونات السودانية الاساسية في الاقليم: الفور والزغاوة والمساليت ممثلة في شخصيات القادة الثلاثة عبد الواحد نور ومني اركو مناوي وعبد الله أبكر. وأيضا كان هنالك حراك سياسي ملحوظ يتجاهله الكثيرون الان عن عمد حيث بدأ يتطور بين أبناء القبائل العربية في دارفور الإحساس بالهوية الدارفورية في نضالها ضد الترتيبات المؤسسية الماثلة، بل خاض بعض ابناء القبائل العربية بالفعل تجربة التنظيم نحو الوحدة نذكر من ضمنها مجموعة أنور خاطر وهو من شباب قبيلة المحاميد آنذاك وصلاح ابو السرة، صار فيما بعد رئيس جبهة القوى الثورية الديمقراطية واخرين من طلاب الجامعات والمهنيين أواخر التسعينات وبداية الألفية . أضف الى ذلك دعوات القائد عبد الله أبكر لانخراط ابناء المكون العربي في ثورة دارفور (انظر مقال لعادل عبد العاطي في رصد الحراك السياسي في دارفور وإحتمال المطالبة بتقرير المصير). مهما كان التعبير عن الهوية الدارفورية خافتا بين عرب دارفور آنذاك الا انها تظل مستودعا قابلا للانفجار في مواجهة هوية المركز في أي وقت (وضع عرب دارفور في النادي المؤسسي السوداني هو ايضا يطرح تساؤلات كبيرة، لا يسع المجال لها هنا سنعالجها سويا لاحقا). على كل حال بالعرب أو بدونهم كان انفجار الوضع في دارفور حدثا عظيما، ومخيفا للمؤسسة وحراسها، إذ انه يضع في المحك سؤال الهوية المهيمنة الذي من اجله كان آنذاك التخطيط للتضحية المؤسسية بجنوب السودان يجرى على قدم وساق في سبيل استقرار مؤسسي زائف. كان الموقف في رمته يكشف أن الترتيب المؤسسي الراهن لا صله له بالدين أوالعقيدة، بل يمتد ليشمل العرق والثقافة رغم انف العقيدة، بل هو في الأساس سباق طقوسي تأسس على عدم العدالة وعدم التساوي في بنيات السلطة Inequality and unequal power structure.

لجأت السلطة للحل الأمني بما في ذلك القتل والاغتيال والاغراء والافساد وشق الحركات ومع تعقد الامر انزلقت السلطة بسرعة مذهلة نحو مزيد من الحل الطقوسي تمثل ذلك في اللجوء للعنصر العربي في دارفور ليلعب دور البوليس في فرض الترتيب المؤسسي القديم في الاقليم. هذا الحل يبدو منسجما مع طقوسية المؤسسة، ولكنه خطوة أكبر نحو درك أسفل في الطقوسية، خاصة عندما ننظر للعجز المؤسسي في فصل الجنوب.
مع تناقص القدرة على التكيف يتصالح مركز القرار المؤسسي مع أبنية سلطوية جديدة تظهر عفويا ظنا منه أن ذلك سيؤدي للحفاظ على الترتيبات المؤسسية الاصلية بينما هو انزلاق أكثر نحو الطقوسية وخطوات متسارعة نحو فناء المؤسسة، بل وتفكيك لمركز القرار المؤسسي. في خضم هذا الطقس المؤسسي، بل في خضم هذا (الهجيج) المؤسسي سلمت المؤسسة في عمى تاريخي جزء من احتكار عنف الدولة في جزء ما من الوطن لجزء متخيل منها. ومع انفجار أجزاء اخرى من الوطن، زادت المؤسسة من تسليحه.
أضف الى ذلك، عندما تنتشر ثقافة عدم التعاون المؤسسي وعدم الثقة سترتفع وتتصاعد تكلفة الرقابة الامنية والسيطرة، وهذا يدفع المركز المؤسسي لمزيد من التخلي عن احتكاراته السلطوية ويقوم بتوكيلها ويتبع ذلك التسليح والاعداد وإضعاف المركز المؤسسي نفسه. وقد ثبت بالبحث امبريقي ان هنالك ارتباط شرطي Correlation بين انتشار ثقافة العقاب الشديد للمكونات السكانية وازدياد تكاليف اخرى تصير باهظة بل وترتد الى صدر المركز المؤسسي نفسه، منها ازدياد تكلفة بناء السمعة التعاقدية وتأكل الثقة في التعهدات والتأكيدات وفي النهاية تزداد تكلفة التعاقد نفسه بين الشركاء المفترضين.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المرکز المؤسسی فی دارفور حدث فی ما حدث

إقرأ أيضاً:

الإنصرافية: متلازمة السياسة السودانية

دكتور الوليد آدم مادبو

لقد عانى السودان على مدى العقود الماضية من صراعات مسلحة أحدثت أثرا عميقا في الشخصية السودانية جعلها أقرب إلى الإنصرافية والعشوائية والغوغائية منها إلى العقلانية والموضوعية. هذه الظواهر لها ارتباط وثيق بنظام الإنقاذ الذي استمر لثلاثة عقود عمد فيها إلى خلق بيئة من السيولة السياسية وأنتج نهجاً شمولياً أسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي وتسبب في تآكل القيم الأخلاقية والفكرية. وإذ تفتقر النخب الإنقاذية إلى الوازع الأخلاقي وإلى الضمير الوطني فإنها تستغل الفراغ الفكري الناتج عن سنوات القمع لتوظيف المواطنين ضد بعضهم البعض وتعوِّل على يأس المواطنين من العملية السياسية التقليدية خاصة تلك التي لم تنتج غير الفشل المتكرر والطمع والعجز الذي كان سمة ظاهرة للفترة الانتقالية الأخيرة. لابد أن نقر بأنّ الضبابية الأخلاقية والأداء التنفيذي البائس للمجلسين (مجلس السيادة ومجلس الوزراء) تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في اندلاع الحرب، لحظتئذ يلزمنا تحسس الخطى في المرحلة القادمة كي لا نكون ضحايا لعاطفة جارفة أو مكر كيزاني مقيت. وذلك يقتضي تحمل الكل لمسؤوليته وتوقع المساءلة على قدر الجرم الذي ارتكبه.

بيد أن هذه النخب لا تدعو إلى ابتكار نظمٍ جديدة للتفكير والنظر في كيفية تفاعل الأفراد مع الأحداث السياسية والاجتماعية أو استكشاف سبل بناء مجتمع أكثر وعياً وقدر على التغيير، إنما تعد المواطنين بنظام أكثر شمولية وتتمسك بالبطش والتنكيل وسيلة لترويض المعارضين وتشنيف آذان المخالفين برؤاها العقيمة التي جلبت الهلاك والدمار للبلاد كافة، تعينها في ذلك الغوغائية التي امتثلت للبروباغندا وارتضت الشعبوية وسيلة للالتفاف حول شخصيات وهمية وأخرى هلامية. يشير الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي إلى أن " البروباغندا تمثل أحد أساليب السيطرة على العقول، حيث تستخدم لتوجيه الرأي العام نحو أهداف معينة".

ليت الأمر اقتصر على الغوغاء لكنه وللأسف شمل أكاديميين ومثقفين ساهموا في تعزيز الفوضى، حيث يغلب على المشهد التباين والارتباك، بدلاً من أن يقودوا الشعب نحو التغيير الإيجابي الذي يتطلب التوافق حول المباديء وليس التراشق بالكلمات وتنميق اللافتات تجميلاً لصورة الحرب وإيذاناً بخلق مجتمع معافى من هيئة "الآخر". لا توجد حرب نظيفة في التاريخ كما لم تفلح كافة السبل في نفي "الأخر" من المخيلة أو الذاكرة الجمعية، عليه فلابد من إيجاد صيغة للتعايش بين كل السودانيين واستنهاض همة الكل للإسهام في رفعة البلاد.

وفقاً للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فإن "المعرفة والسلطة متلازمتان". يظهر هذا المبدأ في الكيفية التي استخدمتها بعض النخب في توظيف المعرفة لخدمة السلطة دون أن ترعوي أو يكون لها رادع بل التباهي أحياناً بالألقاب العلمية لدعم الحجة الواهية من مثل "أنا بروف، هل ممكن اكذّب عليكم"؟ هذا العجز يعكس افتقار النخب إلى الفهم الحقيقي لاحتياجات المجتمع، ممّا يزيد من عمق الفجوة بين المواطنين والنخب. المجتمع يحتاج إلى الصدقية وإلى الموضوعية بغض النظر عن تبعات ذلك المنحنى ولنا أسوة في الشيخ فرح الذي قال يوما "لو الصدق ما نجاك الكضب ما بنجيك"!

إذا تفهمنا حالة الامتعاض التي يعيشها المهجَّرون وعزينا ذلك إلى ظروفهم الاقتصادية والمعيشية الصعبة، فما بال أولئك المهاجرين الذين يعيشون في دول مدنية تعنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان مثل إنجلترا يساندون الأنظمة الإجرامية الإرهابية في بلادهم؟ هل هذه حالة هذيان ذهني وانفصام نفسي أم أنها حالة تخلف عقلي وحيرة حضارية؟ كيف تفسر حالة الإسفاف التي وصلت له جموع السودانيين التي احتشدت مؤخراً للتظاهر ضد حمدوك؟ كيف امتثل الشعب لموجهات إعلامية أقنعته يوماً بأن حمدوك هو "المنقذ"، وآلان تريد ذات الجهة إقناعه بأن حمدوك هو "عميل" مزدوج في أحسن الفرص وخائن لوطنه في أسوأ الفروض؟ متى بطل مفعول السحر الأول حتى يعمل مفعول السحر الثاني؟ كيف يمكن أن يحدث هذا الانقلاب في المواقف؟ هل يعود ذلك إلى ضعف القدرة على التفكير النقدي، أم أنه نتيجة لصراع القوى السياسية التي تسعى للاستفادة من حالة الفوضى؟ هل هذه نتيجة ثلاثين عاماً من السيطرة على العقول أم أنها تعكس حاجة عميقة إلى الهوية والانتماء كما تقول الباحثة السودانية نجلاء فضل؟ كيف يمكن فهم حالة التيه التي يعيشها المثقفون الذين يفترض فيهم قيادة التغيير؟ ما الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني في تعزيز الهوية الثقافية السياسية؟ ما هي الاستراتيجيات الممكنة لتحقيق توافق وطني بعيدا عن حالة الفوضى والانحياز غير المنطقي على أسس عقائدية أو إثنية او مناطقية؟

يمكن بهذه الأسئلة فتح المجال لنقاش أعمق حول واقع السودان ومستقبله، على أمل أن تسهم الأفكار المطروحة في إيجاد حلولٍ للتحديات التي تواجه البلاد. لا يكفي توجيه الانتقاد لتنسيقية تقدم واتهامها بأنها تتحرك دون قاعدة جماهيرية، فمجرد الانتهازية لا يوفر حجة موضوعية لدى المتلقي، سودانيّا كان أم أجنبيّا. بل يجب أن نخلق قنوات للتواصل بين كافة الهيئات المدنية التي تسعى لإنهاء الحرب فسمة التدافع المدني أنه لا يعتمد المعادلة الصفرية. إن من واجب الكل أن يسعى للحد من معاناة السودانيين التي لا تنتهي إلا بإيقاف الحرب والنظر في كيفية استعادة الاستقرار والتخطيط لمستقبل السودان بطريقة سوية. نحن أبعد ما نكون اليوم عن الديمقراطية، فعلينا أن نستحدث معادلة حكمية تعفي طرفي النزاع من الإسهام في تعقيد المشهد وتوفر فرصة لداعميهم الشعبيين للتفكير في طرائق الحكم المدني الذي يُفضي إلى الديمقراطية بعد توفر البنيات التحتية، المعنوي منها والمادي.

يلزمني في هذه السانحة تسليط الضوء على قضايا حيوية أهمها نزع المشروعية عن هذه الحرب اللعينة وتبيان خطل المرافعة عن الجيش بإنه الجهة السيادية أو المؤسسية وفضح نوايا الداعمين للحرب باسم القومية أو الوطنية. هذه الحرب كان القصد منها قطع المسار على الثورة السلمية والمدنية ومن ثمّ الاستئثار بالثروة والسلطة. لا يهمني من بدأ الحرب، فكلاهما منغمس في تلك الشهوة أو متلبس بتلك النشوة. وإذ إنّ الدّاعمين لها يريدون التكسب وإحراز بعض النقاط السياسية فإنه لا يروعهم حجم المآسي التي حاقت بالأمة السودانية، بل يحلو لهم معاينة الجيل الذي نبذهم وناهضهم العداء وهو يعاني محنة التشرد والنزوح فيما تظل قيادتهم ترفل في نعيم دول المهجر وهي لا تكف لحظة عن تأجيج نيران الفتنة ورصد أعواد البغضاء والتي من عجب تجد من يستجيب لها من البسطاء.

وفقاً للباحث الأمريكي باري غلاير، فإن "الشعبوية تنمو في أوقات الأزمات، حيث يلتف الناس حول شخصيات تعدهم بالتغيير". تعتبر الشعبوية ظاهرة سياسية معقدة، شهدنا تجلياتها في الولايات المتحدة من خلال انتخاب ترمب. لكن المؤسف أن الشعب السوداني يلتف حول "الإنصرافي" فيما يلتف الأمريكان حول "الإنحرافي"، الأول مجهول الهوية يتظاهر بالرجولة ويفتخر بسبه للدين والثاني معلوم الهوية وقد ثبتت إدانته في قضايا جنائية، بمعنى آخر هو أخفق في إثبات رجاحته الأخلاقية لكنه على الأقل نجح في إثبات فحولته الإنسية.

إن الحديث عن سيادة الدولة السودانية من قبل الداعمين للجيش أمر جلل لا سيما أن هذه السيادة لم تنتهك يوما مثل ما انتهكت في عهد الإنقاذ الذي حفِل بوجود أكبر بعثة أممية في العالم على غرار ما حدث من إبادة للشعوب السودانية في جنوب البلاد وغربها. أما الحديث عن المؤسسية في الوقت الذي تستولد فيه العصاية الإنقاذية المليشيات من بطون القبائل السودانية فأمر محير، إذ دأبت دوماً على تفعيل التناقضات بين الزرقة والعرب، بين العرب والعرب وبين الزرقة والزرقة، إلى آخر الانتهاكات التي أسهمت في تدمير الوجدان السوداني وساعدت في تمزيق عرى النسيج الاجتماعي. كما يشير الباحث السوداني علي بابكر إلى أن " النظام عمل على إضعاف التماسك الاجتماعي عن طريق تسيس الدين واستغلال الانقسامات القبلية".

إن مؤسسة عسكرية وسياسية هذه أبرز سماتها لا يمكن أن تؤتمن على مستقبل الأمة السودانية. عليه فلابد من توفر الضغوط الدولية، بل الحث على استقدام القوات الأممية للفصل بين المتحاربين والمطالبة بحظر الطيران الذي تستخدمه الدول المجاورة والجيش السوداني للنيل من أمان الأمم السودانية الرافضة لوصاية العصابة الانقاذية والمطالبة بحقها في مناقشة العقد الاجتماعي، مراجعة بنية وهيكل الدولة وصولاً إلى تسوية وطنية شاملة تضع حداً للاحتراب وتؤسس لنظام اقتصادي واجتماعي وتنموي مستدام.

بالنظر إلى طبيعة الصراعات العسكرية في السودان، فإن الحسم العسكري يعتبر سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب. لا أدري كيف يبرر الكيزان المفسدون لأنفسهم فكرة استثمار الحرب والقفز فوق جماجم المواطنين وصولاً إلى سلطة زائلة ونعيمها زائل!

ختاماً، لا أتفهم كيف تعتزم جماعة أو حزب اعتزال أو مقاومة جهد مدني الهدف منه توحيد جهود السودانيين لمناهضة الحرب إلا أن يكون حليفاً باطنياً لإحدى الفريقين المتقاتلين أو إنصرافياً غوغائياً ينشد الشهرة، باستصدار بيانات أو تلاوة مقررات، على حساب النظر في كيفية حماية المدنيين من الدمار والهلاك. لابد إذاً من استنباط العبرة من الحروب السابقة في السودان التي لم تتوقف إلا من خلال الضغوط الإقليمية والدولية التي طوقت التحاربين من خلال التفعيل للوعي الجمعي الذي حرم المتحاربين من الشعبوية/الإنصرافية، كواحدة من أفتك الأسلحة التي يعتمدونها في ترويج الأكاذيب باسم القومية تارة أو باسم الوطنية تارة أخرى، وألزمهم سبل السلام التي يجب أن تكون من تصميم واشراف الجهات المدنية بالتعاون مع العسكريين كي نتفادى الأخطاء التي وقعت في نيفاشا وأبوجا والتي جعلت السلام مغنما للعسكريين دون الآخرين.

 

auwaab@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • السودان: قيادي أهلي يكشف عن «هجوم ضخم» من الدعم السريع على الفاشر
  • اتهامات للدعم السريع بالتحضير لهجوم على شمال دارفور
  • فريق خبراء دارفور يبدأ زيارة للبلاد الأحد
  • حلقة عمل عن مؤشرات الإجادة المؤسسية
  • والي جنوب دافور: مستعدون وننتظر ساعة الصفر لكسر شوكة مليشيا الدعم السريع 
  • السودان: «12» قتيلاً وعمليات اختطاف وسط انتهاكات جسيمة بقرية بشمال دارفور
  • السودان: المجلس النرويجي للاجئين ينفي مزاعم تورطه في دعم أطراف النزاع بدارفور
  • «المنسقية العامة»: وقوع إنتهاكات جسيمة بحق النازحين خلال الشهر الماضي
  • الإنصرافية: متلازمة السياسة السودانية
  • التصعيد الاقتصادي والسياسي للدعم السريع اتجاه مصر ، خطوات نحو الانفصال الإداري وتبعاتها