لم تجد قوات الدعم السريع المتمرّدة صعوبة في التوغل داخل ولاية الجزيرة، وحاضرتها ود مدني- 170 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة الخرطوم- مقر الفرقة الأولى مشاة، وهي الولاية التي تحتضن آلاف النازحين، وتعدّ مركزًا نشطًا لعمليات الإغاثة، ما يعني أن احتلال قوات حميدتي الجزيرة، دون مقاومة، نقلة خطيرة في مستوى الحرب، أسفرت عن كعب أخيل، نقطة الضعف المميتة في صفوف الجيش.

تصدع الجبهة الشعبية

تعيش مدينة ود مدني والمناطق المجاورة لها منذ أيام، حالة من الهلع والنزوح وجرائم القتل والاغتصاب، وسط صدمة كبيرة إزاء انسحاب الجيش السوداني منها، وتركها نهبًا لقوات الجنجويد، مما تسبب في تصدع جدار الثقة بين قيادة الجيش وحاضنتها الشعبية.

هذا على الرغم من أن القوات المسلحة السودانية، أصدرت بيانًا للرأي العام بخصوص الانسحاب من الفرقة الأولى، تحدثت فيه، لأول مرة، عن تحقيقات جارية لمعرفة ملابسات الانسحاب، وقد تضمّن البيان المقتضب عبارة صعبَ على الناس تفسيرها، لكنها تشير، على الأرجح، إلى انسحابات غير مبررة في مناطق أخرى، كما حدث في مصنع اليرموك، ومعسكر جبل أولياء، جنوب الخرطوم، ومعظم حاميات دارفور، بطريقة أقرب إلى عمليات التسليم والتسلم، ولو شئنا الدقة، صفقات سرية بين قائد المنطقة، والدعم السريع.

إذ إن كثيرًا من تلك المدن والمواقع الحيوية لم تقع فيها أي معركة حربية، وآخرها بالطبع مدينة ود مدني، التي هي بموانعها الطبيعية عصية على الاحتلال، مداخلها محدودة جدًا، ومن الشرق يطوقها جسر حنتوب على ضفة النيل الأزرق، وعلى الشريط الغربي تمتد ارتكازات الجيش، إلى محلية الكاملين المتاخمة للخرطوم.

وحتى عصر الأحد كانت ود مدني تحتفل بالنصر، وكل الذين قرروا البقاء فيها كانوا على ثقة وقناعة بأنها لن تسقط أبدًا، فما الذي جرى، وهل سيكون فقدانها بداية لتصحيح الأوضاع العسكرية برمتها؟

معترك بلا معركة

التقارير الاستخباراتية والمعلومات الصحفية والحقائق الميدانية رسمت صورة مطمئنة لما يمكن أن يحدث في ود مدني، لكنها فجأة انهارت، بطريقة سينمائية، فلم تحدث أي مواجهات على الأرض، لدرجة أن سكان أحياء المدينة فوجئوا بقوات التمرد أمامهم، تغلق الطرق وتنصب الارتكازات وتنتهك الحرمات، مع مشاهد النهب والترويع، ولم تحدث تلك المعركة التي تم الإعداد لها منذ أيام.

المُحير في معركة ود مدني، أن قائد الجيش المنسحب، ترك خلفه كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، كفَت التمرد مشقة شراء أو تهريب الأسلحة عبر الحدود، إذ لم يقم بنقلها ولا تدميرها، كما يحدث عادة عند الانسحاب، وبدا واضحًا، من الوهلة الأولى، أن الدعم السريع موقن تمامًا بأنه سوف يسيطر على هذه المدينة.

لقد زج فيها بأبرز قادته، ودفع بمئات المستنفرين والمرتزقة من داخل الخرطوم، بعضهم على سيارات مكشوفة، وهي أهداف سهلة للطيران، وكثير منهم يقودون دراجات بخارية، كأنهم في نزهة رياضية، وما كان لهم أن يقدِموا على هذه الخطوة إن لم يعلموا أن الطريق ممهدٌ أمامهم لاستباحة ولاية الجزيرة، والحصول على غنائم وافرة، وتحقيق انتصارات معنوية بأقل الخسائر.

الاختراق القديم

من المعروف أن قوات الدعم السريع تعتمد على دفع الأموال والعطايا لشراء الضباط ورجال الإدارة الأهلية وأصحاب النفوس الضعيفة، ويكاد يكون بهذه الطريقة نفسها سقط اللواء الأول مشاة "آلي الباقير"، في اليوم الأول للحرب، بعملية خيانة من أحد ضباط المؤسسة العسكرية.

وبعد ذلك تمدد التمرد في محلية الكاملين، وابتلع منطقة الباقير ومدينة جياد الصناعية، ثم زحف إلى المسعودية، والمسيد، والنوبة، وكاب الجداد، ومع ذلك لم يتحرك أحد.

وكانت حكومة الجزيرة تتلاعب بالناس، وتخادع بأن حدود الولاية مؤمنة، بينما خسرت أهم محلياتها، ولم يتم عزل قائد الفرقة ساعتها؛ ما يعني أن المؤامرة على الجيش قديمة، منذ اليوم الأول للحرب، بل أبعد من ذلك، ومحاولات اختراق صفوفه لم تتوقف.

لقد كانت تلك أحد أسباب سقوط نظام الإنقاذ، وأغرى ذلك السقوط أجهزة مخابرات عالمية لتستثمر في هذا الصراع، وترعى التمرد، وتوفر له الأموال والمعلومات الاستخباراتيَّة.

الخطر يتربص بالجميع

بعد سقوط مدينة ود مدني تحت يد الغزاة، تم تحميل المسؤولية لقائد الفرقة اللواء أحمد الطيب، ورشحت معلومات عن عزله من موقعه واتهامه بالخيانة، لكن سقوط كثير من المناطق والحاميات العسكرية، بالطريقة نفسها، يشي بأن الأمر يتجاوز الأفراد، وهنالك حالة تواطؤ عامة، وتقصير جماعي، وليس مستبعدًا- إن لم تكن تلك مجازفة بالظن- أن جهة ما تهيئ الأوضاع لانقلابات عسكرية، وأن خطة إغراق البلاد في الفوضى، تمضي كما هو مرسوم لها، إذ لا يزال الخطر يتربصّ بالسودان، والجميع ينتظر هول المفاجأة القادمة ليرى ماذا يفعل حيالها.

تمثّل السيطرة على ولاية الجزيرة، نقطة تحوّل محتملة في سير المعارك، تحديدًا وسط السودان، وفي حال لم يسارع الجيش في القيام بعملية عسكرية شاملة واستعادة هذه الولاية، والزحف منها إلى الخرطوم، سوف يتّسع الشرخ، وتنهار البلاد كلها، وسوف تقوم المليشيا بنشر الذعر وإتلاف البنية التحتية، وفتح معسكرات التدريب، وخلق خطوط إمداد جديدة، والانطلاق إلى الولايات الشرقية، بل وتهديد بورتسودان نفسها مقرّ الحكومة والمطار والميناء الرئيسي، ولن يشعر السكان الهاربون من الحرب، بأي أمان بعد اليوم، في أي منطقة سودانية.

الثغرة والحلول

قدّم الدعم السريع تبريرات مضحكة للهجوم على ود مدني، منها منع تجميع المستنفرين الذين راهن عليهم البرهان، وتوفير الأمن للسكان، في وقت خرج الأمين العام للحركة الإسلامية في تسجيل صوتي، طالب فيه صراحة، قادة الجيش بنشر الحقائق للسودانيين، وتسليح المستنفرين؛ لتجنب حالة التصدع في الجبهة الداخلية.

وهو تقريبًا دافع الهجوم الأخير المصحوب بدعاية سوداء وحرب نفسية ممن يقف وراء الدعم السريع، هدفه أن يظهر الجيش بمظهر الضعيف، ما يخلق شرخًا في الثقة بينه وبين الشعب السوداني، ويقضم بعد ذلك قضمته الكبرى.

بالطبع، ود مدني ليست هي آخر المطاف، ويحتاج قادة الجيش إلى مراجعات سريعة لإستراتيجيتهم العملياتية، من الدفاع عن المواقع العسكرية، إلى الهجوم، والانتشار على الأرض، والحفاظ على أهم نقاط القوة، وهي التفاف الشعب حولهم، وتنفيذ عمليات خاصة تستهدف قادة الدعم السريع، إلى جانب البحث عن حلفاء أقوياء في الخارج، فلا يمكن أن تقاتل وحدك، وعدوك يحظى بالحماية والدعم الخارجي.

وقبل كل شيء ثمة حاجة إلى حكومة وطنية بقدر التحديات، تحمل عن الجيش أعباء إدارة الدولة، ليتفرغ هو للقضاء على التمرد، وقطع دابر المؤامرة الخارجيّة.

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدعم السریع ود مدنی

إقرأ أيضاً:

الجيش السوداني يتقدم وسط الخرطوم وقوات متحالفة معه تحقق انتصارات بدارفور

قالت مصادر صحفية سودانية إن منطقة المقرن وسط الخرطوم تشهد مواجهات عنيفة بين الجيش والدعم السريع تمكن خلالها الجيش من السيطرة على مقر البنك المركزي وبعض المؤسسات الحكومية المحيطة بعد أن عزز وجوده في دائرة نصف قطرها عدة كيلومترات.

وأكدت تلك المصادر أن المعارك لا تزال مستمرة مع تراجع الدعم السريع إلى منطقة السوق العربي، وأصبح الجيش قريبا من الوصول إلى القصر الجمهوري.

على الصعيد نفسه، قال مصدر عسكري في الجيش السوداني للجزيرة إن قتالا عنيفا اندلع صباح اليوم بين قوات من الجيش السوداني وما سماها مليشيا الدعم السريع في ولاية سنار قرب جبل موية. وأضاف المصدر أن قوات الجيش حققت تقدما ملحوظا في معارك اليوم دون أن يقدم تفاصيل إضافية.

في غضون ذلك، أعلنت القوة المشتركة المساندة للجيش السوداني، الأربعاء، السيطرة على قاعدة عسكرية تتبع لقوات الدعم السريع في ولاية شمال دارفور، وتكبيدها خسائر في الأرواح والآليات العسكرية، بالإضافة إلى أسر العشرات من الجنود.

الدخان يتصاعد فوق الخرطوم، يوم الخميس 26 سبتمبر/أيلول 2024 (أسوشيتد برس)

وقال بيان أصدره المتحدث باسم القوة المشتركة، أحمد حسين مصطفى إن "القوات المشتركة تمكنت من تحرير قاعدة بئر مزة، التي تبعد نحو 28 كيلومترًا شمال مدينة كتم بولاية شمال دارفور".

ونوه البيان إلى أن القاعدة التي تم الاستيلاء عليها كانت مركزًا لتجميع وتدريب المقاتلين القادمين من خارج السودان، إضافة إلى أنها كانت مركزًا رئيسيًّا لإيصال الوقود والأسلحة من الحدود الشمالية الغربية للسودان مع دولتي ليبيا وتشاد.

وأشار إلى أن قواتهم فرضت سيطرتها الكاملة على الحدود الثلاثية التي تجمع السودان وليبيا وتشاد، ودمرت كل القواعد والارتكازات الرئيسية لقوات الدعم السريع في مناطق الصحراء الكبرى مثل "وادي هور، وادي أمبار، بئر مرقي" وغيرها.

تحركات سياسية

سياسيا، أكد سفير مصر لدى إثيوبيا ومندوبها الدائم لدى الاتحاد الأفريقي محمد جاد في تصريحات نقلتها صحيفة الشروق المصرية رفض مصر بشكل قاطع إرسال قوات أفريقية للسودان.

وكان المبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بيريلو، قد أعلن عن فتح قنوات اتصال مع الاتحاد الأفريقي بخصوص تهيئته لإعداد وتجهيز قوات للتدخل، بهدف حماية المدنيين في السودان.

وأكد السفير المصري رفض بلاده القاطع لهذا الطرح الذي سبق أن نوقش في اجتماع على هامش فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 25 سبتمبر/أيلول الماضي، وقد رفضته مصر والدول الأفريقية الأخرى التي شاركت فيه.

وتساءل السفير المصري "كيف يمكن إرسال قوات وما زال القتال دائرا في عدة مناطق في البلاد؟"، في حين أن الأولوية يجب أن تكون لوقف إطلاق النار.

المبعوث الأميركي للسودان توم بيريلو (وسائل التواصل)

وكان وفد رفيع من مجلس السلم والأمن الأفريقي بدأ، اليوم الخميس، اجتماعات مكثفة مع مسؤولين سودانيين لبحث سبل وقف الحرب المستمرة في البلاد منذ نحو 18 شهرا.

وقد أبلغ النائب العام السوداني الفاتح طيفور أعضاء الوفد بأن لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان خالفت اختصاصاتها وتفويضها، ولم تلتزم بالمعايير المتبعة في منهجية عمل لجان التحقيق.

مساعدات تركية كويتية

على الصعيد الإنساني، وصلت سفينة المساعدات الإنسانية الثالثة المقدمة بشكل مشترك من تركيا والكويت إلى بورتسودان يوم الأربعاء، وعلى متنها 2500 طن من المساعدات للدولة التي مزقتها الحرب. وكانت سفن مساعدات مشتركة من البلدين قد وصلت إلى بورتسودان في 19 يوليو/تموز و23 سبتمبر/أيلول الماضيين.

متطوع يوزع الطعام على الناس في أم درمان (رويترز)

وقد أشادت مفوضة المساعدات الإنسانية السودانية سلوى آدم بالجهود التركية والكويتية لتقديم المساعدات للشعب السوداني، بينما أكد السفير التركي فاتح يلدز دعم بلاده المستمر للسودان شعبا وحكومة.

وأوضح يلدز أن السفينة لم تكن تهدف فقط إلى إيصال المساعدات إلى الشعب السوداني الذي في أمسّ الحاجة إليها، ولكن أيضًا للفت انتباه العالم إلى المأساة الإنسانية في السودان.

وأشار القائم بالأعمال الكويتي إلى أن المساعدات قدمت من الجمعية الكويتية للإغاثة تنفيذا لأمر أمير الكويت مشعل الأحمد الجابر الصباح.

وتدور حرب أهلية في السودان منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. وقُتل نحو 21 ألف شخص، وشُرد 10 ملايين، بحسب الأمم المتحدة.

علاوة على ذلك، أدت الأمطار الغزيرة إلى فيضانات شديدة في جميع أنحاء البلاد. وتتزايد الدعوات الدولية والأممية لإنهاء الحرب لتجنيب السودان كارثة إنسانية دفعت الملايين بالفعل نحو المجاعة والموت بسبب نقص الغذاء.

مقالات مشابهة

  • المبعوث الأمريكي إلى السودان يوجه دعوة لقوات الدعم السريع والجيش
  • شاهد بالصور.. لماذا تحولت جسور الخرطوم إلى مفتاح للحسم العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟
  • الحزب الشيوعي السوداني يكشف عن إصابة عضواً في لجنته المركزية برصاص الدعم السريع
  • الجاكومي : الشعب سينتصر على مليشيا الدعم السريع المتمردة
  • بالفيديو: الجيش السوداني يسيطر على شوارع بحري بعد معارك ضارية مع قوات الدعم السريع
  • الحركة الاسلامية السودانية وتفكيك الجيش القومي السابق والمؤسسة العسكرية السودانية
  • د. أمجد فريد الطيب: إن لم تخشو، فإختشوا
  • بعد سيطرة الجيش السوداني عليه.. ماذا تعرف عن جبل مويه بولاية سنار؟
  • الجيش السوداني يتقدم وسط الخرطوم وقوات متحالفة معه تحقق انتصارات بدارفور
  • إنهيار مليشيا الدعم السريع في الخرطوم ودارفور