وما زلنا «على أبواب المدينة»
تاريخ النشر: 21st, December 2023 GMT
هل كان أسامة أنور عكاشة الكاتب والمخرج فخر الدين صلاح، قبل 43 عاما متفائلَين بأن التحولات الاجتماعية الجديدة لن تأخذ مداها، وأن هناك حدّا لها، وأن المجتمع سيستعيد عافيته بعد عقد من الانفتاح الاقتصادي؟ وهل لأجل ذلك جعل أهل شارع الفوال ينجحون بإطفاء النار التي أشعلها عاشور الملط؟ للأسف لم تجر الرياح كما تشتهي سفن عكاشة وفخر الدين صلاح وسفن أبناء الطبقة الوسطى، بل الشعوب، واستمرت التحولات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، فما يعانيه المواطن اقتصاديا في حيّ السيدة زينب مثلا، وفقا للمسلسل، هو ما يعانيه العرب كل بأوجاعه الوطنية الخاصة.
أولاد «نوسة» في شارع «الفوال» في السيدة زينب، وأولاد وبنات «الفوال»، في المهندسين، ونحن كل في موضعه، وعلى باب من أبواب المدن والدنيا. القرويون على أبواب المدينة، والمدينة على أبواب المدنية والحضارة! كلنا هنا على الأبواب، فهل ما زلنا عليها؟
هي مرة واحدة التي التقينا بها بالسيناريست المبدع أسامة أنور عكاشة، كان ذلك عام 1991، في أحد مدرجات الجامعة، حيث كان ضيفا هو والفنانة الكبيرة سميحة أيوب. كنا أول العشرينيات، أما هو فكان في أوائل الخمسينيات. وقتها طلب مدير الندوة أسئلة مكتوبة من الطلبة، وصل المنصة الكثير ويبدو أن أهلها اكتفوا، وتم اختيار جزء منها، لكنني بعثت سؤالا متأخرا، وأذكر أن المرحوم عكاشة حينما قرأه، وصفه بسؤال جاد، وضمه إلى الأسئلة التي بدأ يجيب عنها. كان السؤال عن رأيه في الجيل الجديد، ودوره في الحاضر والمستقبل. لا أتذكر تماما إجابته، لكن أتذكر جديته، ودعوته الشباب للقراءة والتفكير.
عاش معنا عكاشة من طفولتنا فشبابنا فكهولتنا، وظل خالدا بعد رحيله، وظلت أسئلته وأفكاره ومواقفه تدفعنا للتفكير؛ فكل عمر كان له التلقي الفكري الخاص به. تعمق حبي للقراءة، والتفكير معا، حيث كنت قد بدأت فعلا التفكير بعيدا عما تمت برمجتنا سنوات المدرسة. أسهم في ذلك سفري خارج الوطن؛ بما امتلكته من حرية إضافية في النظر والتفكير بل والانطلاق.
ها أنذا أعود إلى الوراء، فقد عرض الجزء الأول عام 1981، وكنت ابن 14 عاما، أما الجزء الثاني فعرض عام 1983، أي بعد ذلك بعامين، وكنت ابن 16 عاما. لقد مر 45 عاما على مشاهدة الجزء الأول و43 على مشاهدة الجزء الثاني، ماذا يعني ذلك؟
الزمن! ومن غيره، ليست فقط التحولات في المجتمع، بل التحولات فينا كأفراد:
«ومنين يجينا الشجن من اختلاف الزمن»، العبارة التي استمرت في أسماعنا، والتي هي من شعر سيد حجاب في أغنية مقدمة مسلسل ليالي الحلمية الشهير.
عدت للمسلسل، بسبب اسمه: على أبواب المدينة، وليس فقط لسبب الحنين إلى زمن الطفولة وأول الشباب؛ فكأنني رحت أتلمس معنى أبواب المدينة رمزيا، خاصة أن تلقي الطفل والفتى للمسلسل أول الثمانينات كان من منطلق عمري، حيث وقفت عند مواقف جزئية لا كلية، فقد كنت وقتها مسكونا بأمرين: الحب الرومانسي، والسفر إلى مصر للدراسة، هكذا كنت أتمنى، حيث سبقني أخواي وتخرجا منها. وهكذا فقد احتفظت من المسلسل بمشاهد الطلبة القرويين الذي وفدوا من «نوسة» للدراسة في جامعة القاهرة، متخذين من شارع الفوال قرب السيدة مكانا للإقامة. وكنت وقتها أطلب سرعة الزمن لأتخرج من المدرسة، وأطير إلى هناك. وهكذا طرت بعد بضع سنين، أنا الفني القروي الريفي، لأجد نفسي أول مرة على أبواب المدينة، بل فيها، لأن مدن القدس ورام الله وعمان، كانت محددة الإقامة للزيارة والعبور، باستثناء عمان التي قضيت فيها 3 أشهر في الطريق إلى مصر.
على أبواب المدينة: ترى ما أرى الآن بعد هذه السنوات، سنوات العمر؟
سنكتشف بعد زمن، بأن القضايا والمواضيع التي أشغلت القدماء هي من تشغلنا، ولنا أن نقيس الغائب على الشاهد؛ فهي هي الحياة، حتى لو تغيرت أساليب العيش. وكل عمر له ما يشغله، فإن كبرنا، وامتلكنا بعض الحكمة وخبرة الحياة، فإننا سنعيد النظر فيما انتقينا من جزيئيات من الحياة (والفن) لنتأمل الكل.
يضعنا مسلسل «على أبواب المدينة»، في جزأيه، على أبواب التحولات المدينية، أكانت لقرويي «نوسة»، أو لأهل حي السيدة، شارع الفوال، في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي كان لها عظيم التأثير في حياتنا المصرية والعربية. فهل كان عبورنا للمدينة، كما ينبغي، أم أنه كان العبور الصادم؟ أو لعله تم هندسة المجتمع للوقوع في هذه الصدمة، التي تطرفت فيها الطبقة الغنية والفقيرة، وتقلصت الطبقة الوسطى؛ فعاشور الملط رمز السوق المفتوح والثقافة الاستهلاكية الجديدة يركض لشراء الحارة، تماما كما حاولت فضة المداوي في مسلسل «الراية البيضاء»، الذي كتبه أنور عكاشة نفسه. لقد أرانا عكاشة شخصية الملط، ومن يدور في فلكها مثل حسن اكشن، حسن فتح الباب لاحقا، وآخرين. وأرانا الاتجاه الشعبي المتمسك بالحارة، رغم المغريات، والذي قاده أمين الطبيب والمعلمان مصطفى وعبد الرافع، من خلال الالتفاف حول مشروع شريفة، حين أسست المدرسة والمستوصف ومعمل الخياطة، بهدف محاربة الجهل والمرض والفقر. وهنا نجد اصطفاف الفريقين، ومآلات هذا الاصطفاف وصولا لمحاولة إفشال هذا المشروع، ودفاع الأهالي حين راحوا يطفئون الحريق، لأنه تأسس من أجلهم. لقد حاول فريق الملط السيطرة عبر الهجوم وتجنيد الانتهازيين، إلا أنه لم يستطع مقاومة الجامعة والقضاء والصحافة، والتي وقفت في جانب أهل الحارة (مصر).
ويبدو أننا بقينا على أبواب المدينة، المدنية والحداثة؛ فمنذ زمن صفية وصبحي، والعلاقة الزوجية المتأثرة بالوقوف على الأبواب، بكل ما فيها من صدق تعبير عكاشة عن هذا التوتر بين الزوجين، خاصة توتر صفية بطموحها نحو الحياة المدينية. فما نعيشه اليوم من تشظ للأسر في زمن تحولات التواصل الاجتماعي، لا يعني إلا أننا ما زلنا على الأبواب، ولم ندخل سالمين.
ثمة رمزية في الإرث، إرث سيد الفوال، وإرث والد صفية، وإرث الفرن، بإيحاء القادم-المستقبل، ومن سيأتي، ولعل عكاشة وصلاح، منحونا الأمل بأن هناك وارثا أصيلا سيأتي، وهو طفل شمس التي حملت به أخيرا، بعد حمل لم ينجح.
ونختتم بكلمات أغنية المسلسل التي كتبها سيد حجاب وغناها علي الحجار، من تلحين مختار السيد:
على أبواب المدينة دقينا ونادينا ولا حد حس بينا
بكينا ومشينا مشينا تايهين يا مين يلاقينا
آه وراها آه وراها نداهه نادت على فتاها أتاها يتباه
تاه في الموجه الحزينة على أبواب المدينة
واحنا في قلب المتاهة شوفناها وعشناها
أحلامنا اللي نسيناها لقيناها زهزاهه وبتنادي لعنينا
حاولت التقاط الكلمات في آخر قصيدة سيد حجاب، لكن لم أستطع تبين كلماتها من فيديو اليوتيوب تماما، لكن تتحدث عن تجنيبنا سكة الندامة، وسلوك سكة السلامة، ولا نكون كاليتامى، في زمن تطاحن المصالح. وأن نكون يدا واحدة.
لقد أريد لنا ألا ندخل الحضارة والمعاصرة والعلم، أريد لنا أن نظل مستهلكين، منشغلين بأوجاعنا وتناقضاتنا الوهمية ونزاعاتنا، بعيدين عن الصراع الحقيقي واستحقاقات الإعداد للحسم فيه، لنكون أمة لها حضور.
ورحم الله أسامة أنور عكاشة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أنور عکاشة
إقرأ أيضاً:
محافظ بورسعيد يعلن عودة تمثال دليسيبس إلى المدينة
أعلن اللواء محب حبشي محافظ بورسعيد خلال احتفالات المحافظة بالعيد القومي عن عودة تمثال دليسيبس إلى بورسعيد، بعد فترة من الجدل حول مسألة عودته.
وأكد المحافظ أن إعادة التمثال تعتبر خطوة إيجابية ستساهم في تعزيز مكانة بورسعيد كوجهة سياحية.
وأعرب عددا من المواطنين عن تفاؤلهم بأن عودة تمثال دليسيبس ستضيف بعدًا تاريخيًا وثقافيًا للمدينة، مما يشجع السياح على زيارة بورسعيد واستكشاف تراثها الغني.
وعلى الرغم من وجود آراء متباينة بين المواطنين بشأن عودة التمثال، إلا أن المحافظ أشار إلى أهمية تكامل الآراء المختلفة في بناء مستقبل المدينة وتحقيق التنمية السياحية المستدامة.
وتأتي هذه الخطوة في إطار الجهود المستمرة لتعزيز السياحة في بورسعيد وجذب المزيد من الزوار المحليين والدوليين، مما يسهم في دعم الاقتصاد المحلي ويعزز من الوعي الثقافي بين الأجيال الجديدة.